يتم التحميل...

الهجرة والجهاد

الجهاد

الهجرة والجهاد هما الركنان الأساسيان اللذان يستند إليهما الإسلام من الناحية الاجتماعية، وقد حرص القرآن الكريم على إحاطتهما بقدسية خاصة كلّما تحدّث عنهما، كما أنّه عظّم وقدّس درجة المهاجرين والمجاهدين أكبر تعظيم وتقديس.

عدد الزوار: 112

أولاً: ماذا نعني بالهجرة والجهاد؟

يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا1.

الهجرة والجهاد هما الركنان الأساسيان اللذان يستند إليهما الإسلام من الناحية الاجتماعية، وقد حرص القرآن الكريم على إحاطتهما بقدسية خاصة كلّما تحدّث عنهما، كما أنّه عظّم وقدّس درجة المهاجرين والمجاهدين أكبر تعظيم وتقديس.

الهجرة تعني التخلي عن البيت والأهل والوطن، والابتعاد عنهم والتوجّه إلى ديار الإيمان حفظاً للدِّين من الضَّياع. وفي الكثير من الآيات القرآنية نرى كلمتي الهجرة والجهاد قد ذكرتا معاً: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّ2.

في الصدر الأوّل للإسلام، كان المسلمون ينقسمون إلى قسمين هما: المهاجرون والأنصار، فالأنصار هم سكان المدينة - يثرب - الذين آووا ونصروا، والمهاجرون هم الذين هجروا ديارهم وقدموا إلى المدينة إنقاذاً لدينهم.

والهجرة هي كالجهاد، حكم غير ثابت في الشَّرع الإسلامي ولكنّه من أركانه الأساسية وأحكامه الحية، بمعنى أنّ من المحتمل أن تطرأ ظروف تصبح معها الهجرة واجباً شرعياً وفرضاً يجب على المسلم أداؤه.

ودفعاً لوقوع بعض الاشتباهات والتَّناقضات في فهم حكمي الجهاد والهجرة، نتعرّض هنا لبحث هذا الموضوع بشيءٍ من التّفصيل.

لقد ورد للهجرة وكذلك للجهاد تفسير آخر غير ما تقدم، فقد فسرت الهجرة بهجر المعاصي والذّنوب والابتعاد عنها؟! لو أخذنا بهذا التفسير لأصبح جميع التائبين في العالم مهاجرين، لأنّهم هجروا الذّنوب والمعاصي ونأوا عنها، أمثال فضيل بن غياض وبشر الحافي وغيرهما كثير.

نموذج "الفضيل بن عيّاض"
(فضيل بن عياض) كان في بدء أمره سارقاً، لاهياً، ثمّ تغيرت حاله، فهجر جميع الذّنوب وتاب إلى الله توبة نصوحاً، وأصبح بعدها من العلماء، فهو لم يتحوّل إلى رجل متق وحسب، بل أصبح أيضاً معلماً ومربياً للعديد من الناس، في حين كان في مطلع حياته لصّاً وقاطع طريق وشرساً ومؤذياً حتى ضجّ الناس منه ومن شرّه وأذاه. فضيل بن عياض هذا كان يهمّ مرّة كعادته بسرقة بيت، وعندما تسلق الجدار وهمَّ بالنزول إلى داخل البيت رأى رجلاً زاهداً عابداً يقوم الليل، يصلّي صلاته ويدعو ويقرأ القرآن، فسمع فضيل الرجل وهو يقرأ القرآن بصوت خاشع حزين، وكان أوّل ما طرق سمعه من قراءة الرجل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ3.

فضيل الذي سمع هذه الآية: وهو فوق الجدار، أحس وكأنّ الآية: أوحيت إليه هو، تخاطبه هو، فالآية: قد هزَّته بعنف، حتى قال: "اللَّهمَّ بلى... اللَّهمَّ بلى... لقد آن الأوان، وهذا هو"، فنزل عن الجدار، وهجر منذ ذلك الحين كلّ الذّنوب، فلا سرقة بعدها، ولا خمر ولا ميسر ولا غيرها من باقي الذّنوب التي كان مبتلى بها، ابتعد عنها بكل جهده... أرجع الحقوق التي كان قد اغتصبها إلى أصحابها، وأدّى ما عليه من حقوق الله، وجبر ما كان قد فات منه. إذن.. ففضيل هذا مهاجر أيضاً لأنّه هجر السيّئات وابتعد عنها.

