الشيعة في مواجهة الاجتياح الصهيوني الكبير للبنان سنة 1982م
التشيُّع والمقاومة
اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982م مخلّفة الكثير من الدمار والضحايا في مدنه وقراه وسط مباركة أميركية كاملة واكتفاء عربي ودولي بالتنديد. وكما حصل في آذار 78م كان التّبرير للاجتياح ضرب الفلسطينيين وأماكن تجمّعهم،
عدد الزوار: 211
مدخل
اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982م مخلّفة الكثير من الدمار والضحايا في مدنه وقراه
وسط مباركة أميركية كاملة واكتفاء عربي ودولي بالتنديد. وكما حصل في آذار 78م كان
التّبرير للاجتياح ضرب الفلسطينيين وأماكن تجمّعهم، مع فارق وحيد هو إصرار إسرائيل
على توسيع رقعة الاحتلال وقيامها بعمليات إنزال عنيفة، استمرّت حتّى ساعات الفجر
الأولى، مستهدفة منطقة الأوّلي عند حدود مدينة صيدا، وقبلها منطقة الزهراني وشواطىء
صور وضواحيها1.
المواجهة الخالدة
كان التيّار الثوريّ الإسلاميّ قد ترسّخ في لبنان بسبب وجود الأجواء الملائمة،
وكانت التجربة الأولى على مشارف بيروت في منطقة خلدة حيث تصدّى الإسلاميون المؤمنون
على الطريق الساحلي بين الناعمة وخلدة. وقد كرّرت القوّات الإسرائيلية محاولات
الإنزال في منطقة خلدة أكثر من مرّة طوال يوم التاسع من حزيران عام 1982م إلّا أنّ
جميع هذه المحاولات باءت بالفشل نتيجة المقاومة الشديدة التي جُوبهت بها من قبل
القوات المشتركة (اتّحاد الطلبة المسلمين وشباب حركة أمل وبعض الشباب المؤمن
الملتزم).
وقد أنزلت إحدى البوارج الإسرائيلية ما بين 12 و 15 آلية ودبابة برمائية. ولدى وصول
الآليات والدبابات إلى الطريق شنّت القوات المذكورة هجوماً صاعقاً عليها وواجهتها
بقذائف الآر بي جي، والرشقات النارية الغزيرة، فاندفعت الآليات والدبّابات باتّجاه
مدينة الزهراء وهناك كانت مجموعة من عناصر حركة أمل تنتظر الغزاة فأمطرتهم بوابل من
القذائف والرصاص، فاندلعت النيران في ثلاث دبابات واحترقت مع من كان في داخلها من
الجنود الإسرائيليين وامتدّت المعركة إلى أحد المباني المجاورة الذي هرب إليه جنود
إسرائيليون كانوا قد تركوا آلياتهم ولاحقتهم عناصر القوات المشتركة "المؤمنة" إلى
داخل المبنى وقضت عليهم.
وفي هذه الأثناء استولى المجاهدون على إحدى المدرّعات الصهيونية وأخرجوها من ميدان
المعركة وجاؤوا بها إلى داخل بيروت (بئر العبد)، فيما راح الطيران الحربيّ الصهيونيّ
يدكّ أرض المعركة بالصواريخ الثقيلة، فانهارت إحدى البنايات بكل طبقاتها بينما كان
يتمترس بداخلها عدد من المجاهدين، فانتقلوا إلى جوار ربّهم شهداء أبرار.
سقوط نظرية أمن الجليل
وما إن وصل الحرس الثوريّ الإيرانيّ إلى بعلبك بعد الغزو الإسرائيلي، حتّى باشر
بتدريب الجماهير المؤمنة، المسلّحة على فنون القتال والقيام بعمليات عسكرية جعلت
مدن وقرى جبل عامل تتضامن مع هؤلاء المجاهدين، فنشطت العمليات والكمائن والهجمات ضد
جيش الاحتلال الإسلائيلي.
وأدّى تصاعد المقاومة في المناطق التي يحتلّها الجيش الإسرائيلي في الجنوب إلى أن
تذهب أهداف الغزو أدراج الرياح، فقد اضطرت أميركا إلى الهرب هي وحلفاؤها من بيروت2
للنجاة من العمليات، بعد تدمير مركز "المارينز" في بيروت ومركز المظليين الفرنسيين
في بيروت.
