يتم التحميل...

سرُّ الجذبة

مدرسة عاشوراء

هل للكون إدراك؟! هل للأرض نطق ؟! هل للسماوات لغة ؟!القرآن يجيب: نعم، إنَّ للكون إدراكاً، لكنه غير إدراكنا. وإنَّ للأرض نطقاً، لكنّه غير نطقنا. وإنّ للسماوات لغة، لكنّها غير لغتنا. بل إنّ لها تسبيحاً

عدد الزوار: 297

هل للكون إدراك؟! هل للأرض نطق ؟! هل للسماوات لغة ؟!

القرآن يجيب: نعم، إنَّ للكون إدراكاً، لكنه غير إدراكنا. وإنَّ للأرض نطقاً، لكنّه غير نطقنا. وإنّ للسماوات لغة، لكنّها غير لغتنا. بل إنّ لها تسبيحاً ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ1.

نعم، إنّ الكون مجذوب بجذبة نحو الله تعالى، رفض من خلالها أن يكون له فيها هامش الاختيار، فأراد أن يبقى دوماً مجذوباً نحوه تعالى، بالقهر والتكوين. قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، لكنّ الإنسان قَبِل ذلك الهامش الاختياريّ ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا 2.

وأراد الله تعالى أن تتجلَّى الرحمة الإلهية واللطف الربانيّ في الإنسان، فجعل فيه جذبة تكوينيّة نحو الله تعالى، إنّها جذبة تشدُّ كلّ إنسان نحو ربِّه، إنّها جذبة الميثاق ﴿إنا كنا عنا عن هذا غافلين3.

ورد أنَّ زرارة بن أعين سأل الإمام الباقر عليه السلام عن معنى هذه الآية، فأجابه عليه السلام : "أخرج من ظهر آدم عليه السلام ذريّته إلى يوم القيامة، فخرجوا كالذرّ، فعرفهم وأراهم نفسه، ولولا ذلك لم يعرِف أحدٌ ربَّه. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كلّ مولود يولد على الفطرة، يعني المعرفة بأنّ الله عز وجل خالقه. كذلك قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ4"5.

إنَّ حال هذه الجذبة، في فطريّتها، كحال الطفل وأمّه. ألا ترى أنّ الطفل يحبُّ أمّه فطريّاً من دون تعليم معلِّم وتربية مربٍّ؟ ولكن إذا وضعتَ أمام الطفل ألعاباً، قد يغفل عن أمّه وينساها لاهياً بتلك الألعاب. فإذا التقط الطفل أثناء لعبه جمرة تؤذيه، فإنّ أوّل كلمة تصدر عنه هي "ماما".

إنّه الشعور الفطريّ الذي يتحرّك عند الإحساس بالخطر. وكذلك المُلحد تنسيه ذنوبُه ربَّه، وتضَعُ ستاراً بينهما. ولكن عندما يدقّ ناقوس الخطر الداهم، فإنه ينبّه الإنسان الغافل، ويثير فيه الفطرة المدفونة من جديد. عندها يتعلّق قلبه بالله تعالى، فيصبح حاله كحال ذلك البحّار الذي تشرَّف بلقاء الإمام الصادق عليه السلام ، وطلب إليه أن يعرِّفه الله تعالى، فقال الإمام عليه السلام للسائل:
"يا عبد الله، هل ركبت سفينة قَطّ؟"
قال: بلى.
قال عليه السلام : "فهل كُسِرَتْ بك حيث لا سفينةَ تُنجيك، ولا سباحةَ تُغنيك؟"
قال: بلى.
قال عليه السلام : "فهل تعلَّق قلبك هناك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟"
قال: بلى.
قال عليه السلام : "فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء، حين لا مُنجٍ، وعلى الإغاثة، حين لا مُغيث"6.

إنّها ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا 7، والتي قد يسترها غبار الخطايا والذنوب. لكن حينما يقتربُ العذاب، ويشعرُ الإنسان بالخطر، ترجع إليه، تشدُّه نحو الله تعالى.

وهذا ما أكّده القرآن الكريم، في العديد من آياته.

قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ8.

وقال تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ9.

إنّه الدعاء المنطلق من تلك الجذبة المغروسة في داخل كل إنسان.

ولكن هل تكفي هذه الجذبة، وحدها، لتنقذ الإنسان من وسط بحار الدنيا المظلمة، لتوصله إلى شاطئ الأمان؟

كلا، إنّها تحتاج إلى دليل وخارطة طريق ترشده إلى ذلك الشاطئ، لذا كان إرسال الرسل عليهم السلام وبعث الأنبياء عليهم السلام . إلا أنها هداية عامة لا تصل إلى مستوى هداية أخرى من نوع خاص، وهي هدايةُ سفينةٍ تتقدّم صاحب الجذبة، وتضيء بمصباحها ظلمة تلك البحار، وتأخذ بقلب صاحب الجذبة إلى شاطئ الكمال.

إنّها الهداية التي اختص الله تعالى بها قوماً تميَّزوا بطينة خلقهم.فعن الإمام السجاد عليه السلام "إنّ الله خلق النبيّين من طينة عليّين، قلوبهم وأبدانهم، وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة"10 ، فانجذبوا بطينتهم نحو تلك السفينة وذلك المصباح الذي شاهده النبي صلى الله عليه وآله وسلم على يمين العرش، على لوحة النور، فحدّثنا صلى الله عليه وآله وسلم عن تلك المشاهدة في معراجه، وأنَّه رأى على يمين العرش مكتوباً: "إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة"11

عجيب هو هذا المصباح الذي حينما بلغ الأشهر الستة في رحم أمّه عليهما السلام : كانت تقول: "كنت لا أحتاج في الليلة الظلماء إلى مصباح"12!

عجيب هو هذا النور الذي تحدَّث عنه خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم في قصة عالم الأنوار "قبل أن يخلق تعالى آدم، حيث لا سماء مبنيّة ولا أرض مدحيّة، ولا ظلمة ولا نور، ولا جنّة ولا نار، ولا شمس ولا قمر"، إذ لمَّا أراد الله تعالى أن ينشئ الصنعة، ويخلق الخلق، خلق نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم نور علي عليه السلام ثم نور فاطمة عليها السلام ثم نور الحسن، فنور الحسين عليهما السلام ، "ثم فتق نور الحسين عليه السلام ، فخلق منه الجَنّة والحور العين، فنور الجَنَّة والحور العين من نور الحسين عليه السلام ، ونور الحسين عليه السلام من نور الله"13.

انجذاب الكون

عجيب هو أمر هذا المصباح الذي جذب بنوره الكون المدرك المسبِّح، فتفاعل مع شهادته في كربلاء!
- فالسماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم14.
- والشمس بكت عليه بالكسوف والحمرة15.
- والقمر بكى عليه بالخسوف16.
- والأرض بكت عليه أحجارها التي لم يرفع حجر منها، في العاشر من محرّم، إلا وُجِد تحته دم عبيط17.

بل ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : "لما مضى أبو عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام بكى عليه جميع ما خلق الله"18.

انجذاب الحيوان

وكما الكون، انجذب الحيوان نحو الحسين عليه السلام طفلاً وشهيداً'، ففي الرواية عن المقداد بن الأسود قال "إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في طلب الحسن والحسين عليهما السلام ، وقد خرجا من البيت، وأنا معه، فرأيت أفعى على الأرض، فما أحسَّت وَطْأَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قامت فنظرت... فهالني ذلك. فلمّا رأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صارت كأنّها خيط، فالتفت إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: ألا تدري ما تقول الأفعى يا أخا كندة؟ قلت: الله ورسوله أعلم.

قال صلى الله عليه وآله وسلم : "تقول الأفعى: الحمد لله الذي لم يمتني حتى جعلني حارساً لابني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ..."19.

وبعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام انجذب إليه ذلك الطائر الأبيض، فنزل على جسده المبارك يمرِّغ جناحيه بدمه المبارك20.