نموذج بشر الحافي
وفي عصر الإمام الكاظم عليه السلام كان في بغداد رجلٌ معروفٌ يُقال له بشر، وكان ممّن يشار إليه بالبنان. وحدث يوماً أن كان الإمام الكاظم عليه السلام مارّاً من أمام بيت بشر، فاتفق أن فتحت جارية باب الدار لإلقاء بعض الفضلات "قمامة" وحين رمت بها في الطريق سألها الإمام عليه السلام قائلاً: يا جارية! هل صاحب هذا الدار حرٌّ أم عبدٌ؟! فأجابته الجارية وهي مستغربة من سؤاله هذا وبشر رجل معروف بين الناس وقالت: بل هو حرّ. فقال الإمام عليه السلام: "صدقت لو كان عبداً لخاف من مولاه"4. الإمام عليه السلام قال هذه الكلمة وانصرف، فعادت الجارية إلى الدار وكان بشر جالساً إلى مائدة الخمر، فسألها: ما الذي أبطأك؟ فروت له ما دار بينها وبين الإمام عليه السلام، وسمع ما نقلته من قول الإمام عليه السلام: "صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه" فهزّه هزّاً عنيفاً أيقظه من غفلته، وأيقظه من نومة الغفلة عن الله، ثمّ سأل بشر الجارية عن الوجهة التي توجَّه إليها الإمام، فأخبرته فانطلق يعدو خلفه، حتى أنّه نسي أن ينتعل حذاءه. في الطريق كان يحدث نفسه بأنّ هذا الرجل هو الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وفعلاً ذهب إلى منزل الإمام، فتاب على يده واعتذر وبكى ثمّ هوى على يدي وقدمي الإمام يقبّلها وهو يقول: سيّدي أريد من هذه الساعة أن أصبح عبداً ولكن عبداً لله، لا أريد هذه الحرية المذلة التي تأسر الإنسانيّة فيَّ، وتطلق العنان للشهوة الحيوانية، لا أريد حرية السعي وراء الجاه والمنصب، لا أريد حرية الخوض في مستنقع الذّنوب وأغدو أسيراً لها، لا أريد أن تؤسر فيَّ الفطرة السليمة والعقل السليم، من هذه الساعة أريد أن أصبح عبداً لله وحده، حراً تجاه غيره. وتاب بشر على يد الإمام الكاظم عليه السلام. ومنذ تلك اللحظة هجر الذّنوب ونأى عنها وأتلف كلّ وسائل الحرام، وأقبل على الطاعة والعبادة. إذن، بشر هذا هو مهاجر أيضاً لأنّ "المهاجر من هجر السيّئات".

ثانياً: جهاد النفس

ولهذا المنحى في تفسير الهجرة، شبيه في باب الجهاد أيضاً حيث إنّ "المجاهد من جاهد نفسه"5 والمجاهد هو من يجاهد النفس الأمّارة بالسوء وأهواءها الداخلية، ومعروف أنّ الصراع الداخلي موجود باستمرار، قائم بين النفس وأهوائها من جهة والعقل من جهة أخرى.

يقول أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام: "أشجع الناس من غلب هواه"6.

نموذج "بورياي ولي"
هناك مثال آخر يوضح الشجاعة الحقيقية نستخلصه من القصة المعروفة التي حدثت لـ "بورياي ولي". وقد كان هذا من كبار أبطال المصارعة في العالم، وكان يعتبر نموذجاً للبطولة والرجولة والعرفان في آن واحد، يروى أنّ هذا البطل كان قد سافر مرة إلى إحدى المدن للتباري مع بطلها في المصارعة. وعُين موعد للمباراة، وذلك في ليلة الجمعة، وخلال تجواله في تلك المدينة، شاهد "بورياي ولي" امرأة عجوزاً كانت توزع الحلوى على الناس وتطلب منهم الدّعاء، ولم تكن تعرف "بورياي ولي" من قبل، فقدمت له الحلوى وسألته الدّعاء، ولكنّه سألها عن حاجتها ما هي؟ فقالت: "إنّ ابني هو بطل مدينتنا في المصارعة، وقد جاءنا منافس له من مدينة أخرى لمنازلته، وسيلتقيان خلال الأيام القليلة المقبلة، وأنا أخشى أن يخسر ولدي المباراة، فخسارته لا تعني انتكاسة شخصية له وحسب، بل تعني انقطاع مورد رزقنا الوحيد الذي يأتينا من الراتب الذي يقدم لولدي في هذه اللعبة، ولذلك فإنّ فشله في المباراة يعتبر تدميراً لحياتنا، وأنا امرأة عجوز لا أقوى على شيء. عندما سمع "بورياي ولي" حديث المرأة، قال لها: "اطمئني سأدعو لك" ثم استغرق هذا الرجل في التفكير مع نفسه محدثاً إيّاها عمّا سيفعله في المباراة "هل أصرعه إذا كنت أقوى منه أم لا؟" هنا تذكر هذا البطل مقولة إن: "أشجع الناس من غلب هواه". وفي اليوم المقرر للمباراة، صعد إلى الحلبة فوجد منافسه أضعف منه كثيراً ويستطيع أن يطرحه أرضاً بحركة واحدة، لكنّه ومن أجل أن يجعل المباراة تجري وكأنّها حقيقة - كي لا يفهم المشاهدون القرار الذي اتخذه بعد التغلب عليه - راح يكثر من الدوران ويطيل المصاولة والمجاولة مع منافسه ثم مكّنه بعد ذلك من أن يصرعه. وهنا يذكرون عن هذا البطل، أنّه وفي تلك اللحظة التي صُرع فيها، أحسَّ وكأنّ قلبه انفتح لله وكأنّه يرى بقلبه عالم الملكوت، هذا الرجل - لأنّه جاهد نفسه وانتصر عليها في تلك اللحظة - قد أصبح من أولياء الله، لماذا؟ لأنّ: "المجاهد من جاهد نفسه" ولأنّ: "أشجع الناس من غلب هواه" ولأنّه أظهر شجاعة فاق بها كلّ الأبطال7.

