الشيعة بين الحرب العالمية الأولى والاحتلال الفرنسيّ
التشيُّع والمقاومة
ولمّا اشتعلت نار الحرب العالمية الأولى، سيق الناس للجندية أفواجاً وبدون تمييز، واشتدّ البلاء، وعمّت الفوضى البلاد، واشتدّ نفور الشعب من الدولة، وتربّصوا بها الغوائل. وكان الناس موقنين أنّ أمر الدولة العثمانية سيؤول إلى الخسران،
عدد الزوار: 251
لبنان في الحرب العالمية الأولى
ولمّا اشتعلت نار الحرب العالمية الأولى، سيق الناس للجندية أفواجاً وبدون تمييز،
واشتدّ البلاء، وعمّت الفوضى البلاد، واشتدّ نفور الشعب من الدولة، وتربّصوا بها
الغوائل. وكان الناس موقنين أنّ أمر الدولة العثمانية سيؤول إلى الخسران، لأنّ
قوّتها كانت ضعيفة، وجندها جائع، ولأنّ القابضين على زمام الأحكام وذمّة السياسة لا
خُلق لهم ولا ضمير ولا وطنية، دأبهم الكيد والدس لبعضهم والاستئثار بالأموال
والنفوذ، فكان حتمياً أن تسير هذه الدولة إلى الاضمحلال والتدهور السريع.
أما أئمّة المساجد، وهم علماء البلاد وأبرارها، فلم تعترف سلطات السَّوق بإمامتهم،
إذ لم يكن ثمّة ما يثبّتها رسمياً، وبذلك أجمعت على سوقهم إلى الجندية مع سواد
الناس بكلّ شدّة، وأمعنت في طغيانها تتعقّبهم لا تدّخر في ذلك وسعاً، فذعروا
وتواروا، وهال الطائفة أمرهم. ويورد السيّد عبد الحسين شرف الدين في مذكّراته أنّه
سعى برفع العرائض إلى العاصمة الآستانة للنظر في ظلامة أئمّة مساجد الشيعة إلى أن
فاز بمطلبه، وصدر قرار إعفاء أئمّة المساجد الشيعية من التجنيد الإجباريّ.
جبل عامل بين فيصل والفرنسيين
تمخّضت الحرب العالمية الأولى عن هزيمة الدولة العثمانية، ودخلت جيوش الشريف حسين1
والحلفاء دمشق في أول تشرين الأول سنة 1918م، ورفع فيصل2 علمه على المدن
الرئيسة في سوريا، وشُكّلت فيها حكومات عربية، فكان لذلك صدى كبير في جبل عامل. وقد
ظهر ذلك من خلال الحماس الذي شهدته المنطقة بعد التخلّص من النير التركيّ، وفي
مظاهر البهجة التي عمّت المنطقة عامّة، حيث لم يُخْفِ المواطنون، كلّ المواطنين،
ارتياحهم لهزيمة الأتراك... لأنّ سكان المنطقة عامّة عانوا من ظلم الأتراك ومن
تعصّبهم المذهبيّ والطائفيّ، حيث كان الشيعة والمسيحيون يُعتبرون مواطنين من درجة
ثانية وثالثة.
وقد غادر الأتراك منطقة جبل عامل بعد أن تركوا مستودعاتهم في صور مملوءة بالأسلحة
والذخائر والمواد الغذائية الخاصّة بالعسكر... فاستولت عليها عائلة آل الخليل،
ووزّعوها على الأهالي، والمؤونة كانت تكفي لأكثر من سنة.
الحلفاء يحتلّون البلاد
لم يتأخّر الحلفاء بدخول البلاد، فوصلت الحملة العسكرية بقيادة المارشال هنري
اللنبي إلى صور قادمة من فلسطين باتّجاه صيدا وبيروت فحلب. وبدأت نوايا المستعمرين
الجدد تظهر جليّة من خلال منعهم للاجتماعات العامّة والمظاهرات والتهديد بالجزاء
للمخالفين.
