يتم التحميل...

السعادة والشقاء في رحم الأم

التربية

قال الله تعالى في كتابه العظيم: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا. يتطلب هذا البحث دقة وتعمقاً من الجهتين: العلمية والدينية...

عدد الزوار: 96

قال الله تعالى في كتابه العظيم: ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا(نوح:26-27).

يتطلب هذا البحث دقة وتعمقاً من الجهتين: العلمية والدينية. وللتمهيد إلى صلب الموضوع لا بد من توضيح بعض الأمور التي تتعلق بالبحث. هذا ولا يغيب عن البال أن الاكتشافات العلمية الحديثة ساعدت على فهم بعض الآيات والروايات كثيراً. ومن تلك الموارد موضوعنا اليوم، حيث نأمل أن نتمكن من الاستفادة من التجارب العلمية الحديثة للوصول إلى أسرار بعض الآيات، ونكات بعض الروايات المتعلقة بالموضوع، والآن لنبدأ بذكر المقدمات:

معنى السعادة والشقاء

إن أول نقطة يجب فهمها من الروايات والأحاديث في موضوع السعادة والشقاء وعلاقتهما برحم الأم، هو فهم معنى السعادة والشقاء.

السعادة: حسن الحظ. ويشمل كل ألوان الخير والراحة والرفاه والبركة...

والشقاء: سوء الحظ. ويشمل جميع صنوف الشر والقلق والضيق والشدة...

ومن هنا يظهر شمول كلتا الكلمتين واتساع دائرتيهما لكثير من المعاني ولكن كثيراً من الناس ينتقلون من لفظة (الشقاء) إلى معنى فقدان الإيمان والمعصية فقط. فالشقي عندهم هو المنغمس في الجرائم والمعاصي، في حين أن الجريمة إحدى مراتب الشقاء فقط. وهناك كثير من الأمور لا تعد ذنوباً أو معاصي في عرف الشرع لكنها مع ذلك توجب الشقاء للإنسان. كما تصرح بذلك بعض الروايات، نكتفي بنقل واحدة منها:

قال النبي صلّى الله عليه وآله: "أربع من السعادة وأربع من الشقاوة. فالأربع التي من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب البهي. والأربع التي من الشقاوة: الجار السوء والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء"1.

وبالرغم من أن المسكن الضيق والمركب السوء ليسا من الأمور التي توجب للانسان معصية أو جريمة. فاننا نجد الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله يعدهما من أسباب شقاء الانسان. وإذا كان المركب السوء والمسكن الضيق من شقاوة الرجل فيمكن اعتبار العمى والجنون منها بطريق أولى، فإذا خلق الطفل أعمى في بطن أمه، أو ولد مجنوناً لجنون في أبيه أو حمق في امه... فيمكن القول بأنه كان شقياً في رحم أمه.

قانون الوراثة

أدرك الانسان منذ أمد بعيد، أن الموجود الحي ينقل كثيراً من الصفات والخصائص إلى الأجيال التي تليه، فالجيل اللاحق يكتسب صفات الجيل السابق. فبذرة الزهرة تحفظ في نفسها خصائص الساق والورقة والزهرة والألوان الطبيعية لها، وبعد الانبات تأخذ بإظهار تلك الخصائص واحدة تلو الأخرى.

إن بذرة المشمش تشتمل على جميع الصفات المائزة للشجرة التي وجدت منها، فعندما تزرع هذه البذرة، وتنبت، وتأخذ بالنمو تظهر تلك الصفات تدريجياً. وهكذا فالقطة الصغيرة تشبه أبويها في هيكلها وشعرها ومخالبها.

وترث صفات أسلافها. وكذلك الطفل الافريقي فهو يشبه أبواه في سواد البشرة وتجعد الشعر، ووضع الأنف ولون العيون في حين أن الطفل الأوروبي يرث المميزات التي يختص بها العنصر الذي ينتمي إليه أبواه من لون البشرة والعيون والشعر ووضع الأنف وما شاكل ذلك.

وبصورة موجزة نقول: إن قانون الوراثة من القوانين المهمة في حياة الموجودات الحية. وهذا القانون هو الذي يكفل للنبات والحيوان والانسان بقاء صورها النوعية الخاصة بها... وعلى هذا الأساس يكتسب الأبناء صفات الآباء من دون حاجة إلى أي نشاط إرادي منهم.

عامل الوراثة

حققت العلوم التجريبية انتصارات رائعة في مختلف مظاهر الطبيعة. وبذلك كشفت اللثام عن كثير من الحقائق التي كانت مجهولة لدى السابقين ولقد ساير علم الأجنة والبحث عن الخلية التقدم العلمي في المجالات الأخرى في تكامله وتوسعه يوماً بعد يوم.

لقد استطاع العلماء أن يفحصوا الموجودات الصغيرة بواسطة أجهزة قوية ومكرسكوبات (مجاهر) دقيقة، توصلوا أخيراً إلى أن منشأ ظهور الموجود الحي هو وحدة صغيرة جداً تسمى "الخلية"، وهذه تتكامل تحت شروط معينة، وتظهر بصورة حشرة أو حيوان أو إنسان. إن اكتشاف هذا السر الدفين عقد قانون الوراثة أكثر، وأدى إلى توسع البحوث فيه والتساؤل عن أسرار هذه الخلية وكيفية تأثير عوامل الوراثة فيها وأين تكمن؟.

"لقد صرف علماء الحياة وقتاً كثيراً خلف الميكرسكوبات في البحث عن أسرار الخلية. فإن المسألة كانت محاطة بمشاكل عديدة. فهم كانوا يواجهون الخلية من جهة وكيف أن هذا العضو المادي يحتفظ بخواصه الفيزياوية والكيمياوية، ومن جهة أخرى كانوا يصطدمون بقوانين الوراثة التي أخذت تتضح حسب معادلات رياضية دقيقة تبعاً لقانون (مندل)".

"فأين يكمن عامل الوراثة؟ وفي أي جزء من الخلية؟ وعلى أي الأعضاء يقع عبء هذه الظاهرة؟ أي جزء من (البروتوبلازم) وأي جانب من (النواة) يجعل الطفل يرث شكل أنف أمه وعيني أبيه. والصفة الفلانية من أجداده؟!"2.

وبعد الجهود العظيمة والتتبع الدقيق توصل العلماء إلى أن في الخلية نواة بيضية الشكل ذات جدار مرن، توجد في داخلها أجسام صغيرة تظهر عند انقسام الخلية، ولقد أسموها بـ (الكروموسومات).

