يتم التحميل...

ما هي حدود الغلوّ والتقصير في الأئمّة؟

الإمامة والخلافة

إنّ معنى الغلوّ، بحسب تعريف الأصفهانيّ في المفردات، هو "تجاوز الحدّ"2، وفي المصباح المنير: غلى في الدين غلوًّا... تصلّب وتشدّد حتى جاوز الحدّ3.

عدد الزوار: 661

قال الله تعالى: ﴿لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ 1.

إنّ معنى الغلوّ، بحسب تعريف الأصفهانيّ في المفردات، هو "تجاوز الحدّ"2، وفي المصباح المنير: غلى في الدين غلوًّا... تصلّب وتشدّد حتى جاوز الحدّ3.

الغلوّ في الأديان السابقة

أكّد القرآن الكريم حدوث الغلوّ في الدينين اليهوديّ والمسيحيّ، والذي وصل إلى حدّ تأليه بعض الناس، قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ4.

المراد من عزير هو من يسميه اليهود عزرا، وهو الذي، بحسب بيان العلاّمة الطباطبائيّ، "جدّد دين اليهود وجمع أسفار التوراة، وكتبها بعد ما افتقدت في غائلة بخت نصر، ملك بابل، الذي فتح بلادهم، وخرّب هيكلهم، وأحرق كتبهم، وقتل رجالهم، وسبى نساءهم وذراريهم، والباقين من ضعفائهم، وسيّرهم معه إلى بابل، وبقوا هناك ما يقرب من قرن، ثم لمّا فتح كورش ملك "إيران بابل، شفع لهم عنده عزرا، وكان ذا وجه عنده، فأجاز له أن يعيد اليهود إلى بلادهم، وأن يكتب لهم التوراة ثانيًا بعد ما افتقدوا نسخها... ولِما نالهم من خدمته عظَّموا قدره، واحترموا أمره، وسمّوه ابن الله"5.

والمراد من ﴿يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ، أي أنّهم شاكلوا الذين تقدّمهم من الأمم الكافرة، "وهم الوثنيون عبدة الأصنام، فإنّ مِن آلهتهم مَنْ هو إلهٌ أب، ومن هو إلهٌ ابن، ومن هي إلهةٌ أم إله، أو زوجة إله، وكذا القول بالثالوث، ممّا كان دائرًا بين الوثنيين من الهند، والصين، ومصر القديم6، وغيرهم"7.

وقال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ8، لذا خاطب الله تعالى أهل الكتاب قائلاً: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً 9.

الغلوّ في عصر النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

لم ينج الإسلام من الغلوّ منذ عهده الأوّل، فقد روى الشيخ الكشيّ حديثًا مرفوعًا إلى الإمام الصادق عليه السلام، "أنّه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: السلام عليك يا ربي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما لك، لعنك الله، ربّي وربّك الله"10.

الغلوّ في عصر الإمام علي عليه السلام

عن الإمامين الصادق والباقر عليه السلام قالا: "إنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزط11، فسلّموا عليه وكلّموه بلسانهم، فردّ عليهم بلسانهم، ثمّ قال لهم: إنّي لست كما قلتم، أنا عبد الله مخلوق، فأبَوا عليه، وقالوا: أنت هو، فقال لهم: لئن لم تنتهوا، وترجعوا عمّا قلتم فيّ، وتتوبوا إلى الله عزّ وجل لأقتلنّكم، فأبوا أن يرجعوا ويتوبوا، فأمر أن تحفر لهم آبار، فحفرت، ثمّ خرق بعضها إلى بعض، ثمّ قذفهم، ثمّ خمّر رؤوسهم، ثمّ ألهبت النار في بئر منها ليس فيها أحد منهم، فدخل الدخان عليهم فيها فماتوا"12.

الغلوّ في عصر الأئمّة من ولد أمير المؤمنين عليه السلام

1- روى الشيخ الكشيّ حديثًا صحيحًا، ذكر أنّ رجلاً حدّث الإمام الرضا عليه السلام عن يونس بن ظبيان أنّه قال: "كنت في بعض الليالي، وأنا في الطواف، فإذا نداء من فوق رأسي: يا يونس إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا، فاعبدني، وأقم الصلاة لذكري، فرفعت رأسي، فإذا أبو الحسن عليه السلام أي الإمام الرضا عليه السلام 13 فغضب أبو الحسن عليه السلام...ثمّ قال للرجل: "اخرج عنّي، لعنك الله، ولعن من حدّثك، ولعن يونس بن ظبيان ألف لعنة تتبعها ألفُ لعنة، كلّ لعنة منها تبلغك قعر جهنّم، أشهد ما ناداه إلاّ الشيطان"14.