وبدأ العرب يشعرون أنّ وعود الحلفاء لم تكن سوى سراب يحسبه الظمآن ماءً. وقد أشار
السيد عبد الحسين شرف الدين إلى ذلك بقوله: "في أعقاب تلك الحرب... انتهت فلسطين
إلى الاحتلال الإنكليزيّ، وانتهت دمشق إلى الإمارة الهاشمية برئاسة فاتحها فيصل،
وكان نصيبنا من التقسيم يومئذٍ نصيباً لم تجرِ فيه الرياح كما كنّا نشتهي، وكما
كنّا نقدّر، ولكن ابتدأ نشاطنا على كلّ حال وفق آمالنا التي كنّا نعلّقها على ما
بعد الحرب، وبدأ العمل في هذه البلاد بإنشاء حكومات مؤقّتة تحفظ الأمن باسم الملك
حسين، وكان هذا باتّفاق معه... فأنشأنا في صور يومئذٍ حكومة على هذا الغرار. لكن
الإنكليز أبطلت هذا التدبير الذي رجوناه لمستقبل عربيّ مستقلّ. وإذا اجتاحت في
مرورها ما بنيناه من هذا الكيان الناشىء، ولم تعترف بشيء من هذا الجهد المؤمّل،
وبذلك شُطب على الخطوة الأولى، ومُهّد لفرنسا أن تسيطر وتحتلّ باتّفاق مع عصبة
الأمم التي كانت توجّه السياسة العالمية. ولكن ما كان لنا ولسائر المخلصين للدين
والقومية والوطنية أن نستكين للقوّة".
تنبّه العامليين لسياسة الحلفاء
عندما دخل الفرنسيون والإنكليز إلى جبل عامل، اعتبر الوطنيون العامليون أنّ الحلفاء
سيمنحونهم الاستقلال التامّ، خصوصاً بعد أن شجّعوا على إقامة حكومات محلّية في
سوريا والعراق. لكن هذه الحكومات أصبحت منشأ صراع بين أطراف الإقطاع السياسيّ
والزعامات المحلّية التقليدية. إلّا أنّ هذا الصراع لم يمنع السياسيين في جبل عامل
من معارضة فرنسا والمطالبة بالاستقلال عنها. وعندما تكشّفت نوايا الحلفاء، وراحت
فرنسا تكيد للسوريين واللبنانيين بمن فيهم العامليين، اندلعت الحروب والمعارك في
جبل عامل، وبدأت الفرق الفرنسية بالتقهقر في بعض المواقع، وحصرت عساكرها في المدن
الهامّة.
سايكس - بيكو، مؤامرة فرنسية - إنكليزية لتقسيم البلاد3
ويظهر من خلال تسارع الأحداث أنّ غورو4 حاول أن يثني العامليين عن
توجّههم وعزيمتهم بالانضمام إلى الحكومة العربية الفيصلية في سوريا، خصوصاً أنّ رفع
العلم العربي في بيروت لأوّل مرّة كان له ردّة فعل إيجابية لدى معظم المواطنين،
وردّة فعل سلبية لدى الحلفاء الذين لم يرتضوا برفع علم عربيّ فوق أرض عربية
يعتبرونها هم تحت سيطرتهم ومسرحاً لتحقيق أحلامهم واستغلال ثروتها، وطلب قائد
القوات البريطانية من شكري الأيّوبي أن ينزل العلم العربي وينسحب، وهكذا حُلّت
الحكومات العربية المؤقّتة في النبطية وصور وصيدا. ولما احتجّ فيصل على ذلك، أجابه
اللنبي بأنّ هذه الإجراءات ستكون مؤقّتة، فسحب فيصل الحكّام والممثلين الذين كان قد
أرسلهم إلى أقضية ولاية بيروت ولبنان، لكنّه سرعان ما تفاجأ بورود بَرْقيّة من
اللنبي يطلب فيها تسليم أقضية بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا إلى المنطقة الفرنسية.
