الإنسان في رحلاته الأربع
الموت والبرزخ
"أنا موجود" حقيقة لا تقبل الشكّ والنكران. أنا لم أخلق نفسي، بل التفت إليها في معترك الحياة، وهذا ما يردِّده أبي وجدي بل وسلسلة أجدادي إلى أول إنسان.
عدد الزوار: 220
الاسئلة الأولى
"أنا موجود" حقيقة لا تقبل الشكّ والنكران.
أنا لم أخلق نفسي، بل التفت إليها في معترك الحياة، وهذا ما يردِّده أبي وجدي بل
وسلسلة أجدادي إلى أول إنسان.
إذن من خلقنا، ونحن كلُّنا ضعفاء عاجزون، كان يمكن أن نكون وأن لا نكون لا بد أن
يكون الذي خلقنا ليس مثلنا، ليس بحاجة أن يخلقه أحد، لا بد أن يكون، ولا ينفكُّ عنه
الوجود، فهو سرمديٌّ في وجوده، لا يحتاج إلى وجود، فهو غنيٌّ مطلق يكون، إني أعلم
أن فاقد الشيء لا يعطيه، فلا يمكنك أن تعطيني مالاً وأنت فاقد له:
وفي هذا الوجود حياة***فمعطي الحياة حي
وفي هذا الوجود علم***فمعطي العلم عالم
وفي هذا الوجود قدرة***فمعطي القدرة قادر
وفي هذا الوجود كرم***فمعطي الكرم كريم
إذن من خلقني هو حكيم، لأن الحكيم من يضع الأمور في مواضعها المناسبة فكل عمل عنده
هدف محدد، ومن لا يضع الأمور في تلك المواضع المناسبة فإنما يفعل ذلك لجهل وخالقي
عالم، أو لعجز وخالقي قادر، أو لبخل وخالقي كريم إذن خالقي حكيم إذا كان حكيماً،
يعني أنه خلقني لأجل الهدف؟ ترى ما هوى هدف خلقي؟ مع أنه غني لا يحتاج إلى شيء مني،
لا بد أن يكون الهدف يتعلق بي، إنه سَيْري على طريق الكمال.
لكن هل أستطيع -أنا- بما وهبني من سبل المعرفة من حسٍّ وخيال ووهم وعقل أن أتعرَّف
على تلك الطريق؟
كلا، لا أستطيع ذلك، إذاً، لا بدَّ للحكيم أن يرشدني بطريقة ما إلى تلك الطريق،
لأسير عليها وأحقق غاية وجودي.
الآن فهمت سرَّ النبوة والرسالة، فإنها الوسيلة التي من خلالها أراد خالقي أن
يرشدني ويهديني إلى طريق كمالي.
بحثت في الرسالات والنبوات، فوجدت واحدةً فقط منها يواكبها دليلها المعجزة في زمني،
وليس في زمن غابر ألا وهي رسالة الإسلام ونبوّة خاتم الرسل محمد بن عبد الله صلى
الله عليه وآله وسلم، فآمنت بها، لأضيف إلى آليات معرفتي التي على رأسها العقل آليةً
أخرى، هي نص القرآن الكريم ونصُّ من عصمه الله ليكمل الهداية إلى طريق الكمال.
الآن أستطيع أن أكمل أسئلتي وأرجعها إلى نصٍّ صادق يفتح لي باب الواقع المغلق،
ويخبرنا بما لا أستطيع أنا وغيري القاصرون أن نجيب عنها.
هلمُّوا معي نسأل القرآن عن الإنسان من بدايته إلى مصيره لنعرف إلى أين سنذهب؟ وكيف
نرسم سعادة المستقبل؟
مسيرة الإنسان في رحلاته الأربع
قال الله تعالى في سورة "المؤمنون":
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن
سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ *
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ
أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
تُبْعَثُونَ﴾.
إنها مسيرة تتضمن رحلات:
الرحلة الأولى: هي رحلة المادة، طين، نطفة،
علقة، مضغة، عظام، عظام ولحم.
الرحلة الثانية: هي رحلة الحياة الدنيا من
خلال نشأة النفس مع الجسد ومواكبتها له.
الرحلة الثالثة: هي رحلة الإماتة من خلال فصل
النفس عن الجسد، لتكون روحاً.
الرحلة الرابعة: هي رحلة البعث من خلال عودة
الروح إلى الجسد لمواجهة المصير.
لا بد من استحضار هذه الرحلات حتى لا نكون كتلك النملة التي رُمِيت في ساحة فيها
الكثير من المربعات الملونة، كل لون يختلف عن الآخر، فأول ما وقع نظرها على المربع
الأصفر أخذت تسير فيه وهي تظن أن الأصفر هو لون كل الساحة، وكل الحياة، فجأة دخلت
في اللون الأخضر، فأخذت تمشي فيه فظنت أن الساحة والحياة أصبحت كلها خضراء، ولا
يوجد لون آخر...
