التعبئة على ضوء نهج البلاغة
الجهاد
يذكر الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة صفات رجال الله عز وجل، الذين كانوا بمثابة التعبويين المجاهدين في صدر الإسلام، فيعدّد صفاتهم وخصائصهم التي يمكن أن تشكِّل اليوم مشعلاً للهداية لكلّ الباحثين عن الحقّ، ونوراً للهاربين من ظلمات الضياع والحيرة.
عدد الزوار: 116
يذكر الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة صفات رجال الله عز وجل، الذين كانوا
بمثابة التعبويين المجاهدين في صدر الإسلام، فيعدّد صفاتهم وخصائصهم التي يمكن أن
تشكِّل اليوم مشعلاً للهداية لكلّ الباحثين عن الحقّ، ونوراً للهاربين من ظلمات
الضياع والحيرة.
لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام بنفسه أفضل نموذج للتعبويين الجهاديين الذين
تربّوا في مدرسة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وكما قال الإمام القائد
الخامنائي دام ظله: "أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل قدوة لكل
التعبويين اليوم".
لو كان الإنجاز الوحيد للثورة العظيمة التي قام بها الإمام الخميني قدس سره، هو
تربية هؤلاء الشباب التعبويين والمجاهدين فقط، لكان إنجازاً عظيماً ومشرِّفاً، وفي
هذا الصدد يقول الإمام القائد دام ظله: "فَتْحُ الفتوح الذي أنجزه الإمام الخميني
قدس سره كان صناعة شباب مؤمن، مخلص، طاهر، صادق، لا يعبأ بالشهوات، قلوبهم متوجّهة
فقط نحو الله تعالى".
لقد كانت بياناتُ وخطب الإمام الخميني قدس سره ذات تأثير عجيب في قلوب التعبويين،
إذ إنهم عندما كانوا يحضرون للقاء الإمام الخميني قدس سره، كنت ترى مشهداً عجيباً
من البكاء والدموع التي تجري خاصة عندما قال الإمام قدس سره: "يا ليتني أنا أيضاً
كنتُ واحداً من أفراد الحرس".
لقد كانت هذه الدموع تخرج من قلوب طاهرة، وبحماس وشوق لا يوصفان، كانت قلوبهم
مشدودة ومرتبطة بالإمام الخميني قدس سره، وتلك الدموع الصادقة والقلوب المُحبة
للولي الفقيه كانت تعطيهم القوة والطاقة، وتشحنهم بحماس وإيمان إلى مدّة طويلة. وقد
تجلّى أوج هذه العلاقة بين الإمام الخميني قدس سره وبين هؤلاء التعبويين المجاهدين
عندما قبّل الإمام سواعد وقبضات هؤلاء التعبويين.
وبناءً على ما تقدّم، سوف نستعرض في هذا الفصل لأهمّ تلك الخصائص والمميّزات
لمجاهدي صدر الإسلام، والتي نستفيد منها لنطل على واقع المجاهدين والتعبويين اليوم،
والتي وردت في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة 187، التي يقول
في مطلعها: "ألا بأبي وأمي هم من عدّة أسماؤهم في السماء معروفة، وفي الأرض مجهولة...".
عشق الجهاد والشهادة
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "دُعُوا للجهاد فأجابوا، وهِيجُوا إلى الجهاد
فولِهُوا وَلَهَ اللقاح إلى أولادها"1.
فالتعبويون المجاهدون دائماً وعلى كل حالِّ يعشقون الجهاد والشهادة، وهم مستعدّون
للقاء الله تعالى، ومن أجل ذلك تكون استجابتهم للقتال استجابة صادقة وسريعة ومطمئنة،
لا يتخاذلون أو يتثاقلون، وفي عبارة (وهِيجُوا إلى الجهاد فولِهُوا) إشارة واضحة
لهذا العشق للجهاد والشهادة.
إنّ تعبير "الهيجان" يعني: أنّهم لا يَرِدُون الجهاد إلا بحالة الهيجان والشوق،
وهذا دليلُ معرفةٍ منهم بمقام المجاهدين ومكانة الشهداء عند الله تعالى، فالإقدام
بوَلَهٍ هو دليل على العرفان وعلامة على العشق.