2- روى الشيخ الكشيّ عن سهل بن زياد الادمي، قال: "كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن العسكريّ عليه السلام: جعلت فداك يا سيديّ، إنّ عليّ بن حسكة يدّعي أنّه من أوليائك، وأنّك أنت الأوّل القديم، وأنّه بابك ونبيّك، أمرته أن يدعو إلى ذلك، ويزعم أنّ الصلاة والزكاة والحجّ والصوم كلّ ذلك معرفتك، ومعرفة من كان في مثل حال ابن حسكة فيما يدعى من البابية والنبوّة، فهو مؤمن كامل، سقط عنه الاستعباد بالصلاة والصوم والحجّ، وذكر جميع شرائع الدين أنّ معنى ذلك كلّه ما ثبت لك، ومال الناس إليه كثيرًا، فإن رأيت أن تمنّ على مواليك بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة. قال: فكتب عليه السلام: كذب ابن حسكة عليه لعنة الله، وبحسبك أنّي لا أعرفه في مواليَّ، ماله لعنه الله، فوالله ما بعث الله محمّدًا، والأنبياء قبله، إلاّ بالحنيفية، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، والولاية، وما دعا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ إلى الله، وحده لا شريك له. وكذلك نحن الأوصياء من ولده عبيد الله، لا نشرك به شيئًا، إن أطعناه رحمنا، وإن عصيناه عذبنا، مالنا على الله من حجّة، بل الحجّة لله عزّ وجل علينا وعلى جميع خلقه، أبرء إلى الله ممّن يقول ذلك...، فاهجروهم لعنهم الله..."15.

بعد هذا العرض لوقوع الغلوّ في الإسلام، وما سبقه من أديان، ندخل في تحديد الغلوّ، والموقف منه.

حدُّ الغلوّ

يستفاد من النصوص الدينيّة أنّ الغلوّ يتحقّق في الحالات الآتية:

1- ادّعاء الألوهيّة للإنسان
قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً 16.
وعن الإمام الرضا عليه السلام: "إنّ من تجاوز بأمير المؤمنين العبوديّة فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين"17.

2- ادّعاء الخالقيّة المستقلّة للإنسان
عن الإمام الصادق عليه السلام: "اجعلونا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم، فلن تبلغوا"18.
وقيّدنا الخالقيّة بالمستقلّة، لأنّه لا مانع من نسبة الخلق، بمعنى تشكيل صورة مادّة سابقة بقدرة الله تعالى وإذنه، كما ورد عن النبيّ عيسى عليه السلام قوله في القرآن الكريم: ﴿أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ19.

3- ادّعاء الربوبيّة المستقلّة للإنسان
عن الإمام الصادق عليه السلام: "اجعل لنا ربًّا نؤوب إليه، وقولوا فينا ما شئتم"20.
ومعنى الربوبيّة: التدبير، وقيّدناها بالمستقلّة لجواز نسبة الربّ غير المستقلّ إلى الإنسان، كما يقال: ربُّ العمل، ربُّ البيت، ونظيره قوله تعالى عن الملائكة: ﴿ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا 21، فهي مدبِّرة إلاّ أنّ تدبيرها غير مستقلّ عن الله تعالى، إنّما هو بإرادته وإذنه.
ومن الروايات التي تنهى عن الاعتقاد بالربوبيّة المستقلّة، والتدبير كذلك، ما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام في دعائه: "اللهمّ إنّي أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا...اللهمّ من زعم أنّا أرباب، فنحن منه براء، ومن زعم أنّ إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن إليه منه براء كبراءة عيسى عليه السلام من النصارى، اللهم إنّا لم ندعهم إلى ما يزعمون، فلا تؤاخذنا بما يقولون..."22.