"ولقد توصل كثير من علماء الحياة إلى معرفة أعدادها وأثبتوا أن كل خلية من خلايا جسم الانسان تحوي 48 كروموسوماً، وخلية الفأرة 40، والذبابة 12، والحمص 12، والطماطم 24، والنحلة 32... ألخ"3. وهنا يلاحظ أن عدد هذه الكروموسومات زوجي في كل خلية، فكروموسومات خلية الانسان 24 زوجاً، والفأرة 20 زوجاً، والذبابة 6 أزواج، وهكذا... فهذه تنقسم عند تكوين الخلايا التناسلية في الأحياء إلى قسمين لكي لا يتعاظم عددها بل يبقى ثابتاً في كل نوع. لأن بقاءها على حالها يؤدي إلى تضاعف عددها لاجتماع الخلايا الذكرية والأنثوية، وهكذا تزداد في كل مرة إلا أن انقسامها يجعل عددها ثابتاً. وهذا الانقسام يسمى بالانقسام الخيطي).

ولقد خطا العلماء في تحقيقاتهم العلمية في هذا المضمار خطوة أخرى، فتوصلوا إلى أن في (الكروموسومات) أجساماً صغيرة جداً أطلقوا عليها إسم (الجينات)، وأثبتوا أن هذه الأجسام هي الناقلة للصفات الوراثية في الحقيقة.

فالجينات هي التي تؤثر في انتقال صفات الشعر والبشرة ووضع الأنف والشفتين وغير ذلك من الصفات من الآباء والأمهات إلى الأولاد.

"ولقد أثبت علم الوراثة الحديث، أن الصفات الوراثية تنتقل بواسطة الكروموسومات وتتوزع توزيعاً خاصاً في الخلايا التناسلية وعليه فإن لهذه الكروموسومات أجزاء صغيرة جداً يبلغ عددها العشرات والمئات تسمى بـ (الجينات)، وهي تكون العوامل الوراثية. لقد توصلوا إلى وضع هذه الجينات في نوع من الذباب اسمه (دروزوفيل) وعينوا مراكز تلك الجينات بالنسبة إلى الكروموسومات وعرفوا أبعادها..."4.

"إن الصفات الوراثية ترتبط بعوامل معينة تسمى بـ (الجينات) وإن عددها كثير جداً. هذا ولا تخلو الجينات من تأثير على بعضها البعض. فقد يرتبط تأثير واحد بعدة جينات بمعنى أن كلاً منها ينقل جزء معيناً من تلك الخواص والصفات..."5.

الوراثة قبل تطورها
لم تكن البشرية تجهل قانون الوراثة تماماً فيما مضى، بل كانوا يجهلون خصوصياتها، إن علماء الماضي كانوا يعلمون أن في بذرة الزهرة ونواة الشجرة ونطفة الانسان والحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة.

إن ما اكتشفه علماء الوراثة اليوم، وتوصلوا إليه بأبحاثهم الدقيقة من وجود موجودات صغيرة داخل الكروموسومات تنقل الصفات الوراثية والتي أسموها (الجينات) ليس أمراً جديداً كل الجدة. فالرسول الأعظم والأئمة الطاهرون عليهم السلام الذين كانوا يكشفون الحقائق بنور الوحي والالهام لم يغفلوا أمر هذا القانون الدقيق. بل أشير إليه في بعض النصوص وأطلق على عامل الورائة فيها اسم (العرق) وبعبارة أوضح: فإن المعنى الذي يستفيده علماء الوراثة اليوم من كلمة (الجينة) هو نفس المعنى الذي استفادته الأخبار من كلمة (العِرق) وعلى سبيل المثال نذكر بعض تلك الروايات.

1- عن النبي صلّى الله عليه وآله: "أنظر في أي شيء تضع ولدك، فإن العِرق دساس"6. وحينما نراجع المعاجم اللغوية في معنى كلمة (دساس) نجد أن بعضها ـ كالمنجد ـ يعلق على ذلك بالعبارة التالية: "العرق دساس أي: أن أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء"7.

فهذا الحديث يتحدث عن قانون الوراثة بصراحة. ويعبر عن العامل فيها بالعِرق. فالنبي صلّى الله عليه وآله يوصي أصحابه بألا يغفلوا عن قانون الوراثة بل يفحصوا عن التربة الصالحة التي يريدون أن يبذروا فيها، لكي لا يرث الأولاد الصفات الذميمة.

2- عن الامام أمير المؤمنين عليه السلام: "حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق"8. وهذا الحديث يثبت إمكان اكتشاف الطهارة العائلية للفرد من السجايا الفاضلة عنده.

3- وهذا محمد بن الحنفية ابن الامام علي عليه السلام كان حامل اللواء في حرب الجمل، فأمره علي بالهجوم، فأجهز على العدو، لكن ضربات الأسنة ورشقات السهام منعته من التقدم فتوقف قليلاً...

وسرعان ما وصل إليه الامام وقال له: "إحمل بين الأسنة" فتقدم قليلاً ثم توقف ثانية، فتأثر الامام من ضعف ابنه بشدة فاقترب منه و"... ضربه بقائم سيفه وقال: أدركك عرق من أمك"9.

فهنا يثبت الامام عليه السلام أن الجبن الذي ظهر واضحاً في ابنه محمد ليس موروثاً منه عليه السلام لأنه لم يعرف للجبن معنى قط، فلا بد وأن يكون من أمه، لأنها لم تكن من الفضيلة بدرجة تكون معها بمنزلة الصديقة الزهراء عليها السلام.

الشذوذ عن قانون الوراثة

وبالرغم من أن قانون الوراثة قانون ثابت وعام. وأن انتقال الصفات الوراثية من الآباء والأمهات إلى الأبناء أمر مسلم به عند علماء الوراثة فإن هناك ظواهر تثبت شذوذ الطبيعة عن هذا القانون، ولقد أثبتت التحقيقات العلمية أنواعاً من هذا الشذوذ في كثير من الفطريات والأعشاب والأزهار والأشجار والحشرات والحيوانات البرية والمائية والطيور وحتى في البشر.

لقد أثبتت التجارب أن هذه الطفرة الحاصلة في بعض الصفات الوراثية قد تصبح وراثية فتنتقل إلى الأجيال اللاحقة، بينما تبقى في بعض الحالات جامدة لا تتعدى الأجيال التي تأثرت بهذه الطفرة.