وقد شبّه الإمام علي عليه السلام حالهم بحال الفصيل الضائع، الذي تبحث أمه عنه بتيه
وهيجان، وهو حال شبيه بحال التعبوي المجاهد عندما يُدعى إلى الجهاد فيسارع
نحوالشهادة بشوق وهيجان.
ثم يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض،
زحفاً زحفاً وصفاً صفاً. بعضٌ هلك وبعضٌ نجا، لا يُبشّرون بالأحياء ولا يُعزّون عن
الموتى"2.
في الحالة الطبيعية يُبشَّر بالسلامة من يرجع من السفر معافى، فكلّ من حوله يكون
مسروراً بعودته سالماً، وإذا ما تعرّض أحدٌ لحادث ما ثمّ خرج منه معافىً فكلُّ
الأصدقاء والأقارب يُسرُّون لبقائه حياً.
لكن عند رجال الله: أن يبقى الإنسان حياً ويرجع من الجبهة دون وسام الشهادة فهذه
ليست بشارة، وليست سبباً يبعث على الفرح والسرور.
هذا حال المجاهدين، وأما بالنسبة إلى عائلات الشهداء فلا حاجة لتعزيتهم لأنّهم أهلُ
افتخار بشهدائهم، ولدينا نماذج كثيرة لهذه الروحية العجيبة في عائلات الشهداء، إذ
إنّهم يتقبّلون التبريك لا التعازي، وكيف لا؟! وفي ثقافتهم وتربيتهم الجهادية
القرآنية أنّ الشّهيد في الحقيقة هو الفائز الحقيقي، وأما من بقي حياً فأمره معلَّقٌ
بين الفوز والخسران. فكيف يتقبّلون العزاء بينما شهيدهم فائزٌ بالرضوان والوسام
الإلهي الرفيع؟!
ومن اللافت أن نرى في شبابنا التعبويين المجاهدين في زماننا هذا شيئاً مميّزاً، وهو
تحرّقهم للقتال والجهاد، بل إنّهم ومع صغر عمرهم يبكون أمام آبائهم وأمهاتهم لأجل
أخذ الإجازة والرِّضا للذَّهاب إلى الجبهات!
أين يمكن أن نجد نماذج تُقبِل على الشهادة بهذا الشوق والوله العجيب؟ بل أين يمكن
أن نجد قلوباً تفيض بحب لقاء الله تعالى وهي في زهرة شبابها!؟
لقد سجّل تاريخ الجهاد أنّ الجبهات قد امتلأت وبإشارة واحدة من الإمام الخميني قدس
سره بآلاف العاشقين للشهادة من التعبويين المجاهدين، إلى درجة أن المقرّات
والمعسكرات لم تعد تتسع لأي مُلتحِقٍ جديد!.
حينها ضاقت المعسكرات برجال الله وعشّاق الجهاد، وكل أمانيهم كانت أمنية واحدة: أن
تكون الشهادة من نصيبهم، بل كان البعض ينذر النّذورات لأجل الحصول على شرف
الشَّهادة! إن مثل هذه النماذج لم تحصل في أيّة برهة من التاريخ. لقد ملأ هؤلاء
الجهاديون المخلصون صفحات التاريخ بقصص المجد، بل إنّ مشاهد عشقهم لله تعالى تصدم
كلّ الذين يستهزئون بالقصص المعنوية، هذه القصص قد حصلت فعلاً ووقعت في ساحات الحرب
وميادين الجهاد.
وكما أن عشق الجهاد والشهادة ليس مختصاً بزمن الحرب فقط، بل إنّ التعبويين
الجهاديين يتمنّون الشهادة في أي زمان ومكان، ويتمنّون القتل أو الجرح في كل
الميادين التي تكون مورداً للرضا الإلهي، فهم جاهزون على الدوام للجهاد ومشتاقون
دائماً للشهادة بلا فرق بين زمن حربٍ وزمنِ سلمٍ.
الأنس بالقرآن الكريم
في حديث أمير المؤمنين عليه السلام عن الخُلّص من أنصاره يقول: "قرأوا القرآن
فأَحكَمُوه"3.
