هل للأئمة عليه السلام ولاية تكوينيّة، وما الدليل؟
الإمامة والخلافة
"الوِلاية" بكسر الواو، و"الوَلاية" بفتحها، و"الوالي"، و"المولى"، و"الوليّ"، و"الموالاة" وما شابهها لها مادّة واحدة هي (و ل ي)، وقد انتشرت في القرآن الكريم اشتقاقات من هذه المادّة أحصيت
عدد الزوار: 289
قبل الإجابة على هذا السؤال لا بدّ من تحديد معنى الولاية التكوينيّة.
الولاية التكوينيّة في اللغة
1- الولاية
"الوِلاية" بكسر الواو، و"الوَلاية" بفتحها، و"الوالي"، و"المولى"، و"الوليّ"،
و"الموالاة" وما شابهها لها مادّة واحدة هي (و ل ي)، وقد انتشرت في القرآن الكريم
اشتقاقات من هذه المادّة أحصيت بـ 236 كلمة، 124 منها وردت اسمًا، و112 منها وردت
فعلاً.
وأصل معنى "الولاية" هو القرب، بأن يكون شيء إلى جانب شيء آخر بدون فاصل، فحينما
نقول: زيد في الصفّ الأوّل، يليه سامر، يليه عصام، فإنّ المعنى هو قرب الثاني من
الأوّل، والثالث من الثاني، دون وجود فاصل بينهما، وهكذا حينما نكتب: "اقرأ ما
يلي": فإن ما نطلب قراءته لا بدّ أن يكون الأقرب إلى كلمة "يلي" دون فاصل، وعلى هذا
الأساس، فإنّ معنى "الولي" هو الأقرب، فوليُّ الميّت هو أقرب الناس إليه، وكذا فإنّ
"والي" المدينة هو أقرب الناس إلى إدارتها، ولذا سمّيت الدائرة الأقرب إلى الحاكم
في سلطته "ولاية".
وقد لاحظ بعض العلماء في عدد من مشتقّات الولاية أنّه يتضمّن معنى آخر، هو نوع من
السلطة، فوليّ الميّت هو أقرب الناس إليه، وهو أيضًا صاحب الأمر في تجهيزه، وشؤونه
التدبيريّة الأخرى، ووالي المدينة هو أقرب الناس إلى إدارتها، وهو صاحب السلطة في
ذلك.
قال العلاّمة الطباطبائيّ: "وإذا فرضت الولاية – وهي القرب الخاص- في الأمور
المعنويّة كان لازمها أنّ للوليّ ممّن وليه ما ليس لغيره إلاّ بواسطته، فكلّ ما كان
من التصرُّف في شؤون من وليّه ممّا يجوز أن يخلفه فيه غيره، فإنّما يخلفه الوليّ لا
غير، كوليّ الميّت، فإنّ التركة التي كان للميّت أن يتصرّف فيها بالملك، فإنّ
لوارثه الوليّ أن يتصرّف فيها بولاية الوراثة، ووليّ الصغير يتصرّف بولايته في شؤون
الصغير الماليّة بتدبير أمره، ووليّ النصرة له أن يتصرّف في أمر المنصور من حيث
تقويته في الدفاع، والله سبحانه وليّ عباده يدبّر أمرهم في الدنيا والآخرة، لا وليّ
غيره، وهو وليّ المؤمنين في تدبير أمر دينهم بالهداية، والدعوة، والتوفيق، والنصر،
وغير ذلك، والنبيّ وليّ المؤمنين من حيث أنّ له أن يحكم فيهم، ولهم، وعليهم
بالتشريع والقضاء، والحاكم وليّ الناس بالحكم فيهم على مقدار سعة حكومته، وعلى هذا
القياس سائر موارد الولاية، كولاية العتق، والحلف، والجوار، والطلاق، وابن العمّ،
وولاية الحبّ، وولاية العهد، وهكذا، وقوله: ﴿يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ﴾
1 أي يجعلون
أدبارهم تلي جهة الحرب وتدبر أمرها، وقوله ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾2 أي توليّتم عن قبوله،
أي اتخذتم أنفسكم تلي جهة خلاف جهته بالإعراض عنه، أو اتخذتم وجوهكم تلي خلاف جهته
بالإعراض عنه، فالمحصّل من معنى الولاية في موارد استعمالها هو نحو من القرب يوجب
نوعًا من حقّ التصرُّف ومالكيّة التدبير"3.