4- القول بعد بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ أحدًا بعده نبيّ
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من قال: بأنّنا أنبياء، فعليه لعنة الله، ومن شكّ في ذلك فعليه لعنة الله23، وورد عنه عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه: "يا أبا عبد الله، أبرأ ممّن قال إنّا أنبياء"24.
وورد عن خالد بن نجيح أنّه قال: "دخلت على أبي عبد الله عليه السلام الإمام الصادق، وعنده خلق، فجلست ناحية، وقلت في نفسي: ما أغفلهم عند من يتكلّمون. فناداني: إنا والله عباد مخلوقون، لي ربّ أعبده، إن لم أعبده عذبني بالنار. قلت: لا أقول فيك إلاّ قولك في نفسك. قال: اجعلونا عبيدًا مربوبين، وقولوا فينا ما شئتم إلاّ النبوّة"25.

5- اعتقاد سقوط التكليف بالمعرفة
تقدّمت رواية الإمام العسكريّ عليه السلام، الذي ذُكر فيها أنّ علي بن حسكة يزعم أنّ الصلاة، والزكاة، والحجّ، والصوم كلّ ذلك معرفة الإمام"26، وبالتالي كان هذا الاعتقاد يؤدّي إلى الاعتقاد بسقوط التكليف عن العارف بالإمام، وبالتالي تركه عمليًّا، من هنا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "الغالي اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحجّ..."27.

وقد ذكر العلاّمة المجلسيّ بعض الأمور الأخرى من محقِّقات الغلوّ، فقال: "إنّ الغلوّ في النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليه السلام إنّما يكون بالقول بألوهيتهم أو بكونهم شركاء له تعالى في المعبوديّة، أو في الخلق، أو الرزق، أو أنّ الله تعالى حلّ فيهم، أو اتّحد بهم، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي، أو إلهام من الله تعالى، أو بالقول في الأئمة عليهم السلام أنّهم كانوا أنبياء، أو القول أنّ معرفتهم تغني عن جميع الطاعات، ولا تكليف معها بترك المعاصي، والقول بكلّ منها إلحاد وكفر، وخروج عن الدين كما دلّت عليه الأدلّة العقليّة، والآيات، والأخبار..."28.

موقف الأئمّة عليه السلام من الغلوّ

I- واجه أئمّة أهل البيت عليه السلام الغلوّ والمغالين بقوّة وشدّة تظهران من النصوص الآتية:
ورد عن الإمام العسكريّ عليه السلام: "إنّ أبا الحسن الرضا عليه السلام قال: إنّ من تجاوز بأمير المؤمنين عليه السلام العبوديّة، فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تتجاوزا بنا العبوديّة، ثمّ قولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى، فإنّي بريء من الغالين. فقام إليه رجل فقال: يا بن رسول الله، صف لنا ربّك! فإنّ من قبلنا قد اختلفوا علينا. فوصفه الرضا عليه السلام أحسن وصف، ومجّده ونزّهه عمّا لا يليق به تعالى. فقال الرجل: بأبي أنت وأمّي يا بن رسول الله، فإنّ معي من ينتحل موالاتكم، ويزعم أنّ هذه كلّها من صفات عليّ عليه السلام، وأنّه هو الله ربّ العالمين. فلمّا سمعها الرضا عليه السلام، ارتعدت فرائصه، وتصبّب عرقًا، وقال: سبحان الله عمّا يشركون! سبحانه عمّا يقول الكافرون علوًّا كبيرًا! أوليس عليّ كان آكلاً في الآكلين، وشاربًا في الشاربين، وناكحًا في الناكحين، ومحدِّثًا في المحدّثين. وكان مع ذلك مصليًّا خاضعًا، بين يدي الله ذليلاً، وإليه أوّاهًا منيبًا. أفمن هذه صفته يكون إلهًا؟! فإن كان هذا إلهًا فليس منكم أحد إلاّ وهو إله، لمشاركته له في هذه الصفات الدالات على حدث كلّ موصوف بها"29.

