يتم التحميل...

تعديل الميول-الفرار من تعذيب الضمير

التربية

ان في الضمير الانساني قوة تسمى بالوجدان الأخلاقي. وفي الموارد التي يرتكب الانسان جريمة يقع فريسة اللوم والتقريع من تلك القوة الباطنية. إن الوجدان الأخلاقي من القوة والقدرة بحيث أنه لا يترك المجرم ونفسه حتى في عالم النوم. يستعرض أمام عينه جرائمه بصورة الرؤيا، وبذلك يلومه عليها...

عدد الزوار: 91

قال الله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا(الفرقان:43).

ان في الضمير الانساني قوة تسمى بالوجدان الأخلاقي. وفي الموارد التي يرتكب الانسان جريمة يقع فريسة اللوم والتقريع من تلك القوة الباطنية. إن الوجدان الأخلاقي من القوة والقدرة بحيث أنه لا يترك المجرم ونفسه حتى في عالم النوم. يستعرض أمام عينه جرائمه بصورة الرؤيا، وبذلك يلومه عليها...

إن قوة الوجدان الأخلاقي وإدراك قبح الاجرام هو الذي يحور صورة الحلم ولا يسمح بأن يظهر المجرم على صورته الواقعية من جهة ويجعل المجرم من جهة أخرى يشاهد جرائمه في الرؤيا برعب وقلق وأن الانقياد لأوامر الوجدان الأخلاقي وإطاعة مقرراته وظيفة حتمية لكل انسان... فإن مخالفته تتضمن مصائب ومآسي لا تجبر. وسيدور بحثنا في هذا المقال حول الاستفادة من الوجدان الأخلاقي، وتنفيذ قوانينه والنتائج الوخيمة التي تترتب على مخالفته والخروج عليه.

هناك قوتان في طريق إرضاء الميول أو ضبطها وعدم الاستجابة لها في باطن كل انسان: احداهما ايجابية، والأخرى سلبية. أما القوة الايجابية فهدفها جلب اللذائذ وإرضاء الغرائز فقط، وتميل إلى إشباع جميع الميول الطبيعية وتحقيق جميع الرغبات بدون قيد اوشرط . هذه القوة لا تفهم الخير والشر، أو الصالح والفاسد، إنها تنادي باللذة فقط وليس لها هدف غير ذلك. ولقد عبر القرآن الكريم عن هذه القوة الباطنية بـ (النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ)... حيث يقول عز من قائل: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ(يوسف:53).

وأما القوة السلبية في باطن الانسان، فهي تتمثل في القوة التي تمنع الانسان في جلب اللذائذ عن ارتكاب الجرائم والوقوع في الدنس، وتلطف من حدة الميول، وتلجم النفس الأمارة الشموس، إنها تسمح بإرضاء الغرائز والاستجابة للميول بالمقدار الذي لا يتصادم مع المقررات العقلية والعرفية والشرعية، أما ما عدا ذلك فانها لا تسمح به. ولقد عبر القرآن الكريم عن هذه القوة المعدلة للميول بـ (النَّفْسِ اللَّوَّامَة)...

حيث يقول تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(القيامة:1ـ2).

قيادة الغرائز
مما لا شك فيه أن الحياة البشرية مدينة إلى الميول والغرائز التي أودعها الله تعالى في مزاج الانسان، ذلك أن الغرائز والرغبات النفسانية هي القوة المحركة العظمى التي تدبر دولب الحياة الانسانية، و لا توجد أي قوة في الانسان تبعثه على النشاط والحيوية كالغرائز. ولكن النفطة الجديرة بالملاحظة والانتباه أن هذه الغرائز إذا نفذت واستجيب لها بالصورة الصحيحة وبالشكل المعقول فانها تبعث على الخير والسعادة، أما إذا لم يلتزم العقل قيادتها وكان إرواؤها على غير نظام أو ترتيب، فلا شك في أنها تتضمن مئات المآسي وتؤدي بالانسان إلى عاقبة سيئة.

عشرات الأرياف يمكن أن توجد على ضفاف نهر، ومئات الأسر تستطيع أن تعيش فيها على أتم الرفاه والراحة... إن جميع المزارع والحقول والمراعي وبصورة موجزة جميع مظاهر العمران هناك وجدت من ماء ذلك النهر. وإذا لم يكن ذلك النهر موجوداً، لم يكن أثر للعمران ولم تكن توجد الأرياف، ولكن قد يصادف أن ينحدر السيل من الجبال ويؤدي فيضان النهر إلى أن يتجاوز النهر مجراه، ويهجم على المزارع والمساكن بصورة جنونية، ويؤدي إلى خسائر عظيمة في الأرواح والأموال وتنسف الأتعاب والجهود التي بذلها الريفيون المساكين طيلة سنوات عديدة!!.

إنه لا يمكن الاستغناء عن النهر، لأن النهر يعتبر الشريان الرئيسي لحياة هؤلاء الناس في الأرياف، وإن مظاهر العمران ظهرت بفضل وجود النهر ولأجل أن نستفيد من فوائد النهر، ولا ترد علينا خسارة أو ضرر من جراء الفيضان، علينا أن نبني سداً محكماً عليه، ونمنع من طغيانه ومن الواضح أن بناء السد يجعلنا ننتفع من فوائد النهر باستمرار، ونكون في مأمن من أضراره وخسائره.

طغيان الغرائز
إن الغرائز والميول البشرية تشبه النهر الذي تقوم عليه الحياة الفردية والاجتماعية. فإن كانت الاستجابة لها بصورة معقولة وحسب مقاييس ثابتة فانها تمنح الحياة نشاطاً وحيوية، أما إذا أرضيت بالصورة الفوضوية العارمة ومن دون نظام أو ترتيب فلا شك في أنها تؤدي إلى الشقاء والانهيار. وبعبارة أخرى: فكما أن النهر كان مسخراً لصالح الناس تارة وكان الناس مسخرين لتأثير النهر تارة أخرى، كذلك الغرائز فانها قد تخضع لقيادة العقل، وقد يخضع العقل لقيادة الغرائز. إن السعادة تتحقق متى خضعت الميول جميعها لسيطرة العقل، وكانت منقادة لأوامره ومقرراته.

هذا الكلام مقبول لدى جميع الماديين والمتألهين في العالم، فقد أقر العقلاء والعلماء جميعهم بأن الانقياد للغرائز وإرضاءها بلا قيد أو شرط يتنافى مع التمدن والسعادة البشرية.