لا بد من استحضار هذه الرحلات حتى لا نكون كذلك الجنين في قصيدة أحد الشعراء الذي
يصوِّره، وكأنه أعطي قوة الفهم، ولغة الحوار، فقيل له: كم ترى حجم الحياة؟ فأجاب
بثقة: إن حجمها حجمُ رحم أمي، فقيل له: إن هناك حياة أوسع بكثير من حياتك هذه، إنها
حياة فيها أطعمة وأشربة لذيذة، فيها ألعاب لطفولتك فيها مساحات واسعة لحركتك، فلم
يصدِّق، لأنه لا يعتقد أن هناك طعاماً وشراباً أطيب وألذّ من الدم الذي يتغذى به من
رحم أمه، ولا يعتقد بوجود فضاء أوسع من ذلك الرحم. لذا يصوِّر ذلك الشاعر حال
الجنين حينما تأتي القابلة تريد إخراجه من رحم أمه، بأنَّه يتشبَّث بالرحم، أنه لا
يريد الخروج لأنه لا يعتقد بوجود آخر غير الرحم، ولكنه حينما تخرجه القابلة بالقوة
ويرى حال الحياة الكبرى خارج الرحم فإنه يصرخ صرخة المفاجأة. وينتقل الشاعر في
قصيدته ليصوِّر حال الإنسان غير المؤمن كحال هذا الجنين، لا يصدِّق بوجود عالم آخر
غير هذه الحياة الدنيا، وحينما يأتيه ملك الموت يريد إخراجه إلى تلك الحياة، فإنه
يتشبَّث بروحه فتكون النزعة القاسية.
حتى لا نكون ضيِّقي المعرفة كتلك النملة وهذا الجنين علينا أن نستحضر كل الرحلات،
ونحن الآن في خضم الرحلة الثانية، رحلة النفس مع الجسد فهلمّوا معي نتعرف على
حقيقتنا في هذه المرحلة لنعرف بعد ذلك إلى أين نسير؟
حقيقة الإنسان
تشير الآيات السابقة إلى أن الإنسان بعد تكوينه المادي من عظم ولحم أنشأه الله
تعالى خلقاً آخر غير الخلق المادي الذي تحدثت عنه الآيات وهو ما يسميه القرآن
الكريم بالنفس وفي تحليل هذا الإنشاء الجديد نظريتان أساسيتان:
الأولى: إن النفس خلقت بشكل مستقل، ثم أودعها
خالقها في رحم الأم ليحصل تزاوج بين النفس والجسد.
الثانية: إن النفس انبثقت من ذلك التكوين
المادي للإنسان من حين تحوّل استعداد المادة للإدراك الجديد إلى فعلية للإدراك.
وعلى كلا النظريتين فإن النفس أصحبت بعد هذا الإنشاء هي التي تعبِّر عن الحقيقة
الإنسانية مع تغيِّر ألبستها الجسمانية بشكل ممتد، والدليل على ذلك مراقبة حال
الإنسان منذ الولادة.
فأول ما ولد فلان سمّاه أبوه "أحمد"، كان وزن أحمد ثلاثة كلغ وحجمه صغير، وملامحه
ناعمة، وكبر أحمد، وأصبح عمره ست سنوات ودخل المدرسة، ثم كبر ونجح في الشهادة
المتوسطة في عمر خمسة عشر سنة، وكبر بعدها وتخرج من الثانوية في عمر ثمانية عشر سنة،
وكبر بعد ذلك حاملاً إجازة في الطب العام في عمر خمسة وعشرين عاماً، وكبر بعدها
وكبر..
أتدرون كم مرة تغيرت خلايا جسد أحمد، الطب يؤكد أن يدي أحمد الآن وكذا ساقاه وكذا
أكثر أعضاء جسده لم تعد هي نفسها حينما كان صغيراً بل تبدّلت عدة مرات.
ومع ذلك بقي أحمد هو أحمد، فلو أن أحمد الصغير كان قد ضرب بيده أحدهم، فإن الأخير
بعد عشرين عاماً قد يذكّره حين ضرب بيده مع أن يد أحمد قد تغيرت أكثر من مرة، ويده
اليوم غير يده حينما ضرب بها، لكن أحمد الذي ضرب هو أحمد الآن.
فإذا كانت أكثر خلايا أحمد قد تغيّرت، أي أن جسد أحمد قد تبدّل عدة مرات، إذن من هو
أحمد؟
إنه ليس الجسد القديم ولا الجديد، بل هو النفس التي ما زالت تنمو وتنمو من دون أن
تتبدّل في حقيقتها ببدل آخر.
وهذا يدل على أن حقيقة الإنسان هي لست الجسد الخاص، بل هي هذه النفس التي تحركه
وتواكبه وتبقى مع تغير حال الجسد مهما طال الزمن وتعددت الأشكال. هذه النفس هي محور
تحقيق الإنسان لغاية وجوده في هذه الحياة (ونفس وما سواها).
فإذا نمَّاها الإنسان وغذّاها بالكمالات يصل إلى أرقى مرحلة كمالية
(قد أفلح من زكاها)، وإذا لوّثها الإنسان بإغماسها في المعاصي يصل إلى
أسفل حضيض (وقد خاب من دساها).
والنفس في رحلة الإنسان الثانية قابلة للتغيُّر، فقد تسيء إلى نفسها فتصبح أمارة
بالسوء (إن النفس لأمارة بالسوء).
وقد ترتقي في كمالها، فتصبح هادئة مستقرة (يا أيتها النفس المطمئنة) وقد تكون في
حالٍ بين الحالتين ترتكب السوء، وتلوم ذاتها بعد ذلك (لا
أقسم بالنفس اللوامة).
في رحلتها هذه قد تُصدم بلحظة القرار، بتوقُف الرحلة، وفصلها عن الجس، من دون إمهال:
قال: مهلني يوماً
أجاب: قد ضيعت الأيام
قال: مهلني ساعة
أجاب: قد ضيعت الساعات.
إنها لحظة الموت التي لا بد منها (ثم إنكم بعد ذلك لميتون)
وهي بوابة الرحلة الثالثة.
* نداء الرحيل، الشيخ أكرم بركات.
2013-09-19