نموذج أمير المؤمنين علي عليه السلام وعمرو بن عبد ود العامري
وأعظم من هذه الحادثة، قصة الإمام عليّ عليه السلام مع عمرو بن عبد ود، هذا البطل الذي كان يوصف بفارس يليل8، الفارس الذي يعدل ألفاً. في معركة الخندق كان عسكر المسلمين في جهة من الخندق وعسكر العدو في الجهة الثانية منه، بحيث لم يكن باستطاعة العدو أن يعبر إلى جهة المسلمين ورغم ذلك فقد تمكن نفر من الكفار - ومن بينهم عمرو بن عبد ود - من عبور الخندق بطريقة أو بأخرى، وأخذ عمرو يجول بفرسه وهو يصرخ: هل من مبارز؟! فلم يجرؤ أيّ من المسلمين على الخروج له وهم يعرفون من هو عمرو وماذا تعني مبارزته، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: من له؟ فسكت الجميع إلّا علياً إذ نهض وقال: أنا له يا نبي الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّه عمرو اجلس! فنادى عمرو ثانية: ألا من رجل؟ ثمّ أخذ يلومهم ويقول: أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ فلم يجب إلّا عليّ إذ نهض وقال: أنا له يا رسول الله، فأجابه الرسول بمثل ما أجابه في المرّة الأولى، فنادى عمرو ثالثة فلم يجبه أحدٌ أيضاً غير الإمام عليّ عليه السلام إذ نهض وقال: يا رسول الله أنا له، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّه عمرو"، فقال عليه السلام: "وإن كان عمراً"، فاستأذن رسول الله فأذن له وخرج عليه السلام إلى عمرو. وخلاصة الحدث، أنَّ علياً عليه السلام يطرح بطل الأبطال على الأرض ويجلس على صدره ليحتزّ رأسه وهنا يبصق عمرو في وجه عليّ عليه السلام، فيقوم الإمام عليه السلام من فوق صدره، ويأخذ بالسير بهدوء بالقرب منه وبعد فترة يعود فيجلس مرّة أخرى على صدره ويهم بقطع رأسه فيسأله عمرو عن سبب قيامه عليه السلام أوّلاً ثمّ عودته ثانية، فما كان جواب الإمام عليه السلام؟! لقد غضب الإمام عندما بصق اللعين في وجهه الشريف، وهنا تركه خشية من أنّه إن قتله وهو غاضب فقد يحتمل أن يكون ذلك غضباً لنفسه لا لله، فقام عنه حتَّى هدأ عليه السلام وعاد فقتله لله تعالى لا لغيره9.

الهجرة تعني ترك الذنوب
وخلاصة ما تقدّم أنّ المعنى الآخر للهجرة هو ترك الذّنوب والمعاصي، والمعنى الآخر للجهاد هو مجاهدة النفس وأهوائها، فهل - يا ترى - هذا التَّفسير صحيح أم لا؟! الجواب هو أنَّه صحيح بحدِّ ذاته ولكن قد أسيء فهمه وفهم بصورة خاطئة، فمقولتا: "المهاجر من هجر السيّئات، والمجاهد من جاهد نفسه" واردتان في أحاديث المعصومين عليهم السلام. إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يصف جهاد النفس بأنّه "الجهاد الأكبر"، لكن الخطأ في الفهم والانحراف في التفسير، قد وقع عندما لجأ البعض إلى إلغاء المعنى الأوّل للهجرة  والجهاد وذلك باحتجاجهم في أنّ معنى الهجرة ترك الذّنوب وإنّ معنى الجهاد مجاهدة النفس فلا حاجة إذن لأن نترك الأهل والديار عند اقتضاء الضرورة، ونتغرب في البلدان، بل بدلاً من ذلك نجلس في بيوتنا ونهجر الذّنوب فنصبح بذلك مهاجرين، ويقول البعض الآخر: إنّه ما دام الجهاد هو مجاهدة النفس، إذن فلا ضرورة للسَّير إلى محاربة أعداء الإسلام، وبدلاً من أن نتحمل مصاعب ذلك، نجلس في بيوتنا وننشغل في مجاهدة أنفسنا وهذا هو - في نظرهم - الجهاد في سبيل الله بل هو أعظم من سابقه لأنّه الجهاد الأكبر وذاك هو الجهاد الأصغر.

إذن فقد اتخذ تفسير الهجرة بترك الذّنوب ذريعة لإلغاء الهجرة بالمعنى الأوّل، واتخذ تفسير الجهاد بجهاد النفس ذريعة لإلغاء الجهاد بالمعنى الأوّل. وهذا هو الانحراف في الفهم، لأنّ في الإسلام هجرتين لا هجرة واحدة، ونوعين من الجهاد لا نوعاً واحداً، وإلغاء أيّ من الهجرتين - نوعي الهجرة - بالتذرع بالنوع الآخر، أو إلغاء أيّ من نوعي الجهاد بالتذرع بالآخر، كل ذلك يعني انحرافاً عن الإسلام وتعاليمه.