إن هذه الطفرة أو الشذوذ عن قانون الوراثة يمكن أن يعزى إلى سببين رئيسين: أحدهما: التغيرات الحاصلة في وضع (الجينات) و(الكروموسومات) الموجودة في الخلية الحية. وثانيهما: وراثة الصفات الموجودة في الأجداد والأسلاف البعيدين وظهور بعض الصفات التي كانت مضمرة في الآباء.

والآن لنستعرض هذين العاملين بشيء من الاختصار:

1- التغيرات الحاصلة في وضع الجينات:

"يجب أن لا يغيب عن البال أنه قد تظهر بعض الخواص الوراثية تبعاً للبيئة، وعلى العكس فقد تختفي بعض الصفات في أحد الأجيال وتقف نهائيا. وقد تستمر الصفات الحادثة في الانتقال من جيل إلى جيل. هذه العملية تسمى بالطفرة، والتي لم يتوصل بعد إلى معرفة عللها الواقعية. وعليه فمن الخواص الأصلية للطفرة هي قبليتها للتوارث، ويستنتج من هذا أنه عند حصول نقصان في بعض الجينات أو الكروموسومات في الخلايا التناسلية، تحصل تغيرات مهمة في الأجيال اللاحقة من حيث بناء الجسم. ولقد بقي العلماء مقتصرين على ملاحظة الطفرة التلقائية (الذاتية) لمدة. ولكن مولر استطاع في سنة 1927 أن يحدث هذه الطفرة تجريبياً بواسطة توجيه بعض الأشعة على الخلايا التناسلية ثم جاء راديوم فاستطاع أن يجري تجارب دقيقة على تلك الخلايا بتأثير الأشعة السينية"10.

وكثيراً ما نشاهد طفلاً أشهب العينين، أشقر الشعر، أبيض البشرة ذا هيكل غربي تماماً في حين أن أبويه يملكان عيوناً سوداً، وشعراً أسود، وبشرة سمراء، وهيكلاً شرقياً تماماً. إن هذه التغيرات التي تخالف السير الطبيعي لقانون الوراثة يمكن أن تستند إلى التغيرات الأولية والفجائية للجينات. وهذا التغير يوجد في النبات والحيوان والانسان على السواء. وكثيراً ما يقع هذا التغير حيث يؤدي إلى اختلاف العناصر ومنشأ هذا كله راجع إلى الطفرة. ولكن العلوم البشرية لم تتوصل بعد إلى العلل الواقعية لأمثال هذه الطفرات الحاصلة، اللهم إلا مجرد بعض النظريات والاحتمالات الفارغة. "من المحتمل أن تكون الطفرات التلقائية التي تظهر من دون علة واضحة ناشئة من تأثير بعض الأشعة الطبيعية كاشعاعات الأرض المتصلة بالقوة الناقلة لأمواج الراديو في الترية، أو إشعاعات الهواء الناشئة من الشمس أو إشعاعات ما وراء السدم والمجرات..."11.

2- الوراثة عن الأجيال البعيدة

كان الفرض الأول يتضمن ظهور علل في الطبيعة تبعث على التغيرات الابتدائية للجينات، وظهور صفات جديدة من دون سابقة ما، ولكن الفرض الثاني في الموضوع هو وجود الجينات الصانعة للصفات الجديدة في خلايا الأجيال السابقة بصورة مضمرة، وظهورها عند حصول الشروط المساعدة لها.

"إذا أخذنا فأرتين إحداهما بيضاء والأخرى رمادية وزاوجنا بينهما، فالجيل الناشىء منها يكون رمادي اللون هجيني. وهذا يدلنا على أن لبعض الألوان خاصية الغلبة، ولبعضها خاصية المغلوبية. فإذا لقحنا الفئران الناتجة من الجيل الأول فيما بينها كان الجيل الثاني على ثلاثة أنواع: ـ رمادي نقي (غالب) في ربع الحالات ورمادي هجيني في نصف الحالات، وأبيض نقي (مغلوب) في ربع الحالات، ومن هنا نستنتج أن اللون الأبيض الذي اختفى في الجيل الأول لم يندثر تماماً بل ظهر في الجيل الثاني بنسبة 1|3 عند تلقيح فأرتين رماديتين هجينيتين"12.

"يمكن تمييز المجرم الذي نشأ على الاجرام من صغره عن غيره في علم النفس بأنه يشبه الانسان القديم في اختلال تركيب الوجه أو الجمجمة. واندفاع الجبهة إلى الأعلى وحدة الأذن وعدم التصاقها تماماً. إن ظهور هذه العلامات ناتج من الوراثة والأخذ من الأجداد، ولذلك فمن السهل ملاحظة غرائز الانسان القديمه في هؤلاء الأفراد. كما يمكن مشاهدة صفات الحيوانات القديمة المندثرة في بعض الحيوانات الحاضرة بلا فرق"13. هذا هو رأي علماء القانون الذين ينتمون إلى (المدرسة الوضعية). إذ ترى هذه المدرسة في شخص المجرم والصفات الوراثية التي تلقاها من أسلافه العامل الحاسم في تقرير مصيره، من هؤلاء (لو مبروزو)، بينما تبرز (النظرية الاجتماعية) في هذه المدرسة أهمية الأسباب الاجتماعية المتصلة ببيئة الجرم. ومن دعاتها (فيري) و(جاروفالو)).

الصفات المختفية

ومن السهولة بمكان ان نستنتج من هاتين الفقرتين: أن الحيوان أو الانسان قد يرث من أبويه أو أجداده البعيدين صفات كانت مختفية فيهم ولكن توفر بعض الشروط المناسبة والبيئة الخاصة أدى إلى ظهور تلك الصفات في الأجيال اللاحقة. إن العلماء اليوم يربطون بين الانسان الحالي وأجداده الماضين بالجينات الناقلة للصفات الوراثية ربطاً دقيقاً ومعقداً في نفس الوقت.

"يمتد الانسان في الزمن مثلما يمتد في الفراغ إلى ما وراء حدود جسمه... وحدوده الزمنية ليست أكثر دقة ولا ثباتاً من حدوده الاتساعية. فهو مرتبط بالماضي والمستقبل، على الرغم من أن ذاته لا تمتد خارج الحاضر... وتأتي فرديتنا كما نعلم إلى الوجود حينما يدخل الحيمن في البويضة. ولكن عناصر الذات تكون موجودة قبل هذه اللحظة، ومبعثرة في أنسجة أبوينا وأجدادنا وأسلافنا البعيدين جداً. لأننا مصنوعون من مواد آبائنا وأمهاتنا الخلوية. وتتوقف في الماضي على حالة عضوية لا تتحلل... وتحمل في داخل أنفسنا قطعاً ضئيلة لا عداد لها من أجسام أسلافنا... وما صفاتنا ونقائصنا إلا إمتداد لنقائصهم وصفاتهم..."14.