ومرَّت السنون عشرات وعشرات، فجاء المتوكِّل اللعين مغتاظاً من زوَّار الحسين عليه السلام ، فأراد أن يحرث مرقده المبارك، فأطلق الثيران نحو قبره الشريف، فإذا بالثيران تنجذب نحو الحسين عليه السلام ، وتقف آبية أن تحرث تراب القبر الطاهر.

فعن عمر بن فرج، قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين عليه السلام ، فصرتُ إلى الناحية، فأمرتُ بالبقر، فمُرَّ بها على القبور، فمرّت عليها كلّها، فلما بلغت قبر الحسين عليه السلام لم تمرّ عليه. قال عمر بن فرج: فأخذتُ العصا بيدي، فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي، فوالله ما جازَتْ على قبره ولا تخطَّته21.

انجذاب الملائكة

وكذلك انجذبت الملائكة نحو الإمام الحسين عليه السلام حينما أخبرها الله تعالى عن خلق الإنسان، فكان تساؤلها: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء22 وهي ناظرة – في ما استشرفته في المستقبل- إلى دم الإمام الحسين عليه السلام الذي سيسفك في كربلاء.

وبعد شهادة الإمام عليه السلام حدَّثنا حفيده الإمام الصادق عليه السلام قائلاً: "إن الملائكة بكت أربعين صباحاً إلى الحسين عليه السلام "23.

ولم ينقطع انجذاب الملائكة على الإمام الحسين عليه السلام : فعن الإمام الصادق عليه السلام : "وكَّلَ الله عزّ وجل بقبر الحسين عليه السلام أربعة آلاف ملك شعث.... يبكونه إلى يوم القيامة، فمن زاره عارفاً بحقّه شيّعوه حتى يبلغوه مأمنه، وإنْ مرض عادوه غدوة وعشيّة، وإنْ مات شهدوا جنازته، واستغفروا له إلى يوم القيامة.24

انجذاب الحور العين

إذا كان هذا هو حال الملائكة، فما حال الحور العين، في جنان الله، التي مرَّ أن الله تعالى خلقها من نور الحسين عليه السلام ؟ لذا ورد أنّها، لمَّا علمت بشهادة الحسين عليه السلام في الأرض، فإذا بها تلطم نفسها منجذبة للحسين عليه السلام .

انجذاب الماء

ورد أنَّ المتوكّل العباسيّ أمر بجرّ الماء من نهر العلقمي إلى قبر الإمام الحسين عليه السلام ، حتى لا يبقى له أثر، لكنّ الذي حصل بمرأى الناس، هو أنّ الماء كلّما صُوِّب نحو المرقد الطاهر غارَ وحارَ واستدار، ولم تصل منه قطرة واحدة إلى قبر الحسين عليه السلام 25.

انجذاب الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم

النبيّ آدم عليه السلام
إنَّ أهمَّ المنجذبين نحو الحسين عليه السلام هو الإنسان منذ أن وُجد على الأرض، فها هو أبو البشرية آدم عليه السلام حينما تلقَّى من ربّه كلمات فتاب عليه، لقَّنه جبرئيل: يا حميد، بحقّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، يا عالي، بحقّ عليّ عليه السلام ، يا فاطر بحقّ فاطمة عليها السلام ، يا حسن بحقّ الحسن والحسين عليهما السلام ، ومنك الإحسان، فلما ذكر الحسين عليه السلام سالت دموعه، وانخشع قلبه قال: يا جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي، وتسيل عبرتي، قال جبرئيل: ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب26.

النبيّ نوح عليه السلام
وجاء النبيّ نوح عليه السلام وأراد تثبيت سفينة الطوفان، فوجد مسامير نورانيَّة، فانجذب إليها، لكنَّ واحداً من تلك المسامير شدّ انجذابه، وهو خامسها الذي كان رطباً رطوبة تعبِّر عن بكائه على الإمام الحسين عليه السلام . فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : "... ثم ضرب بيده إلى مسمار خامس فزهر، وأنار، وأظهر النداوة، فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسين عليه السلام ، فأسمره إلى جانب مسمار أبيه، فقال نوح عليه السلام : يا جبرئيل، ما هذه النداوة؟ فذكر (أي جبرئيل) قصة الحسين عليه السلام وما تعمل الأمّة به"27.