"تقضي الحياة، وخصوصاً الحياة الاجتماعية للانسان، أن تهدى الغرائز الأولى منذ البداية، وتوجه نحو الأهداف الاجتماعية، وبصورة أوضح نقول: كما أنه يجب إقامة سد أمام مجرى الماء لادارة محرك من المحركات المعتمدة على قوة الماء فإن التمدن يجب أن يخضع الغرائز لسيطرة دقيقة، وذلك ليبلغ بالانسان إلى الرقي والتكامل"1.

إن أول نكتة يجب أن تسترعي انتباهنا في هذا المقام، هي أن إرضاء جميع الميول النفسانية بصورة حرة وبلا قيد أو شرط أمر مستحيل. ذلك لأن تحقيق بعض الرغبات يتنافى مع إتيان الرغبات الأخرى، وفي الواقع يوجد تناقض واضح بين كثير من ميول الانسان. لقد أوضح الامام علي عليه السلام التناقض القائم بين بعض الميول والرغبات بعبارة قصيرة وحكيمه، إنه يقول:

"ما أعجب أمر الانسان، إن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن سعد نسي التحفظ، وإن ناله خوف حيره الحذر، وإن اتسع له الأمن أسلمته الغيرة، وإن جددت له النعمة أخذته الغرة، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شمله البلاء، وإن جهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط به مفسد، وكل خير معه شر، وكل شيء له آفة"2.

فما أكثر الرغبات النفسية التي تدفع الانسان إلى الافراط في الاستجابة للغريزة الجنسية، أو الطعام في حين أنه يتنافى مع الرغبة في الصحة، وما أكثر اللذائذ التي يتطلبها الانسان من قبيل الخمرة والحشيشة، في حين أنها تتضمن عوارض مختلفة ونتائج وخيمة تهدد حياة الانسان.

الوجدان والغرائز
هناك نكتة أخرى يجب أن نتنبه لها، وهي أن الحرية المطلقة للغرائز بلا قيد أو شرط تتنافى والوجدان الأخلاقي للبشر. فإن الذي يريد إرضاء جميع الميول بكل حرية، ويحاول الاستجابة لرغباته وتحقيقها، لا بد أن يكون منقاداً لغرائزه، معرضاً بوجهه عن النداء السماوي والمقررات القيمة الصادرة من الوجدان الأخلاقي الذي هو وديعة إلهية عند الانسان، مستهتراً بالكرامة والشرف والنبل!!.

"لا بد للانسان أن يختار من بين أمرين أحدهما: الأمر الأول أجنبي وأعمى وطاغية حيث لا يراقب إلا التنفيذ دون النظر إلى القصد والنية. أما الأمر الثاني فانه أليف ومحبوب. صحيح أنه متعب ولا يرتضي بسرعة لكنه يعرف آمالكم الخفية ويطلع على كيفية شخصيتكم. إنه يجب التوفيق بين الغرائز والوجدان الأخلاقي. وإيجاد هذا التوافق أمر ممكن، ذلك أن الوجدان الأخلاقي الواقعي لا يريد كبت الغرائز مرة واحدة، بل يحاول أن يخضعها للنظام والسيطرة، ويوجهها نحو هدف أعلى وأليق. وهذا العمل أحسن وأهم للغريزة من إطلاق عنانها أيضاً، كما يرى فرويد، لأن هذه الحرية تتضمن فساداً وانهياراً في النهاية"3.

إن مخالفة أوامر الوجدان الأخلاقي قد نؤدي إلى بعض الأمراض النفسية والجنون. والاستجابة المعقولة للميول والغرائز أساس الحياة وركن السعادة الانسانية، وهذا الأمر ضروري ومحبوب شرعاً وعقلاً... لكن المذموم والقبيح من وجهة النظر الدينية والعلمية هو إطلاق العنان لجميع الميول والرغبات.

لقد عبر القرآن عن هذه الحقيقة أحسن تعبير حيث يقول: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا(الفرقان:43).

عبادة الهوى
إن الذي يقع في أسر عبادة هوى النفس، ويكون عبداً مطيعاً لغرائزه وميوله... يصاب بأخطر الأمراض النفسية، ويكون معرضاً للانهيار والشقاء في كل لحظة...

1- يقول الامام علي عليه السلام:"إن أخوف ما أخاف عليكم إثنان: إتباع الهوى وطول الأمل"4.

2- ويقول الامام الصادق عليه السلام:"إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم، وحصائد ألسنتهم"5.

3- وعنه عليه السلام أيضاً:"لاتدع النفس وهواها، فإن هواها رداها"6.

4- وعن الامام أمير المؤمنين عليه السلام:"أشجع الناس من غلب هواه"7.

5- وعن الامام الجواد عليه السلام:"من أطاع هواه، أعطى عدوه مناه"8.

6- يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام:"إن أطعت هواك أصمك وأعماك"9.

7- ويقول في مورد آخر:"فاز من غلب هواه، وملك دواعي نفسه"10.

8- وورد عنه أيضاً:"قاتل هواك بعقلك"11.

إن عبادة الأهواء والانقياد التام للميول النفسانية لهو أقصى درجات الشقاء والهلاك للانسان، فإذا وقع شخص في أسره فسرعان ما ينجرف إلى هوة الانهيار والسقوط.

"الانسان مختار مطلق، لكنه مع ذلك لا يستطيع أن ينتفع من حريته خارج المناطق المحددة له بلا مخاطرة أو مغامرة. إن الحرية تشبه الديناميت في أنها وسيلة مهمة وخطرة في نفس الوقت، فلا بد من الإلمام بكيفية استعمالها، لحسن الحظ فان الذي يستطيع أن يستعملها بصورة صحيحة هو الذي يكون ذا عقل وإرادة".

"إن التضارب الموجود بين الحرية الانسانية والقوانين الطبيعية الملزمة يوجب التدريب على تزكية النفس. ولأجل أن نحافظ على أنفسنا من أخطار الحوادث يجب علينا أن نقاوم كثيراً من الميول والرغبات".

"في كل مرة استطاع الانسان أن ينتفع من كامل حريته يكون قد سحق القوانين الطبيعية، ولا بد أن يلاقي جزاءه. إن الموفقية في الحياة تستلزم التضحية، وبواسطة التخلي عن قسم من الحرية يستطيع الانسان أن يعيش على طبق نظام الأشياء"12.