2- التكوينيّة
إنّ كلمة التكوينيّة مأخوذة من "الكون"، وهو الحدث، "فالكائنة"، أي الحادثة،
وكوَّنه فتكوّن، أي أحدثه فحدث، وعليه فالتكوين هو الإحداث4.
بناءً على ما تقدّم، فإنّ المعنى اللغويّ للولاية التكوينيّة حينما ننسبها للإنسان
مثلاً: هو أنّ للإنسان قربًا خاصًّا، ونوعًا من السُّلطة على إحداث شيء ما.
أي أنّه مسلَّط على نفسه في إحداث ما يريده، وهذا ما يتّفق مع الشعور الوجدانيّ لدى
الإنسان، فهو وجدانًا يعرف أنّ له سلطة على نفسه أن يتكلَّم فيتكلَّم، وأن يمشي
فيمشي، وأن يجلس فيجلس، وهكذا، أي هو ليس بحاجة حينما يريد التكلّم أن يُحرِّك من
الخارج، ولا يشعر أنّه بإدارة مباشرةٍ من الخارج، وبعبارة أخرى: إنّ كلّ إنسان له
ولاية تكوينيّة على نفسه في إحداث ما يريده.
الولاية التكوينيّة في الاصطلاح
لم ترد عبارة "الولاية التكوينيّة" في القرآن الكريم، أو في الأحاديث الشريفة لنبحث
عن تفسير خاص لها في ضوء النصوص الشريفة، وإنّما هي اصطلاح استعمله العلماء، بل ذكر
البعض أنّه لا وجود لهذا المصطلح إلاّ في كلمات المتأخّرين5.
ومن الملاحظ للمتتبّع لأقوال العلماء، الذين تداولوا هذا المصطلح، أنّهم اختلفوا في
تفسيره، لدرجة أنّه إذا قرأنا أو سمعنا عن أحدهم إنكاره للولاية التكوينيّة، وعن
آخر إثباته لها، فإنّ هذا لا يعني كونهما مختلفين، فقد يكون لكلٍّ منهما تفسيرٌ
للولاية التكوينيّة يختلف عن تفسير الآخر، مع اتفاقهما في المضمون.
وبما أنّه ليس الهدف في هذا المقام إحصاء تفسيرات الولاية التكوينيّة المتعدِّدة،
فإنّا نكتفي منها بعرض المعنى الأكثر شهرة من بين التفاسير وهو: ولاية التصرّف في
الكون.
ولاية التصرُّف
معنى ولاية التصرُّف
إنّ المقصود من كون النبيّ أو الإمام له ولاية التصرُّف في التكوين، أي أنّ الله
تعالى أفاض عليه نوعًا من السلطة على إحداث أمورٍ لا تحدث في العادة، كإبراء المرضى
بمجرّد المسح عليهم، وإحياء الموتى، وتسخير الريح لتنقل له ما يريد، وهكذا.