النبيّ إبراهيم عليه السلام
وجاء النبيّ إبراهيم عليه السلام ليدخل الابتلاء العظيم بقتل ولده الحبيب، ونجح في ذلك، ولم تذرف له دمعة. لكن حينما علم أنَّ الفداء القادم هو الذبح العظيم حفيده الحسين بن علي عليهما السلام توجَّع قلبه، وأذرف دموعه على الحسين عليه السلام 28. فعن الإمام الصادق عليه السلام : "لما أمر الله عزَّ وجلَّ إبراهيم عليه السلام أن يذبح مكان ابنه اسماعيل عليه السلام الكبش الذي أنزله عليه... أوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: يا إبراهيم، من أحبُّ خلقي إليك؟ فقال: يا ربّ، ما خلقتَ خلقاً هو أحبُّ إليَّ من حبيبك محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فأوحى الله إليه: أفهو أحبّ إليك أم نفسك؟ قال: بل هو أحبّ إليّ من نفسي، قال: فولده أحبّ إليك أم ولدك؟ قال: بل ولده، قال: ذبح ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: يا ربّ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي. قال: يا إبراهيم، فإنَّ طائفة تزعم أنَّها من أُمَّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ستقتل الحسين عليه السلام ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يذبح الكبش، ويستوجبون بذلك سخطي. فجزع إبراهيم عليه السلام لذلك وتوجع قلبه، وأقبل يبكي"29.

النبيّ موسى عليه السلام
وجاء النبيّ موسى عليه السلام ليجذبه الحسين عليه السلام نحو كربلاء، ليخبره الله تعالى فيها: أنْ ها هنا يُقتل الحسين، وهنا يُسفك دمه30. فقد ورد أنَّ النبي موسى عليه السلام كان ذات يوم سائراً ومعه يوشع بن نون، "فلمَّا جاء إلى أرض كربلاء انخرق نعله، وانقطع شراكه، ودخل الحسك في رجليه، وسال دمه، فقال: إلهي، أيُّ شيء حدث منّي؟ فأوحى إليه: أنْ هنا يُقتل الحسين عليه السلام ، وهنا يُسفك دمه، فسال دمُك موافقة لدمه"31.

النبيّ عيسى عليه السلام
وفي سياحة النبيّ عيسى عليه السلام كانت جذبته مع حوارييه نحو الحسين عليه السلام فقد ورد أنَّ عيسى عليه السلام كان سائحاً في البراري، ومعه الحواريّون، فمرُّوا بكربلاء، وفيها أُخبروا بشهادة الإمام الحسين عليه السلام "32.

النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم
وجاء خاتم الأنبياء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ليجذبه الحسين عليه السلام طفلاً يضعه وأخاه الحسن عليه السلام على ظهره يحبو بهما حبو الجمل قائلاً: "نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما"33. وانجذب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحسين عليه السلام حينما كان يخطب على المنبر، فخرج الحسين عليه السلام الطفل إلى المسجد، وبينما هو يمشي تعثَّر وسقط، فإذا بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يترك خطبته وينزل عن منبره، ويأخذ الحسين عليه السلام ويضمُّه إلى صدره34.

ولعلَّ أعلى انجذاب من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نحو الحسين عليه السلام هو ما ورد في قصةٍ رواها الصحابيّ الجليل عبد الله بن عباس (رض) حينما دخل عليه فوجده واضعا ً الحسين عليه السلام الطفل على فخذه اليمنى وابنه إبراهيم على فخذه اليسرى، وهو تارة يقبّل هذا، وتارة يقبِّل هذا، إذ هبط جبرئيل بوحي من ربّ العالمين، فلما سرى عنه قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس: "أتاني جبرئيل من ربّي، فقال لي: يا محمّد، إنّ ربّك يقرؤك السلام، ويقول لك: لستُ أجمعهما لك، فافدِ أحدهما بصاحبه". فنظر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى إبراهيم فبكى ثم قال: "يا جبرئيل! يُقبض إبراهيم، فديتُ الحسين عليه السلام بإبراهيم"35.