وفي خطبة أخرى يقول عليه السلام: "الذين تَلوُا القرآن فأحكموه"4.
والمستفاد من حديثه عليه السلام أنّ المجاهدين في صدر الإسلام، كانوا أهل أُنس
بالقرآن، وكانوا يتلون آياته بتدبرٍ وتأمُّلٍ، ويعملون بأحكامه وتعاليمه، وهذا هو
معنى الإحكام في كلامه عليه السلام.
أما اليوم، إذا أراد أحد من التعبويين أن يكون مثل هؤلاء الجهاديين الذين يقول فيهم
أمير المؤمنين عليه السلام: "بأبي وأمي هم من عدة، أسماؤهم في السماء معروفة، وفي
الأرض مجهولة"5، فيجب عليه أن يأنس بتلاوة القرآن الكريم، ويتدبّر معانيه، وأن لا
يُضيّع حقّ هذا الكتاب الإلهي خاصّة في مقام العمل. وعلى حد تعبير الأستاذ العارف
الشيخ بهجت قدس سره: "نحن في إحياء ليالي القدر نضع القرآن فوق رؤوسنا، وفي مقام
العمل نضع آيات الحجاب، والغيبة، والكذب، والإحسان إلى الوالدين تحت أقدامنا!
القرآن هو كتاب تربية الأنبياء عليهم السلام، والبرنامج القرآني هو البرنامج الأخير
الذي وُضع بين أيدينا لتربية الإنسان القرآني، جامعُ كمالاتِ كلِّ أنبياء أولي
العزم"6.
إذاً، هل يمكن أن نعدّ أنفسنا من أهل الجهاد في سبيل الله، أو من طلاب الشهادة
الذين يدّعون حبّ لقاء الله عز وجل, ثم نبتعد كل هذا البعد عن كتابه ولا نأنس
بتلاوة كلماته ولا نعمل بآياته؟
الصّيام
إنّ الشيعة الأصفياء والأصحاب الأوفياء لأمير المؤمنين عليه السلام هم أهلُ صيام،
وفي ذلك يقول عليه السلام: "خُمص البطون من الصيام"7.
ليس المجاهد والتعبوي الصادق بعابد بطن! ولا يفكِّر في أنّ هذا الطعام ألذ ّمن ذاك،
ولا تشغل باله كلّ تلك اللذائذ، فهو قليل الطعام، يأكل ليعيش ولا يعيش ليأكل! فهو
يأكل بقدر حاجته، وبالمقدار الذي يساعده على التحمّل والصُّمود وإدامة المعركة،
فالتخمة والشبع لا معنى لها عنده، ولا يصرف عمره بحثاً عن الأكل والشرب وأنواع
اللذائذ.
قيام الأسحار والأنس بالدعاء والمناجاة
وفي سياق تعداد أمير المؤمنين عليه السلام لخصائص ومواصفات شيعته الخلّص يقول عليه
السلام: "ذبل الشفاه من الدعاء، صُفر الألوان من السّهر"8. إذاً من جملة خصائص
هؤلاء الشيعة الخلّص لأمير المؤمنين عليه السلام هي إحياء الليالي وقيام الأسحار
والرجوع إلى ساحة الرحمة الإلهية.
والتعبوي المجاهد اليوم - واقتداءً بإمامه ومولاه علي عليه السلام - عليه أن يكون
من الذين يُحيون الأسحار ويأنسون بالذكر والدعاء، والعبادة والمناجاة. فيُسمع في
السَّحر أنينه وبكاءه، ويُشاهد تضرُّعه وخشوعَه أمام العظمة الإلهية وفي محراب
العبادة.
ومن هنا يمكننا أن نفهم عدداً من المفاهيم الواردة في القرآن الكريم: كالدعاء،
المناجاة، والبكاء من خوف الله تعالى. إنّ القرآن يمدح فئة مؤمنة تخرّ ساجدة وباكية
عندما تُتلى عليها آيات الله خشية وهيبة، قال تعالى:
﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾9 وفي آية أخرى ورد هذا الوصف لأهل
الإيمان في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا
بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ﴾10.
وفي آية ثالثة ورد وصف لقوم يسجدون - بدون اختيار- عند سماعهم للآيات القرآنية:
﴿وَيَخِرُّونَ
لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾11.
