سكرة الموت
الموت والبرزخ
من البديهي للحكيم العالم بسفره أن يهيئ زاده للرحلة، لكن هذه البديهية في رحلة الآخرة طمستها الشهوات والغفلة عند أكثر الناس، فكان لا بد من التذكير.
عدد الزوار: 307
الاستعداد لسفر الآخرة
من البديهي للحكيم العالم بسفره أن يهيئ زاده للرحلة، لكن هذه البديهية في رحلة
الآخرة طمستها الشهوات والغفلة عند أكثر الناس، فكان لا بد من التذكير.
لذا كان أمير المؤمنين عليه السلام يرفع صوته في ليالي الكوفة وهو ينادي: "تجهّزوا
رحمكم الله، فقد نودي فيكم بالرحيل وأقلوا العرجة على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما
بحضرتكم من الزاد، فإن أمامكم عقبة كؤوداً، ومنازل مخوفة مهولة، لا بد من الورود
عليها، والوقوف عندها".
وكرّر نجله المجتبى عليه السلام وصية أبيه بقوله: "استعد لسفرك وحصل زادك قبل حلول
أجلك".
ولأن الأجل يباغت الإنسان، كانت صرخة أمير المؤمنين عليه السلام المستعجلة تدوِّي
في آذان أصحاب القلوب: "أيها الناس، الآن، ما دام الوثاق مطلقاً، والسراج منيراً،
وباب التوبة مفتوحاً، قبل أن يجفَّ القلم، وتطوى الصحف، فلا رزق ينزل، ولا عمل يصعد،
المضمار اليوم، والسباق غداً، وأنكم لا تدرون إلى جنة أو إلى نار. واستغفر الله لي
ولكم".
وجاءت سكرة الموت
(وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد).
من العقبات التي قد تكون كؤوداً بحسب تعبير أمير المؤمنين عليه السلام السابق هي
حالة الاحتضار التي قد تكون وسط بكاء الأهل وعويلهم، بينما يكون المحتضر في مقلب
آخر يُراهن، يتذكر، يصارع.
رهان المحتضر
حينما يقع الإنسان في ورطة أثناء مسيرته الحياتية، فإنه يبحث عن نقاط قوة تخرجه من
تلك الورطة، ويبدو أن المحتضر يستحضر نقاط القوة في حياته، لعله يجد فيها ما ينقذه
من تلك العقبة، وهذا ما يذكره لنا أمير المؤمنين عليه السلام بقوله:"إن ابن آدم إذا
كان في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من أيام الآخر، مُثِّل له ماله وولده وعمله،
فيلتفت إلى ماله وولده فيقول: والله، إني كنت عليك حريصاً شحيحاً، فما لي عندك،
فيقول: خذ مني كفنك، فيلتفت إلى ولده فيقول: والله، إني كنت لكم محباً، وإني كنت
لكم محامياً، فماذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك نواريك فيها، فيلتفت إلى
عمله، فيقول: والله إني كنت فيك لزاهداً، وإنك علي لثقيل، فماذا عندك فيقول: أنا
قرينك في قبرك، ويوم نشرك حتى اُعرض أنا وأنت على ربك".