انجذاب أهل الإيمان

وكما انجذب الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم في تأريخهم إلى الحسين عليه السلام انجذب إليه المؤمنون بعد شهادته، فإذا هم يشدُّون الرّحال لزيارة مرقده الشريف، حتى ولو أدَّى ذلك إلى أعلى تحمُّل للمشقَّات، وأشدّ ألوان العقوبات. ففي تاريخ زيارة المؤمنين لإمامهم الحسين عليه السلام أمر المتوكِّل بقتل كل من يزور مرقد الإمام الحسين عليه السلام ، ومع ذلك استمرَّت زيارة الحسين عليه السلام 36.

إنَّ هذا يؤكِّد حقيقة مغروسة في قلوب المؤمنين تجذبهم نحو الإمام الحسين عليه السلام تشابه تلك الفطرة الجاذبة نحو الله تعالى.

وهذا ما نصّ عليه جدّ الحسين النبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله-الوارد عنه-: "إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة"37.

إنها المعرفة المغروسة في أفئدة المحبِّين للحسين عليه السلام غرساً لبَّى دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام حينما وضع ولده إسماعيل عليه السلام جدَّ الحسين عليه السلام ، فقال-وهو يتطلع ويستشرف مستقبل أهل العصمة من أحفاده-: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ38.

إنها المعرفة المولِّدة لتلك الحرارة التي تحدث عنها الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً"39.

سرُّ المعرفة

إذا كانت المعرفة الباطنة بالإمام الحسين عليه السلام هي سرَّ الجذبة إليه، فما هو سرُّ هذه المعرفة؟ وبالتالي السرُّ الحقيقي لهذا الانجذاب؟

في مقام الجواب نطلُّ على سرَّين:

السرّ الأول
معرفة الإمام الحسين عليه السلام بالله تعالى التي لم تكن مثل معرفة ذلك الأعرابي الذي سئل عن دليله على وجود الله تعالى، فقال: "البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير، أفسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، لا تدلان على اللطيف الخبير"40.

ولم تكن مثل معرفة تلك المرأة التي كان تغزل فسئلت عن دليلها على معرفة ربِّها، فأجابت: "هذا المغزل، إنْ حرَّكته تحرَّك، وإن لم أحرِّكه توقَّف، فكيف تتحرَّك الكواكب في السماء دون محرِّك؟!!".

لقد رفض الإمام الحسين عليه السلام أن يستدلّ على وجود الله تعالى على قاعدة دلالة الأثر على المؤثِّر، والحركة على المحرِّك، لأنه كان يرى الله تعالى أظهر من كلِّ شيء، فهو يدلُّ على غيره، وليس غيرُه يدلُّ عليه.

هذا المعنى هو الذي أظهره الإمام الحسين عليه السلام في دعائه في عرفة حينما قال: "كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟ ومتى بعدتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عَمِيَتْ عين لا تراك..."41.
بهذه المعرفة انجذب الحسين عليه السلام إلى الله فجذب إليه الكون والإنسان.

السرُّ الثاني
يتعلَّق بدور نهضة كربلاء والمرتبط بغاية الخلق. فإنَّ سرَّ خلق الله تعالى لعالم الامكان يمكن أن يلخَّص بكلمة واحدة هي "الكمال"، فالله تعالى كمال مطلق غنيٌّ عن الخلائق، أراد من الخلق أن يسير كلٌّ نحو كماله، المسيَّرُ بالقهر، وغيرُه بالاختيار.

وأراد من الإنسان الحرّ في مساره أن يحقِّق الكمال في دائرتين، الأولى: دائرة نفسه، من خلال تزكيتها وتنميتها، والثانية: دائرة المجتمع، من خلال المساهمة في بلوغ القافلة البشريَّة كمالها المنشود.

