النصر
كيف نبني مجتمعاً أرقى؟
إنّ المعنى الشائع للنصر هو غلبة فرد على فرد، أو جماعة على جماعة، وقد ينسبق الذهن إلى كون ذلك في ساحة قتال وما يشبهها. وقد استعمل القرآن الكريم مصطلح النصر بما يتواءم مع هذا المعنى الشائع، إلاّ أنّ هناك بعض الآيات القرآنيّة تتحدّث عن النصر
عدد الزوار: 556
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ 1.
معنى النصر في القرآن الكريم
إنّ المعنى الشائع للنصر هو غلبة فرد على فرد، أو جماعة على جماعة، وقد ينسبق الذهن إلى كون ذلك في ساحة قتال وما يشبهها. وقد استعمل القرآن الكريم مصطلح النصر بما يتواءم مع هذا المعنى الشائع، إلاّ أنّ هناك بعض الآيات القرآنيّة تتحدّث عن النصر في معنى أوسع من الغلبة في ساحة القتال، فقد قال تعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورً﴾ 2، فالنصر هنا هو بمعنى تشريع حكم إلهيّ للمظلوم يتدارك به ما وقع عليه من وصمة الظلم والبغي3.
وعليه، فالنصر أعمّ من الغلبة في ساحة القتال، فقد تكون بمعنى فتح الباب لغلبة المبدأ الذي يحمله المنصور بما يحقّق من خلاله هدفه، فالغالب في هذا المعنى هو مبدأ وهدف المنصور.
ومن الشواهد على هذا المعنى ما روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه سئل عن المنتصر في عاشوراء، فكان جوابه بأنّك إذا سمعت المؤذّن يقول: أشهد أنّ محمّدًا رسول الله، تعرف من انتصر في كربلاء.
فاعل النصر في القرآن الكريم
أكّد الكتاب العزيز على أنّ النصر بالمعنى المتقدّم ليس من فعل الإنسان، بل هو من فعل الله تعالى. قال الله عزّ وجل:
1- ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم﴾ 4.
2- ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ 5.
3- ﴿وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ 6.
4- ﴿وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء﴾ 7.
5- ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾8.
كيف يتدخّل الله في تحقيق النصر؟
أخبرنا القرآن الكريم أنّ تدخَّل الله تعالى يكون بأمور، هي:
1- تسديد القائد
قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ﴾9.
2- تثبيت المؤمنين
قال الله تعالى: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ 10.
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ 11.
3- إلقاء الرعب في قلوب الأعداء
قال الله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانً﴾ 12.
4- إبطال كيد الأعداء
قال الله تعالى: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ 13.
5- تسديد الإصابة
قال الله تعالى: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾ 14.
ما هو المطلوب من طالبي النصر؟
طرح القرآن الكريم عنوانًا عامًّا مطلوبًا ممّن يريد استنزال نصر الله تعالى، ألا وهو نصرة الله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ 15.
ومعنى نصرة الله تعالى هو الانطلاق من الإيمان بالمبادئ الاعتقاديّة لتحقيق التكليف الإلهيّ الشرعيّ، بمعنى أنّ مصبّ نظر المؤمن هو إنجازه للتكليف المطلوب منه، بغضّ النظر عن النتيجة.
وقد عبَّر الإمام الخمينيّ قدس سره عن هذه الفكرة بقوله: "نحن مأمورون بأداء التكليف، ولسنا مأمورين بتحقيق النتائج".
إذًا المطلوب هو النصرة التي أوضحها القرآن الكريم بمبادئها وتكاليفها بالعناوين الآتية المطلوبة من مستنزلي النصر:
1- الإيمان بالغيب
إنّ من معاني الإيمان بالغيب الاعتقاد بأنّ الله تعالى هو السبب الحقيقيّ والعلّة الحقيقيّة لكلّ ما يجري في عالم الوجود. وهذا ما أكّده القرآن الكريم في آيات عديدة، منها:
أ- ﴿ إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ 16.
ب- ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ 17.
لذا دعا القرآن الكريم إلى الإيمان والتوكّل على الله في كلّ الأمور، فقال تعالى:
- ﴿وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّ﴾ 18.
- ﴿وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيل﴾ 19.
- ﴿كَفَى بِاللّهِ نَصِيرً﴾ 20.
2- الإعداد بقدر الطاقة
قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ 21.
وأهمّ أنواع الإعداد ثلاثة:
I. الإعداد المعنويّ
إنّ الإخلاص لله تعالى، والتوجّه إليه هو رأس قائمة الإعداد والجهوزيّة لاستمداد نصر الله تعالى في الحرب.
II. الإعداد التدريبيّ
ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يشرف بنفسه على تدريب المجاهدين على القتال، وكان ينادي بين صفوف المتدرّبين: "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة، ألا إنّ القوة الرمي، ألا إنّ القوة الرمي، ألا إنّ القوة الرمي"22.