ومع ارتفاع عدد القتلى والجرحى، ازداد الضغط الداخلي محذّراً من استمرار احتلال
جنوب لبنان، فما كان من القادة الصهاينة إلا أن أنشؤوا (قوّات الشريط الحدودي) من
العملاء والمأجورين ليكونوا سدّاً دفاعياً تتمترس من خلفه القوّات الإسرائيلية
لتصبح في منجاة من العمليات للمقاومة العسكرية، وسقطت نظرية أمن الجليل.
وتبقى المقاومة في المواجهة
استطاعت المقاومة بإمكانياتها الذاتية المتواضعة أن تقهر الجيش (الذي لا يقهر)، وأن
تربك جميع من كان في الطرف الآخر.
وأمام ملاحقة المجاهدين والعلماء العاملين، ورداً على تصاعد عمليات المقاومة
الإسلامية في جبل عامل، قام عملاء الصهاينة باغتيال شيخ الشهداء الشيخ راغب حرب،
وهاجمت قوّات أنطوان لحد بلدة سحمر في البقاع الغربي، وقتلت اثني عشر مسلماً من
أبنائها وجرحت العشرات، وكذلك شهدت قرى ومدن جبل عامل مجازر رهيبة ومعارك دامية
واعتقالات ومداهمات، وبالمقابل كانت العمليات الجهادية قائمة ليلاً نهاراً وفي كلّ
مكان، وبدون أيّ كلل أو ملل، والمجاهدون غير آبهين بالأخطار.
وأمام صمود المقاتلين المسلمين وضراوة مقاومتهم وتصدّيهم، اتّخذت الحكومة
الإسرائيلية في 14 كانون الثاني سنة 1985م قراراً بالانسحاب على مراحل، فكان ردّ
المقاومين المسلمين تصعيد العمليات العسكرية في كلّ مكان يوجد فيه الصهاينة،
فأصيبوا بما يشبه الهستيريا، وفرضوا ما أسموه "بالقبضة الحديدية" وسرعان ما تحوّلت
هذه القبضة الحديدية المزعومة إلى قبضة كرتونية أمام الخسائر الجسيمة التي كان
الصهاينة قد مُنيوا بها ما أفقدهم صوابهم وباؤوا بالفشل، فانتقموا من حسينية معركة،
التي كان يعتبرها العدو معقلاً من معاقل المجاهدين، وقد وضعوا عبوات ناسفة في أماكن
مجهولة داخل الحسينية، ووقّتوها بالتنسيق مع عملائهم، فاستشهد عدد من المجاهدين
الأبرار أمثال الشهداء: محمد سعد وخليل جرادي والحاج خليل عطوي وحسين شعيتلي،
وغيرهم.
إجرام الصهاينة
عاد الصهاينة واجتاحوا حومين الفوقا والزرارية، وأرسلوا سيّارة مفخّخة إلى بئر
العبد في بيروت، ذهب ضحيّتها أكثر من مئة شهيد وشهيدة، وعدد كبير من الجرحى. وكان
ردّ المقاومة الإسلامية سريعاً، حيث اقتحم الشهيد أبو زينب3 قافلة
عسكرية بسيارته المثقلة بالمواد الشديدة الانفجار قرب المطلّة على الحدود مع فلسطين،
فسقط فيها ثمانون صهيونياً بين قتيل وجريح.
لم يجد الصهاينة بدّاً من الهرب، فهرعوا ينسحبون إلى ما يسمّى "بالحزام الأمني" وتحرّرت أكثر مناطق جبل عامل، واستطاعت أمّتنا المجاهدة أن تقضي على أسطورة الرعب
بنهجها الحسيني، فقوّضت دعائم التفوّق والجيش الذي لا يقهر، وأصبحت قوّة لبنان
بشبابه المجاهد المضحّي، وليست "قوة لبنان في ضعفه"، وحوّلت قبضته الحديدية
المزعومة إلى قبضة ورقية رقيقة واهية.
* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- حرب السادس من حزيران سنة
1982م تختلف عن حرب الخامس من حزيران سنة 1967م بشيء واحد فقط، هو الثمن الذي تدفعه
إسرائيل على أبواب صور وعلى تخوم النبطية، من دمار لدباباتها، وقتل لجنودها وأسر
لهم، ومن إسقاط لطائراتها، وأسر لطياريها وهو ما لم يحدث مطلقاً في حرب حزيران سنة
1967م.
