الذنوب والمعاصي
بحوث ومعتقدات
إذا كان الإنسان باحثاً عن الله بحكم فطرته، والأنبياء يسعون على الدوام إلى ربطه بخالقه وحثّه على التوجه إليه، وإذا كانت سعادة الإنسان وتحققّه بالكمال والغنى الواقعيين لن يتحققا إلا في ظلّ ولاية الحق وطاعته، فلماذا نجد أن قلّةً من الناس جعلوا الحق تعالى وجهتهم،
عدد الزوار: 466
المعاصي هي المانع الأكبر
إذا كان الإنسان باحثاً عن الله بحكم فطرته، والأنبياء يسعون على الدوام إلى ربطه بخالقه وحثّه على التوجه إليه، وإذا كانت سعادة الإنسان وتحققّه بالكمال والغنى الواقعيين لن يتحققا إلا في ظلّ ولاية الحق وطاعته، فلماذا نجد أن قلّةً من الناس جعلوا الحق تعالى وجهتهم، وأن قليلين هم الذين وصلوا إلى هذا المقصد الشريف والهدف السامي، مع أن الله تعالى زوّدهم بكل ما يلزم للوصول إلى هذه السعادة المنشودة؟!
في الواقع هناك سببٌ أساسي يحول دون تحقق ذلك وهو الذنوب والمعاصي. فكما هو معروفٌ لدى كلّ مسلمٍ أن لله تعالى أحكاماً وحدوداً شرعية على الإنسان أن لا يتعدّاها ﴿وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾1 وإلا فإن العذاب المهين سيكون من نصيب من يفعل ذلك ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَ﴾2. وهذه الأحكام الشرعية تنقسم إلى خمسة أقسامٍ معروفة: الواجب، والحرام، والمستحب، والمكروه، والمباح. والإنسان إنما يعدّ عاصياً إذا ترك الواجب وفعل الحرام. أما المستحب فجائزٌ تركه وكذا المكروه جائزٌ فعله لأن الأمر فيهما لم يصل إلى حدّ الإلزام كما في الواجب والحرام. ففي الواجب إلزامٌ بالفعل، وفي الحرام إلزامٌ بالترك. والعاصي هو الذي يخالف الحكم الشرعي بحيث يستحقّ العقاب على مخالفته هذه، لأنه خروجٌ عن طاعة الله سبحانه وتعالى. فالمعصية في الواقع هي نوعٌ من الرفض والإعراض عن الله تعالى. والعاصي بمعصيته كأنه يقول له: لا أريدك، وبإمكاني أن أتدبر أموري بنفسي! وهذا هو التكبّر بعينه، إذ كيف يمكن لمخلوقٍ ضعيف ومحتاج أن يعرف ما هو خيرٌ له من تلقاء نفسه؟! وهل صار الإنسان أعرف بما ينفعه وما يصلحه من خالقه وموجده؟! فالمعصية في الواقع هي جحودٌ بربوبية الحق وإنكارٌ لألوهيّته المطلقة. وعبادة الحق لا تتحقق بشكلها الصحيح إلا بالالتزام التام بالشريعة المقدسة، وهو أصدق تعبيرٍ عن الالتفات والتوجّه إلى مصدر الخير والسعادة والكمال. أما المعصية فهي إعلان حالة الرفض والتمرد وطلب الخير من مصدرٍ آخر.
منشأ الذنوب
إن منشأ الذنوب والمعاصي التي يرتكبها الإنسان يمكن اختصاره بكلمةٍ واحدة وهي: رؤية الإنسان كماله وسعادته وغناه في أمورٍ أخرى لا ارتباط لها بالحق تعالى والآخرة، بل يجد أن سعادته تكمن في ملذّات الدنيا وشهواتها، فيسعى خلفها دون أيّ وازعٍ ولا رادعٍ، حتى إذا أسرف وخالف أمر الله فيها وقع فيما لا تحمد عقباه. لذا قالوا إن منشأ الذنوب والمعاصي يعود في الأساس إلى حب الإنسان للدنيا وانغماسه فيها، كما في الحديث عن الإمام الصادق: "حب الدنيا رأس كل خطيئة"3. فالإنسان إذا سعى وراء شهوات الدنيا أعمته عن الحق تعالى وعن الآخرة حتى ينساها، والنتيجة: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾4.