ولتوضيح معنى ولاية التصرُّف هذه نقول: من المسلَّم به إسلاميًّا أنّ ما تقدّم من
أمثلة وغيرها قد جرى للأنبياء، فالنبيّ سليمان عليه السلام كانت له ريح تجري بأمره،
والنبيّ عيسى عليه السلام كان يبرئ الأكمه والأعمى بمجرّد مسح يده عليه، وكذلك كان
يُحيي الموتى، وكان يصنع من الطين شكل طير، ثمّ ينفخ فيه فيكون طيرًا، إلاّ أنّه
حصل اختلاف في تفسير كيفيّة حصول هذه الأمور على رأيين أساسيّين:
الرأي الأوّل: إنّ الذي كان يقوم بهذه الأمور الخارقة هو الله تعالى مباشرة، وليس
النبيّ عليه السلام، فالنبيّ عليه السلام كان يضع يده ويدعو، والله تعالى هو الذي
كان يباشر إحياء الموتى وإبراء الأكمه، وهكذا الحال في تسخير الريح. وقد شبّه بعضهم
هذا الأمر بالحنفيّة، بمعنى أنّ هذا الأمر المخالف للعادة والطبيعة هو كالماء في
الحنفيّة التي يكون فتحها لا بيد الإنسان، بل بيد الله (تعبير مجازيّ) مباشرةً، فهو
تعالى يفتحها حينما يريد، دون أن يجعل نوعًا من السلطة والولاية للنبيّ عليه السلام
على إحداث مثل هذه الأمور، وبالتالي فهذا الرأي ينفي الولاية التكوينيّة. فالنبيّ
عيسى عليه السلام في إحياء الموتى لا يكون تصرُّفه شبيهًا بولايته على نفسه حينما
يمشي، أو يتحدّث، أو يجلس، بل يحتاج أن يتوجّه إلى الله تعالى ليتدخّل بشكل مباشر
في تحقيق تلك الأمور.
الرأي الثاني: إنّ الله تعالى أعطى للأنبياء عليه السلام، وكذا لبعض الأولياء،
ولاية لإحداث الأمور الخارقة، فالنبيّ عيسى عليه السلام يستطيع، بإذن الله الذي
منحه هذه الولاية، أن يحيي الموتى، وأن يبرئ المريض كما هي استطاعته أن يتحدّث،
ويمشي، ويجلس، ويقوم.
فهو عليه السلام له ولاية على إحداث هذا الأمر، ومن القطعيّ أنّ كلّ مجريات هذه
الولاية هي بإذن الله تعالى، ووفق إرادته التي لا يتحرّك النبيّ عليه السلام إلاّ
على وفقها.
نلاحظ فيما تقدَّم أنّ الاختلاف في ولاية التصرُّف التكوينيّة لم ينحصر في أئمّة
أهل البيت عليه السلام، فالنقاش فيها هو بمنحها للإنسان نبيًّا كان أو إمامًا أو
وليًّا آخر، لذا فإنّ الأمثلة التي سوف نتعرّض لها ستكون بدايةً حول ولاية التصرُّف
للأنبياء، ثمّ ننتقل بعدها للحديث عن ولاية التصرُّف للأئمّة المعصومين عليه
السلام.
هل ولاية التصرُّف ممكنة؟
قبل الخوض في الأدلّة المثبتة لولاية التصرُّف في التكوين للأنبياء عليه السلام
والأئمة عليهم السلام، لا بدّ أن نجتاز أمرًا أساسيًّا، ونفرغ عنه، وهو هل هذه
الولاية ممكنة أو مستحيلة؟
من الواضح أنّ الذي يحتاج إلى دليل هو الاستحالة، فكلّ شيء هو ممكن ما لم تثبت
استحالته. والمتأمّل في ولاية التصرُّف يتّضح له أنّه لا دليل على استحالة منحِ
الله تعالى لهذا النحو من الولاية للإنسان، ولا مانع عقليّ منه، بل إنّ مجريات
ولاية التصرُّف التي طرحت في القرآن الكريم، بما أطلق عليه عنوان "المعجزات"، إنّما
هي في مقام الخرق لقانون الطبيعة والعادة، وليسَ في مقام خرق القانون العقليّ، وقد
أوضحنا ذلك في كتاب "يسألونك عن الأنبياء". وعليه فإنّ من ينكر ولاية التصرُّف
ينبغي أن ينحصر إنكاره بثبوتها الخارجيّ، دون أن يصل إلى حدِّ القول باستحالتها،
وذلك لوضوح إمكانها العقليّ كما تقدَّم.
