العصمة
بحوث ومعتقدات
العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع فيما يكره. قال تعالى: قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
عدد الزوار: 684
ما هي العصمة؟
العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع
فيما يكره1. قال تعالى: ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ
الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ
بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾2.
وأمّا العصمة في العقيدة فهي صفة تُنسب إلى أصحاب المقامات الإلهية سواءً كانوا
أنبياء أم أئمّة هداة، فهي ثابتة للنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وللأئمّة
الاثني عشر من أهل بيته عليهم السلام.
وسنتحدّث فيما يلي عن جانبين من جوانب العصمة:
العصمة عن الذنوب
فهم عليهم السلام معصومون عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها، ولا يمكن أن
يرتكبوا شيئاً من ذلك. وهناك العديد من الأدلّة الّتي تدلّ على ذلك، فمن هذه
الأدلّة:
قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ
قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾3.
هذه الآية تتحدّث عن خليل الله إبراهيم عليه السلام عندما أعطاه الله مقام الإمامة
الإلهية، فسأله إن كان سيعطيها لأحد من ولده فأتى الجواب من الله تعالى أنّ الظالم
منهم لا يمكن له أن يتسلّم هذا المنصب الجليل، والظلم هو ارتكاب المعاصي.
وهذا ما أكّدته الروايات أيضاً ففي رواية عن سليم بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين
عليه السلام يقول: "إنّما الطاعة لله عزّ وجلّ ولرسوله ولولاة الأمر، وإنّما أمر
بطاعة أولي الأمر لأنهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصيته"4.
فالذي يتحمّل مهمّة الإمامة وقيادة الأمّة نحو الهداية لا يمكن أن يكون من أهل
المعاصي وإلّا قاد الأمّة نحو الضلال بدل الهداية.
ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾5.
فالله تعالى أراد لأهل البيت عليهم السلام أن يكونوا منزّهين عن الرجس مطهّرين من
الذنوب، وما أراده تعالى لا بدّ من تحقّقه: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾6. وكذلك ورد ذلك في الروايات
كما في خبر الأعمش عن الصادق عليه السلام: "الأنبياء وأوصياؤهم لا ذنوب لهم لأنّهم
معصومون مطهّرون"7.
العصمة عن الخطأ والاشتباه
العصمة عن الخطأ: فالأئمة منزّهون عن الاشتباه أيضاً، كما ورد في العديد من
الروايات الّتي تؤكّد ذلك، ومن تلك الروايات الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام في
وصف الإمام يقول: "فهو معصوم مؤيّد موفّق مسدّد قد أمن من الخطاء والزلل والعثار"8.
وكذلك في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك
وتعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجّة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض"9.
وهذه الرواية الأخيرة تتضمّن إشارة إلى الدليل على ضرورة عصمة الإمام حتّى عن الخطأ
والاشتباه، فقد أمر الله تعالى بطاعتهم، ولو صدر عنهم خطأ أو اشتباه مع وجوب طاعتهم
فهذا يعني وجوب اتّباع الخطأ والاشتباه وهو غير ممكن، وكذلك هم الحجّة البالغة، فلا
يمكن للحجّة البالغة أن يكون فيها خطأ أو اشتباه.
وهذا لا يختصّ بكلماتهم عليهم السلام بل حتّى في أفعالهم وممارساتهم لأنّ أفعالهم
هي رسالة وحجّة على الناس أيضاً، يقول تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾10.
فالاقتداء بهم هو هداية محض لا يمكن أن يشوبها ضلال، وحيث إنّ الهداية من مهامّ
مقام الإمامة: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَ﴾11
يلزم أن يكون الإمام معصوماً عن مثل ذلك.
منشأ العصمة
1- العلم:
إنّ الأمر الّذي تتحقّق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبّس
بالمعصية والخطأ. وبعبارة أخرى علم مانع عن الضلال، وهو عبارة عن "وجود العلم
القطعيّ اليقينيّ بعواقب المعاصي والآثام" علماً قطعياً لا يغلب ولا يدخله شكّ، ولا
يعتريه ريب، وهو أن يبلغ علم الإنسان درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الأعمال
وآثارها في النشأة الأخرى وتبعاتها فيها، ويصير على حدّ يدرك بل يرى درجات أهل
الجنّة ودركات أهل النار. وهذا العلم القطعيّ هو الّذي يزيل الحجب بين الإنسان
وتوابع الأعمال، كما أشار إليه تعالى في الآيتين الكريمتين: ﴿كَلَّا لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾12.
