ما هي حقيقة البداء عند الأئمّة عليه السلام ؟
الإمامة والخلافة
عن الإمام علي عليه السلام: " لا يعزب عنه عدد قطر الماء، ولا نجوم السماء، ولا سوافي الريح في الهواء، ولا دبيب النمل على الصفا، ولا مقيل الذر في الليلة الظلماء. يعلم مساقط الأوراق، وخفي طرف الأحداق"4.
عدد الزوار: 614
علم الله تعالى
نحن نعتقد أن الله كمال مطلق، فهو عالم لا جهل في ساحة قدسه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ
اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء﴾1، ﴿
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ
حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ
الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾2.
﴿ إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمً﴾3.
وعن الإمام علي عليه السلام: " لا يعزب عنه عدد قطر الماء، ولا نجوم السماء، ولا
سوافي الريح في الهواء، ولا دبيب النمل على الصفا، ولا مقيل الذر في الليلة
الظلماء. يعلم مساقط الأوراق، وخفي طرف الأحداق"4.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إن الله نور لا ظلمة فيه، وعلم لا جهل فيه، وحياة
لا موت فيه"5.
وعن الإمام الكاظم عليه السلام: "ولم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق
الأشياء، كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء"6.
روايات البداء وتهمة الشيعة
مع كل الوضوح فيما ورد في القرآن، وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل البيت
عليه السلام اتُّهم الشيعة باعتقادهم أنَّ الله يغيِّر رأيه، فينتقل من جهل إلى
علم.
وسبب هذا الاتهام هو عدم الفهم لروايات عديدة عن أهل البيت عليه السلام تحت عنوان
"البداء" مثل:
ما ورد عن الإمام الباقر أو الصادق عليه السلام:
" ما عبد الله بمثل البداء"7.
وما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام:
- "ما عُظِّم الله عزّ وجلّ بمثل البداء"8.
- "ما تنبأ نبيّ قط حتى يقر لله بخمس: بالبداء والمشيئة..."9.
- "ما بعث الله نبيّاً قط إلا بتحريم الخمر وأن يقرّ له بالبداء"10.
- "لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه"11.
من القطعي المحسوم في مذهب أهل البيت عليه السلام أنّه لا يراد من البداء أنّ الله
تعالى يبدو ويظهر له شيء بعد جهل، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من زعم أن الله
تعالى بدا له في شيء بداء ندامة، فهو عندنا كافر بالله العظيم"12.
لكن ماذا يُراد من البداء الذي له هذه المنزلة العظيمة ؟
إنَّ الجواب مرتبط بعقيدتنا بالقضاء والقدر، فنحن نؤمن أن الله تعالى قدَّر الأمور
وهندسها من بدايتها إلى نهايتها، وتشمل هذه الأمور كلّ الخلق حتى أعمال الناس،
فالله قدَّر كل شيء، فقد قدَّر الله عزَّ وجل أن تسير الأرض حول الشمس، والقمر حول
الأرض، وأن يتعاقب الليل والنهار، كما قدّر تعالى أن يعيش آدم عليه السلام ما عاش،
وأن أعيش أنا، وأن تعيش أنت من سنة كذا، من شهر كذا، من يوم كذا،في الساعة كذا، إلى
سنة، وشهر، ويوم، وساعة، وثانية كذا.
لكن مع هذا الإيمان يأتي سؤال مهم هو:
هل هذا القدر حاكم على إرادة الله تعالى ؟
1- جواب المجبِّرة:
نعم، استنادًا إلى بعض الروايات، منها ما رواه البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: "جفّ القلم بما أنت لاق"13.
ويشرح النووي هذا الحديث: "ويقول الملك الموكّل بالنطفة: "يا ربّ أشقيٌّ أو سعيد،
فيكتبان... ويكتب عمله وأثره، وأجله ورزقه، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد فيها ولا
ينقص"14.
وفي صحيح البخاري: "احتج آدم عليه السلام وموسى عليه السلام فقال له موسى عليه
السلام: يا آدم، أنت أبونا خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم عليه السلام: يا
موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك بيده أتلومني على أمرٍ قدّره الله عليَّ قبل أن
يخلقني بأربعين سنة"15.
- وعن عمران بن حصين: قال رجل: "يا رسول الله أيعرف أهل الجنّة من أهل النار؟ قال:
"نعم. قال: فلم يعمل العاملون؟"16
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "كلٌّ يعمل لما خُلق له أو لما تيسّر له".
هذا السؤال الجريء من هذا الرجل هو إشكال أساسيّ في هذه القضية، لأن الإيمان بالجبر
يوجب اليأس من تغيير الفرد والمجتمع.
من هنا كان الأمويون ينشرون هذه العقيدة، ليبرّروا حكمهم وظلمهم، وحينما كان الناس
يرجعون إلى معاوية أو أعوانه في الضيق الاقتصادي كانوا يتلون قوله تعالى: ﴿ وَإِن
مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ
مَّعْلُومٍ ﴾17.