"إن أساس تكوين أنسجة الانسان مسألة يكتنفها الغموض، إذ أننا لا نعرف كيف جمعت (جينات) أبويه وأجداده في البويضة التي نشأ هو منها، كما نجهل إذا كانت ذرات نووية معينة من أحد الأسلاف البعيدين المنسيين غير موجودة فيه. أو إذا كانت تغييرات اختيارية في (الجينات) قد لا تتسبب في ظهور بعض الصفات غير المتوقعة. فقد يحدث أحياناً أن يبدي أحد الأطفال الذين عرفت ميول أسلافهم لعدة أجيال، إتجاهات جديدة وغير متوقعة"15.

الاعجاز العلمي للرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله

وبعد أن تطرقنا لذكر بعض الأسس الممهدة لقانون الوارثة وبالنظر إلى التحقيقات العلمية الدقيقة التي توصل إليها علماء الوراثة في العصر الحاضر، يتضح جلياً مدى عمق بعض الأحاديث المروية عن النبي صلّى الله عليه وآله نكتفي بذكر حديثين يتعلقان بمورد واحد أو موردين متشابهين. وهذان الحديثان يعتبران من المعاجز العلمية للنبي الكريم، ولولا الاكتشافات الحديثة لما اتضح معناهما. لقد توصل علماء البشر طوال سنين عديدة وبعد جهود عظيمة صرفوها ليل نهار لادراك بعض الحقائق والوصول إلى أسرار دقيقة. لقد فتحت هذه التحقيقات العلمية باب فهم بعض الآيات والروايات الغامضة مما أدى إلى معرفة عظمة شخصية الرسول الأعظم الذي كان يتكلم بلسان الوحي، ويرى بنور الالهام.

الحديث الأول:
"عن أبي جعفر عليه السلام، قال: أتى رجل من الأنصار رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: هذه ابنة عمي وإمرأتي، لا أعلم منها إلا خيراً، وقد أتتني بولد شديد السواد، منتشر المنخرين جعد قطط، أفطس الأنف، لا أعرف شبهه في أخوالي ولا في أجدادي. فقال لامرأته: ما تقولين؟ قالت لا والذي بعثك بالحق نبياً ما أقعدت مقعده مني ـ منذ ملكني ـ أحداً غيره قال: فنكس رسول الله رأسه ملياً، ثم رفع بصره إلى السماء ثم أقبل على الرجل فقال: يا هذا إنه ليس من أحد إلا بينه وبين آدم تسعة وتسعون عرقاً كلها تضرب في النسب، فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العروق وتسأل الله الشبه لها. فهذا من تلك العروق التي لم تدركها أجدادك ولا أجداد أجدادك خذي إليك إبنك. فقالت المرأة: فرجت عني يا رسول الله"16.

الحديث الثاني:

"عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي عليه السلام، قال: أقبل رجل من الأنصار إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله هذه بنت عمي وأنا فلان إبن فلان... حتى عد عشرة آباء وهي بنت فلان... حتى عد عشرة آباء. ليس في حسبي ولا حسبها حبشي، وإنها وضعت هذا الحبشي، فأطرق رسول الله طويلاً ثم رفع رأسه، فقال: إن لك تسعة وتسعين عرقاً ولها تسعة وتسعين عرقاً، فإذا اشتملت إضطربت العروق وسأل الله عز وجل كل عرِق منها أن يذهب الشبه إليه، قم فانه ولدك ولم يأتك إلا من عرق منك أو عرق منها، قال: فقام الرجل وأخذ بيد إمرأته وإزداد بها وبولدها عجباً"17.

إن خلاصة ما توصل إليه علماء الوراثة في العصر الحديث بالنسبة إلى انتقال صفات الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة تنحصر في جملة أمور مذكورة كلها في هذين الحديثين.

1- إن عوامل الوراثة ذرات صغيرة تسمى (الجينات). وهي توجد في الخلية التناسلية من الأبوين أو الأجداد السابقين.

ولقد سبق وأن أشرنا في المقدمة الرابعة من البحث أن الروايات تسمي عامل الوراثة بـ (العرق) الذي ورد التصريح به في الحديثين كليهما.

2- يرى العلماء أن عدد الجينات في الخلية التناسلية كثيراً نوعاً ما ومن خلال نقلنا لبعض النصوص ظهر أنها تبلغ العشرات والمئات ومع ذلك فانهم لم يتوصلوا إلى إثبات أعدادها بصورة قطعية.

بينما نجد الحديثين المنقولين يصرحان بأن عدد الأعراق هو 99، فقد يكون المراد منها هو الاعراق الصانعة للصفات العنصرية فقط كلون البشرة، ولون الشعر وتجعده، ولون العين وغير ذلك من الصفات. وقد يكون التعبير عن الـ 99 للدلالة على الكثرة من دون الالتفات إلى العدد نفسه، كما ورد في القرآن الكريم بشأن عدم جدوى استغفار النبي صلّى الله عليه وآله للمنافقين: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ(التوبة:80). فالمعنى: إن تستغفر لهم كثيراً، لا عدد السبعين فقط كي يكون معناه أنك إذا استغفرت لهم إحدى وسبعين مرة فان الله يغفر لهم !. فالخلاصة أن العلم الحديث وافق الحديث النبوي الشريف في كثرة عدد الأعراق.

3- لا يحصر علماء الوراثة اليوم قابلية الوراثة في الأبناء عن آبائهم القريبين فقط، بل يرون أنه قد يرث الولد صفات أجداده البعيدين وحتى الانسان القديم.

وكذلك الحديث الذي نقلناه فانه كان يرى قابلية الوراثة في الانسان عن أجداده السابقين وحتى الانسان الأول (أبو البشر آدم) كما ورد التصريح به في رواية عن الامام الصادق عليه السلام:

"إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً جمع كل صورة بينه وبين آدم. ثم خلقه على صورة إحداهن. فلا يقولن أحد لولده: هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئاً من آبائي"18.

إن جميع الصور والصفات القابلة للتوارث في الآباء والأجداد حتى أبي البشر أدم يمكن أن تدخل في بناء صورة الانسان الذي ثبتت خليته التناسلية في الرحم. وبما أن البشر يجهلون المدى الواسع لقانون الوراثة وقد كان يصادف أن يخرج الولد على غير صورة أبويه فكان يؤدي ذلك إلى أن يشك الرجل في زوجته باحتمال أن الولد من غيره، نجد الامام الصادق عليه السلام يحذر بعض الرجال من أن يقولوا: إن الولد لا يشبهني ولا يشبه آبائي لأنه قد يكون آخذاً صفاته من أجداده البعيدين جداً.