والأتقياء يقاربون هذه الحقيقة كما وصفهم أمير المؤمنين عليه السلام: "فهم والجنّة
كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون"13.
فإذا بلغ العلم إلى هذه الدرجة من الكشف فإنّه يصدّ الإنسان عن ارتكاب المعاصي
واقتراف المآثم بل لا يجول حولها فكره.
2- التقوى:
إنّ العصمة هي درجة عليا من التقوى، فما توصف به التقوى وتُعرف به،
تُعرف وتوصف به العصمة، روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "بالتقوى قُرنت العصمة"14.
ولا شكّ أنّ التقوى حالة نفسية تبعد الإنسان عن اقتراف القبائح والمعاصي، فإذا بلغت
تلك الحالة أعلى مراتبها تعصم الإنسان عن اقتراف جميع قبائح الأعمال، وذميم الفعال،
بشكل كامل، بل تعصم الإنسان حتّى عن التفكير في المعصية.
هل الإمام مجبور على ترك المعصية؟
إنّ العصمة لا تعني أنّ الإنسان مجبور على العمل بمقتضاها، ولكنّها تعني أنّ
الإنسان لا يمكن - فعلاً- أن يختار المعصية وأن يقع فيها. ونتيجة علم الله تعالى
بذلك يختاره إماماً ويشمله بعنايته ولطفه الخاصّ. فالإمام عليه السلام لا يخرج عن
كونه إنساناً مختاراً لأفعاله قادراً على فعل ما يريد، ولكن إرادته لا تتعلق إلّا
بالطاعات.
عن الإمام الصادق عليه السلام لمّا سأله هشام عن معنى المعصوم: "المعصوم هو الممتنع
بالله من جميع محارم الله، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ
فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾15 "16.
ويستدلّ على ذلك العلّامة الطباطبائيّ في تفسير الميزان حيث يقول: "إنّ هذا العلم
أعني ملكة العصمة لا يغيّر الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية ولا
يخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار، كيف والعلم من مبادئ الاختيار؟ ومجرّد قوّة
العلم لا يوجب إلّا قوّة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سُمّاً قاتلاً
من حينه فإنّه يمتنع باختياره من شربه قطعاً وإنّما يضطرّ الفاعل ويجبر إذا أخرج من
يجبره أحد طرفي الفعل والترك من الإمكان إلى الامتناع. ويشهد على ذلك قوله:
﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى
اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ
عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾17.
تفيد الآية أنّهم في إمكانهم أن يشركوا بالله وإن كان الاجتباء والهدى الإلهيّ
مانعاً من ذلك وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ...﴾18. إلى
غير ذلك من الآيات. فالإنسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه ومن اختياره
وإرادته ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى
توفيقه..."19.
* كتاب في رحاب العقيدة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- معنى العصمة والمعصوم... في
اللغة والحديث واصطلاح المتكلمين، مركز المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، ص28.
2- سورة هود، الآية: 43.
3- سورة البقرة، الآية: 124.
4- بحار الأنوار، ج25، ص200.
5- سورة الأحزاب، الآية: 33.
6- سورة يس، الآية: 82.
7- بحار الأنوار، ج52، ص199.
8- بحار الأنوار، ج71، ص108.
9- الكافي، ج1، ص269.
10- سورة الأنعام، الآية: 90.
11- سورة الأنبياء، الآية: 73.
12- سورة التكاثر، الآية: 65.
13- نهج البلاغة، ج2، الخطبة المعروفة بخطبة المتقين.
14- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص189.
15- سورة آل عمران، الآية: 101.
16- بحار الأنوار، ج25، ص194.
17- سورة الأنعام، الآيتان: 87 و 88.
18- سورة المائدة، الآية: 67.
19- تفسير الميزان، ج11، ص163.