ومن لطيف ما ورد في الردّ على هذا المنطق هو ما قام به أحنف ابن قيس حينما أجاب
هؤلاء بقوله: "إنّ الله قسّم رزقه بين عباده بالعدل، ولكن حُلتم بينهم وبين
أرزاقهم".
نرجع إلى السؤال: هل القدر حاكم على إرادة الله تعالى ؟
2- جواب الشيعة:
لا، استنادًا إلى العديد من الآيات القرآنية والروايات الشريفة، فمن الآيات قوله
تعالى:
أ- ﴿ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾18.
ب- ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا
بِأَنْفُسِهِمْ ﴾19.
ج- ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ
السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل
لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ﴾20
د-﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم
بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا
كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾21.
هـ-﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لَا يَحْتَسِبُ﴾22.
و-
﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾23.
ومن الروايات الدالة على ذلك والواردة من طرق الشيعة:
أ- عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "الصدقة باليد تدفع ميتة السوء،
وتدفع سبعين نوعًا من أنواع البلاء"24.
ب- عن أمير المؤمنين عليه السلام:" أكثروا الاستغفار، تجلبوا الرزق"25.
ج- عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الدعاء يردّ القضاء، وإن المؤمن ليذنب فيحرم
بذنبه الرزق"26.
د- عن الإمام الباقر عليه السلام:" صلة الأرحام تزكّي الأعمال، وتنمي الأموال،
وتدفع البلوى وتيسِّر الحساب، وتنسئ في الأجل"27.
ومن الروايات الدالّة على ذلك والواردة من طرق أهل السُنَّة:
1- أخرح الحاكم عن ابن عباس: "لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدعاء ما
يشاء من القدر"28.
2- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يردّ القضاء إلاّ الدعاء،
ولا يزيد في العمر إلا البرّ"29.
الخلاصة
خلاصة ما يُفهم من الآيات والنصوص الشريفة أنَّ الله تعالى هندس مصير الإنسان
بهندسة لم يغلق باب التغيير بها، بل أبقى للإنسان هامشاً أن يفعل ما يستنزل من
خلاله تبديلاً في المصير، ففي الهندسة المبدئية قد يكون عمره 40 سنة، ولكنّه إن
تصدَّق قد
يطيل الله تعالى في عمره 10 سنين إضافية، وهكذا يبقى عند الإنسان أملاً بتغيير
مستقبله ومصيره بقدرة الله تعالى وإرادته. وهذا ما عبَّر عنه أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب عليه السلام حينما قام من جانب حائط يكاد أن يسقط، فسأله البعض: أتفرَّ من
قضاء الله؟ فأجاب عليه السلام: "أفر من قضاء الله إلى قدره"30.
وهذا ما يعبّر عنه بالاصطلاح العقائدي بالقضاء المخروم، مقابل القضاء المحتوم الذي
لا يُمكن للإنسان أن يفعل ما يستوجب تغييره.
إنَّ الإيمان بهذا الهامش التغييري من قِبَل الإنسان بإرادته تعالى هو الذي يُسمّى
بعقيدة البداء.
ومن الواضح أنَّ من لا يؤمن بهذا الهامش، من إمكانية تغيير الإنسان نفسه، والمجتمع
يعيش حالة يأس من تبديل حاله، وتطوير نفسه، وترقيّة المجتمع، قد تدفعه إلى الخمول،
بل إلى المسير في سبيل الشر طالما أن كل ذلك مقدَّر من الله تعالى تقديراً قد جفَّ
القلم عنه. من هنا ورد " ما عظم الله عزَّ وجل بمثل البداء"31.
قصّة لطيفة في البداء
عن أبي جعفر عليه السلام قال: بينا داود على نبينا وآله وعليه السلام جالس، وعنده
شاب رثّ الهيئة يكثر الجلوس عنده، ويطيل الصمت، إذ أتاه ملك الموت، فسلم عليه
وأَحَدّ ملك الموت النظر إلى الشاب، فقال داود عليه السلام: نظرتَ إلى هذا ؟ فقال:
نعم، إني أُمرت بقبض روحه إلى سبعة أيام في هذا الموضع، فرحمه داود عليه السلام،
فقال: يا شاب هل لك امرأة ؟ قال: لا، وما تزوجت قط. قال داود عليه السلام: فأتِ
فلانًا (رجلاً كان عظيم القدر في بني إسرائيل)، فقل له: إن داود عليه السلام يأمرك
أن
تزوجني ابنتك، وتدخلها الليلة، وخذ من النفقة ما تحتاج إليه، وكن عندها، فإذا مضت
سبعة أيام، فوافني في هذا الموضع، فمضي الشاب برسالة داود عليه السلام، فزوّجه
الرجل ابنته، وأدخلوها عليه، وأقام عندها سبعة أيام، ثمّ وافى داود عليه السلام يوم
الثامن، فقال له داود عليه السلام: يا شاب، كيف رأيت ما كنت فيه ؟ قال: ما كنت في
نعمة ولا سرور قط أعظم مما كنت فيه، قال داود عليه السلام: اجلس، فجلس وداود ينتظر
أن يقبض روحه، فلما طال قال: انصرف إلى منزلك، فكن مع أهلك، فإذا
كان يوم الثامن فوافني ههنا، فمضى الشاب، ثمّ وافاه يوم الثامن، وجلس عنده، ثمّ
انصرف أسبوعًا آخر، ثمّ أتاه وجلس، فجاء ملك الموت داود عليه السلام، فقال داود
عليه السلام: ألستَ حدثتني بأنك أمرت بقبض روح هذا الشاب إلى سبعة أيام؟ قال:
بلى، فقال عليه السلام: قد مضت ثمانية وثمانية وثمانية! قال: يا داود، إن الله
تعالى رحمه برحمتك له فأخَّر في أجله ثلاثين سنة"32.