ذكريات المحتضر
أمام المحكمة الإلهية القادمة من الطبيعي أن يستحضر المحتضر ما اقترفه مما قد
يُدينه في محكمة العدل الحقة، ومما يتذكره ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام وهو
يتحدث عن المحتضر بقوله:"اجتمعت عليهم سكرة الموت، وحسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم،
وتغيَّرت لها ألوانهم، ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً، فحيل بين أحدهم وبينَ منطقه،
وإنه بين أهله ينظر ببصره، ويسمع بأذنه على صحة من عقله وبقاء من لبه، يُفكرُ فيم
أفنى عُمرهُ؟ وفيمَ أذهب دهرهُ؟ ويتذكَّرُ أموالاً جمعها، أغمض قي مطلبها، وأخذها
في مصرحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه،
ينعمون فيها، ويتمتعون بها، فيكون المهنأ لغيره والعبءُ على ظهره. والمرءُ قد غلقت
رهونه بها، فهو يعضُّ يده ندامةً على ما أصحر له عندَ الموت من أمره، ويزهد فيما
كان يرغب فيه أيام عمُره، ويتمنى أنّ الذي كان يغبطه بها، ويحسده عليها قد حازها
دُونَهُ، فلم يزل الموت يتبالغ في جسده حتى خالط لسانُه سمعَهُ، فصار بين أهله لا
ينطق بلسانه، ولا يسمع بسمعه، يُرددُ طرفهُ والنظر في وجوههم يرى حركات ألسنتهم،
ويسمع رجع كلامهم، ثم ازداد الموت التياطاً به، فقُبض بصرُه كما قبض سمعُهُ، وخرجت
الرّوحُ من جسده وهو يحسّ بها وبخروجها".
حتى قال: "فصار جيفة بين أهله، قد أوحشُوا من جانبه، وتباعدوا من قربه لا يُسعدُ،
ولا يجيب داعياً ثم حملوهُ إلى مخطٍّ الأرض، فأسلموُهُ منه إلى عمله وانفضوا عن
زورته".
ومن لطيف ما ورد في خواطر المحتضر قصة ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وقال له: إن أبي قال وهو يحتضر "ليته كان بعيداً، ليته كان جديداً، ليته
كان كاملاً" فأخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رأى فضل الخطو إلى المسجد،
فقال: ليته كان بعيداً، ومرًّ به رجل يتألم من البرد، فأعطاه ثوباً بالياً فلما رأى
فضل الثوب، قال: ليته كان جديداً، ومرَّ به جائع وهو يطعم، فأعطاه رغيفاً كان قد
أخذ منه، فلمَّا رأى فضله قال: ليته كان كاملاً.
صراع المحتضر( العديلة)
ورد في الدعاء المأثور: "اللهم، إني أعوذ بك من العديلة عند الموت".
والعديلة هي عنوان لمحاولة يقوم بها إبليس في حال احتضار الميت حينما يفقد الأمل
ممن حوله في الدنيا، فيحاول عندها أن يعطيه أملاً بالنجاة بشرط أن يعدل من الحق إلى
الباطل، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من أحد يحضره الموت إلا وكَّل به إبليس
من شياطينه من يأمره بالكفر، ويشككه في دينه حتى تخرج نفسه، فمن كان مؤمناً لم يقدر
عليه".
وعدم قدرة إبليس على تعديل المؤمن هي من خلال تثبيت الله تعالى له على الإيمان، من
هنا فُسِّر قوله تعالى، (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا) بان ظرف هذا التثبيت هو معاينة ملك الموت وحضور الشيطان لإضلاله وحول أسباب العديلة
ورد أنه مرض ذات يوم تلميذ للفضيل بن عياض، فجاء الفضيل وجلس عند رأسه يقرأ سورة
ياسين فإذا بالتلميذ يقول لإستاذه: لا تقرأ هذه السورة، فاستجاب الأستاذ، وقال:
لتلميذه: قل لا إله إلا الله أجاب: لا أقولها، لأني أكرهها ثم مات. تعجب الفضيل،
وذهب إلى بيته، فرآه في نومه، وسأله عن سبب ذلك، فأجاب: سبب ذلك ثلاثة أمور: الأول
كنت نماماً، الثاني كنت حسوداً، والثالث كنت أشرب الخمر، وذلك بسبب مرض كان فيَّ،
وقد أوصاني الطبيب بشرب قدح من الخمر في كل عام، وقال: إن لم تشرب ذلك فلا شفاء
لعلَّتك. هذه الأمور الثلاثة كانت سبب سوء عاقبتي.
قبض الروح
يعبّر القرآن الكريم عن المرحلة الأخيرة للاحتضار: (كلا إذا بلغت التراقي، وقيل من
راق، وظن أنه الفراق، والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق). أي إذا بلغت
الروح العظام المكتنفة بالحلق، وقيل: هل من طبيب يشفيه ولكن أنّى ينفع الطبيب وقتها.