ثالثاً: دور الجهاد والهجرة في تربية الإنسان

إنّ قادتنا الدينيين - الرسول الأكرم، الإمام علي عليه السلام والأئمّة الأطهار - كانوا جميعاً مهاجرين في سبيل الله، بكلا الهجرتين، وكانوا عليهم السلام مجاهدين في سبيل الله بكلا الجهادين. وإذا نظرنا إلى الموضوع من الناحية المعنويّة، وجدنا هناك درجات لا يمكن الوصول إليها إلّا عبر المرور بكلتا الهجرتين أو الجهادين، فلا يمكن بحال أن يحصل الإنسان على درجة المجاهد وهو لم ير ساحة الجهاد أصلاً، كما لا يمكن له أن يحصل على درجة المهاجر وهو لم يهاجر بالمعنى الظاهر- المعنى الأوّل - وهذه هي سُنّة الله في خلقه للإنسان، إذ جعل نضجه وتكامله ورقيه مرهونة باجتياز دورات تربوية خاصة، فالزواج مثلاً يعتبر من وجهة نظر الإسلام عملاً مقدّساً من عدّة وجوه "على العكس من المسيحية المعاصرة التي تعتبر العزوبة عملاً مقدّساً"، فلماذا يعتبر الإسلام الزواج عملاً مقدّساً؟!.. إنّ سرّ الاهتمام بهذا الأمر هو تأثيره المهم في تربية روح الإنسان، فلروح الإنسان خاصية التكامل والرقي والنضج ولا يمكن أن تحصل عليها إلّا بالزواج، أي لو ظلّ الرجل أعزب إلى آخر عمره أو لو ظلّت المرأة عزباء إلى آخر عمرها، فسيبقى هناك نقص في تكامل روحيهما، سببه فقدان الأثر التربوي للزواج ولا يسدّ ذلك النقص حتى لو أنّهما قضيا العمر في العبادة، والرياضات ومجاهدة النفس، فالإسلام اعتبر الزواج سُنّة من سننه، وأحد أسرار ذلك التأثير الذي يتركه الزواج في تربية الإنسان وتكامله. فكل عامل من العوامل المؤثرة والمشتركة في تربية الإنسان ينحصر أثره في موقعه الخاص به، ولا يمكن لأي عامل آخر أن يحل محلّه إذا فقد ويحدث نفس تأثيره التربوي، كما أنّه لن يستطيع أن يحل محل أيّ من العوامل الأخرى.

والهجرة والجهاد هما أيضاً من العوامل التي تشترك في تربية الإنسان وتكامله ولذلك فلا يمكن أن يحل محلهما أي من العوامل الأخرى. فالجهاد مع النفس له موقعه، وكذلك الهجرة عن السيّئات، لكن الهجرة العملية عامل تربوي لا يمكن للهجرة بالمعنى الثاني - الهجرة عن السيّئات - أن تحلّ محله. وكذلك حال الجهاد والقتال ضد أعداء الله فلا يمكن أن يحلّ محلّه جهاد النفس. والعكس صحيح أيضاً، فكلاهما يضعهما الإسلام في صف واحد ويعتبرهما من عوامل التربية الإسلامية.

رابعاً: الظروف الموضوعية للجهاد والهجرة

وهنا يبرز سؤال مهم يقول: إنّ الظروف الموضوعية التي يعيشها الفرد المسلم متباينة ولا تقتضي جميعها من الفرد المسلم أن يهاجر أو يجاهد أعداء الله، فماذا سيكون موقفه آنذاك خصوصاً بعد أن عرفنا الأثر التربوي المهم للهجرة والجهاد؟!

يجيب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا التساؤل بأنّ واجب المفرد المسلم في هذه الحال، هو أن يكون في قلبه عزم صادق ونيّة مخلصة بأن يهاجر أو يجاهد أعداء الله، في أيّ وقت تتطلب الظروف الموضوعية الهجرة أو الجهاد. ومع توافر النيّة المخلصة والعزم الصادق لدى الفرد المسلم، يصل بذلك إلى درجة المهاجرين والمجاهدين حقاً. وهذا  الجواب النبوي يمكن استخلاصه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لم يغز ولم يحدِّث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق"10.

والقرآن الكريم يقول: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمً11.

ونلاحظ من النص القرآني أنّه لا يدخل المتخلفين ضمن حديثه عن القاعدين فهم غير منظور إليهم هنا، وإنّما حديثه هنا، عن القاعدين بعذر شرعي (هو وجود من به الكفاية من المجاهدين) فيقول: إنّ هؤلاء المجاهدين هم أعلى درجة وفضلاً وأجراً من القاعدين بعذر شرعي وهو وجود العدد الكافي من المجاهدين، ولكن في الوقت نفسه يؤكد النص أنّ هذا التفضيل لا يشمل أولي الضرر من القاعدين أي القادرين على الجهاد والمعذورين بسبب الأمراض المختلفة التي تعوقهم عن الجهاد - كفاقدي البصر، والمشلولين عن الحركة والمرضى الذين أقعدهم المرض فلا ينفي القرآن الكريم أنّ لهؤلاء فضلاً، ومن الممكن أن يصلوا إلى درجة المجاهدين، بل ويسبقوا الآخرين في ذلك، لو كان في قلوبهم عزم صادق ونيّة حقيقية، بأنّ لو زالت عنهم تلك العوائق لذهبوا إلى الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. وهذه القاعدة صحيحة عند توافر شروطها.