4- يرى علماء الوراثة أن الجينات الناقلة للصفات الوراثية توجد في نواة الخلية الذكرية والأنثية على السواء. وقد يستند التغير الفجائي في تلك الصفات إلى أحدهما. وكذلك حكم النبي صلى الله عليه وآله حيث قال للأنصاري: "ولم يأتك إلا من عرق منك أو عرق منها".

إنه لم يمض على الاكتشافات العلمية الحديثة في عالم الوراثة واكتناه الأسرار الدقيقة والرموز المعضلة للجينات والكروموسومات أكثر من قرن واحد، بينما نجد أن كلام النبي صلى الله عليه وآله في هذا الموضوع يطوي قرنه الرابع عشر. فنبي الاسلام أكثر من قرن واحد،بينما نجد ان كلام النبي صلّى الله عليه وآله في هذا الموضوع يطوي قرنه الرابع عشر.فنبي الاسلام العظيم أخبر عن تلك الحقائق بنور الوحي المبين.

وهنا لا بأس من الالتفات إلى نكتة لطيفة، وهي أن الأنصاري حين سأل النبي صلى الله عليه وآله توقف النبي صلى الله عليه وآله في جواب قليلاً ولم يجب بسرعة، فما السر في ذلك؟!.

هناك حديث آخر يوضح الأمر جلياً، ويجيب على هذا السؤال: "إن يهودياً سأل النبي صلى الله عليه وآله مسألة فمكث النبي ساعة ثم أجاب عنها، فقال يهودي: ولم توقفت فيما علمت؟ فقال صلى الله عليه وآله: توقيراً للحكمة"19. فكما أنه يجب توقير الحكماء والعلماء يجب توقير أقوالهم الحكمية أيضاً. وإن لأسلوب إلقاء الكلام دخلاً كبيراً في التأثير على نفس السامع، فالكلام مهما كان عميقاً لو ألقي بسرعة وعجلة لا يؤثر التأثير المطلوب، بعكس ما إذا ألقي بتأنٍ واتزان، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله في الجواب على مشكلة الزوج والزوجة بالنسبة إلى ولدهما الذي لم يكن يشبههما إذ سكت قليلاً توقيراً لتلك الحكمة العظيمة.

5- إن الصفات التي لها قابلية الانتقال من الآباء إلى الأبناء عديدة مثل: الجنون والحمق، لون البشرة، لون العين، بناء الوجه والأنف، لون الشعر، والخصائص المرتبطة به وغير ذلك. ولكن العلم الحديث لم يتوصل بعد إلى تحديدها تماماً.

العوامل المساعدة

"... تتنقل أمراض معينة كالسرطان والسل... ألخ من الآباء إلى الأبناء ولكن كاستعداد فقط، وقد تعوق أحوال النمو ظهور هذه الأمراض أو تساعد على تحققها"20.

وكذلك السجايا الخلقية والصفات الحميدة أو الصفات الرذيلة للاباء والأمهات تهيء استعداداً في الأولاد، فالاباء والأمهات الذين يمتازون بصفات الشجاعة والكرم والتضحية والخدمة، يخلفون أبناء ذوي فضيلة وإباء وكرم. وعلى العكس من ذلك، فإن الأسر المعروفة بالبخل والجبن والأنانية والحمق لا يخلفون في الأغلب إلا أولاداً حقراء لا وزن لهم في المجتمع.

ولا تقتصر هذه القاعدة التي ذكرناها على الانسان، بل تسري في الحيوانات أيضاً، فهناك عناصر معينة من الخيول تمتاز على غيرها بصفات خاصة. وكذلك الحمام فهناك بعض الفصائل المعينة فيه لها قابلية التربية والاستعداد للقيام ببعض الأعمال والخدمات.

سأل المأمون العباسي بعض خواصه ومحارمه يوماً عن سبب ما يلاقيه من جفاء وخيانة وقلة إنصاف من بعض أصحابه وأقاربه الذين كان قد قلدهم مناصب عالية ورتب مهمة في الدولة، في حين أن المفروض أن يقابلوا إحسانه بالإحسان لا الاساءة، فقال له أحدهم: إن المعنيين بأمر الحمام الزاجل والمهتمين بتربيته يتحققون عن أصله وفصيله الذي ينتمي إليه وعندما يطمئنون إلى عراقة نسبه يهتمون بتربيته كثيراً ويجنون من ذلك فوائد كثيرة... "وأنت يا أمير المؤمنين تأخذ أقواماً من غير أصول ولا تدريج، فتبلغ بهم الغايات فلا يكون منهم ما تؤثره"21.

فمن الطبيعي أن لا يكون الأفراد المختارون لاشغال المناصب من دون امتحان ولا نظر في أصولهم وأحسابهم وأنسابهم، على حالة مرضية من حيث الاخلاص والأمانة والوفاء...

إن الاسلام يرى أن في سلوك الآباء والأمهات تأثيراً كبيراً على سلوك أبنائهم الذين يرثون صفاتهم الصالحة أو الطالحة، ولذلك نجد القرآن الكريم يحكي على لسان نوح هذه الحقيقة الناصعة حيث يقول بعد أن يئس من هداية قومه طيلة 900 عام:

﴿
رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا(نوح:26-27). هذا وتشير الآية إلى عاملي الوراثة والمحيط في التأثير على سلوك المجتمع، فإن الكافرين إما أن يفسدوا البيئة، أو يخلفوا أولاداً طالحين).

ولقد رأينا كيف أن الامام أمير المؤمنين عليه السلام يخاطب ابنه محمد بن الحنفية حينما جبن عن التقدم "أدركك عرق من أمك".

الشرف الموروث

يقول الامام علي بن أبي طالب عليه السلام في الفضائل العائلية: "إذا كرم أصل الرجل كرم مغيبه ومحضره"22.

فمن كان ينتمي إلى نسب عريق في الفضائل كان ملازماً للصفات الخيرة في حضوره وغيابه وذهابه وإيابه.

وكذلك قال عليه السلام: "عليكم في قضاء حوائجكم بكرام الأنفس والأصول، تنجح لكم عندهم من غير مطال ولا من"23. ومن هنا يعلم أن الشرف العائلي في الأفراد يجعلهم يقضون حوائج الناس من دون ان يحملوهم مناً أو يتماهلوا في ادائها.