وليس المقصود من حب الدنيا حب الطبيعة من الجبال والأنهار وغيرها أو حب الناس، بل المراد بحب الدنيا تعلق القلب بها بحيث تشكل عائقاً أمام ارتقاء الإنسان وسفره نحو الحق تعالى. وبشكلٍ أدقّ إن تعلق القلب بملذات الدنيا وشهواتها وأموالها وزينتها الى الحدّ الذي يحول دون توجّه عقل الإنسان وقلبه وفكره وعمله الى الله سبحانه وتعالى، وإلى الحدّ الذي يدفعه للوقوع في الحرام هو المذموم وهو الدنيا التي ورد ذكرها في الروايات الشريفة أنها رأس كل ذنبٍ وخطيئة، ففي الحديث أنه ممّا وعظ به الله تعالى عيسى عليه السلام: "يا عيسى... واعلم أَن رأس كل خطيئة وذنب هو حبّ الدنيا فلا تحبّها فإني لا أحبّها"5. وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "حبّ الدنيا يفسد العقل ويصمّ القلب عن سماع الحكمة ويوجب أَليم العقاب"6. وأَوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: "إن كنت تحبني فأَخرج حبّ الدنيا من قلبك فإن حبّي وحبّها لا يجتمعان في قلب"7.
الآثار السلبية للمعاصي
للذنوب آثارٌ سلبيةٌ تمنع الإنسان وتحول دون ارتباطه بالحق وتوجّهه إليه، نذكر أهمها:
1- العداوة والكفر بالله: إن حالة الرفض والابتعاد عن الله إذا ازدادت وكثرت فإنها تشكّل في القلب حالةً من النّفور والكره للحقّ. وإذا قويت حالة البغض هذه أكثر تتحوّل إلى عداءٍ ومحاربة للحق سبحانه والعياذ بالله. وهي حقيقةٌ صرّح بها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾8.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا عباد الله احذروا الانهماك في المعاصي والتهاون بها، فإن المعاصي تستولي الخذلان على صاحبها، حتى توقعه في رد ولاية وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودفع نبوة نبي الله، ولا تزال أيضاً بذلك حتى توقعه في دفع توحيد الله والإلحاد في دين الله"9.
2- قسوة القلب: في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "ما جفّت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب"10. وقساوة القلب تعني عدم تأثّره بالمواعظ، وعدم خشوعه عند ذكر الله أو الموت، وكل ما يوجب وجل القلوب وخوفها. وهي من المفاسد العظيمة التي ذمّت النصوص الشرعية الاتصاف بها:﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾11.
3- خروج روح الإيمان: روح الإيمان هي قوة الإيمان والملكة التي تدعو الإنسان إلى الخير والطاعة وتزجره عن الشر والمعصية. وروح الإيمان هذه تفارق الإنسان حين تلبّسه بالذنب والمعصية. فعن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "إن الله تبارك وتعالى أيّد المؤمن بروحٍ منه تحضره في كل وقت يُحسن فيه ويتقي، وتغيب عنه في كل وقت يُذنب فيه ويعتدي، فهي معه تهتزّ سروراً عند إحسانه، وتسيخ في الثرى عند إساءته"12.
4- الخشية من الموت: قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾13. تبيّن الآية الشريفة أن الإنسان يكره في بعض الأحيان لقاء الله ولا يتمنى الموت نتيجةً لما قدّمت يداه من أعمالٍ سيئة وأفعالٍ قبيحة يخجل أن يقابل ربّه وقد تحمّل وزرها وتقلد شنارها.
5- الحرمان من الخيرات: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اتّقوا الذنوب فإنها ممحقة للخيرات، إن العبد ليذنب الذنب فينسى به العلم الذي كان قد علمه، وإن العبد ليذنب الذنب فيمنع به من قيام الليل، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به الرزق وقد كان هنيئاً له ثم تلا: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِلَى آخِرِ الْآيَات"14. إن للذنوب أثراً في تسويد القلب وظلمته. وكلّما كثرت ذنوب العبد وعظمت خطاياه زاد احتجابه عن الحق تعالى وحرم من عطاياه. ومن أعظم هذه المنن العلم والمعرفة التي هي منبع الخشية من الله جلّ وعلا، وبها يرفع الله درجات العبد، والتوفيق للعبادات المقرّبة من الله، والرزق الحسن الذي يغنيه عن السؤال والطلب.
6- رد الدعاء وتأخير الإجابة: الذنوب والمعاصي توجب أيضاً إما عدم قبول الله تعالى لدعاء الإنسان أو تأخير الإجابة، كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "إن العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب، أو إلى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً فيقول الله تبارك وتعالى للملك: لا تقض حاجته واحرمه إياها، فإنه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني"15.