قال رجل لأمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام وهو في طريق عودته من صفين12: "يا أمير المؤمنين إنّ لي أخاً كم تمنيت أن يحضر معنا صفين في معسكرك فينال صحبتك" فماذا كان جواب الإمام علي عليه السلام ؟! لقد سأل عليه السلام الرجل عن نيّة أخيه ما هي، وماذا في قلبه، وعلام عزمه، هل كان لديه عذر منعه من الحضور أم لم يكن لديه عذر؟!

ثمّ يحدد الإمام عليه السلام الأجوبة الدقيقة عن كل تلك الاحتمالات، فإذا لم يكن معذوراً ولم يأت فعدم مجيئه خير لنا من مجيئه13، وإن كان معذوراً وقلبه معنا وعزمه أن يلحق بنا لو استطاع فهو معنا، فأجاب الرجل إنّه كذلك يا أمير المؤمنين فأجابه الإمام عليه السلام: ليس أخوك وحده كان معنا بل ورجال آخرون ما زالوا في أرحام أُمّهاتهم بل وفي أصلاب آبائهم، فهذا حكم ثابت فكلّ شخص وحتى يوم القيامة إذا وُجد وكان في قلبه عزم صادق أنّه لو أدرك علياً في صفين لنصره فهو مع علي ويعتبر من أنصار علي وجيش علي في صفين وإن لم يحضر صفين بل ولم يعاصرها.

خامساً: انتظار الفرج

ماذا يعني انتظار الظهور؟
وماذا يعني نص "أفضل الأعمال انتظار الفرج"؟ البعض يتوهّم ويظنّ أنّ "انتظار الفرج" وهو أفضل الأعمال يعني أن ننتظر ظهور إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف مع جمع من خواص أصحابه وأنصاره وعدتهم "313" رجلاً ومعهم جمع آخر من غير الخواص، فيحاربون أعداء الإسلام ويطهرون الأرض من دنسهم، ويقيمون العدل والأمن في البلاد ويوفرون الرفاه والحرية بأكمل صورهما، بعد ذلك يقولون لنا: تفضلوا! البعض يتوهّم أنّ انتظار الفرج هو هذا، ويصفونه بأنّه أفضل الأعمال. ولكن الانتظار الحقيقي للفرج، هو بانتظارنا ظهور الإمام عليه السلام للانخراط في جيشه والقتال تحت إمرته حتى ولو استشهدنا في هذا القتال. الانتظار الحقيقي هو أن يكون أمل الإنسان كله وكل أمانيه حقاً الجهاد في سبيل الله، وليس الانتظار حتى يأتي الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف فتقول له: اذهب أنت وحدك فأنجز كلّ المهام الشاقة، وعندما يحين وقت جني الثمار سنأتي نحن، هذا هو منطق أصحاب موسى، أما أصحاب محمّد فقد قالوا له: يا رسول الله! لا نقول لك ما قاله لموسى بنو إسرائيل، أصحاب موسى عندما وصلوا إلى فلسطين - بيت المقدس - ورأوا فيها جنداً متأهبين قالوا لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ14، كان هذا هو منطق أصحاب موسى، اذهب أنت وربك فقاتلا وطهرا فلسطين من دنس الأعداء، وسنأتي نحن بعد أن نطمئن إلى أنّه لم يبق خطر فيها. إنّ موسى عليه السلام قد سألهم مستنكراً: فما هو واجبكم إذن؟ عليكم أنتم أيضاً أن تخرجوا من دياركم الغاصب الذي أخرجكم منها، أما أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أمثال المقداد، فما كان قولهم كهذا، وإنّما قالوا: "لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلّف منّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً"15.

إذن فالانتظار الحقيقي للفرج هو أن يترسخ في قلوبنا عزم صادق ونيّة حقيقية وأمل بأن نوفق لأن نكون في جيش إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف فنشارك معه في إصلاح الدّنيا.

نموذج الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه
"يا ليتنا كنّا معك فنفوز فوزاً عظيماً". هذه الجملة كثيراً ما نرددها ونخاطب بها أبا عبد الله عليه السلام. ولكن هل يا ترى ننتبه حقاً إلى معناها؟ إنّ معناها، هو أنْ يا أبا عبد الله يا ليتنا كنّا معك فنستشهد بين يديك وتحت رايتك وبذلك نفوز فوزاً عظيماً. فهل هذا التمني مجرد قول أم أنّه يعبّر عن صدق نيّة ورغبة حقيقية؟! هناك من يطلق هذه العبارة بصدق وعقيدة، لكن أكثرنا يقرأها في الزيارة ولا تتعدى لقلقة اللسان.