الاستغراب والاستنكار
إنّ إمكان ولاية التصرُّف له تداعيات، منها أنّ الذي يدَّعي وجودها عليه أن يأتي
بدليل على الإثبات، كما أنَّ الذي ينكرها عليه أن يأتي بدليل على النفي، أمَّا
مجرَّد الاستبعاد والاستغراب فلا يصحّ أن يعتمد عليهما في رفض ولاية التصرُّف، فإنّ
العقل الإنسانيّ قاصر عن إدراك الكثير من الحقائق، فكيف يتجرأ على إنكار شيء ممكن
لمجرَّد استبعاده.
وقد حذّر أئمة أهل البيت عليه السلام من اللجوء إلى الإنكار بسبب عدم التحمُّل
النفسيّ بما يُروى بسبب استبعاده، ففي رواية صحيحة السند عن الحذَّاء: سمعت أبا
جعفر عليه السلام يقول: "إن أحبَّ أصحابي إليَّ أورعهم، وأفقههم، وأكتمهم لحديثنا،
وإنّ أسوأهم عندي حالاً، وأمقتهم للذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا، ويروى عنّا، فلم
يقبله اشمأزّ منه، وجحده وكفر من دان به، وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج
وإلينا أسند، فيكون بذلك خارجًا عن ولايتنا"6.
الأدلّة المثبتة لولاية التصرُّف
إنّ ما تقدّم يفيد أنّ البحث في أدلّة ولاية التصرُّف ينحصر في إثبات وقوعها، وليس
في إمكانها، وبالتالي فإنّ المصدر الوحيد لإثبات وقوع هذه الولاية هو النصوص
الواردة. وبناءً عليه نعرض بعض الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة المثبتة لولاية
التصرُّف.
1- قوله تعالى: ﴿قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم
مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ
اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ﴾7.
إنّ هذه الآية صرَّحت بوضوح أنّ الذي يخلق من الطين كهيئة الطير، وينفخ فيه فيكون
طيرًا هو النبيّ عيسى عليه السلام، يبقى الكلام في أنّ هذا الأمر هل يحدث بتدخّل
مباشر من الله تعالى دون أن يكون للنبيّ عيسى عليه السلام ولاية في ذلك، أو يحدث
بما منحه الله من ولاية؟ وبعبارة أخرى: هل يكون الأمر على نحو "الحنفيّة" التي
يفتحها الله مباشرة حينما يريد، أو أنّ النبيّ عيسى عليه السلام له ولاية على ذلك؟
والجواب يتّضح من خلال التأمُّل بالأفعال الواردة في الآية وهي ﴿أَخْلُقُ﴾،
﴿فَأَنفُخُ﴾، ﴿وَأُبْرِىءُ﴾، ﴿وَأُحْيِي﴾، فهي أفعال مضارعة، ومن المعروف أنّ الفعل
المضارع يفيد الاستمرار والتجدُّد، فهناك فرق بين قولك: أنا ساعدت هذا الفقير،
وقولك: أنا أساعد هذا الفقير، فالأوّل دالّ على حصول مساعدة في الماضي، أمّا الثاني
فيدلّ على استمرار هذه المساعدة، وعليه فقوله تعالى: ﴿أَخْلُقُ﴾، وما بعده يدلّ على
أنّ هذا الفعل مستمرّ ومتجدِّد، وهو ما يناسب الولاية لا تلك الفكرة التي تشبِّه
ذلك بالحنفيّة.
أمّا قوله تعالى ﴿بِإِذْنِ اللّهِ﴾، فهو دفع لمحذور اتخاذ عيسى عليه السلام إلهًا
دون الله تعالى، كما قالت النصارى، وإلاّ فإنّ كلّ الأمور هي بإذن الله تعالى.
هذا هو ظاهر الآية، وإرادة معنى آخر منها يكون من المجاز الذي يحتاج إلى قرينة،
نفقدها في المقام.