III. الإعداد التجهيزيّ
إنّ المطلوب من المقاتلين أن يجهّزوا أسلحة الحرب المطلوبة، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تعالى يدخل بالسهم ثلاثة نفر الجنّة:صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبّله"23.
والإعداد التدريبيّ والتجهيزيّ، وإن كانا مطلوبين، إلاّ أنّهما ليسا العلّة التامّة للنصر، وهذا نلاحظه في الآتي:
في إحدى حروب بني إسرائيل التي قادها طالوت، يحكي لنا الله تعالى قصّة نصر بعدد قليل من المؤمنين.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ 24.
في بعض النصوص بأنّهم كانوا 600 ألف مقاتل، جلّهم شرب أكثر من غرفة، وبقي منهم 313 مقاتلاً محتسبًا فقط، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ 25.
وفي "بدر" كان الكفّار 950 مقاتلاً وبينهم 200 فارس، و700 دارع، بينما المسلمون 313، معهم ثلاثة أفراس، وثمانية سيوف فقط. ومع ذلك، فإنّ الله تعالى حينما رأى أنّ شروط النصر قد تحقّقت، أنزل نصره، وقال: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾26.
وفي "خيبر" كان الجيش الإسلاميّ مؤلّفًا من 3000 مقاتل بينما جيش اليهود مؤلّف من 10.000 مقاتل، ومع ذلك نصر الله تعالى المسلمين.
وفي "حنين" كان المشهد المقابل الذي عبّر عنه الله تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ 27.
3- الصبر
الصبر هو التحمُّل والمقاومة، مقابل الاستسلام للواقع، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ 28.
4- وحدة الصف
وهي ما أكّده القرآن الكريم معتبرًا أنّ عمدة هذه الوحدة هي طاعة الله والوليّ.
قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾29.
وهذه الأنواع من الإعداد للنصر مطلوبة من المقاتلين، وكذا من مجتمعهم، فكما يتوجّه المقاتلون المجاهدون إلى الله تعالى في جهادهم، يتوجّه مجتمع الجهاد والمقاومة أيضًا بالدعاء للمجاهدين لاستنزال النصر.
وكما يتدرّب المجاهدون على القتال، فإنَّ على المجتمع أن يكون المولِّد لأولئك المجاهدين، الدافع لهم نحو الإعداد الذي طلبه الله تعالى ورسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
وكما يجهّز المجاهدون أسلحتهم للقتال، فإنّ على المجتمع أن يشاركهم في ذلك التجهيز، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من أعان مجاهدًا في سبيل الله أظلَّه الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه" وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من جهّز غازيًا بسلك أو إبرة غفر الله له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر"30.
حتميّة النصر
حينما تتحقّق شروط النصر، فإنّ الله تعالى ضمن تحقيقه بشكل حتميّ، قال تعالى:
1- ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ 31.
2- ﴿ن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ 32.
3- ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ 33.
ومضمون هذه الآيات الكريمة يجب أن ينعكس في أدبياتنا حينما نعبّر عن الانتصار، فلا نقول: انتصرنا، بل نصرنا الله تعالى.
وفي مجتمعنا شاهد حيّ على ما ورد في القرآن الكريم، فقد حقّقت المقاومة الإسلاميّة في لبنان ومجتمعها الأغرّ في حرب تموز عناصر النصرة، فكان النصر الإلهيّ.
* كيف نبني مجتمعاً أرقى؟ سماحة الشيخ أكرم بركات.
1- سورة غافر، الآية 51.
2- سورة الإسراء، الآية 33.
3- الطباطبائيّ، محمّد حسين، تفسير الميزان، (لا، ط) قم، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، (لا، ت)، ج14، ص400.
4- سورة آل عمران، الآية 126.
5- سورة النصر، الآية 1.
6- سورة العنكبوت، الآية 10.
7- سورة آل عمران، الآية 13.
8- سورة التوبة، الآية 14.
9- سورة النساء، الآية 113.
10- سورة الأنفال، الآية 12.
11- سورة محمّد، الآية 7.
12- سورة آل عمران، الآية 151.
13- سورة آل عمران، الآية 120.
14- سورة الأنفال، الآية 17.
15- سورة محمّد، الآية 7.
16- سورة التوبة، الآية 116.
17- سورة البقرة، الآية 107.
18- سورة النساء الآية 45.
19- سورة النساء، الآية 81.
20- سورة النساء الآية 45.
21- سورة الأنفال، الآية 60.
22- الطوسيّ، المبسوط، ج6، ص289.
23- المتقي الهندي، كنز العمال، ج4، ص349.
24- سورة البقرة، الآية 249.
25- سورة البقرة، الآية 250.
26- سورة آل عمران، الآية 123.
27- سورة التوبة، الآية 25.
28- سورة الأنفال، الآيتان 65-66.
29- سورة الأنفال، الآية 46.
30- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج13، ص 22.
31- سورة الروم، الآية 47.
32- سورة محمّد، الآية 7.
33- سورة غافر، الآية 51.