فكما للفرد كماله، فـإنّ لقافلة الإنسانية كمالها. ولعل التبصُّر بأحوال رسل الله تعالى، لا سيَّما أولي العزم يلقي الضوء على المحطَّات الرئيسيَّة المتدرّجة في المخطِّط الالهيّ لتلك القافلة.

فقد يُلاحظ المتَتَبِّع في قصص أولي العزم أنَّ الرسول الأوَّل منهم وهو نوح عليه السلام كانت مهمّته الرئيسيّة إيجاد مجتمع يؤمن بالله تعالى، ونجح في ذلك في مجتمع السفينة.

أمَّا الرسول الثاني من أولي العزم، وهو إبراهيم عليه السلام ، فكانت مهمَّته الرئيسية إيجاد مجتمع يوحِّد الله تعالى، وقد نجح في ذلك.وتجلَّى هذا المجتمع بعده في بني إسرائيل.

أمّا الرسول الثالث من أولي العزم، وهو موسى عليه السلام فكانت مهمّته الرئيسيَّة إيجاد مجتمع الشريعة، لذا كان صاحب التوراة والألواح، وقد استطاع إيجاد مجتمع متشرِّع.

ولعلَّه كان يفترض في الرسول الرابع من أولي العزم، وهو عيسى عليه السلام أن تكون مهمَّته الرئيسية- بحسب طبيعة حركة التكامل الإجتماعي الإنساني ـ هي ايجاد مجتمع الحكومة الإلهية في الأرض. إلا أنّ اليهود شكَّلوا عقبة في وجه مشروعه، وربَّما يكمن في ذلك سرّ عدم موته الطبيعي كغيره من الأنبياء عليهم السلام ، وبدلاً من ذلك رفعه الله تعالى إليه، لتكون عودته في محطَّة الحكومة الإلهيّة كشريك مؤتمٍّ بصاحبها المحمَّدي.

بناءً على ما سبق، كانت المحطَّة الأخيرة التي تتكامل بها الإنسانية ـ وهي الحكومة الإلهية ـ المهمَّة الرئيسية للرسول الخامس من أولي العزم، وهو خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي بيَّن القرآن الكريم مهمّته بما يعبِّر عن تلك المحطَّة بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ42.

وقد أعلن الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتميَّة تلك الحكومة الإلهية التي ستكون محمَّدية يرأسها حفيده الحادي عشر من ولد ابنته فاطمة عليها السلام ، فقال فيه: "لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد، لطوَّل الله ذلك اليوم، حتى يخرج، فيملأها عدلاً وقسطاً، كما مُلئت جوراً وظلماً"43.

وبهذه الحكومة التي تعتمد الإسلام ديناً ومنهجاً، سوف تصل قافلة الوجود إلى كمالها المنشود.

وفي سنة 60 للهجرة، حينما استولى يزيد على سدَّة الحكم، أدرك الإمام الحسين عليه السلام الخطر الداهم على المشروع الإلهيّ الذي لو لم يتحرَّك في نهضته، فإنّ قافلة الإنسانية سوف تنحرف عن سيرها الذي أراد الله تعالى أن يتمَّ باختيار الإنسان.

وقد عبَّر الإمام عليه السلام عن هذا الخطر بغير كلمة له، فقال: "وعلى الإسلام السلام، إذ بليت الأمة براع مثل يزيد"44.

"إنَّ السُنَّة قد أُميتت، وإنَّ البدعة قد أحييت"45.

وقد عَلِم الإمام عليه السلام أنَّ أحداً لا يتحرَّك لدفع ذلك الضرر البالغ على الإنسانية، فقال عليه السلام : "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعْمَلُ به وإلى الباطل لا يُتناهىَ عنه؟!"46.

لقد علم الإمام الحسين عليه السلام أن تصويب قافلة الإنسانية نحو كمالها المرتبط بهدف الخلق متوقِّف على تقديم دمه المقدَّس، بل إنّ هذا الدم سيدفع تلك القافلة نحو كمالها بدون أن تستطيع أيّة عقبة أن تقف أمامها.