وعندما اقترب وقت الظُّهر وفيه صلى الحسين عليه السلام يوم عاشوراء آخر صلاة له في هذه الدنيا وقد استشهد معظم أصحابه. إذ في هذا اليوم، قبل الظهر، وعند حلوله لم يكن قد بقي إلّا الحسين عليه السلام وأهل بيته ونفر من أصحابه، إذ استشهد القسم الأكبر منهم قبل ذلك في أثناء التراشق المتبادل للسهام - حرب الرماة -. كان جيش أبي عبد الله لا يزيد على اثنين وسبعين رجلاً، لكن هذا الجيش الصغير كان يتمتع بمعنويات عالية، وشجاعة منقطعة النظير، الإمام الحسين عليه السلام كان يأبى ويأنف من أن تظهر عليه أدنى إمارات الضعف والانكسار، كذلك نظم جيشه تنظيماً حربياً، جعل لهؤلاء الاثنين والسبعين قلباً وميمنة وميسرة كأي جيش نظامي آخر، فكان زهير بن القين على الميمنة وحبيب بن مظاهر على الميسرة وعقد راية جيشه لأخيه أبي الفضل العباس عليه السلام الذي أصبح منذ ذلك اليوم يلقب بحامل لواء الحسين عليه السلام.

أصحاب أبي عبد الله كانوا يتلهفون لبدء القتال، لكن الإمام عليه السلام كان يأبى ويصرّ على أن لا يقاتل حتى يبدأهم الأعداء بالقتال، وأما قصة بدء القتال فكانت على يد عمر بن سعد.

إنّ عمر بن سعد كان يريد أن يجمع الدّين والدّنيا معاً، الله والمادة معاً. كان يريد أن يحصل على ملك الري من ابن زياد، ولكن دون أن يلطخ يديه بدم الحسين عليه السلام ويسبب هذا الصراع الذي كان يعانيه مع نفسه. أرسل ابن سعد الرسائل المتوالية سعياً لتجنب القتال مع الحسين عليه السلام. وعندما علم ابن زياد بهذه المساعي، أرسل إلى ابن سعد رسالة شديدة اللهجة، عنّفه فيها وأمره أن يحسم الأمر سريعاً بقتل الحسين عليه السلام وهدده بأنّه سيعزله وينصب غيره إن لم يفعل. لم يستطع عمر بن سعد أن يتخلص من عبودية الدّنيا، وإذ تردّد الأمر بينها وبين الدّين باع دينه طمعاً بالدّنيا، فقال سمعاً وطاعة لأمر ابن زياد، فأظهر الكثير من الضعة والخسّة والغدر وارتكب أفظع الجرائم التي عرفها التاريخ. ويعلل ابن سعد ارتكابه لقسم من تلك الجرائم بأنّه كان يسعى من أجل أن ينفي عن نفسه تهمة الانحياز إلى الإمام الحسين عليه السلام، ومن أجل أن يؤكد لابن زياد إخلاصه وولاءه له بعد أن وصلت لابن زياد رسائل تتهم ابن سعد بالتردّد في قتال الإمام عليه السلام والميل إليه، ونفياً لهذه التهمة أقدم ابن سعد على ارتكاب سلسلة من الجرائم بحق آل الرسول تملقاً لابن زياد، فأمر فرقة الرماة بالاستعداد بعد أن تقابل الجيشان، فاستعد الرماة وأخذ ابن سعد سهماً وأطلقه نحو خيام الإمام الحسين عليه السلام وقال: "اشهدوا لي عند الأمير إنّي أوّل من رمى"16.

هذه هي قصة أوّل سهم أُطلق في واقعة الطف. وأنا كلّما وصلت إلى هذا المقطع من واقعة الطف في كربلاء تذكرت قولاً لصديقنا وصديقكم العزيز العالم الكبير المرحوم (آيتي)، فلقد سمعت منه أو قرأت له أنّ واقعة الطف بدأت بسهم وختمت بسهم، لقد بدأت بسهم عمر بن سعد فهل تعرفون السهم الذي ختمت به، أي الذي أنهى القتال بين الطرفين؟ لقد كان ذلك عندما وقف سيّد الشهداء وحده في الميدان وقد تعب من كثرة القتال وأخذ منه العطش مأخذاً عظيماً، ثم كان أن أصابته حجارة رماها أحد الأوغاد نحوه، فأصابت جبهته المباركة وسال منها الدم الزاكي فلما رفع الإمام ثوبه يمسح جبينه أتاه سهم مثلث مسموم فأصاب قلبه فختم بذلك جهاد سيّد الشهداء، ولم يعد الإمام يذكر شيئاً ولم يعد يخاطب إلّا ربّه قائلاً: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله"17.