فهذه الآيات تشير بوضوح إلى: أن عباد الله المخلصين، صلاة ليلهم متصلةٌ بسجود
صباحهم. لكن، وللأسف، لقد أصبحت هذه العبادات والعادات متروكةً في أيامنا، وقليل هم
الذين يُوصِلون صلاة ليلهم بسجدة صبحهم! بل إنَّ الذين يقضُون أسحارهم بالقيام
والسجود هم قلّة قليلة.
فلننظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام حيث يبيّن لنا معنى المجاهد التعبوي، ويعطينا
ضابطةً لمواصفات ذلك الشّخص بأنّه حاضرٌ دائماً في ساحة المعركة بسلاحه الملقّم،
فالمجاهد جاهزٌ في أية لحظة للجهاد والقتال في سبيل الله. ويُستفاد ذلك من قوله
عليه السلام: "سلبوا السيوف أغمادها"12.
لكن في المقابل، يلفت أمير المؤمنين عليه السلام نظرنا إلى ليل المجاهد، فالمجاهد
هو من أهل البكاء والعبادة في محراب المعشوق، يتلذّذ بمناجاته وينفرد بخالقه لذكر
حوائجه وأمانيه. هذا ما أراد أن يُعلّمنا إيَّاه أمير المؤمنين سلام الله عليه من
حقيقة المزج بين جنبة المقاتل العسكريّ في شخصيّة المجاهد، وجنبة الإيمان والعشق
المشرقة في روحيته و شخصيَّته.
إنّ هذه الفكرة المشرقة والجميلة عن صفات وخصائص هؤلاء المجاهدين، هي التي جعلت
اللسان الشريف للإمام عليه السلام يتحرّك للحديث عن مقام هؤلاء بمثل هذه الكلمات
الراقية: "ألا بأبي وأمي هم من عدة"! فهذا هو حبه الشديد لهم، لدرجة أنه يفديهم
بالأب والأم والروح.
لقد كان في التاريخ نماذج مشرقة لهؤلاء المجاهدين، لا سيما المجاهدين أثناء الحرب
المقدّسة التي خاضها هؤلاء العظماء في إيران، حيث تأجّج العشق لله فيهم فصنع منهم
رجالاً له تعالى، ملأوا الساحات بحضورهم المعنوي الكبير.
لقد كان الشوق لله تعالى عندهم عظيماً، حتى أن بعضهم كان ينذر النذورات له تعالى،
ويقيم العبادات الشاقة كي يمنّ الله عليهم بوسام الشهادة المقدّس.
ومن باب المثال: لقد كان المجاهدون التعبويون يأتون، ولمدّة أربعين ليلةِ أربعاء،
أو ليلة جمعة، من طهران إلى مسجد جمكران في قم المقدّسة (التي تبعد أكثر من 120
كلم)، وحاجتهم فقط أن يُستجاب دعاؤهم للالتحاق بركب الشهداء.
وفي سياق حديثه عليه السلام عنهم، يقول: "ذبل الشفاه من الدعاء"13.
فالإكثار من الدعاء، والمواظبة على الذكر، أذبلت شفاههم، وأصفرت ألوانهم من تعب
قيام الليل وإحياء السحر بالعبادات والمناجاة.
ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام بعد بيان تلك الخصائص والمميّزات للمجاهد
التعبوي: "أولئك إخواني الذاهبون"14، فتعبيره عليه السلام بأنهم إخوانه، تعبيرٌ
عالي المضامين، لأنَّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يعاني من ضعفِ وعصيانِ وعدمِ
وفاءِ وخذلانِ من كانوا يتواجدون معه وحوله، لذلك قارن عليه السلام بينهم وبين
أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأوفياء بقوله عليه السلام: "لقد رأيت أصحاب
محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أرى أحداً يشبههم منكم، لقد كانوا يُصبحون شُعثا
غبراً"15.
ثم يقول عليه السلام: "وقد باتوا سجّدا وقياما يُراوِحُون بين جباههم وخدودهم
ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم"16.
ثم ينطلق أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته، ذاكراً خصائص وصفات أنصار وأصحاب
الرسول قائلاً: "كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذُكر الله هملتْ
أعينهم حتى تُبلّ جيوبهم. ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب
ورجاءً للثواب"17.