من هنا كانت عاشوراء محطَّة أساسية لولاها لضاعت الأهداف الأسمى لنوح عليه السلام وإبراهيم عليه السلام وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الذين خُلِقَ الكون لأجلهم بما يمثِّلون من عبادٍ كاملين يَتكامل بهم الوجود. لذا بكى الأنبياء عليهم السلام الحسين عليه السلام ، وبكى الكون الحسين عليه السلام . ولذا حينما علم الإمام الحسين عليه السلام أنّه حقق ذلك الإنجاز الوجوديّ في آخر لحظاته في الدنيا، أخذ يناجي الله تعالى، متغنِّياً بكمالاته، معبِّراً عن شكره لله تعالى أن وفَّقه للشهادة التي بها استمرت قافلة الإنسانية في مسارها نحو التكامل، فقال في آخر كلماته: "اللهمّ متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيٌّ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابق النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دُعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، ومدرك ما طلبت، وشَكور إذا شُكِرت، وذَكور إذا ذُكِرت، أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك مكروباً، وأستعين بك ضعيفاً، وأتوكّل عليك كافياً، احكم بيننا وبين قومنا بالحقّ، فإنّهم غرّونا وخدعونا وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيِّك وولد نبيك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنتهُ على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاَ، برحمتك يا أرحم الراحمين47

* وأتممناها بعشر، سماحة الشيخ أكرم بركات.


1 سورة الإسراء الآية 44.
2 سورة الأحزاب الآية 72.
3 سورة الأعراف الآية 72.
4 سورة لقمان، الآية 25.
5 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق علي الغفاري، ط4، طهران، دار الكتب الاسلامية، 1365ش، ج2، ص13.
6 الصدوق، محمد بن علي، التوحيد، تعليق هاشم الحسيني الطهراني، قم، جماعة المدرسين، (لا، ت)، ص231.
7 سورة الروم، الآية: 30.
8 سورة يونس، الآية 22.
9 سورة الأنعام، الآيتان: 40 ـ 41.
10 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص2.
11 البحراني، هاشم، مدينة المعاجز، تحقيق ونشر مؤسسة المعارف الإسلامية، ط1، قم، 1414هـ، ج4، ص52.
12 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، تحقيق محمد البهبودي، ط2، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1403هـ، ج43، ص273.
13 المصدر السابق، ج25، ص16.
14 البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة، (لا، ن)، (لا، ت) ج12، ص552.
15 المصدر السابق نفسه.
16 المصدر السابق نفسه.
17 المصدر السابق نفسه.
18 المصدر السابق، ج75، ص 211.
19 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج43، ص272.
20 أنظر: المصدر السابق، ج45، ص191.
21 الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، تحقيق مؤسسة البعثة، ط1، قم، دار الثقافة، 1414هـ، ص325.
22 سورة البقرة، الآية: 30.
23 البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة، ج12، ص 552.
24 الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط2، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1414هـ، ج14، ص409.
25 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج45، ص404.
26 المصدر السابق، ج44، ص245.
27 المصدر السابق، ج11، ص328.
28 المصدر السابق، ج44 ص 226.
29 المصدر السابق نفسه، ص225-226.
30 انظر: المصدر السابق، ج44، ص 244.
31 المصدر السابق نفسه.
32 المصدر السابق نفسه.
33 المصدر السابق ج43، ص285.
34 المصدر السابق، ج43، ص 296.
35 انظر: المصدر السابق، ج43، ص261.
36 أنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج45، ص403.
37 المصدر السابق، ج43، ص272.
38 سورة إبراهيم الآية 37.
39 النوري، حسين، مستدرك الوسائل، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط2، بيروت، 1408هـ، ج10، ص 318.
40 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج66، ص 134.
41 المصدر السابق، ج64، ص142.
42 سورة التوبة، الآية: 33.
43 الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ط2، قم، جماعة المدرسين، 1404هـ، ج4، ص177.
44 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج44، ص326.
45 الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري، (لا، ط)، بيروت مؤسسة الأعلمي، (لا،ت)، ج4، ص266.
46 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج44، ص381.
47 المصدر السابق، ج98، ص348-349.

2013-11-09