لا تعصِ الله (الغيبة والبهتان والنميمة)
العلاقة مع الله
الغيبة: ما يقال في غياب الشخص، غاية الأمر أنَّه بقوله هذا يكشف عيباً من عيوب الناس، سواء كان عيباً جسدياً أو أخلاقياً، أو في الأعمال أو في المقال، بل حتى في الأمور المتعلقة به كاللباس والبيت والزوج والأبناء وما إلى ذلك.
عدد الزوار: 794
الغيبة والبهتان والنميمة
الغيبة: ما يقال في غياب الشخص، غاية الأمر أنَّه بقوله هذا يكشف عيباً من عيوب الناس، سواء كان عيباً جسدياً أو أخلاقياً، أو في الأعمال أو في المقال، بل حتى في الأمور المتعلقة به كاللباس والبيت والزوج والأبناء وما إلى ذلك.
فبناء على هذا ما يقال عن الصفات الظاهرة للشخص الآخر لا يُعد اغتياباً، إلا أن يراد منه الذم والعيب فهو في هذه الصورة حرام، كما لو قيل في مقام الذم أن فلاناً أعمى أو أعور أو قصير القامة وما إلى ذلك.
فيتضح من هذا أنَّ ذكر العيوب الخفية بأي قصد كان يعد غيبة، وذكر العيوب الظاهرة إذا كان بقصد الذم أو كان فيه أذية فهو حرام سواء أدخلناه في مفهوم الغيبة أم لا.
كلُّ هذا في ما لو كانت هذه العيوب في الطرف الآخر واقعية، أما إذا لم تكن صحيحة أصلاً فتدخل تحت عنوان البهتان، وإثمه أشد من الغيبة بمراتب.
ففي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأمّا ما هو ظاهر فيه مثل الحدة والعجلة فلا، والبهتان أن تقول ما ليس فيه"1.
أما النميمة: فهو أن ينقل شخص كلاماً سمعه من شخص واقعاً أو اخترعه من نفسه إلى شخص آخر بقصد الفتنة بين شخصين.
التحذير من الغيبة والبهتان والنميمة
المستقرئ لآيات القرآن الكريم والروايات يلاحظ أنَّ الغيبة والنميمة من الكبائر، فقد أوعد الله عليهما بالنار فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(النور:19).
ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾(الحجرات:12).
في هذه الآية الشريفة احتمالان:
أحدهما: أنَّها في مقام بيان كيفية العذاب الأخروي للمغتاب، حيث تتجسّم الغيبة في الآخرة بصورة أكل ميتة الشخص المستغاب، والشاهد على هذا الاحتمال رواية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه نظر في النار ليلة الإسراء فإذا قوم يأكلون الجيف فقال يا جبرائيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحم الناس2.
والاحتمال الآخر: هو أنَّ المراد أنَّ الغيبة هي بمنزلة أكل لحم المستغاب ميتاً من ناحية الحكم، فكما أنَّ أكل الميتة من الذنوب الكبيرة فكذلك الغيبة.
وقال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾(الهمزة:1).
وهذا وعيد من الله سبحانه لكل مغتاب مشّاء بالنميمة مفرِّق بين الأحبة.
وأما "وَيْلٌ": فهو اسم لدركة من دركات جهنم، أو اسم لواد فيها، وتستعمل للتعبير عن شدّة العذاب.
ويقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾(الرعد:25).
فالمستغيب والنمّام يقطعون ما أمر الله بوصله، ومفسدون في الأرض، إذ أنه بدل أن يوجد العلاقة والإلفة والمحبة بين المسلمين ويقوِّي وحدتهم، يوجد الفرقة والنفرة والعداوة بينهم.
ويقول تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾(البقرة:191).
وفي آية أخرى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾(البقرة:217).
وظاهر أنَّ الشخص النمَّام والمستغيب يشعلان نار الفتنة.
أما الروايات فكثيرة منها:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته"3.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "الغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في جوفه"4.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء المعايب"5.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه كلمة فيحفظها عليه يريد أن يفضحه بها، أولئك لا خلاق لهم"6.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من مشى في غيبة أخيه وكشف عورته كانت أول خطوة خطاها وضعها في جهنم"7.
بناء على هذا فإنَّ الغيبة والبهتان والنميمة من الذنوب الكبيرة، التي جاء الوعيد عليها، فلا ينبغي استصغار هذه الذنوب.