استفادات ممّا سبق
1- إنَّ عقيدة البداء بالمعنى المتقدِّم صرَّحت بها روايات أهل السُّنَّة كما
روايات الشيعة، إلا أنّ الاعتراض الوارد من بعض أهل السُّنَّة عن الشيعة هو على ما
فهموه من معنى البداء، وليس على ما يعتقده الشيعة.
2- إنَّ مصطلح البداء عند الشيعة لا يُراد منه أنَّ الله تعالى يبدو له شيئ كان
خافيًا عنه، فإنَّ هذا مخالف لعقيدتهم في علم الله تعالى المطلق، بل المُراد منه
المعنى المتقدِّم.
3- أمَّا لماذا اختير هذا المصطلح دون غيره فهو نظير اختيار القرآن الكريم لمصطلح
المكر والكيد وإطلاقهما على الله تعالى في قوله عزَّ وجل: ﴿وَاللّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ ﴾33.
وقوله عزَّ وجل: ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدً﴾34.
ومن الواضح أنه ليس المُراد من المكر والكيد المعنيين السلبيين المنسبقين إلى أذهان
الناس، لأن أمثال هذه صفات حينما تُطلق على الله تعالى لا بُدَّ من تعشيبها من
الجوانب السلبية، وإطلاقها بالمضمون الكمالي الذي تحمله، وهكذا هو حال مصطلح
البداء.
* يسألونك عن الأئمة، الشيخ أكرم بركات.
1- سورة آل عمران، الآية 5.
2- سورة الأنعام، الآية 59..
3- سورة الأحزاب، الآية 54.
4- ابن أبي طالب، الإمام علي، نهج البلاغة، تحقيق محمّد عبده، ط1، قم، دار الذخائر،
1412هـ، ج2، ص 98.
5- الصدوق، محمّد، التوحيد، (لا،ط)، قم، منشورات جماعة المدرسين، (لا،ت)، ص 138.
6- المصدر السابق، ص 145.
7- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج4، ص 132.
8- الصدوق، محمّد، التوحيد، ص 333.
9- المصدر السابق ص 333.
10- المصدر السابق، ص 334.
11- الكليني، محمّد، الكافي، ج1، ص 148.
12- المازاندارني، محمّد، شرح أصول الكافي، ج6 ص 89.
13- السبحاني، جعفر، الإلهيّات، ط3، بيروت، الدار الإسلامية، 1409هـ، ص 549.
14- النووي، شرح مسلم، (لا،ط)، بيروت، دار الكتاب العربي، 1407هـ، ج16، ص 193.
15- الحسني، هاشم معروف، دراسات في المحدثين والحديث، ط2، بيروت، دار التعارف،
1398هـ، ص 228.
16- السبحاني، جعفر، الإلهيات، ص 549.
17- سورة الحجر، الآية 21.
18- سورة الرعد، الآية 39.
19- سورة الرعد، الآية 11.
20- سورة نوح، الآيات10-12.
21- سورة الأعراف، الآية 96.
22- سورة الطلاق، الآيتان 3،2..
23- سورة الصافات، الآيتان 143-144.
24- الكليني، محمّد، الكافي، ج4، ص 3.
25- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج90، ص 278.
26- المصدر السابق، ص 288.
27- الكليني، محمّد، الكافي، ج2، ص 150.
28- الشوكاني، محمّد، فتح القدير، (لا،ط)، (لا،م)، عالم الكتب، (لا،ت)، ج3، ص 89.
29- المتقي الهندي، علاء الدين، كنز العمال، ج2، ص 67.
30- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 56، ص 3.
31- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج 4، ص 107.
32- المصدر السابق، ص 112.
33- سورة آل عمران، الآية 54. سورة الأنفال، الآية 30.
34- سورة الطارق، الآيتان 15-16.