الوجدان وتعديل الهوى
يستطيع الراغبون في السعادة والساعون من أجلها، أن يستفيدوا من عوامل عديدة لتعديل ميولهم. من تلك العوامل. العقل، والوجدان، والتعاليم الدينية. وحيث كنا نتحدث عن الوجدان الأخلاقي، فيدور بحثنا هنا حول طرق الاستفادة منه في تعديل الغرائز والرغبات النفسانية.

إن الوجدان الأخلاقي هو الدليل الظاهر والنافذ إلى الواقع المودع في باطن الانسان. وهو قوة قاهرة، يدلك بالفطرة على جميع أوجه الخير والشر، ويهدي إلى الصراط المستقيم، ويوصلهم إلى دار السعادة والسلام.

قال الامام الصادق عليه السلام لرجل: "إنك قد جعلت طبيب نفسك، وبين لك الداء وعرفت آية الصحة ودللت على الدواء. فانظر كيف قيامك على نفسك؟"13.

فبواسطة الوجدان الأخلاقي والفطرة الانسانية يهتدي الانسان إلى معرفة أمراض نفسه وعلاجها كالطبيب، ويستطيع الوصول إلى سلامة روحه.

وفي غريزتي الشهوة والغضب القويتين، وميل الانسان إلى المال والجاه تكمن نقطة انزلاق البشرية نحو الهاوية، إن هوى النفس يدفع الانسان بأشد ما يمكن من القوة لتنفيذ رغباته ومتطلباته الغريزية، وألا يجتنب في سبيل الوصول إلى هدفه من كل نشاط هدام، في حين أن الوصول إلى الهدف يتطلب في بعض الأحيان الاتيان ببعض الأعمال اللاإنسانية وارتكاب الجرائم والجنايات. إن من القوى التي تستطيع التعديل من الغرائز، وتقدر على وقاية الانسان من الانحراف والانزلاق في الهاوية وحفظ أذيال الفرد من التلوث بالجرائم: قوة الوجدان الأخلاقي. فمن حافظ على هذه الوديعة الالهية في باطنه وأبقى سراج السعادة مضيئاً، يستطيع الانتفاع من هداية الوجدان ويقي نفسه من كثير من الخيانات والجرائم.

لقد أعار الاسلام أهمية عظيمة إلى هذه القاعدة الأساسية، واستفاد من الوجدان الأخلاقي في مجال الاصلاح الاجتماعي كثيراً.

التعامل على أساس الوجدان
لقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام أنه كان يقول: لقد أوصى الله تعالى موسى بن عمران بأربعة أشياء:

"... وأما التي بينك وبين الناس، فترضى للناس ما ترضى لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك"14.

وهناك موقف آخر للنبي صلّى الله عليه وآله وقد كان واضعاً رجله في رحل جواده قاصداً إحدى الغزوات، فاستوقفه رجل وطلب منه أن يعلمه عملاً فقال صلّى الله عليه وآله: "ما أحببت أن يأتيه الناس إليك، فأته إليهم، وما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم"15.

... وهكذا يتضح جلياً موقف الاسلام من التعامل مع الناس وأصول المعاشرة فيما بينهم، وهذه وصية الامام أمير المؤمنين عليه السلام إلى ولده الحسن: "واجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك"16.

وقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام: "أحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم، أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره"17. وعن الامام الباقر عليه السلام في قول الله عز وجل:﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنا(البقرة:83) قال: "قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم"18.

سعادة المجتمع
لقد وجدنا في الأحاديث المتقدمة أن الفطرة الأخلاقية والادراك الباطني عند الناس قد اعتبرتا مقياساً للروابط الاجتماعية. فإن ما لا شك فيه أنه لو كانت الروابط الاجتماعية في بلد ما قائمة على أساس الوجدان الأخلاقي وكان كل عضو في المجتمع يراعي الحسنات والسيئات الفطرية بالنسبة إلى باقي الأعضاء... لكان يغمر ذلك البلد بالسعادة والهناء ولم يكن للغرائز والميول النفسية أية سلطة أو تجاوز على الآخرين.

إن القادرين على اتباع نداء الوجدان هم الذين يملكون زمام غرائزهم وميولهم. أما الأشخاص المستعبدون لشهواتهم والذين ينقادون لأهوائهم فلا ينالون هذه المفخرة أبداً.

جزاء مخالفة الوجدان
إن من النتائج الوخيمة لمخالفة الوجدان، الاضطرابات الروحية والاختلالات النفسية. فإن من يمتنع عن سماع نداء الوجدان الأخلاقي ويقدم على الجرائم إرضاء لرغباته النفسية مخالفاً في ذلك فطرته الانسانية لا بد وأن يلاقي جزاءه الشديد من قبل الوجدان، بغض النظر عن العقاب الدنيوي والأخروي. وإن تعذيب الضمير وتقريع الوجدان من القوة في أعماق الروح الانسانية بحيث تسلب المجرم راحته وتتركه في دوامة من الاختلالات والأمراض الروحية أو الجنون.

"لقد أسند فرويد منظومته الفلسفية إلى الغرائز، ومن الواضح أنه أوضح بعضاً من نشاطاتها ولكنه أهمل البحث عن الوجدان أو الضمير واعتبره منفذاً اجتماعياً فحسب. أما الواقع فيرشدنا إلى أن قضاء الخير والشر عمل أساسي يغلب على الشخصية ويبلورها وينسقها ويلائم بينها وبين الحياة الاجتماعية... من الممكن أن يبتلي الوجدان بآفات معينة فيسبب حدوث بعض الأمراض الروحية الحقيقية. فمثلاً نجد فيسبب حدوث بعض الأمراض الروحية الحقيقية. فمثلاً نجد الأمر كذلك في الهستيريا المصحوبة بيقظة الضمير والتي تظهر على صورة الندم القاتل واتهام النفس، والاحساس بالاجرام، لقد أشرنا إلى بعض الآثار المباشرة وغير المباشرة للاحساس بالاجرام في سلسلة من التحقيقات. هذه الآثار عبارة عن التعذيب الأليم والتقريع الشديد"19.

بإمكان المجرم أن يهرب من وجه العدالة وحكم القانون في المحاكم القضائية العالمية بطرق مختلفة، وينجو من العقاب في النهاية. وباستطاعته إغفال بعض الحكام عن طريق التهديد أو التطميع، أو عن طريق اليمين الكاذبة وشهود الزور... أما حاكم محكمة الوجدان البصير الحاذق فلا يغفل.

قد يتخلص المجرم من العقاب بواسطة الفرار من قاعة المحكمة، أو الفرار من أرض الوطن، أما محكمة الوجدان فانها تخضع المجرم لسيطرتها دائماً، فأينما يذهب تصحبه وتلاحقه... ذلك أن محكمة الوجدان عبارة عن ضميره الباطن ولا ينفصل عنه ضميره أبداً.