2- قوله تعالى: ﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ
أَصَابَ﴾8.
إنّ معنى الآية: فذلّلنا لسليمان عليه السلام وطوَّعنا له الريح تجري بأمره بلين
وسهولة على ما يريده9، وهي توضّح بأنّ الريح تجري بأمره أي بأمر سليمان عليه
السلام، و"تجري" فعل مضارع يدلّ على الاستمرار والدوام، وهو ما يفيد أنّ له ولاية
على الريح في إرسالها إلى حيث يريد.
3- قوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا
قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ
بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ *
قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن
يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن
فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾10.
إنّ هذه الآية تفيد أنّ سؤال النبيّ سليمان عليه السلام هو عن القادر على الإتيان
بعرش بلقيس من اليمن إلى الشام، حيث مجلس سليمان عليه السلام، وجواب آصف بن
برخيا11: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ﴾، يدلّ على قدرته على ذلك قبل أن يرتدّ طرف سليمان
عليه السلام، وبالتالي فهو مصداق واضح لهذه الولاية التكوينيّة.
وهذه الآية فيها إضافة جديدة هي عدم اختصاص ولاية التصرُّف التكوينيّة بالأنبياء
عليه السلام، فصاحب الولاية فيها هو آصف بن برخيا وصيّ سليمان عليه السلام.
منطلَق ولاية التصرُّف التكوينيّة
الملاحظ في الآية الأخيرة أنّها عرّفت صاحب ولاية التصُّرف التكوينيّة بـ ﴿الَّذِي
عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ﴾، بدل أن يقول: قال آصف"، أو نحو ذلك، وفي الأدب
العربيّ يعتبر العلماء أنّ وجود الصفة مكان الاسم هو للإشعار بعلِّية الصفة للحدث،
وبالتالي تكون علّة قدرة آصف بن برخيا على الإتيان بعرش بلقيس قبل ارتداد طرف
سليمان عليه السلام إليه، هو أنَّ عنده علم من الكتاب.
وقد أكَّدت بعض الروايات هذا المعنى، فعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنّ
اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفًا كان عند آصف فيها حرف واحد، فتكلّم به،
فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس، حتى تناول السرير بيده، ثمّ عادت الأرض كما
كانت أسرع من طرفة عين..."12.
وفي رواية أخرى عن أبي الحسن صاحب العسكر عليه السلام: "اسم الله الأعظم ثلاثة
وسبعون حرفًا كان عند آصف حرف، فتكلّم به، فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ،
فتناول عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرف عين..."13.
إلى غيرها من الروايات الواردة في المضمون نفسه.
ويبدو من الجمع بني الآية وما وافقها من روايات أنّ المقصود من الكتاب والاسم
الأعظم أمر واحد، وبالتأكيد لا يراد منه القرآن الكريم، لأنّه لم يكن في زمن سليمان
عليه السلام، وعليه فيكون المراد إمّا اللوح المحفوظ، أو الحقيقة القرآنيّة التي
يمثّل القرآن الكريم انعكاسًا لها في قالب الآيات، أو الكتب السماويّة السابقة،
وعلى كلٍّ منها فإنّه يراد من الكتاب والاسم الأعظم هو "علم ربانيٌّ خاص"، هو منطلق
ولاية التصرُّف التكوينيّة.
العلم الخاص وإدراك الكون
إنّ الربط بين العلم الخاصّ وولاية التصرُّف ينسجم مع أطروحة القرآن الكريم التي
تحكي بظاهرها إدراكًا ما للكون، وهو ما يظهر في ما يأتي من آيات:
1- ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن
شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورً﴾14. وظاهرها التسبيح الحقيقيّ، وهو لا بدّ أنّه
ينطلق من الإدراك، بغضّ النظر عن نوعيّة هذا الإدراك.
2- ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾15.
3- ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ﴾16.
4- ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ
إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً﴾17.
5- ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ﴾18.
6- ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا
مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾19.
إلى غيرها من الآيات التي تفيد وجود شعور لدى السموات والأرض ينطلق منه خوف وإشفاق،
أو إدراك لديها ينطلق منها تسبيح، بغضّ النظر عن نوعيّة الشعور والإدراك فيها.
بناءً على ما تقدّم نفهم أكثر معنى أن يكون للإنسان ولاية تصرُّف بالكون، فإنّه
حينما يرزقه الله تعالى علمًا خاصًا يستطيع من خلاله أن يتفاهم مع الكون، فيفهم
عليه ويُفهمه، فإنّ ذلك يشكِّل مدخلاً لولاية الإنسان العالم عليه واستجابة الكون
له.
إذًا إنّ علم سرّ الطبيعة هو مدخل للولاية عليها، وإنّ التقدّم العلميّ الحاصل
اليوم يقرِّب الفكرة أكثر، فالإنسان كلّما غاص في أسرار الطبيعة، وعلم منها مبلغًا
من العلم،كلَّما استطاع أن يقوم بأمور كانت تعدُّ قبل هذه الاكتشافات الحديثة من
العجائب، كنقل الإنسان الصورة والصوت من أدنى الأرض إلى أقصاها بفارق زمنيّ قليل
جدًا لا يُلتفت إليه.
فإذا كان الاكتشاف الصامت أوصل الإنسان إلى هذا، فكيف إذا كان العلم الخاصّ وكشف
سرّ الطبيعة، ولغتها بلسان الغيب هو منطلق الإنسان في علاقته مع الكون!!
الأئمّة عليه السلام لولاية التصرُّف التكوينيّة
ذكرنا سابقًا أنّ المثبت لوجود ولاية التصرُّف لدى أيّ إنسان هو النصوص الشريفة من
القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.
وقد كثرت الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليه السلام التي تثبت لهم ولاية
التصرُّف في الكون، نعرض بعضًا منها بدءً من رواية حامت حول مبدأ ولاية التصرُّف في
قصّة آصف، وهو العلم من الكتاب لتثبت للأئمّة عليه السلام ولاية أوسع بكثير من
ولايته.
1- ورد في الكافي عن سدير قال: كنت أنا، وأبو بصير، ويحيى البزّاز، وداود بن كثير
في مجلس أبي عبد الله عليه السلام، إذ خرج إلينا وهو مغضبٌ، فلمّا أخذ مجلسه قال:
"يا عجبًا لأقوامٍ يزعمون أنّا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلاّ الله عزّ وجلّ، لقد
هممتُ بضرب جاريتي فلانة، فهربت منّي فما علمت في أيّ بيوت الدار هي. قال سدير:
فلمّا أن قام من مجلسه، وصار في منزله، دخلت أنا وأبو بصير وميسِّر، وقلنا له:
جُعلنا فداك، سمعناك وأنت تقول: كذا وكذا، في أمر جاريتك، ونحن نعلم أنّك تعلم
علمًا كثيرًا، ولا ننسبك إلى علم الغيب، فقال عليه السلام: يا سدير، ألم تقرأ
القرآن؟ قلت: بلى قال عليه السلام: فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عزّ وجلّ:
﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن
يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾20، قلت: جعلت فداك، قد قرأته قال عليه السلام: فهل
عرفت الرجل؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب؟ قلت: أخبرني به. قال عليه السلام:
قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر فما يكون ذلك من علم الكتاب. قلت: جعلت فداك، ما
أقلّ هذا، فقال عليه السلام: يا سدير، ما أكثر هذا أن ينسبه الله عزّ وجلّ إلى
العلم الذي أخبرك به. يا سدير، فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عزّ وجلّ أيضًا: ﴿
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾21، قلت: قد قرأته، جعلت
فداك. قال عليه السلام: أفمن عنده علم الكتاب كلّه أفهم أم من عنده علم الكتاب
بعضه. قلت: لا، بل من عنده علم الكتاب كلّه. فأومأ بيده إلى صدره وقال عليه السلام:
علم الكتاب والله كلّه عندنا، علم الكتاب والله كلّه عندنا"22.