II- ورد عن الإمام الصادق عليه السلام:
"لعن الله عبد الله بن سبأ، أنّه ادّعى الربوبيّة في أمير المؤمنين، وكان، والله، أميرُ المؤمنين، عبدًا لله طائعًا، ويل لمن كذّب علينا، وإنّ قومًا يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم"30. وعنه عليه السلام: "لعن الله المغيرة بن سعيد، إنّه كان يكذب على أبي، فأذاقه حرّ الحديد، لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، لعن الله من أزالنا عن العبوديّة لله الذي خلقنا، وإليه مآبنا ومعادنا، وبيده نواصينا"31.

تنبيه الأئمّة عليه السلام إلى عدم التقصير

نلاحظ في بيانات أئمّة أهل البيت عليه السلام، الرافضة للغلوّ، الحذر من الاسترسال في نفي الكمالات بما يؤدّي إلى التقصير في معرفتهم، وبيان كمالاتهم، من هنا ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: " يا أبا حمزة، لا تضعوا عليًّا دون ما وضعه الله، ولا ترفعوه فوق ما رفعه الله"32.

وفي رواية عن الإمام الرضا عليه السلام يحذّر فيها من الغلوّ والتقصير معًا، فعنه عليه السلام: "قال إبراهيم بن أبي محمود: فقلت للرضا: يا بن رسول الله إنّ عندنا أخبارًا في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وفضلكم أهل البيت، وهي من رواية مخالفيكم، ولا نعرف مثلها عندكم، أفندين بها ؟ فقال: يا ابن أبي محمود، لقد أخبرني أبي عن أبيه عن جده عليه السلام أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله عزّ وجلّ، فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس، ثمّ قال الرضا عليه السلام: يا ابن أبي محمود، إنّ مخالفينا وضعوا أخبارًا في فضائلنا، وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلوّ، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا، ونسبوهم إلى القول بربوبيّتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسماءنا، وقد قال الله عزّ وجلّ: ﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ 33، يا ابن أبي محمود إذا أخذ الناس يمينًا وشمالاً فالزم طريقتنا، فإنّه من لزمنا لزمناه، ومن فارقنا فارقناه"34.

بسبب ما مرَّ كثرت الروايات المعقِّبة بعد النهي عن الغلوّ بفتح المجال للحديث عن فضائلهم، وذلك بعبارات عديدة منها:

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا: إنّا عبيد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم"35.

وعنه عليه السلام: "اعلم يا أبا ذر، أنّا عبيد الله عزّ وجل، وخليفته على عباده، لا تجعلونا أربابًا، وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنّكم لا تبلغون كنه ما فينا، ولا نهايته، فإنّ الله عزّ وجل قد أعطانا أكبر وأعظم ممّا يصفه واصفكم، أو يخطر على قلب أحدكم، فإذا عرفتمونا هكذا، فأنتم المؤمنون"36.

وعنه عليه السلام: "أنا أمير كلّ مؤمن ومؤمنة ممّن مضى ومن بقي، وأُيِّدت بروح العظمة، وإنّما أنا عبد من عبيد الله، لا تسمّونا أربابًا، وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنّكم لن تبلغوا من فضلنا كنه ما جعله الله لنا، ولا معشار العشر"37.

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لصاحبه: "لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا"38.

ضابطة ردّ الحديث

وقد وضع أهل البيت عليه السلام ضابطة لردّ ما ينقل عنهم، وهي أن يستحيل كونه في المخلوق، أمّا في حال إمكان وجوده في المخلوق فقد دعا أهل البيت عليه السلام في حال استغرابه إلى عدم رفضه وجحوده، وأمروا بإرجاعه إليهم عليه السلام، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما جاءكم منّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين، ولم تعلموه، ولم تفهموه، فلا تجحدوه وردّوه إلينا، وما جاءكم عنّا ممّا لا يجوز أن يكون39 في المخلوقين فاجحدوه ولا تردّوه إلينا"40.

دعوة الأئمّة إلى الوسطيّة

إنّ الناتج عن النهي عن الغلوّ والتقصير هو أن يكون المؤمن وسطيًّا في نظرته إلى أهل البيت عليه السلام، وهذا ما عبَّر عنه الإمام الباقر عليه السلام بقوله: "يا معشر شيعة آل محمّد، كونوا النمرقة41 الوسطى يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي"42.