في بعض الأحيان تكون مظاهر تعذيب الضمير، وملاحقة محكمة الوجدان للمجرم، والضغط الروحي الشديد الذي يلاقيه منها واللوم القارع الذي يراه في أحكامها... مؤلمة إلى درجة أنها تبعث كل من يشاهده عن القلق والاضطراب. وعلى سبيل المثال نذكر قصة حياة الشاب الضابط الذي دمر (هيروشيما) بالقنبلة الذرية في الحرب العالمية الماضية.

جنون ضابط شاب
إن الوضع المؤلم لهذا الشاب الضابط الذي سبب الفناء والدمار لعشرات الآلاف من الرجال والنساء، والشيوخ الشباب والأطفال الرضع في لحظات قليلة أصدق شاهد على ما ذهبنا إليه قبل قليل. وإليك بعض الأخبار عن أيامه الأخيرة مقتطفة من الصحف الايرانية نقلاً عن وكالات الأنباء العاليمة.

"وكالة الأنباء الفرنسية. لقد أعلن اليوم اختفاء الضابط الأمريكي الطيار كلود إيترلي الذي دمر مدينتي هيروشيما وناغازاكي عام 1945 بأول قنبلة ذرية، منذ اليوم الثالث والعشرين من شهر تشرين الأول. لقد كان هذا الضابط الطيار مصاباً ببعض الاختلالات العصبية منذ مدة وكان خاضعاً للمعالجة في مستشفى (فالوا). لقد وجد كلود نفسه بعد انتهاء الحرب أمام الضربات الروحية القاصمة وذلك بعد اطلاعه على الخسائر التي تسبب فيها بقنبلته، إنه كان يجد نفسه المسؤول الأول عن قتل أهالي مدينة هيروشيما. إن معالجة الأطباء كانت عقيمة له، وأخيراً اضطر إلى أن يعيش في مستشفى الأمراض العقيلة"20.

"لقد نشرت الصحف الأمريكية الصادرة صباح اليوم في صفحاتها الأواى صورة ومشخصات (كلود إيترلي) ولقد طلب البوليس من الملايين من أبناء الشعب الأمريكي في التعاون معه للقبض على كلود إيترلي. والآن يقضي عشرات الملايين من الأمريكان أوقاتهم في البحث عنه حيث أنه أصيب بالجنون تماماً. إن أكثر العوائل الأمريكية لا تهنأ بالنوم طوال الليل خوفاً من كلود إيترلي لأن أصحاب العيادات النفسية قد أعلنوا عن: أن كلود إيترلي لأن أصحاب العيادات النفسية قد أعلنوا عن: أن كلود إيترلي يرى نفسه السبب في مقتل عشرات الآلاف من أبناء الشعب الياباني ولذلك فهو يحاول أن يقوم بعمل خطير كعقاب لنفسه. أعظم وسام حربي: لقد فاز كلو إيترلي بعد تدميره لمدينتي هيروشيما وناغازاكي بنيل أعظم وسام حربي في أمريكا. وإن كلود إيترلي الذي انتخب من بين آلاف الطيارين يوماً ما لمهارته في قيادة الطائرة، ولأعصابه الفولاذية، والذي عهد إليه بإلقاء أول قنبلة ذرية... قد أصيب الآن بالجنون".

"إن عمر كلود إيترلي اليوم 40 عاماً. لقد قام في غضون السنوات الأخيرة بأعمال السرقة ومخالفة القانون عدة مرات، لكنه كان يعفى في كل مرة، نظراً لكونه في عداد أبطال القوة الجوية الأمريكية في يوم ما"21.

"لقد استعانت سلطات البوليس الأمريكي بأبناء الشعب في إجراء التحقيق مع كلود إيترلي، ذلك أن أطباء الأمراض النفسية كانوا قد أعلنوا: أنه لما كان الطيار الأمريكي السابق مصاباً بمرض روحي شديد، فمن الممكن أن يقوم بأعمال خطيرة تهدد الأمن العام، إن الطيار الذي دمر عام 1945 مدينتين يابانيتين كان يردد هذه الجملة منذ مدة: أنا قاتل الـ 150 ألف من الناس ولا أغفر لنفسي خطيئتي الكبيرة هذه. لقد مات في التدمير الذري من المدن اليابانية 150 ألف شخص على الأقل وكلود إيترلي يرى نفسه مسؤولاً عن قتل هؤلاء جميعاً. لقد عثر أحد رجال البوليس على كلود إيترلي في مدينة دالاس من ولاية تكساس عندما كانت سيارته واقفة عند أحد فروع شوارع تلك المدينة، وذلك لاشارة المرور الحمراء على الطريق..."22.

لقد كان الضابط الأمريكي الشاب ذا أعصاب فولاذية عند القيام بإلقاء القنبلة الذرية. وكان سليماً من حيث المقدرة البدنية، لقد فاز الضابط الشاب بنيل أعظم وسام حربي في أمريكا بعد التفجير الذري، وإن من المحتم أنه لاقى النجاح في مهمته تشجيعاً وتقديراً فائقين من حكومة الولايات لمتحدة الأمريكية... ولكن هذه العوامل كلها لم تستطع أن تنقذه من السقوط، وأخيراً أصيب بالجنون، إن إفناء 150 ألف شخص بين رجل وامرأة، وطفل وشاب... مخالفة صريحة للوجدان. إن الأعصاب الفولاذية، والطاقات الحيوية، وأعظم وسام حربي، وتشجيع واستحسان حكومة الولايات المتحدة وشعبها... كلها لم تستطع الوقوف أمام قوة الوجدان، فقد انتصر الأخير عليها جميعاً، وأصيب الشاب المسكين بالجنون وظهر بصورة موجود مفترس وخطير.

لقد كان البركان الثائر في نفس الشاب من جراء ردود الفعل الناشئة من وجدانه قوياً إلى درجة أن جميع المتخصصين بالعلاجات الروحية عجزوا عن معالجته، فلقد أخذ الضغط الشديد من قبل الضمير يقض عليه مضجعه يقظة ونوماً، وليس من البعيد أن يؤدي إلى موته.