اتّحاد العامليين حول فيصل
وقد عبّر جبل عامل عن تأييده لفيصل في اجتماع حاشد عقد في دار الحكومة في دمشق،
وكذلك عن تأييده للثورة العربية الكبرى، وذلك من خلال الوفد الكبير الذي أرسله
العامليون إلى دمشق. وقد مثّل جبل عامل في التعبير عن موقفه الشيخ عبد الحسين صادق،
الذي قال: "إنّني باسم أهل جبل عامل أبايعك على الموت"... والواضح أنّ كلام
الشيخ هذا هو خير تعبير عن مدى اندفاع العامليين على طريق الوحدة السورية. وفي هذه
الفترة كانت الولايات المتّحدة الأميركية قد اقترحت تأليف لجنة تحقيق مكلّفة
باستقصاء مطالب الناس المعنيين بهذا الأمر، فإنّ عصبة الأمم كانت قد صدّقت على نظام
الانتداب، ولم يكن فيصل قد توصّل إلى توقيع اتّفاق مع كليمنصو.
وفي أثناء ذلك كانت قد نشبت معارك عديدة بين القوّات العربية والقوّات الفرنسية.
وبدأت العصابات المسلّحة (الثوار) بالظهور وارتفعت حدّة التوتر. ليس هذا فحسب، بل
جاءت البيعة لفيصل على لسان معظم زعامات جبل عامل ووجهائه السياسيين والدينيين على
حدٍّ سواء، حيث إنّ السيد عبد الحسين شرف الدين بعث بخطاب للأمير فيصل يؤكّد فيه
على مبايعته بالإمارة وتهنئته بالعودة، وذلك باسمه وباسم جبل عامل. أمّا بشأن
الحكومة العربية المستقلّة، فإنّ العامليين كانوا يظاهرون فيصل على إنشائها.
موقف العامليين من الاحتلال الفرنسيّ
كان استقبال جبل عامل للاحتلال الفرنسيّ، استقبالاً صاخباً محتجّاً، يواجهه بالرفض
والمصارحة، والميل عنه ميلاً لا هوادة فيه ولا لين.
وفي هذه الأثناء كانت لجنة كينغ كراين5 قد وصلت إلى صور للتحقّق من رأي
العامليين، فكانت مواقفهم واضحة ومميّزة أمام هذه اللجنة. ويذكر السيد شرف الدين:
"أنّ بلاد عاملةِ أجمعت على أن يمثّلها لدى اللجنة اثنان، هما شيخ العلماء
المقدّس الشيخ حسين مغنية والسيد عبد الحسين شرف الدين".
ومنعاً لكلّ لبس لدى المترجم، ودفعاً لأيّ تقوّل من الذين يحرّفون الكلام عن
مواضعه، قدّم السيد مذكرة جبل عامل للجنة كينغ – كراين، وجاء فيها ما يلي:
أولاً: لا نرضى بغير استقلال سوريا التامّ الناجز
بحدودها الطبيعية التي تضمّ قسميها الجنوبيّ (فلسطين) والغربيّ (لبنان)، وكلّ ما
يعرف ببلاد الشام دون حماية أو وصاية.
ثانياً: تكون الدولة ملكية، ذات عدالة ومساواة،
يستوي فيها جميع الناس كافّة في الحقوق والواجبات.
ثالثاً: الأمير فيصل بن الحسين هو مرشّح العرب
الطبيعيّ لملك سوريا، لما له من جهاد في سبيل القضية العربية.
رابعاً: لا حقّ إطلاقاً لما تدّعيه فرنسا في
أيّ بقعة من سوريا، ولا تُقبل أيّ مساعدة منها.
خامساً: إذا كان لا بدّ لسورية من مساعدة فإنّ
الرئيس ولسن قد فتح باباً معقولاً لطلب المساعدة من أميركا وذلك بإعلانه أنّ القصد
من دخول الحرب إنّما كان للقضاء على فكرة الفتح والاستعمار.
* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الحسين بن علي: مؤسّس
الدولة الحجازية الهاشمية والحاكم قبل الأخير لمكة من الأشراف الهاشميين. أوّل من
نادى من الحجاز باستقلال العرب، كان أميراً أو شريفاً لمكة إبان حكم الإمبراطورية
العثمانية. ولد في إسطنبول سنة 1270هـ 1854م وذلك لأن والده نفي إليها. عاد إلى مكة
وعمره ثلاث سنوات. قاد الثورة العربية الكبرى التي حرّرت بلاد الحجاز وبلاد الشام
والعراق من الدولة العثمانية بتحالف مع الإنجليز ولقّب بملك العرب.
2- الملك فيصل الأول بن حسين بن علي الهاشمي (20 مايو 1883 - 8 سبتمبر 1933) ثالث
أبناء شريف مكة حسين بن علي الهاشمي وأول ملوك المملكة العراقية (1921-1933) وملك
سورية (مارس 1920- يوليو 1920). ولد في مدينة الطائف وتربى مع إخوته بكنف أبيه حسين
بن علي الهاشمي. تعامل مع جمال باشا بشكل حذر جداً حتى لا يثير شكوكه وارتيابه في
حركة التمرّد التي كان يخطّط لها والده بالتعاون مع بريطانيا. وعلى الرغم من توتّر
العلاقة بين فيصل وجمال باشا فقد استأذنه فيصل للعودة إلى مكة، فوافق جمال باشا على
طلبه. فعاد إليها فيصل قبل قيام الثورة العربية بشهر.
3- اتفاقية سايكس بيكو: كانت تفاهمًا سريًا بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من
الإمبراطورية الروسية على اقتسام الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق
النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الإمبراطورية العثمانية، المسيطرة على هذه المنطقة،
في الحرب العالمية الأولى. تم الوصول إلى هذه الاتفاقية بين نوفمبر من عام 1915
ومايو من عام 1916 بمفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو
والبريطاني مارك سايكس. تم الكشف عن الاتفاق بوصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في
روسيا عام 1917، ما أثار الشعوب التي تمسّها الاتفاقية وأحرج فرنسا وبريطانيا.
تم تقسيم الهلال الخصيب بموجب الاتفاق، وحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح
الغربي من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق. أما بريطانيا فامتدت
مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسّعاً بالاتجاه شرقاً لتضم بغداد
والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا. كما
تقرّر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا
وفرنسا وروسيا.
4- غورو: الجنرال هنري جوزيف أوجين غورو، بالفرنسية: (Henri Joseph Eugène Gou raud)
ولد في باريس انتسب إلى المدرسة العسكرية في سان سير Saint-Cyr وتخرج فيها برتبة
ضابط عام 1888م، وهو القائد العسكري الفرنسي الذي قاد الجيش الفرنسي في نهاية الحرب
العالمية الأولى في الحرب التركية الفرنسية (1919 - 1923). واشتهر الجنرال غورو
بكونه المندوب السامي للانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا، وبكونه من تولّى إعلان
دولة لبنان الكبير عام 1920 بعد فصله عن سوريا بموجب اتفاقية سايكس- بيكو بين فرنسا
وبريطانيا.
5- لجنة كينغ - كراين (بالإنجليزية: King-Crane Commission): هي لجنة تحقيق عيّنها
الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في أثناء انعقاد مؤتمر الصلح في باريس عام 1919م،
للوقوف على آراء أبناء سورية وفلسطين في مستقبل بلادهم. وقد اختار ويلسون لرئاسة
هذه اللجنة هنري كينغ، رئيس كليّة أوبرلين بولاية أوهايو، وتشارلز كراين، وهو رجل
أعمال بارز من شيكاغو. وبعد أن طافت هذه اللجنة في مختلف المدن السورية (وبضمنها
مدن فلسطين) ما بين 10 حزيران و 21 تموز وضعت تقريراً أعلنت فيه أنّ الكثرة المطلقة
من العرب تطالب بدولة سوريّة مستقلّة استقلالاً كاملاً، وترفض فكرة إنشاء وطن قومي
لليهود في فلسطين.