وروي عنه عليه السلام أيضاً: "عليكم في طلب الحوائج بشراف النفوس ذوي الأصول الطيبة، فإنها عندهم أقضى، وهي لديهم أزكى"24.

كما يقول في مورد آخر: "حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق"25 فيستكشف من حسن أخلاق الانسان شرافة طباع عائلته وكرم نفوسهم.

وكقاعدة عامة يمكن أن نقول: إنه يجب البحث عن الأفراد الشرفاء من بين العوائل الشريفة والعريقة، فالأسر التي عرفت طوال سنين متمادية بالطهارة والتقوى، والتي خرجت من جميع الامتحانات في الحياة بنجاح باهر، لا بد وأن يبرز من بينها رجال شجعان يجاهدون في الصفوف الأولى دائماً (يتضح هذا جلياً في اختيار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لفاطمة الكلابية (أم البنين) رضوان الله عليها بعد وفاة ابنة عمه الصديقة الزهراء عليها السلام، إذ قال عليه السلام لأخيه عقيل ـ وكان عارفاً بالأنساب: "أخطب لي امرأة ولدتها الفحولة من العرب لأرزق منها ولداً يكون عوناً لولدي الحسين يوم عاشوراء... الخ "فإن الإمام ينظر إلى شجاعة الأسرة التي يريد أن يخطب منها زوجته لتنجب له ولداً شجاعاً)، وكرام يمدون يد المعونة إلى الفقراء في أوقات الأزمة، ويقدمون ثروتهم بكل خلوص وارتياح للمحتاجين، فيسلون بذلك قلوب المصابين ويكونون آباء عطوفين لليتامى، تملأ قلوبهم الرحمة والشفقة والخير والمحبة للناس.

الأسر المنحطة

وعلى العكس من هؤلاء نجد الأسر المنحطة التي لا تفهم معنى للشجاعة، ولا توجد كلمة الكرم والعفو في قواميسهم، والذين لا يفكرون في شيء غير شهواتهم الدنيئة وأغراضهم الشخصية، تملأ قلوبهم الأنانية والاثرة، ولا يخلفون إلا أولاداً سافلين منحطين.

ولهذا نجد النبي صلّى الله عليه وآله يحذر المسلمين ـ في موضوع الزواج ـ من اختيار الزوجة التي تنتمي إلى أسر منحطة سافلة مهما كانت جميلة فيقول: "إياكم وخضراء الدمن. قيل: يا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت سوء"26.

وخضراء الدمن عبارة عن الخضرة التي تنشأ من انبات بعض الحشائش على قطعة من الأرض مليئة بالروث فيتراءى للناظر أنها أعشاب طيبة الرائحة، لكن النظر إلى أصول هذه الحشائش يكشف للناظر وجود الروث تحتها. فالمرأة الحسناء التي تنتمي إلى أسرة منحطة شأنها شأن هذه الحشائش التي ظاهرها جميل وباطنها خبيث).

ومن خلال العهد الذي بعث به الامام أمير المؤمنين عليه السلام إلى مالك الأشتر النخعي رضوان الله عليه حينما جعله والياً على مصر، والذي يعتبر أحسن العهود من نوعه... نجد فقرات عديدة تشعر الاهتمام بأصالة النسب، كما في وصيته باختيار الأصحاب من العوائل الشريفة، وذلك قوله صلّى الله عليه وآله:

"ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف"27.

إختيار الموظفين الأكفاء

ولنستمع إليه عليه السلام يقرر لابن الأشتر كيفية إنتخاب الموظفين الأكفاء، ومراعاة الشروط الدقيقة في توليتهم المناصب والمهمات: "وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً، وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إشرافاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً".28

فيشترط في الموظف الذي يقلد أمور الادارة أن يكون عفيفاً منتمياً إلى عشيرة شريفة وأسرة عريقة في الاسلام والتدين، لما في ذلك من مصالح عظيمة، ودرء لمخاطر كثيرة، فهؤلاء يؤدون واجباتهم بإخلاص، لا يرتشون ولا يستغلون مناصبهم لاطماعهم وغاياتهم الشخصية.

يستفاد من مجموع البحوث السابقة: أن الطفل في رحم أمه يكون خلاصة لمجموعة من الصفات الظاهرية والمعنوية لآبائه وأجداده القريبين والبعيدين، وهناك عشرات العوامل المختلفة (الوراثية والطفرة) تؤثر فيهم آثاراً صغيرة أو كبيرة، مفيدة أو مضرة. فإذا كانت هذه العوامل كلها صالحة محبذة وكانت نتائجها حسنة ومفيدة فذلك معنى سعادة الطفل في بطن أمه. أما إذا كانت العوامل كلها أو بعضها  فاسدة وسيئة فيعتبر الطفل شقياً في بطن أمه بنفس النسبة من فساد العوامل.

قد يتأثر الطفل ببعض الصفات ـ وهو في بطن أمه ـ كالجنون والحمق والعمى والشلل والصرع والتصاق التوأمين برأس واحد أو بدن واحد، وعشرات غيرها من الانحرافات الأخرى، فمن البديهي حينئذ أن يكون الطفل شقياً وهو في بطن أمه.

1- قال النبي صلّى الله عليه وآله: "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه"29.

2- وفي حديث آخر: "الشقي شقي في بطن أمه، والسعيد سعيد في بطن أمه"30.

3- وكذلك ورد عنه عليه السلام: "الشقي من شقي في بطن أمه"31. إلى هذه الأحاديث وأشبهها يستند القائلون بالجبر، بحجة أن الله هو الذي يقدر السعادة والشقاء للانسان وهو في بطن أمه).

ولكي يمنع الاسلام من حدوث أولاد أشقياء وأجيال فاسدة وناقصة وضع تعاليم دقيقة وسلك أوضح السبل لالزام اتباعه بالعمل بها، فوضع أصول التربية الاسلامية الدقيقة التي تعدل من سلوك الأفراد، فيمنع ذلك من ظهور الصفات الرذيلة في أعقابهم. وكذلك نجد قوانين الأمم المتحضرة اليوم تهتم بهذا الموضوع فوضعت قوانين لم تتعد دائرة الوضع والتقنين ولم تصل إلى حيز التنفيذ. وعلى سبيل الاستطراد نستعرض بعض التعاليم الاسلامية بهذا الصدد باختصار:

الجنون

الجنون من الصفات الخطرة التي تنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء. إن الأبوين المصابين بالجنون لا ينتجان إلا مجانين، وهذا هو قانون طبيعي غير قابل للتبديل، والمولود المجنون ليس شقياً لنفسه فحسب بل يسبب شقاوة المجتمع أيضاً.