الرشيد وغادر

وهناك نموذج آخر لمخالفة الوجدان يظهر في قصة هارون الرشيد مع جارية أخيه الهادي، ننقلها هنا لما فيها من فائدة:

"... يحكى أن هارون الرشيد حج ماشياً، وإن سبب ذلك أن أخاه موسى الهادي كانت له جارية تسمى (غادر) وكانت أحظى الناس عنده، وكانت من أحسن النساء وجهاً وغناء، فغنت يوماً وهو مع جلسائه على الشراب، إذ عرض له سهو وفكر وتغير لونه وقطع الشراب، فقال الجلساء: ما شأنك يا أمير المؤمنين؟.

قال: لقد وقع في قلبي أن جاريتي (غادر) يتزوجها أخي هارون بعدي.

فقالوا: يطيل الله بقاء أمير المؤمنين، وكلنا فداؤه.

فقال: ما يزيل هذا ما في نفسي...

وأمر بإحضار هارون وعرفه ما خطر بباله، فاستعطفه وتكلم بما ينبغي أن يتكلم به في تطييب نفسه، فلم يقنع بذلك وقال: لا بد ان تحلف لي !

قال: لأفعل، وحلف له بكل يمين يحلف بها الناس من طلاق وعتاق وحج وصدقة وأشياء مؤكدة فسكن. ثم قام، فدخل على الجارية فأحلفها بمثل ذلك، ولم يلبث شهراً ثم مات.

فلما أفضت الخلافة إلى هارون، أرسل إلى الجارية يخطبها...

فقالت: يا سيدي كيف بايمانك وايماني؟!!

فقال: أحلف بكل شيء حلفت به من الصدقة والعتق وغيرهما إلا تزوجتك، فتزوجها وحج ماشياً ليمينه، وشغف بها أكثر من أخيه حتى كانت تنام فيضجع رأسها في حجره ولا يتحرك حتى تتنبه، فبينما هي ذات ليلة إذ انتبهت فزعة...

فقال لها: ما لك؟!

فقالت: رأيت أخاك في المنام الساعة وهو يقول:

أخلفــت وعـدك بعدمــا              جـاورت سكـان المقابــر
ونسيتني، وحنـثـت فــي                ايمانك الكذب الفواجـر
فظللـت في أهـل البــلاد            وغـدوت فـي الحور الغرائر
ونكحــت غـادرة أخـي !            صدق الذي سمـاك غــادر
لا يهنـك الإلـف الجديــد              ولا تـدر عنـك الـدوائــر
ولحقت بي قبـل الصبــاح          وصرت حيث غدوت صائـر

... والله يا أمير المؤمنين، فكأنها مكتوبة في قلبي، ما نسيت منها كلمة.

فقال الرشيد: هذه أضغاث أحلام.

فقالت: كلا والله ما أملك نفسي... وما زالت ترتعد حتى ماتت بعد ساعة"23.

هذه الجارية كانت قد أخلفت وعدها مع الهادي، وبسبب مخالفتها لنداء الفطرة والوجدان كانت تحس بالاضطراب والقلق دائماً. إن تعذيب الضمير لم يتركها لوحدها، بل كان يوجه الضربات القاسية نحوها ليلاً ونهاراً، في اليقظة والحلم. إلى أن لقيت حتفها على أفظع شكل.

إن الانسان معرض في كل مرحلة ومنزلة إلى الخطر من ناحية ميوله وأهوائه. وإن الغفلة عن نداء الضمير، والانقياد التام للرغبات النفسية يمكن أن يؤدي في اللحظة الحاسمة إلى قلب حياة الانسان رأساً على عقب ويبعث على الانهيار والسقوط الذي لايمكن أن يعالج بأية قوة.

وبهذا الصدد يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام:"كم من شهوة ساعة، أورثت حزناً طويلاً"24.

على مفترق الطرق
قد يحتدم النزاع في باطن الانسان بين الميول النفسانية والوجدان الأخلاقي، فان الشهوات والغرائز تهيج الانسان من جانب، وتحثه على تحقيق رغباته اللامشروعة. بينما يقف الوجدان من الجانب الآخر في أتم القوة والفعالية مكافحاً ومعلناً معارضته الصريحة لارتكاب الجريمة.

أما عباد الشهوة والأفراد الحقراء الذين لا يهتمون بارتكاب الجرائم، فانهم يصممون بسرعة، ويحققون رغباتهم اللامشروعة مهملين نداء الوجدان.

وأما المؤمنون والعقلاء فانهم يسعون للتخفيف من ضراوة الميول اللامشروعة. ومن دون أي تردد يختارون الطريق الصحيح منزهين أذيالهم من التوث بالجريمة والفساد، ملبين نداء الوجدان.

ويقف على مفترق الطريقين طائفة تهتم بشؤونها الدينية والوجدانية بمقدار ما، ولكن رصيدها الايماني ليس بالمقدار الكافي لمواجهة الميول اللامشروعة. فهؤلاء يقفون مترددين تتملكهم الحيرة، فلا يستطيعون أن يغضوا الطرف عن الميول المتطرفة ويتخلوا عن اللذائذ المنافية للدين والوجدان شانهم في ذلك شأن المؤمنين، كما لا يستطيعون أن يصمموا بصورة حتمية على ارتكاب الجريمة شأنهم في ذلك شأن المنحرفين.

هؤلاء يتذرعون ببعض المببرات، وبعض الأدلة الواهية لإسكات ضمائرهم، وهم يأملون أن يحققوا رغباتهم النفسانية من دون أي اضطراب داخلي أو قلق باطني... ولكنهم غافلون عن يقظة الوجدان، وأنه من الذكاء والفطنة بحيث لا تنطلي عليه التلفيقات ولا تغيير مظهر الذنب بمظهر آخر، ولا يكف عن واجبه المقدس، وهو توجيه اللوم إلى المجرم.

"إذا كنا نقضي من هذه الظواهر بانطفاء جذوة الوجدان فقد وقعنا في خطأ كبير. إن الوجدان لا يزال حياً حتى في حالات الموت الروحي، ويستمر في القيام بعمله بكل هدوء ويستطيع أن يكشف عن وجوده فجأة باشراقة خلابة وغير متوقعة. فهناك إلى جانب الوجدان الذي يقوم بإظهار ميوله وعقائده وأفكاره، يوجد وجدان مستتر يحكي عن حالة روحية غير مرئية. إنه يمكن الاستعانة ببعض التعابير التي يستعملها. المريض والتي تعد فاقدة للمعنى وجنونية في الظاهر، كدليل على وجود هذا الثبات. هذه التعابير ترينا أن الوجدان يستطيع أن يبقى حياً تحت خرائب الذكاء والعقل".