"والتفت الساق بالساق" قيل: أي ذهبت قوته فأصبح كالجلد يلتف بعضه ببعض، وقيل:
التفّت شدة أمر الدنيا بأمر الآخرة.
إنها اللحظة التي يعاين فيها ملك الموت والناس قد يكونون حوله ولا يشعرون، وكيف
يشعرون!! وأمير المؤمنين يصف ملك الموت سائلاً الإنسان: "هل تحسّ به إذا دخل منزلاً؟
أم هل تراه إذا توفى أحداً، بل كيف يتوفى الجنين في بطن أمه؟ أيلج من بعض جوارحها؟
أم الروح أجابته بإذن ربها؟ أم هو ساكن معه في أحشائها"؟ (فلو لا إذا بلغت الحلقوم،
وأنتم حينئذ تنظرون، ونحن أقرب إليه منكم ولا تبصرون، فلولا إن كنتم غير مدنيين،
ترجعونها إن كنتم صادقين).
عن الإمام السجاد عليه السلام: "أشد ساعات ابن آدم ثلاث ساعات: الساعة التي يعاين
فيها ملك الموت، والساعة التي يقوم فيها من قبره، والساعة التي يقف فيها بين يدي
الله تبارك وتعالى، فإما إلى الجنة وإما إلى النار".
كيفية قبض الروح
قيل للإمام الصادق عليه السلام: صف لنا الموت؟ فأجاب عليه السلام: "للمؤمن كأطيب
ريح يشمّه فينعس بطيبه، وينقطع التعب والألم كله عنه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ
العقارب أو أشد".
وقد ورد أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال لملك الموت: "أريد أن أراك على الصفة
التي تقبض فيها روح الكافر، فقال: يا إبراهيم لا تقدر، فقال عليه السلام: أحب ذلك.
فقال ملك الموت: أعرض بوجهك، فأعرض بوجهه، ثم قال: انظر، فنظر إليه، فإذا هو أسود
كالليل المظلم، وقامته كالنخلة الطويلة، والنار والدخان يخرجان من منخريه، وفمه إلى
عنان السماء، فلما نظر إليه غشي على إبراهيم عليه السلام، فرجع ملك الموت إلى حالته،
فلما أفاق الخليل عليه السلام قال: يا ملك الموت، لو لم يكن للكافر هول من الموت
ألا رؤيتك لكفاه عن سائر الأهوال".
وفي المقابل ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "دخل رسول الله على رجل من أصحابه
وهو يجود بنفسه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا ملك الموت أرفق بصاحبي، فإنه
مؤمن، فقال: أبشر يا محمد، فإني بكل مؤمن رفيق".
لعل قضية قبض الروح مرتبطة بمقدار تشبث الإنسان بروحه، فالكافر الذي لا يؤمن بحياة
أخرى يتمسك بروحه تمسكاً شديداً، فتحصل شدة النزاع القاسية، أما المؤمن، فإنه على
درجات، فمن آمن بالآخرة، وأعدَّ لها العدة المناسبة، فإنه يسلِّم روحه فتكون
النتيجة أن ملك الموت يسلّها كما تسل الشعرة من بين حبَّات الدقيق، نعم قد يكون عند
بعض المؤمنين خوف من ذلك نتيجة بعض أعمالهم التي يخافون من آثارها، ولعل ذلك المؤمن
الذي زاره الإمام موسى الكاظم عليه السلام من هؤلاء وكان قد غرق في سكرات الموت،
وهو لا يجيب داعياً، فقال من حضر للإمام الكاظم: يا ابن رسول الله، وددنا لو عرفنا
كيف الموت؟ وكيف حال صاحبنا؟ فقال عليه السلام: "الموت هو مصفاة يصفّي المؤمنين من
ذنوبهم فيكون آخر وزر بقي عليهم".
* نداء الرحيل، الشيخ أكرم بركات.
2013-09-19