إنّ الذي يلاحظُ بوضوح من خلال هذا المقطع، أنّ الإمام علي عليه السلام يستهدف
إبراز الجانب المعنوي والروحي في شخصية هؤلاء المجاهدين، لذلك لم يذكر صفاتهم
الجسدية والقتالية، والسر في ذلك، أنه يريد أن يشير إلى حقيقة دور ارتباط المجاهد
بالله سبحانه وتعالى وإلى أهمية هذا الارتباط في تكوين الشخصية الحقيقية للمجاهد
الإلهي.
فلولا هذا الارتباط الحقيقي بالله تعالى، ولولا اتصافهم بهذه الصفات الإيمانية
والعبادية لم يكن ليرى المسلمون تلك الانتصارات الكبيرة في صدر الإسلام.
ونحن اليوم أيضاً إذا ما قضينا الليالي باللهو واللعب، والكلام والثرثرة، وقطعنا
ارتباطنا بالله تعالى، فسوف لن نرى مجدّداً أي انتصارات.
فلهذه الصفحة النورانية المميّزة، أي الارتباط العشقي بالله تعالى، صدرت آهات الشوق
من صدر أمير المؤمنين عليه السلام شوقاً لرؤيتهم، ولذلك يقول عليه السلام: "فحق لنا
أن نظمأ إليهم ونعضّ الأيدي على فراقهم!"18.
إنّ كل هذه الصفات التي جرى بيانها على لسان الإمام علي عليه السلام، كانت واضحة
ومعروفة لدى الشباب المجاهد في أيام الحرب على إيران. إن الصحاري والجبال لا تزال
تردّد أصداء بكائهم، وألحان أنينهم شوقاً إلى لقاء الله تعالى. ولا يزال الأمل
أيضاً، بالشباب المجاهدين اليوم، أن يحافظوا على هذا الإرث الإيماني والمعنوي
الكبير.
إحياء الشعائر الإلهية والابتعاد عن البدع
إن الوصول إلى الحقيقة الأصيلة، لا يكون إلا بسلوك طريق صحيح ومستقيم، مبنيٍّ على
تعاليم الإسلام السماوية، ويمثّل رسول الله والأئمة الأوصياء من بعده عليهم
السلامهذا الطريق الصحيح والمستقيم الخالي من الهفوات، والمُوصِل إلى الحقيقة، فلا
طريق إلى الله عز وجل إلا من خلال هؤلاء المعصومين عليهم السلام.
وبناءً عليه، من يريد السير باتجاه الكمال والاستقامة عليه أن ينظر جيّداً إلى سيرة
وسنة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام، وأن
يتعلّمها ويعمل بها ويسعى لإحياء تلك السنن والشعائر في قلبه أولاً، ثم يحييها في
مجتمعه وأمته ثانياً.
ومن هنا يجب على المجاهد أن يعرف البدع والانحرافات التي حدثت في تاريخ الإسلام،
والتي كانت السبب في الانحراف عن طريق الهداية والصراط المستقيم, لأنّ هذه المعرفة
سوف تساعده في القضاء على البدع الحادثة في مجتمعنا من جهة، ثم القيام بإصلاح ما
فسد، ومعالجة العقائد الباطلة ودحضها من جهة أخرى.
وفي هذا المقام يقول أمير المؤمينن عليه السلام عند وصفه للمجاهدين: "أحيُوا السنّة
وأماتوا البدعة"19.
فأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانوا متابعين ومتمسّكين بسنة الرسول وفكره
الإلهي، لذلك لم يضلّوا وبقوا ثابتين في وجه أمواج البدع والضلال، أما بعض الشباب
اليوم، فإنهم جنوا على أنفسهم بإضاعة أوقات الصلوات واتباع الشهوات فهم اليوم
يسيرون في أظلم الطرق ويعيشون أسوأ الضلال، بسبب إهمالهم للاقتداء بسيرة الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم وعدم حفاظهم على الحدود التي أقامها النبي الكريم صلى الله
عليه وآله وسلم، لذلك ظهرت في أفكارهم البدع، وانحرف سلوكهم بشكلٍ سيء.