ومن خلال النص التالي يتضح مدى اهتمام الاسلام بهذا الموضوع فعن الامام الباقر عليه السلام: أنه "سأله بعض أصحابنا عن الرجل المسلم تعجبه المرأة الحسناء، أيصلح له أن يتزوجها وهي مجنونة؟ قال: لا، ولكن إن كانت عنده أمة مجنونة فلا بأس بأن يطأها ولا يطلب ولدها"32. ويظهر من التفريق الذي ورد في الحديث، بين الزوجة والأمة: أن الإسلام يركز اهتمامه في منع التزوج من المجنونة إلى منع ظهور مجانين جدد، ولذلك سمح للرجل بأن يشبع رغبته الجنسية مع جاريته، لأن الجارية لا يراد منها الانجاب في الغالب بل يتخذ معها وسائل منع الحمل) يستنتج من هذا الحديث؟ اهتمام الاسلام بالسلامة العقلية للمجتمع، فهو لا يرضى للمسلم بأن يتزوج مجنونة وإن كانت جميلة، لأن ذلك يؤدي إلى إكثار المجانين في المجتمع.

لقد قرر الاسلام تسهيلات قانونية لفسخ الزواج في بعض الموارد ومن تلك الموارد: الجنون، فإذا تزوجت المرأة من رجل ظناً منها بأنه فرد عاقل ثم انكشف لها جنونه فلها الحق في أن تفسخ عقد الزواج بنفسها من دون حاجة إلى القيود الموجودة في الطلاق، وكذلك الرجل بالنسبة إلى زوجته المجنونة.

وهذا القانون مضافاً إلى أنه يحرر كلاً من الرجل والمرأة من القيود والأضرار الناشئة من جنون شريكته (أو شريكها) في الحياة، يضع حداً فاصلاً دون إزدياد أفراد مصابين بالجنون في المجتمع.

الحمق والبلادة

وكذلك الحمق والبلادة والبله فانها تنتقل من الآباء والأمهات إلى الأبناء، الأمر الذي يسبب أقسى أنواع شقاء المجتمع، فالفرد الأحمق يظل طوالي سني عمره أسيراً للحرمان العقلي وعدم النضج الفكري مما يسبب للأمة مشاكل عديدة.

ولقد توصل العلم الحديث، بعد التجارب العديدة والاحصائيات الدقيقة إلى خطر هذا النوع من الزواج، ولذلك أخذ العلماء يحذرون الناس منه:

"يجب أن يعلم كل فرد أن التزوج من الأسر المصابة بالجنون أو الحمق أو البلادة، أو الإدمان على الخمرة يؤدي إلى تحطيم كيان المجتمع وهدم قانون التكاثر والتناسل، مما يجر معه سلسلة من المعايب والجرائم التي لا تحمد عقباها"33.

لقد نظر منقذ البشرية العظيم بعين الوحي النافذة إلى الحقائق إلى هذا الموضوع، وأدرك أخطاره فحذر المسلمين منه ولذا نرى الامام الصادق عليه السلام يروي عن النبي صلّى الله عليه وآله: "إياكم وتزوج الحمقاء، فان صحبتها بلاء وولدها ضياع"34. وأحسن تعبير عن الأولاد الناتجين من آباء أو أمهات مصابين بالحمق هو الضياع.

"لقد لاحظ (كدار) في إحصائياته الدقيقة التي أجراها على الأسر التي كان آباؤها أو أمهاتها مصابين بضعف العقل وجود (470) طفلاً ضعيفي العقل منهم و (6) فقط سالمين وبديهي أن إيجاد جيل منحط ومجرم وأبله يعد خيانة كبيرة"35.

شرب الخمر
لقد انتشر شرب الخمر في كثير من دول العالم، وتكبلوا بهذا الداء الوبيل وأسراره. هذا السم الفاتك لا يكتفي بتوجيه ضربات قاسية إلى المدمنين عليه فقط، بل يتعداهم إلى أطفالهم البريئين ويجعلهم يرزحون تحت كابوس الأمراض والعوارض المختلفة. تترك الخمرة آثاراً سيئة على أجسام المدمنين عليها، ومن تأثيراتها فيهم إيجاد اختلالات في خلايا المخ والأعصاب مما تجعلهم أناساً غير اعتياديين، ومما يبعث على الأسف أن هذا الاختلال ينتقل إلى أولادهم، والنطف الحادثة من أناس مأسورين للخمرة تنتج أطفالاً منحرفين وغير اعتياديين في سلوكهم وتفكيرهم. إن قسماً كبيراً من المجانين الذين يقضون حياتهم في (مستشفيات المجانين) يئنون من ويلات إنحراف آبائهم:

"إن قلة الذكاء وإختلال القوة العاقلة تنشأ من المشروبات الروحية والسلوك الافراطي في جميع جوانب الحياة، إنه لا ريب في وجود رابطة قوية بين استعمال المشروبات الروحية والضعف العقلي في مجتمع ما. ومن بين الدول المتقدمة علمياً وصناعياً نجد فرنسا أكثرها استعمالاً للخمرة في حين أنها أقل تلك الدول حصولاً على جوائز نوبل"36.

لقد عرف الاسلام جميع العوارض والويلات الناشئة من الخمرة، ونظر نظرته الثاقبة إلى آثارها السيئة في المدمنين عليها وفي أولادهم، فلم يكتف بتحريم عصرها والتعامل بها وتعاطيها على المسلمين من الجهة القانونية فقط، بل منع من الاتصال الجنسي والتناكح مع شاربي الخمر بكل صراحة وهناك بعض الشواهد على ذلك:

1- عن الامام الصادق عليه السلام: "من زوج كريمته من شارب خمر، قد قطع رحمها"37.

وبديهي أن يعتبر إنجاب أطفال مختلين (بدنياً وعصبياً وروحياً) قطعاً لرحم المرأة التي بامكانها أن تنجب أولاداً سالمين من غيره.

2- وعن النبي الكريم صلّى الله عليه وآله: "شارب الخمر لا يزوج إذا خطب"38. وهناك العشرات من الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام في هذا الموضوع، ولكن أشدها تحذيراً وأعظمها توبيخاً ما إذا حصل الاتصال الجنسي في حالة السكر، كما يتضح ذلك من الحديث الآتي:

3- عن الامام الصادق عليه السلام أنه قال: "أيما امرأة أطاعت زوجها وهو شارب الخمر، كان لها من الخطايا بعدد نجوم السماء، وكل مولود يلد منه فهو نجس، ولا يقبل الله منها صرفاً ولا عدلاً حتى يموت زوجها، أو تخلع عنه نفسها"39.