2- ورد العديد من الروايات حول الاسم الأعظم، وما أعطى الله تعالى منه لآصف، ولكنّا
لم نعرضها كاملة للمحافظة على ترتيب الأفكار وعدم التداخل، وهنا نعرض واحدة منها
كاملة: ورد في الكافي بسنده عن جابر عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إنّ اسم
الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفًا، وإنّما كان عند آصف منها حرف واحد، فتكلّم به،
فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده، ثمّ عادت الأرض كما
كانت أسرع من طرفة عين، ونحن عندنا من الاسم الأعظم، اثنان وسبعون حرفًا، وحرفٌ
واحدٌ عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله
العليّ العظيم"23.
3- في رواية معتبرة نقلها الشيخ المفيد في الاختصاص عن أبّان الأحمر قال الصادق
عليه السلام: "يا أبّان كيف ينكر الناس قول أمير المؤمنين عليه السلام لمّا قال: لو
شئت لرفعت رجلي هذه، فضربت بها صدر ابن أبي سفيان بالشام، فنكسته عن سريره، ولا
ينكرون تناول آصف وصيّ سليمان عرش بلقيس، وإتيانه سليمان به قبل أن يرتدّ إليه
طرفه؟! أليس نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء عليه السلام ووصيّه عليه
السلام أفضل الأوصياء. أفلا جعلوه كوصيّ سليمان. حكم الله بيننا وبين من جحد حقّنا
وأنكر فضلنا"24. إنَّ ما تقدَّم من أدلّة، إضافة إلى غيرها ممّا لم نذكره، كان هو
خلفيّة قول الإمام الخمينيّ في كتابه الحكومة الإسلاميّة: "إنّ للإمام مقامًا
محمودًا، ودرجةً سامية، وخلافة تكوينيّة تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرّات هذا
الكون"25.
* يسألونك عن الأئمة، الشيخ أكرم بركات.
1- سورة الأحزاب، الآية 15.
2- سورة محمّد، الآية 29.
3- الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، (لا،ط)، قم، منشورات جماعة المدرسين،
(لا،ت)، ج6، ص 12.
4- ابن منظور، محمّد، لسان العرب، ج13، ص363-364.
5- الحائريّ، كاظم، الإمامة وقيادة المجتمع، ط1، قم، باقري، 1416هـ، ص 119.
6- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ط4، طهران، دار الكتب، 1365هـ.ش، ج2، ص 223.
7- سورة آل عمران، الآية 49.
8- سورة ص، الآية 36.
9- انظر: الطباطبائيّ، محمّد حسين، الميزان، (لا،ط)، قم، منشورات جماعة المدرسين،
(لا،ت)، ج17، ص205.
10- سورة النمل، الآيات 38-40.
11- أنظر: ابن ابراهيم، علي، تفسير القمي، ط3، قم، دار الكتاب، 1404هـ، ج2، ص128.
12- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج1، ص 230.
13- المصدر السابق نفسه.
14- سورة الإسراء، الآية 44.
15- سورة النور، الآية 41.
16- سورة الرعد، الآية 13.
17- سورة الأحزاب، الآية 72.
18- سورة سبأ، الآية 10.
19- سورة الحشر، الآية 21.
20- سورة النمل، الآية 40.
21- سورة الرعد، الآية 43.
22- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج1، ص 257.
23- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج1، ص 230.
24- المفيد، محمّد، الاختصاص، علي أكبر الغفاري ومحمود الزرندي، ط2، بيروت، دار
المفيد، 1414هـ، ص212-213.
25- الخمينيّ، روح الله، الحكومة الإسلاميّة، ط2، بيروت، مركز الإمام الخميني،
1429هـ، ص 56.