بعض حكم تحريم الغيبة والبهتان والنميمة
1- بما أنَّ الإنسان مخلوق اجتماعي، فالمجتمع البشري الذي يعيش فيه له حرمة يجب أن لا تقل عن حرمته الشخصية، وطهارة كل منهما تساعد في طهارة الآخر، وقبح كل منهما يسري إلى صاحبه، وبموجب هذا المبدأ كافح الإسلام بشدة كل عمل ينشر السموم في المجتمع أو يدفعه نحو الهاوية والانحطاط.
أوجب الإسلام ستر العيوب، والسبب في ذلك هو الحيلولة دون انتشار الذنوب في المجتمع، واكتسابها طابع العمومية والشمول.
2- إنَّ رأس مال الإنسان المهم في حياته ماء وجهه وحيثيته، وأي شيء يهدده فكأنما يهدد حياته بالخطر.
إنَّ واحدة من حِكَم تحريم الغيبة أن لا يتعرض هذا الاعتبار العظيم للأشخاص ورأس المال آنف الذكر لخطر التمزق والتلوث، وأن لا تهتك حرمة الأشخاص ولا تلوّث حيثياتهم، وهذا مطلب مهم تلقاه الإسلام باهتمام بالغ.
3- والأمر الآخر أنَّ الغيبة والنميمة، تولد النظرة السيئة وتضعف العلائق الاجتماعية وتوهنها وتتلف رأس مال الاعتماد وتزلزل قواعد التعاون الاجتماعي.
ونعرف أنَّ الإسلام أولى أهمية بالغة من أجل الوحدة والانسجام والتضامن بين أفراد المجتمع، فكل أمر يقوي هذه الوحدة فهو محل قبول الإسلام وتقديره، وما يؤدي إلى الاخلال بالأواصر الاجتماعية فهو مرفوض، والاغتياب والبهتان والنميمة هو أحد عوامل الوهن والضعف.
4- ثم بعد هذا كله فإنَّ الاغتياب وصاحبيه ينثرون في القلوب بذور الحقد والعداوة وربما أدّى أحياناً إلى الفتنة والاقتتال وسفك الدماء.
علاج الغيبة وصاحبيه
إنَّ الغيبة وصاحبيه كسائر الصفات الذميمة تتحول تدريجاً إلى صورة مرض نفسي، بحيث يلتذ المغتاب من فعله ويحس بالاغتباط والرضا عندما يريق ماء وجه فلان، وهذه مرتبة من مراتب المرض القلبي الخطير جداً.
ومن هنا فينبغي على المغتاب والنمّام أن يسعى إلى علاج البواعث الداخلية للاغتياب التي تكمن في أعماق روحه وتحضه على هذا الذنب، من قبيل البخل والحسد والحقد والعداوة والاستعلاء والأنانية.
فعليه أن يطهِّر نفسه عن طريق بناء الشخصية والتفكير في العواقب السيئة لهذه الصفات الذميمة وما ينتج عنها من نتائج مشؤومة، ويغسل قلبه عن طريق الرياضة النفسية، ليسيطر على لسانه ولا يتلوث بالغيبة وأمثالها.
موارد الاستثناء
ما ينبغي ذكره في شأن الغيبة، أنَّ قانون الغيبة له استثناءات، من جملتها أنَّه يتفق أحياناً في مقام الاستشارة مثلاً لانتخاب الزوج أو الشريك في الكسب وما إلى ذلك أن يسأل إنسان إنساناً آخر، فالأمانة في المشورة التي هي قانون إسلامي مسلّم به توجب أن تبَيَّن العيوب إن وجدت في الشخص الآخر لئلا يتورّط المسلم في مشكلة، فمثل هذا الاغتياب بمثل هذا القصد لا يكون حراماً.
وكذلك في الموارد الأخرى التي فيها أهداف مهمة كهدف المشورة في العمل أو لاحقاق الحق أو التظلم وما إلى ذلك.
وبالطبع فإن المتجاهر بالفسق خارج عن موضوع الغيبة، ولو ذكر إثمه في غيابه فلا إثم على مغتابه، إلّا أنَّه ينبغي الالتفات إلى أنَّ هذا الحكم خاص بالذنب الذي يتجاهر به فحسب.