وإليك نصاً لأحد علماء الغرب بهذا الصدد:

"يقول الدكتور كاريل: إن سكر الزوج أو الزوجة حين الاتصال الجنسي بينهما يعتبر جريمة عظيمة، لأن الأطفال الذين ينشأون في ظروف كهذه يشكون في الغالب من عوارض عصبية ونفسية غير قابلة للعلاج"40.

تعقيم المجانين الخمريين

رأينا فيما مضى كيف اتخذ الاسلام العلاج الحاسم في منع التزوج بالأفراد المصابين بالجنون والخمرة. ولقد عمل العلماء اليوم في التأكيد على منع هذا النوع من الزواج كثيراً حتى إنه يوجد في بعض الولايات الأمريكية قانون خاص بشأن تطهير النسل. بموجب ذلك القانون تجري عمليات للأولاد والبنات الذين أصيبوا بالجنون نتيجة إفراطهم في شرب الخمر لاخصائهم وإحالتهم على العقم الدائمي لمنع إنجابهم.

هذا وليست العوامل الباعثة على النواقص البدنية والنفسية للطفل في رحم أمه مقتصرة على هذه الأمور المختصرة، فهناك عوامل عديدة أخرى لا تزال مجهولة للعلماء لحد الآن في حين أن لها تأثيراً في وضع الطفل في رحم الأم، وموجدة لعيوب ونواقص أو باعثة على ظهور حسنات وفضائل فيهم.

فكثيراً ما يتفق وجود أولاد ناقصين ومختلين عصبياً وعقلياً في حين أن آبائهم وأمهاتهم لم يكونوا معتادين على المشروبات الروحية وغيرها، وعلى العكس فقد يصادف ظهور أفراد عصاميين أذكياء من أسر حقيرة في المجتمع:

"ولكن نظراً لأن البشر ليسوا من أصل نقي فانه ليس في الامكان التكهن بحالة النسل الذي ينشأ من زواج معين. ومع ذلك، فانه من المعروف أن الأطفال الذين يولدون في أسرات مكونة من أفراد متفوقين يكونون في الغالب أكثر تفوقاً من الأطفال الذين يولدون في أسرت أدنى مرتبة... ونظراً للمصادفات التي تحدث في اتحادات النويات فقد يشمل أحفاد الرجل العظيم على أفراد متوسطين، كما قد يولد رجل عظيم لأسرة خاملة مغمورة"41.

تأثير العوامل الجوية
يستفاد من تحذير أئمة الاسلام عليهم السلام في بعض الروايات عن قسم من الحوادث الجوية حين انعقاد النطفة، كالزلزال والطوفان ومقابلة قرص الشمس وما شاكل ذلك، وكذلك منع الحمل من بعض الأطعمة، أن لذلك كله تأثيراً في إيجاد آثار مرضية أو غير مرضية في الأطفال.

المصير
وهنا نقطة مهمة يجب الالتفات إليها، وهي أن السعادة والشقاء اللتين تصيبان الطفل في رحم الأم، على نوعين: فقسم منها يكون قضاء حتمياً لا يقبل التبديل. فهذا النوع يلازم الطفل حتى نهاية حياته، ومن هذا القسم: الجنون والعمى المتأصل. وقسم اخر يكون الرحم بالنسبة إليه كتربة مساعدة فقط وحينئذ يكون بقاء تلك السعادات أو الشقاوات دائراً مدار الظروف التي تساعد على نموها.

إن القاعدة العامة للوراثة تقتضي أن ينجب الآباء المؤمنون والأمهات العفيفات أولاداً طيبين، فهؤلاء يمكن أن يحرزوا السعادة في أرحام أمهاتهم فلا توجد في سلوكهم عوامل الانحراف الموروثة. إلا أننا لا نستطيع الحكم على هؤلاء بأن ينموا وينشأوا ويعيشوا إلى الأبد كذلك إذا قد يصادفون بيئة فاسدة تعمل على انحرافهم وتغيير سلوكهم وسجاياهم الموروثة وقلبها رأساً على عقب، وأخيراً نجد هذا الطفل الذي كان سعيداً في بطن أمه يعد في صفوف الأشقياء ويصير جرثومة للفساد والمجون والاستهتار.

وهكذا الطفل المولود من آباء وأمهات لا يعرفون عن الإيمان شيئأً فانه يعتبر شقياً في رحم أمه تبعاً لقانون الوراثة  لكن قد يصادف بيئة صالحة وتربية جذرية تعمل على استئصال العوامل الشريرة من داخل نفسه وأخيراً يكون من الأتقياء المؤمنين والأفراد الصالحين في المجتمع.

ولهذا نجد النبي صلّى الله عليه وآله يصرح: "السعيد قد يشقى، والشقي قد يسعد"42.

وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: "السعيد من وعظ بغيره والشقي من انخدع لهواه وغروره"43.

وبصورة موجزة نقول: إن السعادة تحصل للانسان من مجموعة عوامل طبيعية (وراثية) وتربوية. وكذلك الشقاء... ولقد أوضح الامام الصادق عليه السلام هذا المبدأ في عبارة مختصرة فقال: "إن حقيقة السعادة أن يختتم للمرء عمله بالسعادة. وإن حقيقة الشقاء أن يختتم للمرء عمله بالشقاء"44.

إن هذه الرواية تدلنا على حقيقة واضحة، هي أنه يجب الاحاطة بجيمع العوامل الوراثية والتربوية للفرد، والنظر إلى نتيجة تفاعلاتها ثم الحكم عليه بالسعادة أو الشقاء.

*الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفي، الأعلمي ط3، 2002م، ج1، ص56-81.


 

1- مكارم الأخلاق ص:65.
2- تاريخ علوم ص 707، تأليف بي ييروسو ترجمة حسن صفاري وهو كتاب قيم طبع سنة 1954 م للمرة الخامسة والستين باللغة الفرنسية عدا الترجمات إلى اللغات الأخرى.
3- المصدر نفسه.
4- جه ميدانيم؟ بنياد أنواع ص 96.
5- جه ميدانيم؟ سرطان ص 42.
6- المستطرف من كل فن مستظرف ج 2-218.
7- المنجد، مادة دس.
8- غرر الحكم ودرر الكلم للامدي ص 167 ط دار الثقافة في النجف الأشرف.
9- تتمة المنتهى ص 17.
10- جه ميدانيم؟ سرطان ص 42.
11- نفس المصدر ص 102.
2009-08-28