2- المارينز: بقي "المارينز" في بيروت 18 شهراً أي من نهاية أيلول 1982 إلى شباط
1984. واستقبل الأميركيون بوصفهم المخلصين رسل السلام في البداية وخرجوا من بيروت
بعد سلسلة وقائع كارثية على النحو التالي:
صباح يوم الأحد 23/10/1983، دمر انفجار هائل مقر "المارينز" بجوار مطار بيروت
الدولي، وأسفر الانفجار عن مقتل 241 جندياً أميركياً وجرح نحو 112 شخصاً. وبالتزامن،
دمر انفجار مماثل مقر قيادة كتيبة المظليين الفرنسيين العاملة في إطار المتعددة
الجنسيات فقتل نحو 60 جندياً فرنسياً وذلك على مقربة من الانفجار الأول.
وهذا الحدث سيطبع السياسات الخارجية الأميركية بطابعه خصوصاً بعدما أعلنت منظمة "الجهاد
الإسلامي" مسؤوليتها عن العملية التي ستضعها الدوائر الأميركية تحت عنوان: "الإرهاب
الدولي" وستبقى أمامها ماثلة للعيان بوصفها أعظم كارثة تحل بالجيش الأميركي منذ
الحرب العالمية الثانية بحيث انه لم يسبق أن سقط مثل هذا العدد من القتلى في حادث
واحد. ولقد شكلت وزارة الدفاع الأميركية في 7/11/1983 لجنة من خمسة أعضاء للتحقيق
في حادثة التفجير وانتهى تقرير اللجنة بعد تسعين يوماً وتضمن، من جملة ما تضمنه،
مقدمات ومقومات عمل المتعددة الجنسية.
3- "الاستشهادي أبو زينب" علامة فارقة في تاريخ المقاومة الإسلامية، وجندي مجهول في
مسيرة الجهاد والمقاومة... ظلّ اسمه لغزاً حتى تحرير الأرض واندحار العدو الصهيوني.
"أبو زينب" هو اسم لاستشهاديين، كان يُفترض أن ينفذا عمليتين في وقت واحد، إحدى
العمليتين تأخّرت من حيث الوقت، وكان قائدها الاستشهادي أحمد بشير الحسن، من مواليد
برج البراجنة 1959م وكان يواكبه فيها الشهيد علي محمد سليمان من بلدة باتوليه.
أثناء توجّههما لتنفيذ المهمة في 22 آذار 1985، حصل حادث لم نعرف حقيقته بالضبط،
وانفجرت الشاحنة المليئة بالمتفجرات، واستُشهد الأخوان الحسن وسليمان. (من كلمة
للأمين العام في احتفال النصر في الخيام).
أبو زينب الثاني هو الشهيد عامر كلاكش، قائد عملية بوّابة المطلّة. قبل سنوات
قليلة، تحرّر جزء من لغز "أبو زينب" الأول (أحمد الحسن)، حين خرجت صورته إلى العلن
لتتصدّر الشارع الممتدّ من طريق المطار حتى تحويطة الغدير. تساءل الكثيرون: من هو
هذا الشهيد الكبير الذي يحظى بهذا القدر من التكريم، وهو الذي كان مجهولاً باسمه
وهويّة العملية التي نفّذها. حتى كان التحرير والنصر، فكشف الأمين العام لحزب الله
سماحة السيد حسن نصر الله لغز الاستشهاديين "أبو زينب". وتشير والدته إلى "أنّ أحمد
كان يتمتع بخلق رفيع، وكان مثال الشاب المؤمن والمتواضع... حتى أنّنا بعد شهادته
اكتشفنا الكثير من الميزات التي كنّا نجهلها، ومنها عمله الإصلاحي والاجتماعي في
محيطنا، وكثيرون جاؤوا يقولون: لقد عمل أحمد على حلّ مشاكلنا".
وكان الشاب أحمد الحسن قد خرج من منزله من دون أن يُعلِم أحداً من أسرته وجهة سيره،
كعادته في كتمان ما يحيط بأعمال المجاهدين، إلا شقيقه مصطفى الذي كان مستودع أسراره،
فلم يقل أكثر من أنه سيتوجّه إلى الجنوب في عمل خاصّ لزيارة أصدقائه.
اختفى أحمد، ولم يعد أحد يسمع بأخباره، فخرج الأهل يبحثون عنه ووجهتهم الجنوب،
لعلمهم بما يختزنه من عشق للجهاد والمقاومة. مرّت أيام وأسابيع حتى جاء من يعلمهم
بشهادته خلال المواجهات مع العدو، من دون أي تفاصيل إضافية. وأقام الأهل "أسبوع
الشهيد" وتبرّكوا بمقامه الجديد.