تشخيص التكليف الصحيح
تسلك كلُّ مجموعة طريقاً خاصاً من أجل الوصول إلى هدفها الذي تنشده، لكن نجاحها
وتطورّها في هذا السلوك والسير، مرهونٌ بعنصرين أساسيين:
أولاً: مدى معرفة الأفراد والعناصر للهدف بشكل جيد، ووعيهم الكامل به.
ثانياً: مدى معرفتهم الدقيقة، وتشخيصهم الصَّحيح للطّريق الموصِل إلى ذلك الهدف.
ويرتبط النَّجاحُ في الوصول إلى الأهداف، وبشكل مباشر، بتشخيص كل عنصرٍ لدوره الخاص
في تلك المجموعة، وبمعرفته للمسؤوليّة الملقاة على عاتقه التي يُطلب منه إنجازها
على مستوى إمكاناته وطاقاته.
إنّ هذا الأمر يعتبر في المجتمع الإسلامي قاعدة ثابتة، فكلّ فرد عليه أن يعرف
مسؤوليته، ويشخص تكليفه ليتميز كلُّ فردٍ بدوره وبمسؤوليّته عن الآخرين، ويكون لكلّ
فردٍ عمله الذي يُنتظر منه تأديته، وإنجازُه على أحسن وجهٍ ممكن.
غير أنّنا نرى أنَّ هناك آفةً خطيرةً من بين عدّة آفات تهدّد الأمّة الإسلامية،
وهي:
أن الفرد بدلاً عن توجّهه إلى وظيفته وتكليفه لينجزه ويهتمّ بإصلاح نفسه، فإنّه
يقوم بتبرئة نفسه من العيوب فيُسقطَ التّكليف عن عهدته، وينصرفَ دفعةً واحدة عن
تقويمه لنفسه ولطريقة أدائه لتكاليفه. بل إنه ينظر إلى أداء الآخرين لتكاليفهم،
ويتهمهم بعدم إنجاز ما يتوجب عليهم، ويرى أن كلّ المشكلات والنّواقص والانحرافات
إنَّما نشأت من إهمال أو تقصير الآخرين وأخطائهم.
إنّ وجود مثل هذه الأفكار يمنع أيّ إصلاحٍ وتطور، في عملنا, بل تزداد معها
الحساسيّات والاختلافات وعوامل التفرقة في المجتمع.
ومن هنا شخّص الإمام علي عليه السلام هذه المشكلة، وعلَّق حلها بالتفكّر والتدبّر،
فقال: "وتدبّروا الفرض فأقاموه"20 ويقصد الأمير بذلك أنَّ هؤلاء الأصحاب فكَّروا
جيِّداً، تأمّلوا، وبحثوا عن تكليفهم وماهيّة مسؤولياتهم تجاه دينهم وأمتهم، بعد
المعرفة والتَّشخيص الصَّحيح، ثم اتّجهوا إلى إنجاز هذا التَّكليف، وإتمام تلك
المسؤوليات بكل قدراتهم بدون كسلٍ أو مللٍ.
وفي مقامنا هنا في الحديث عن المجاهد والتعبوي، يرى أنَّ على المجاهد التَّعبوي، أن
يسعى لتحصيل العلم والمعرفة بالأولويات والضروريات التي تهمّ مجتمعه وأمته، ثم بعد
معرفة وتشخيص تلك الواجبات، يقوم بإعداد القدرات وتجهيز الإمكانات لإنجاز ما تم
تشخيصه كواجب وكأولوية، فكلّ همّه وقدرته وفكره متعلّق بإنجاز التكليف الإلهيّ
كاملاً في ميدان العمل.
القيادة والالتزام
لقد كان الإمام علي عليه السلام في أواخر أيام عمره الشريف، يتذكّر أصحابه الشهداء
وأنصاره الأوفياء، ويتأوّه على فقدانهم ويتوق من أجل لقائهم. إن افتقاده لشيعته
الخلّص كان يُظهره أنينه الواضح في كلماته النورانية، خاصة أنّ هؤلاء كانوا أكثر
الناس اتبّاعاً لقيادته الشريفة، في مقابل من تخاذل عنه وطعنه في ظهره، لذلك يقول
عليه السلام عنهم: "وثقوا بالقائد فاتبعوه"21.