إنَّ معنى النُمرُقة – بضم النون والراء أو كسرهما- الوسادة، ومن الواضح أنّ الوسادة المنخفضة جدًا، أو المرتفعة كذلك لا تصلح للاستقرار، إنّما يصلح لذلك الوسادة الوسطى.

أمّا معنى الحديث فقد فسَّره ابن أبي الحديث بقوله: "والمعنى أنَّ آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم هم الأمر الأوسط بين الطرفين المذمومين، فكلّ من جاوزهم فالواجب أن يرجع إليهم، وكلّ من قصَّر عنهم، فالواجب أن يلحق بهم.

وبالمعنى نفسه ورد عن الإمام عليّ عليه السلام حديث صرَّح بالتقصير بعد الغلوّ وهو: "...تلك خيار أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم النُمرُقة الوسطى يرجع إليهم الغالي، وينتهي إليهم المقَصّر"43.

* يسألونك عن الأئمة، الشيخ أكرم بركات.


1- سورة النساء، الآية 171.
2- الراغب الأصفهاني، الحسين، المفردات، ط2، (لا،م)، دفتر ناشر الكتاب، 1404هـ، ص613.
3- الفيوميّ، أحمد، المصباح المنير، ص452.
4- سورة التوبة، الآية 30.
5- الطباطبائيّ، محمّد حسين، تفسير الميزان،، ط5، بيروت، الأعلمي، 1983م، ج9، ص243.
6- هكذا وردت في نص العلاّمة الطباطبائيّ، والأولى أن يقال: القديمة.
7- الطباطبائيّ، محمّد حسين، تفسير الميزان، ج9، ص244.
8- سورة المائدة، الآية 17.
9- سورة النساء، الآية 171.
10- الطوسيّ، محمّد، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشيّ)، (لا،ط)، قم، مؤسّسة آل البيت، (لا،ت)، ج2، ص589.
11- الزط قوم من السودان والهند (المجلسيّ، محمّد تقي، روضة المتقين، ج7، ص84).
12- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج7، ص 259-260 (مع الإشارة إلى أنّ هذه الرواية ضعيفة السند).
13- يبدو من الرواية أنّ الرجل الذي يحكي القصّة مقتنع بها.
14- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج25، ص 264.
15- الطوسي، محمّد، اختيار معرفة الرجال، تحقيق مهدي الرجائي، (لا،ط)، قم، مؤسسة آل البيت، 1404هـ، ج2، ص804.
16- سورة النساء، الآية 171.
17- الطبرسيّ، أحمد، الاحتجاج، (لا،ط)، النجف الأشرف، دار النعمان، 1386هـ، ج2، ص233.
18- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج25، ص 279.
19- سورة آل عمران، الآية 49.
20- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج25، ص283.
21- سورة النازعات، الآية 5.
22- الصدوق، محمّد، الاعتقادات في دين الإماميّة، تحقيق عصام عبد السيد، ط2، بيروت، دار المفيد، 1414هـ، ص99.
23- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج25، ص296.
24- الطوسي، محمّد، اختيار معرفة الرجال، ج2، ص 515.
25- الشاهرودي، علي، مستدرك سفينة البحار، تحقيق حسن بن علي النمازي، (لا،ط)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1419هـ، ج7، ص 52.
26- الطوسي، محمّد، اختيار معرفة الرجال، ج2، ص804.
27- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج25، ص 265.
28- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج25، ص346.
29- الطبرسيّ، أحمد، الاحتجاج، ج2، ص233-234.
30- الطبرسي، أحمد، خاتمة المستدرك، ط1، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1416هـ، ج4، ص143.
31- الفضلي، عبد الهادي، أصول الحديث، ط3، بيروت، مؤسسة أمّ القرى، 1421هـ، ص 147.
32- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج25، ص 283.
33- سورة الأنعام، الآية 108.
34- الصدوق، محمّد، عيون أخبار الرضا، (لا،ط)، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1404هـ، ج2، ص 272.
35- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج25، ص 270.
36- المصدر السابق، ج26، ص 2.
37- المصدر السابق، ص 6.
38- المصدر السابق، ج25، ص 279.
39- في المصدر "تكون".
40- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج25، ص 364.
41- أي الوسادة.
42- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج65، ص 78.
43- المصدر السابق، ج66، ص 75.

2013-09-01