"إن الوجدان يؤثر حتى في حياة الأنسجة وفي وضعية الأعمال الجسدية التي تملك شخصية حية بنفسها أيضاً"25.

وفي قضية عمر بن سعد، وقيامه بتلك المعركة الدامية على صعيد كربلاء أملا في الحصول على حكومة الري، أجلى شاهد على ما ذهبنا إليه. فمن جهة نجد أن قتل الحسين بن علي عليهما السلام وثلة من أصحابه الأبرار والأبرياء عمل مخالف للوجدان والدين والعقل. ومن جهة أخرى كان يرغب في الحصول على حكومة الري وفي ذلك لذة الرياسة، والرغبة النفسية التي تلح عليها نفسه الأمارة. فعندما اقترح عبيد الله بن زياد حكومة الري عليه بشرط قتل الامام الحسين عليه السلام اضطرب عمر لذلك وتحير في أمره. فلو كان فرداً مؤمناً ومتديناً لكان يرد ذلك الاقتراح بسرعة ولم يكن يقوم بتلك الجريمة الشنيعة لقاء حكومة لا تدوم أياماً. وإذا كان إنساناً منحرفاً وبعيداً عن الدين بتمام معنى الكلمة لا يقيم وزناً للوجدان والايمان والعقل والرأي العام، فانه كان يوافق على الاقتراح بدون ترديد ولا يقول شيئاً أبداً. ولكن الذي يظهر من وضعه أنه كان يحس بالاضطراب وعدم الارتياح لعمله هذا في ضميره الباطن ولكن لم يكن إحساسه هذا بالدرجة التي تجعله يغض الطرف عن لذة الرئاسة والجاه. فاستمهل عبيدالله ليأتيه بالجواب النهائي. وحين أقبل عليه المساء تنحى زاوية خلية، وجسد أمام ناظريه معسكرين متعارضين يقف في أحدهما الله والرسول، والعقل والشرف، والوجدان والانسانية... أما في المعسكر الآخر، فيقف حب الجاه والرئاسة، اللذة والشهوة، الحكومة وعبادة الذات , فبقي متحيراً بين ذينك المعسكرين فعندما كان ينظر إلى الله والوجدان والعقل كان يقول: يجب ألا أرتكب هذه الجريمة الشنيعة، أن لا أشترك في دم الحسين عليه السلام أما حين كان يلتفت نحو الشهوة والرئاسة كان يقول: يجب ألا أترك الفرصة تفوتني، فإن مقاماً مع هذه العظمة لا يتيسر دائماً... وأخيراً تذرع ببعض المغالطات الباطلة لاقناع الوجدان الذي يوجد في باطن كل انسان متدين وملحد. وأخيراً حلل القضايا من الوجهة الدينية، وكان أن قال:

يقولـون أن الله خالـق جنــة              وتعـذيـب، وغــل يديــن
فإن صدقـوا فيما يقولون، إنني    أتوب إلى الرحمـان من سنتيـن
وإن كذبوا فزنـا بدنيا عظيمـة         وملك عقيم دائــم الحجليــن

فأوجد هذه المسرحية الخيالية في ذهنه وجعلها ملجأ لجنايته، وتبريراً لخيانته، ظاناً أنه يستطيع إقناع وجدانه بهذا العمل، وأنه يستطيع أن يخفيه خلف أستار المغالطات الموهومة، ويحفظ نفسه من تعذيب الضمير إلى الأبد غافلاً عن أن الوجدان الأخلاقي الفطري ينظر بنور الواقع، وأنه لا يسكت بالتبريرات الباطلة، فالوجدان مشعل وضاء موجود في باطن الانسان. بأمر من الله، ولا يمكن إطفاؤه بهذه الكلمات. إن الوجدان الأخلاقي لا ينسى واجبه السماوي، ولا يدع المجرم لوحده، ولا يفسح المجال له ليتخلص من تعذيبه ولومه وتقريعه.

ولقد صمم إبن سعد على ألا يستمع لنداء الوجدان، ويتجاهل وجوده تماماً، ولكن تجاهل الحقيقة لا يقدر على إزالة الحقيقة.

"إن ما لا شك فيه أن هذه الحالات ناتجة عن أن الانسان يمتنع عن سماع نداء الوجدان، هذا الامتناع هوالذي يولد هذا التصور الخادع القائل بأنه لا يوجد وجدان. في حين أن الوجدان اليقظ قد لاذ بالوجدان المغفول"26.

وأخيراً فقد صمم على ارتكاب الجريمة، وأقدم على أعظم الذنوب أملاً في الحصول على حكومة الري... ولكن أسفرت النتيجة عن حرمانه من تلك الأمنية، وهنا تناوشته الضربات القاضية من قبل الوجدان من جهة وحز في نفسه انهياره السياسي وفشله الاجتماعي من جهة أخرى... فوقع في أسر الأمراض الروحية والاضطرابات النفسية وسلبت من راحته فأمر أن يمد فراشه طوال الليل والنهار، فكان يستلقي في الفراش تارة، ويتمشى في البيت أخرى ويتخطى في الأزقة بلا إرادة ثالثة... وكانت عاقبته أن لاقى حتفه على يد أحد الضباط الثوار في ذلك الفراش، وأنهى حياته المشؤومة بهذا الوضع المزري.

الهدوء النفسي

إن أسعد الناس هو الذي يملك نفسه ويسيطر على رغباته، لا يحوم حول الذنب، يستمع إلى النداء الواقعي للوجدان باذن الذكاء، يعيش حياة ملؤها الهدوء والارتياح، ويغادر الحياة بروح مطمئنة ونفس هادئة... ولكن المؤسف أن هؤلاء الأفراد هم الأقلية في كل مجتمع وأمة... فإن الأكثرية يقعون تحت أسر الأهواء والميول النفسانية، ونجد أن الغرائز والشهوات تسيطر بقوتها القاهرة، على أكثر طبقات المجتمع وتبعثهم على الاجرام والدنس !.

لقد فتح الأنبياء عليهم السلام أبواب الاستغفار والتوبة والكفارات على هؤلاء لإنقاذ المجرمين من الانهيار التام، ولارجاعهم مرة أخرى إلى طريق السعادة والفضيلة وتخليصهم من تعذيب الضمير... ولذلك نجد أن رسل السماء كانوا يبشرون الناس على مر العصور بالعفو والمغفرة والرحمة من الله العظيم، ولهذا الارشاد السماوي العظيم أهمية كبيرة في أنظار علماء النفس المعاصرين، حيث يعتبرونه من المسائل الأساسية في علاج الأمراض الروحية.