نستفيد من هذه الكلمة النورانية، أن من أهم مميّزات المجاهدين التعبويين، بعد معرفة
قائدهم الديني هو الاطمئنان له والثقة به. لذلك لا بد من الناحية العملية من تطبيق
هذه الثقة بإطاعة أوامره وإتباعه بدون كثرة سؤال وتشكيك: كيف؟ ولم؟ ولماذا؟
لذلك فإنّ وحدة الصف والكلمة، ونبض القلب الواحد عند المجموعة في إطاعة القائد
الواحد اللائق الكفؤ، تعتبر من أهم عوامل التوفيق والنجاح والنصر.
وفي المقابل فإنّ كلْ مجموعة - حتى ولو كانت على حق- إذا كانت التفرقة تملأ قلوب
أفرادها، والأفراد بدورهم مشتتون على أهواء وسلائق مختلفة, فإن الانكسار والهزيمة
سوف تكون هي النتيجة الحتمية لهم.
إنّ روح الأخوة والتعاون إذا فقدت، وانعدم التواصل والتنسيق المستمر بين المؤمنين,
فمن الطبيعي أنْ تزداد الخلافات والحساسيّات بينهم، وتحصل التشقّقات في الصف
الواحد، والأعداء في واقع الأمر يتربّصون بنا وينتظرون لحظات كهذه لينقضّوا على أصل
وجود أهل الإيمان.
ومن هنا، نستطيع أن نقول إنَّ سياسة خلق العلل وصنع الذرائع، والتفتيش عن الأعذار،
من قبل بعض جنود جيش الإمام علي عليه السلام، لأجل تبرير تقاعسهم عن تنفيذ أوامره،
أو إعمال ذوقهم الشخصي في تنفيذ تلك التكاليف الموجّهة إليهم من قبله عليه السلام،
مثل هذه الأعمال والتصرّفات هي التي أصابت المجتمعَ الإسلامي والمسلمين بنكساتٍ
وخساراتٍ غير قابلةٍ للجُبران والتّدارك.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام حول هذا الموضوع، مخاطباً عسكره: "أما والذي نفسي
بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس أنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل
صاحبهم وإبطائكم عن حقّي... لوددت والله أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم
فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم"22.
ويضيف الإمام علي عليه السلام في نفس السياق، مخاطباً أولئك المتخاذلين في أداء
تكاليفهم: "استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سراً وجهراً
فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا... أتلو عليكم الحِكَم فتنفرون منها، وأعظكم
بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها، وأحثّكم على جهادِ أهل البغي فما آتي على آخر
قولي حتى أراكم متفرِّقين أيادي سبأ. أيها القوم الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم
عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المُبتلى بهم أمراؤهم، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه،
وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه"23.
وبناءً على ما تقدّم من الكلام النوراني لأمير المجاهدين عليه السلام، يمكن القول
بأن الانسجام والتعاون بين الأفراد والمجاهدين في التعبئة، والطاعة المطلقة للقائد
الثقة، الكفوء، بدون سؤال وتشكيك يُعدُّ من أهم الصفات والخصائص اللازمة للمجاهدين،
لذلك نرى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام عدّ أصحاب معاوية أفضل ممن حوله من
الأنصار، فقال عليه السلام: "صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي
الله وهم يطيعونه"24.
ولو ألقينا نظرة سريعة على واقع الأمة الحالي، لرأينا أن كل مشكلاتها منبعها هو
التفرّق عن القيادة الإسلامية الواحدة والواعية، ولذلك أمكن للجبروت الشيطاني
الأميركي أن يتغلغل في جسد الأمة ويزيدها ضعفاً يوماً بعد يوم.
ولقد كان هذا الحال من الضعف هو ديدن الأمة لقرون طويلة. حتى جاء الزمن الذي اجتمعت
فيه الأمة، وقلوب الشباب الطاهرة حول قائدٍ ديني ومعنوي عظيم هو الإمام الخميني قدس
سره، واستطاعت أن تصل بعناية الله تعالى إلى النصر الذي وصل مداه إلى كل العالم.