7- تسلّط الأعداء والأشرار: في الحديث عن إمامنا الصادق عليه السلام: "يقول الله عز وجل: إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني"16. هذا الحديث يكشف لنا بوضوح أن الذنوب هي عاملٌ مهم في تسلط الأعداء وغلبتهم وصيرورة الحكم بأيديهم.
التوبة كفّارة الذنب
صحيح أن للمعصية آثاراً سلبيةً في حياة الإنسان، وهي سببٌ في انحطاط الإنسان وتسافله وبالتالي استقراره في دركات الشقاء والحرمان. ولكن هذا لا يعني أن العذاب أصبح أمراً واقعاً ولا مفرّ منه أبداً، بل لدى الإنسان فرصةٌ حقيقيةٌ لتدارك الأمر وإصلاح ما فسد، بل وللارتقاء مجدداً في مدارج الكمال والقرب من الله الرحيم لأن رحمته تعالى وسعت كلّ شي: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾17، وذلك عندما يتوب الإنسان العاصي من معصيته ويرجع إلى ربّه، فإنه سيجد عندها ربّاً توّاباً رحيماً: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾18.
وهذا الباب من نعم الله الكبرى وألطافه العظمى التي وهبها لعباده، لأنه لو يؤاخذ الله عباده بذنوبهم لهلكوا ولما نجا منهم إلا القليل ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ﴾19، ولكن رحمته تعالى سبقت غضبه لذا ﴿يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ 20 رأفةً بهم وإحساناً إليهم، لأنه لطيفٌ بعباده، عطوفٌ عليهم. والرحمة الإلهية لم تقتصر على المغفرة في حال تاب العبد ورجع إلى ربه، بل وعد الله المنيبين إليه بأن يكفّر عنهم سيئاتهم ويسترها عن الناس، ويدخلهم الجنة أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾21. ولكن للتوبة النّصوح شروطاً ينبغي مراعاتها حتى تصبح مقبولةً عند الله وبالتالي تؤتي ثمارها الطيبة وهي:
أولاً: الندم على ما اقترفه الإنسان وأقدم عليه.
ثانيا: العزم على عدم الإتيان بالذنب مجدداً.
ثالثاً: الدعاء والتوسل والبكاء، وطلب المغفرة بصدق.
رابعاً: قضاء ما فاته من الواجبات، ورد الحقوق إلى أهلها ما استطاع إليه سبيلاً وطلب المسامحة منهم، وفي حال تعذّر عليه ذلك تماماً استغفر لأصحابها. وهذا ما بيّنه أمير المؤمنين علي عليه السلام في ردّه على من قال في حضرته: "أستغفر الله" حيث أجابه عليه السلام: "ثكلتك أمك ... أتدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى. الثاني: العزم على ترك العودة إليه. الثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله سبحانه أملس ليس عليك تبعة. الرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها. الخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد. السادس: أن تذيق الجسد ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية"22.
وفي الختام نلفت النظر إلى ثلاثة أمورٍ في غاية الأهمية لها علاقة بالتوبة وهي من أهم آثارها، وهي:
أولاً: أن الله تعالى يحب عبده التائب والعائد إليه بعد طول انقطاعٍ عنه:﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾23.
ثانياً: أن التائب من الذنب في الحقيقة كمن لا ذنب له. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"24.
ثالثاً: أن الأعمال الصالحة تساعد الإنسان على التخلّص من آثار وتبعات الذنوب والمعاصي، وتعوّض عليه شيئاً مما فات: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾25.
* درب الهداية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- البقرة، 229.
2-النساء، 14.
3- وسائل الشيعة، ج16، ص 9.
4- السجدة، 14.
5- الكافي، ج8،ص 131.
6- مستدرك الوسائل، ج12، ص 41.
7- م.ن، ج12، ص39.
8- الروم، 10.
9- بحار الأنوار، ج70، ص 360.
10- م.ن، ج67،ص 55.
11- الزمر، 22.
12- الكافي، ج2، ص 268.
13-الجمعة، 6 - 7.
14-بحار الأنوار، ج70،ص 77.
15- الكافي، ج2، ص271.
16- م.ن، ص276.
17- الأعراف، 156.
18- الزمر، 53.
19- فاطر، 45.
20- فاطر، 45.
21- التحريم، 8.
22- بحار الأنوار، ج6، ص 36.
23- البقرة، 222.
24-وسائل الشيعة، ج16، ص75.
25- هود، 114.