"إن تعذيب الضمير مؤلم جداً، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية، ولهذا فان لغفران الذنوب دوراً كبيراً وأهمية عظيمة في الأديان السماوية"27.

إن على المجرمين إما أن يستمروا في انحرافهم ويتمادوا في طغيانهم يعمهون، ويزجوا بأنفسهم والمجتمع في النتائج الخطيرة والوخيمة، أو يرجعوا عن الطريق المنحرف ويتوبوا إلى الله تعالى أملاً في العفو والمغفرة. ويكفوا عن الذنوب فيصبحوا أناساً طيبين طاهرين تماماً.

في الصورة الأولى نجد عوارض وأخطاراً تنتاب الفرد وتعم غيره من جراء الاستمرار في إجرامه نستعرض على سبيل المثال بعضاً منها:

1- خطر اليأس
إن المجرم الذي يستلذ طعم الاجرام، ويرى أن القيام به متأصل في نفسه وغير قابل للزوال، ولا يملك أي أمل في تطهير نفسه ومغفرة الله له يستمر في ارتكاب الجرائم بجسارة وجرأة كبيرتين لا يتورع من القيام بأي عمل مخالف، وبديهي أن اإنساناً كهذا يصبح فرداً خطراً في المجتمع بدلاً من أن يكون عضواً نافعاً فيه، ذلك لفقدانه الأمل في المغفرة، واليأس من العودة إلى الصواب، ولجرأته في الذنوب... وهكذا يكون خطراً شديداً على مجتمعه.

2- إتهام الأبرياء

إن المجرم يحاول لتبرئة نفسه، وبسبب ا لآلام الوجدانيه التي يلاقيها أن يتهم الأبرياء، وينسب جرائمه إليهم... وهذا العمل بنفسه يعدّ جريمة أكبر من ارتكاب الجريمة ذاتها، إذ من الممكن أن يؤدي في بعض الحالات إلى نشوء الاختلالات الاجتماعية، والمفاسد التي لا تدرأ، أو أن يعرّض أرواح الناس واموالهم إلى أخطار شديدة.

"إن الجرائم تضمن أخطاراً كبيرة للمجتمع، والاحساس بالاجرام يمكن أن يؤدي إلى ظهور بعض الأعراض النفسيه التي منشؤها حب البراءة والتي تنتهي إلى تحطيم الكيان الاجتماعي، وإذا دققنا في الموضوع وجدنا أن هذه الأعراض الناشئة من حب البراءة، تقود الانسان إلى اتهام الآخرين، وان الأبرياء الذين يرمون بالتهم الكاذبة يقفون بدورهم موقفاً دفاعياً ضد تلك الاتهامات وهكذا تولد موجة من التهم والمواقف الدفاعية التي لاحظنا بعض النماذج الحية منها... وأخيراً تنتهي هذه الحالات بهدم العنصر الأخلاقي والقيم المثلى في المجتمع الذي تحدث فيه"28.

3- غفران الذنوب
عندما تكون نوعية الذنب مهمة جداً، ولا يملك المذنب أملاً في المغفرة والعفو الالهي فإن الضغط الشديد الذي يلاقيه من الوجدان الأخلاقي يؤدي به إلى الجنون ويبعث به إلى ارتكاب الجرائم الخطيرة، ويفقد مجتمع بأسره راحته وهدوءه من جراء جرائمه التي لا تعد ولا تحصر. أما في الصورة الثانية عندما يندم المذنب على ما ارتكبه بفضل إرشادات الأنبياء، ويطمئن إلى المغفرة والعفو، ويظهر ندمه وتوبته بلسان الاعتذار إلى المقام الالهي... حينذاك تحل عقدته الباطنية، ويهدأ وجدانه، ويتخلص من اللوم الباطني ويستمر في حياته بروح مطمئنة هادئة وبهذه الصورة يمكن الوقوف أمام سقوط عضو من أعضاء المجتمع.

"عندما تمد الأيدي إلى أحضان الوجدان، وعندما يقر المجرم بذنبه، ويستعد لاصلاح نفسه... فان الأمل في الرحمة والمغفرة يطفئ الاحساس بالجريمة، ويولد فيه الهدوء والسكينة حيث يستطيع بهما أن يخرج رأسه بفخار من كابوس الاجرام الفظيع، وينسى بذلك ماضيه"29.

على أن التوبة الحقيقية والمغفرة للذنوب والفرار من الضغط الوجداني تستلزم بعض القواعد والأسس المعنوية والنفسية، وبدونها لا يمكن الحصول على الاطمئنان النفسي، والفرار من دنس الجريمة وهي:

1- الاقرار بالذنب
على المذنب أن يقر ويعترف بذنبه تجاه المقام الالهي بصراحة، ويطلب منه العفو والمغفرة. إن الاقرار بالذنب يستطيع أن يزيل درن الذنب، ويجلب رحمة الله الواسعة، ويقنع الوجدان الأخلاقي الناظر بعين الواقع، ويحل العقدة الباطنية، ويخلص الانسان من الضغط المتواصل للنفس اللوامة.

أما الذين يرتكبون الذنوب، ولا يعترفون بإجرامهم بسبب الأنانية والكبرياء لا يتوفقون للتوبة الحقيقية، ويكونون مشمولين للعذاب الالهي ومصابين بمضايقة الوجدان، واللوم والتقريع المستمرين منه.

"عن أبي جعفر عليه السلام: والله ما ينجو من الذنب إلا من أقر به"30 وقد ورد عنه (أي الامام الباقر عليه السلام) أيضاً: "ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين: أن يقروا له بالنعم فيزيدهم، وبالذنوب فيغفرها لهم"31.

يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام: "حسن الاعتراف يهدم الاقتراف"32.

2- رجاء المغفرة

يجب على المذنب أن يكون مطمئناً إلى رحمة الله الواسعة وراجياً لعفوه ومغفرته، لأنه لو لم تكن فيه هذه الحالة النفسية والاعتقاد الواقعي لا يستطيع أن يزيل وصمة الاجرام بالتوبة والاعتذار، ولا يتسنى له التخلص من تأنيب الضمير.

لقد وضع الاسلام الناس في مركز وسط بين الخوف والرجاء فحث المستقيمين في سلوكهم على عدم الاعتداد والعجب بالنفس، وان لا يروا أنفسهم بأمن من عذاب الله لحظة واحدة، وأوصى المذنبين أيضاً بأن لا ييأسوا، بل يعمروا قلوبهم بالرحمة من الله دائماً.