إستماع الغيبة: إنَّ الغيبة ليست هي حراماً فحسب، بل الإستماع إليها حرام أيضاً، والحضور في مجلس الاغتياب حرام، بل يجب طبقاً لبعض الروايات أن يرد على المغتاب، يعني أن يدافع عن أخيه الذي يراد إراقة ماء وجهه.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "السامع للغيبة أحد المغتابين"8.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من اغتيب عنده أخوه المؤمن وهو يستطيع نصره فنصره نصره الله في الدنيا والآخرة، ومن خذله وهو يستطيع نصره خذله الله في الدنيا والآخرة"9.
مزيد فائدة
الغيبة الخفية
يقول الشهيد الثاني: "ومن أضر أنواع الغيبة، غيبة المتّسمين بالفهم والعلم المرائين فإنهم يفهمون المقصود على صفة أهل الصلاح والتقوى ليظهروا من أنفسهم التعفف عن الغيبة ويفهمون المقصود ولا يدرون بجهلهم أنهم جمعوا بين فاحشتين الرياء والغيبة، وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول الحمد لله الذي لم يبتلينا بحب الرياسة أو حب الدنيا أو بالتكيف بالكيفية الفلانية، أو يقول نعوذ بالله من قلّة الحياء أو من سوء التوفيق أو نسأل الله أن يعصمنا من كذا بل مجرد الحمد على شيء إذا علم منه اتصاف المحدّث عنه بما ينافيه ونحو ذلك فإنه يغتابه بلفظ الدعاء وسمتِ أهل الصلاح.
وإنما قصده أن يذكر عيبه بضرب من الكلام المشتمل على الغيبة والرياء، ودعوى الخلاص من الرذائل، وهو عنوان الوقوع فيها، بل أفحشها. كان يقصِّر في العبادات، ولكن قد اعتراه فتور وابتلى بما يبتلى به كلّنا وهو قلة الصبر فيذكر نفسه بالذم، ومقصوده أن يذم غيره، وأن يمدح نفسه بالتشبه بالصالحين في ذم أنفسهم فيكون مغتاباً مرائياً، مزكيّاً نفسه، فيجمع بين ثلاث فواحش، وهو يظن بجهله أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة، هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعلم والعمل من غير أن يتقنوا الطريق فيتبعهم ويحبط بمكائده عملهم ويضحك عليهم ويسخر منهم.
ومن ذلك: أن يذكر ذاكر عيب إنسان فلا ينتبه له بعض الحاضرين فيقول: سبحان الله ما أعجب هذا حتى يُصغي الغافل إلى المغتاب ويعلم ما يقوله، فيذكر الله سبحانه، ويستعمل اسمه آلة في تحقيق خبثه وباطله وهو يمنّ على الله بذكره جهلاً وغروراً.
ومن ذلك: أن يقول جرى من فلان كذا وابتلى بكذا، بل يقول جرى لصاحبنا أو صديقنا كذا، تاب الله عليه وعلينا، يظهر الدعاء له والتألم والصداقة والصحبة والله مطلع على خبث سريرته وفساد ضميره، وهو بجهله لا يدري أنَّه تعرَّض لمقت أعظم مما يتعرّض له الجهّال إذا جاهروا بالغيبة.
ومن أقسامها الخفية: الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب فإنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة، فيزيد فيها، فكأنه يستخرج منه الغيبة بهذا الطريق فيقول: عجبت مما ذكرته ما كنت أعلم بذلك إلى الآن ما كنت أعرف من فلان ذلك، يريد بذلك تصديق المغتاب، واستدعاء الزيادة منه باللطف والتصديق لها غيبة، بل الاصغاء إليها، بل السكون عند سماعها"10.
*من كبائر الذنوب، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، حزيران 2008م، ص123-131.
2- الذنوب الكبيرة، دستغيب، ج2، ص272.
3- المحجة البيضاء، ج5، ص252.
4- أصول الكافي، ج2، باب الغيبة، ح1.
5- الذنوب الكبيرة، دستغيب، ج2، ص286.
6- ن.م، ص273.
7- ن.م.
8- الذنوب الكبيرة، دستغيب، ج2، ص281.
9- ن.م، ص282.
10- كشف الريبة، عن أحكام الغيبة، ص197 198، دار الحوراء. 2009-08-31