كان عابس بن شبيب الشاكري رجلاً من أصحاب الحسين عليه السلام، قد ملأت كيانه روح الشجاعة والبطولة الحسينية، فوقف في وسط الميدان يدعو جيش بني أميّة للمبارزة، فلم يجرؤ أي منهم على تحدي هذا الليث الغاضب، وبعد تكرار الدعوة لهم، وجد عابس أنّ لامة حربه تعيقه عن الحركة ومهاجمة أعداء الله، فخلعها كلها - درعه خوذته وغيرهما - وعاد إلى الميدان يهاجم أعداء الإسلام، فلم يجرؤ أحد على الوقوف في طريقه، وما استطاعوا قتله إلّا برميه بوابل من الحجارة والسهام فاستشهد بهذا الأسلوب الوحشي. ولقد رسم جميع أصحاب أبي عبد الله عليه السلام في يوم الطف أروع صور البطولة والفداء، رجالاً ونساءً، وزينوا تاريخ البشرية بلوحات مدهشة وصفحات مشرقة ليس لها نظير. ولو كانت قد وجدت مثل هذه الصور البطولية المشرقة في تاريخ الغرب، لرأيت كيف يعظمونها ويصنعون منها نماذج مشرقة.

وعبد الله بن عمير الكلبي رجل آخر من أصحاب الحسين عليه السلام كان قد اصطحب معه إلى كربلاء زوجته ووالدته، وقد كان من الأبطال البارزين، وعندما أراد النزول إلى الميدان في يوم عاشوراء، اعترضته زوجته وقالت له: إلى من تتركني وعند من تودعني - وكان جديد عهد بالزواج منها - ثم أردفت قائلة: "بالله لا تفجعني في نفسك". وما أن سمعت أُمّه  ول زوجته حتى خاطبته: "يا بنيَّ لا تسمع لقولها. اذهب وقاتل بين يدي ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليكون غداً في القيامة شفيعك، ولا أرضى عنك حتى تقتل بين يدي الحسين عليه السلام". فرجع وقاتل حتى استشهد فأخذت أُمّه عمود الخيمة وهاجمت الأعداء، فردّها الحسين عليه السلام وقال: "جزيتم من أهل بيت خيراً ارجعي إلى النساء يرحمك الله فقد وضع عنك الجهاد". ويرتكب الأعداء جريمة بشعة جديدة إذ يقطعون رأس عبد الله ويرمون به صوب أُمّه فتأخذه وتمسح التراب عنه وتقبِّله وتحتضنه وتخاطبه بقولها: "قد رضيت عنك بنيّ قد رضيت" ثم ترميه إلى معسكر الأعداء وهي تقول: ما قدمنا في سبيل الله فلن نسترجعه.

ومن الأنصار الآخرين الذين استأذنوا الحسين عليه السلام في الخروج للقتال، صبي ابن عشرة أعوام أو اثني عشر عاماً، كان أبوه قد قتل في المعركة، وقد شدّ الصبي حمائل سيفه، طالباً الإذن بالقتال لكن الإمام الحسين عليه السلام لم يأذن له بالقتال رأفة بأُمّه التي فجعت بزوجها منذ قليل فقال عليه السلام: "هذا غلام قتل أبوه في الحملة الأولى ولعلَّ أُمّه تكره ذلك" فأجابه الغلام مؤكّداً رضا والدته بقتاله دون الحسين وعدم رضاها بغير ذلك. فقال: "إنّ أُمّي هي التي أمرتني وقالت لا أرضى عنك حتى تقتل دون الحسين".

هذا الصبي امتاز بأدب رفيع وخلق عال وقد ضرب في يوم الطف مثلاً رائعاً في الرفعة والسمو امتاز بهما على الجميع، إذ إنَّ كل من كان يبرز إلى ميدان القتال من أصحاب الحسين عليه السلام كان يعرّف نفسه رجزاً أو خطابة وهذا أمر تعارفت عليه العرب، وكان من يرتجز أو يتحدث يذكر - عادة - اسمه واسم أبيه وعشيرته، ولكن هذا الصبي لم يفعل ذلك، ولم يذكر اسمه أو اسم أبيه وعشيرته، بل ظل مجهولاً في التاريخ، وأرباب المقاتل لم يذكروا ابن أي من الأصحاب هو، ولم يكتبوا في تعريفه سوى "وخرج غلام قتل أبوه في المعركة"، فلماذا لم يعرف؟ ألم يرتجز ويعرف نفسه عندما برز القتال؟ بلى فعل ذلك، وأنشد رجزاً أبدع فيه كل الإبداع وبطريقة تفرَّد بها ولم يسبقه أو يلحقه فيها أحد. لقد ارتجز قائلاً:
"أميري حسين ونعم الأمير***سرور فؤادي البشير النذير
عليٌّ وفاطمة والداه *** فهل تعلمون له من نظير"


بهذا الرجز لا أكثر، عرَّف نفسه للعالم فلم يعرف نفسه بذكر اسمه والافتخار بأبيه وجده وعشيرته، ولم يعرّف نفسه بالافتخار بأبيه وجده وعشيرته، بل عرَّف نفسه بالافتخار بأنّه من جند الحسين عليه السلام وأنّ أميره الحسين وكفى.