يقول الامام الصادق عليه السلام بهذا الصدد: "إن من الكبائر عقوق الوالدين، واليأس من روح الله، والأمن لمكر الله"33.

إن ميدان الخوف والرجاء في الروايات الاسلامية واسع جداً، فمهما كان المذنبون غارقين في المعاصي يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة الله. يقول الامام أمير المؤمنين لولده عليه السلام مذكراً إياه برحمة الله التي لا تتناهى ومغفرته التي لا تقف عند حد..."وارج الله رجاءً أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك"34.

فليس للمسلم المذنب أن ييأس من فيض رحمة الله، مهما عظمت ذنوبه...﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(الزمر:53).

3- الندم وطلب المغفرة

إن على المذنب بعد الاقرار بالذنب، ورجاء المغفرة، أن يطلب العفو والغفران في كمال الصدق مظهراً ندمه الواقعي على أفعاله السيئة، وطبيعي أن يغفر الله الذنب مهما كان عظيماً في ظروف مثل تلك، وهذا هو معنى التوبة الحقيقية. فإذا أظهر شخص الاستغفار بلسانه ولم يكن نادماً في قلبه على اعماله البذيئة، فانه لم يتب توبة حقيقية ولا تطهر نفسه.

يقول الامام الرضا عليه السلام بهذا الصدد: "من استغفر الله بلسانه ولم يندم بقلبه، فقد استهزأ بنفسه"35.

إن المذنبين الذين يتوفقون للتوبة الحقيقية ويخلصون أنفسهم بذلك وفي ظل العنايات الالهية من دنس الذنوب، يحوزون على ضمائر هادئة وأرواح مطمئنة، فلا يحسون بالحقارة والضعة في نفوسهم بعد ذلك ولا يسمعون تأنيباً من الضمير، ويبلغ بهم التنزه عن الذنوب إلى درجة أنهم يصبحون كأن لم يقترفوا ذنباً أصلاً، يقول الامام الصادق عليه السلام: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"36.

الايمان وتدارك الخطأ

لا بد من التنبيه إلى هذه النقطة، وهي أن الشرط الأول للتوبة الحقيقية وغفران الذنب هو الايمان بالله. إن الذي لا يملك رصيداً قوياً من الايمان أو أنه مادي ومنكر لله أساساً، لا يوفق لتطهير نفسه عن طريق التوبة ، فهو يلاقي الجزاء الصارم من تأنيب الضمير وكابوس الوجدان حتى آخر عمره، إن السبب في الاختلالات الروحية أو الجنون الذي يحصل للبعض من جراء تعذيب الضمير إنما هو فقدان عنصر الايمان عندهم، وعدم إحساسهم بوجود ملجأ معنوي. ولذلك فهم لا يستطيعون حل العقدة النفسية المتفاقمة في نفوسهم عن طريق التوبة والاستغفار. ولقد شاهدنا كثيراً من هؤلاء في عصرنا الحاضر، كما أنهم كانوا موجودين في العصور السابقة أيضاً.

كيف يستطيع عمر بن سعد (وهو الذي يظهر تزلزل العقيدة في كلماته، ويبدو تردده في الأصول الاسلامية المسلم بها) أن يطهر نفسه عن طريق التوبة الحقيقية؟!.

وعلى العكس من ذلك، فإن الذين تتألق في نفوسهم جذوة من الايمان والاعتقاد بالله، إذا ارتكبوا ذنوباً كبيرة فإن أدنى التفاتة نحو الله والاستغفار منه كاف في تخليصهم من ورطة المعصية، وإذا كان يأسهم من رحمة الله على أثر الغفلة أو الجهل فبمجرد أن يطلعهم على ذلك مرشد ديني عظيم نجدهم يرفعون أكف التضرع نحو الله تائبين نادمين، والله يتقبل توبتهم ويغفر لهم ذنوبهم.

إن في القصة الآتية أجلى شاهد على ذلك:

"كان علي بن الحسين عليه السلام في الطواف، فنظر في ناحية المسجد إلى جماعة، فقال: ما هذه الجماعة ؟ قالوا: هذا محمد بن شهاب الزهري، اختلط عقله فليس يتكلم فأخرجه أهله لعله إذا رأى الناس أن يتكلم فلما قضى عليه السلام طوافه خرج حتى دنا منه، فلما رآه محمد بن شهاب عرفه، فقال له علي بن الحسين عليه السلام: ما لك ؟ قال: وليت ولاية فأصبت دماً فدخلني ما ترى. فقال له علي بن الحسين: لأنا عليك من يأسك من رحمة الله أشد خوفاً مني عليك مما أتيت. ثم قال له: أعطهم الدية. فقال: فعلت فأبوا. قال: إجعلها صرراً، ثم انظر مواقيت الصلاة فألقها في دارهم"37.

فنجد أن الامام عليه السلام يحل مشكلة اليأس عند ذلك الوالي الذي قتل شخصاً بغير حق فأصيب بالجنون. بعلاج نفسي بسيط... ولذا نجد أن الغربيين يهتمون بهذه العلاجات. وفي ذلك يقول الأستاذ (هنري باروك) فيما مضى من حديث:

"إن تعذيب الضمير مؤلم جداً، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية. ولهذا فإن لغفران الذنوب دوراً كبيراً وأهمية عظيمة في الأديان السماوية".

*الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفي، الأعلمي ط3، 2002م، ج1، ص325-349.


 

1- أنديشه هاى فرويد ص:51.
2- اداب النفس للعينائي ج 2-111، نقلاً عن إرشاد المفيد ص:142.
3- جه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحى وعصبى ص:70.
4- نهج البلاغة ص:105.
5- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 2-335.
6- الكافي ج 2-336.
7- سفينة البحار للقمي ص:728 مادة هوى.
8- المصدر السابق ص:728.
9- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص:287 ط إيران.
10- المصدر نفسه ص 227 ط النجف الأشرف.
11- المصدر نفسه ص 234 ـ ط النجف.
12- راه ورسم زندكى تأليف ألكسيس كارل ص 39.
13- الكافي للكليني ج 2-454.
14- المحجة البيضاء في إحياء الأحياء للفيض الكاشاني ج 3-371.
15- المحجة البيضاء 3-371.
16- تحف العقول ص:74.
17- وسائل الشيعة للحر العاملي ج 3-202.
18- أمالي الصدوق ص:153.
19- جه ميدانيم ؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص 92.
20- جريدة إطلاعات الايرانية العدد 10377.
21- جريدة اطلاعا 2009-08-27