إنَّ ثبات المجاهدين التعبويين على درب الطاعة لإمام الأمة الراحل قدس سره، نابع من
معرفتهم به، ووعيهم وتسليمهم لقيادته الحكيمة للأمة، ومن عشقهم وتعلّقهم الروحي
والوجداني المماثل له، دفعهم ذلك كله إلى تحقيق الانتصارات تلو الانتصارات. من تلك
القوّة هدرت موجة الثوار فأزالت الشاه من الوجود، ثم صفعت أميركا والعالم صفعة
أليمة أثناء الحرب المفروضة.
وهكذا يجب أن يستمر التعبويون المجاهدون اليوم في السير على خطى القائد الحكيم قدس
سره، وليعشقوا أداء التكاليف التي يلقيها على عواتقهم، فإنّ الانتصارات لا يمكن أن
تتحقّق إلا بهذا الطريق.
تذكّر الشهداء وإحياء ذكراهم
سيرة الإمام علي عله السلام عابقة بشتى الاستفادات النورانية، ومن إحداها التي
تتعلّق بشخصية المجاهد، هي شدّة حبه ووفائه لأصحابه حتى بعد شهادتهم ورحيلهم عن هذه
الدنيا، لأنَّ الشهداء وبشهادة القرآن ﴿أَحْيَاء﴾25, يتنعَّمون برزقِ الله تعالى في
عالمٍ غير عالَمنا. يقول أمير المؤمنين مخاطباً أصحابَه الأوفياء: "أولئك إخواني
الذَّاهبون، فحقٌّ لنا أنْ نظمأَ إليهم ونعضَّ الأيديَ على فراقهم"26.
وفي مكانٍ آخر يتذكّر الإمام عليه السلام بكل شوق وحنين أصحابه الذين سالت دماؤهم
الطاهرة في حرب صفين، قائلاً: "أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين
عمار وأين ابن التيّهان وأين ذو الشهادتين، وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا
على المنية وأُبرِدَ برؤوسهم إلى الفجرة؟"27.
ثم يضع الإمام عليه السلام يده على لحيته الشريفة ويبكي طويلاً ويقول: "أين
إخواني...".
وفي اللغة العربية عندما تستعمل كلمة "أوّه" في الكلام فمعنى ذلك أنَّ القلب
يتألَّمُ بشدّة، وهو تعبيرٌ عن غايةِ التأثُّرِ والتوجُّع.
بهذه الحالة الرقيقة كان أمير المؤمنين عليه السلام يتذكّر الأصحاب والشّهداء، لكي
تكون قدوة أخلاقية وتربوية لكل أتباع الإمام عليه السلام، بما فيها من دعوةٍ إلى
الحفاظ على ذكرى الشهداء وإحيائها بأفضل وجهٍ وأحسن أسلوب.
* الربيون عطاء حتى الشهادة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- نهج البلاغة، الخطبة: 182.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 177.
3- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 10، ص 99.
4- نهج البلاغة، الخطبة: 182.
5- نهج البلاغة، الخطبة: 187.
6- نقلٌ مباشرة من المترجم عن المرحوم الشيخ بهجت قدس سره في درس خارج الفقه.
7- نهج البلاغة، الخطبة: 121.
8- نهج البلاغة، الخطبة: 121.
9- سورة مريم، الآية 58.
10- سورة السجدة، الآية 15.
11- سورة الإسراء، الآية 109.
12- نهج البلاغة، الخطبة: 177.
13- نهج البلاغة، الخطبة: 177.
14- نهج البلاغة، الخطبة: 177.
15- نهج البلاغة، الخطبة: 97.
16- م.ن.
17- م.ن.
18- نهج البلاغة، الخطبة: 121.
19- نهج البلاغة، الخطبة: 182.
20- نهج البلاغة، الخطبة: 182.
21- نهج البلاغة، الخطبة: 182.
22- نهج البلاغة، الخطبة: 96.
23- نهج البلاغة، الخطبة 97.
24- نهج البلاغة، الخطبة 97.
25- سورة آل عمران، الآية: 169.
26- نهج البلاغة، الخطبة: 121.
27- نهج البلاغة، الخطبة: 182.