* كتاب الجهاد والشهادة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة النساء، الآية: 100.
2- سورة الأنفال، الآية: 74.
3- سورة الحديد، الآية: 16.
4- عندما فتحت الجارية الباب كانت أصوات الغناء والعيدان تصل إلى الشارع من داخل دار بشر وسمعها الإمام عليه السلام.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج11، ص 124.
6- نهج البلاغة، وللإمام عليّ عليه السلام حكمة بالغة توضح هذا المعنى إذ يقول عليه السلام: "ما ظفر من ظفر الإثم به، والغالب بالشرّ مغلوب". نهج البلاغة، ص 533 (تحقيق صبحي الصالح).
7- وممّا يؤسف له أنّ هذه المعنويات فقدت بين رياضيي هذا العصر، ففي السابق كان الرياضيون يرون في الإمام علي عليه السلام النموذج الأكمل للبطل، لأنّه عليه السلام كان بطلاً على كلا الجبهتين، جبهة الصراع مع أعداء الله في ميادين الحرب، وجبهة الصراع مع النفس الأمّارة بالسوء وأهوائها.
القوّة الحقيقية والبطولة المثلى لا يمكن أن تحقّق إلّا إذا تحرر الإنسان من عبودية الهوى والشهوة، أي إنّ البطل والشجاع حقّاً من لا يتصدى لأعراض الناس، لأنّ روح الشجاعة الحقّة تمنعه من ذلك، وهو لا يزني لأنّ روح الشجاعة والبطولة لا تسمح له بذلك، وهو لا يشرب الخمر لأنّ روح الشجاعة ترفض ذلك.
والبطل القوي والشجاع، لا يكذب، فالشجاعة تأبى أن تكون حليف الكاذب، والشجاع لا يتملق فالملق ضدّ الشجاعة والقوّة.
فالبطل الحقيقي، ليس ذلك الذي يقدر على رفع ثقل كبير أو صخرة ضخمة بل الأهم هو أن يقدر على هوى نفسه وينتصر عليها.
8- وسبب تسميته بهذا الاسم هو أنّه كان مقبلاً في ركب من قريش حتى إذا وصلوا إلى وادي يليل - وهو واد قريب من بدر - تعرضت لهم بنو بكر في عدد من الفرسان. فقال عمرو بن عبد ود لأصحابه: أمضوا، فمضوا، وتصدى وحده لبني بكر ومنعهم من أن يصلوا إليه فعرف بذلك".
تفسير الميزان: ج 16، ص 197 في تفسير سورة الأحزاب".
9- الرواية التي وجدناها ينقلها المجلسي في البحار: ج 41، ص 51.
وفيها: "إنّه لما أدرك عمرو بن عبد ود، لم يضربه. فوقعوا في عليّ عليه السلام - ويقصد أنّ أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم انتقدوا علياً بسبب تركه الإجهاز على عمرو - فردّ عنه حذيفة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مه يا حذيفة فإنّ علياً سيذكر سبب وقفته. ثمّ إنّه ضربه - أي إنّ الإمام قتل عمراً - فلما عاد عليه السلام، سأله النبي عن ذلك - التأخير في قتل عمرو - فقال عليه السلام: "لقد كان - عمرو - شتم أمّي وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي - غضباً لها - فتركته حتى سكن ما بي ثمّ قتلته في الله".
- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج1، ص381.
10- صحيح مسلم: ج3، ص1517، وص1910.
11- سورة النساء، الآية: 95.
12- الرواية التي وجدنا في نهج البلاغة تذكر أنّ هذا الحوار حدث أثناء عودة الإمام من البصرة بعد أن نصره الله على أصحاب الجمل لا بعد عودته من صفين كما ذكر الأستاذ الشهيد ونحن إذ ذكرنا الترجمة التوضيحية للنص كما ذكرها الشيخ الشهيد، نثبت هذا الذي وجدناه في النهج: ومن كلام له عليه السلام: "لما أظفره الله بأصحاب الجمل، وقد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك" فقال له عليه السلام: "أهوى أخيك معنا؟ فقال: نعم، قال عليه السلام: فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف - يجود بهم عن غير انتظار - بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان". - نهج البلاغة، ج1، ص55.
13- ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ﴾. سورة التوبة، الآيتان: 46 و47.
هذا بالنسبة للطائفة الأولى. أما بالنسبة للطائفة الثانية التي يذكرها الإمام عليه السلام فيتلطف القرآن الكريم في وصفهم فيقول في سياق الآيات السابقة.
﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾. سورة التوبة، الآيتان: 91 و 92.
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لما رجع من غزوة تبوك وعند اقترابه من المدينة: "إنّ بالمدينة لقوماً، ما سرتم من مسير ولا قطعتم وادياً إلّا كانوا معكم فيه" قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال عليه السلام: "وهم بالمدينة، حبسهم العذر".  - سُنن ابن ماجة، ج 2، ص923.
14- سورة المائدة، الآية: 24.
15- القول لسعد بن معاذ وقد قاله جواباً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي استشار الأنصار في الخروج إلى المشركين في معركة بدر، تجده في السيرة النبوية لابن هشام، ج2، ص448.
16- جدير بالذكر أنّ أباه سعد بن أبي وقاص كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن الرماة المشهورين بين العرب بالمهارة وقد أبلى في الحروب الإسلامية بلاءً حسناً وقدّم خدمات جليلة للإسلام في هذا المضمار.
17- جلاء العيون للسيّد عبد الله شبر، وقد اعتمدنا عليه في ضبط النصوص المتعلقة بواقعة الطف في المحاضرات الثلاث.

2014-05-24