تحصين الطفل من التكبر
تربية الأبناء
من ردود الفعل التي تظهر عند المصابين بعقدة الحقارة لغرض إخفاء الفشل والإخفاق: التكبر. هذه الصفة الذميمة في نظر العلم والدين تعتبر من السيئات الخلقية الكبيرة، وتعدّ من الأمراض النفسية الخطيرة. إن الرجال المتكبرين محتقرون في أنظارالناس، معذبون عند الله تعالى.
عدد الزوار: 95
قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾(لقمان:18).
التكبّر
من ردود الفعل التي تظهر عند المصابين بعقدة الحقارة لغرض إخفاء الفشل والإخفاق: التكبر. هذه الصفة الذميمة في نظر العلم والدين تعتبر من السيئات الخلقية الكبيرة، وتعدّ من الأمراض النفسية الخطيرة. إن الرجال المتكبرين محتقرون في أنظارالناس، معذبون عند الله تعالى.
قال الإمام الصادق عليه السلام: "الكبر رداء الله. فمن نازع الله عز وجل رداءه لم يزده الله إلا سفالا"1.
إن أساس هذه الصفة الذميمة هو نوع من الحقارة التي يشعر بها المتكبر في ضميره، والذي يؤلمه ويقلقه دائماً. إنه يحاول أن يخفي حقارته الباطنية بالتظاهر بالكبر، وبهذه الطريقة يقنع نفسه، ويخفف من فشله.
عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من رجل تكبّر أو تجبّر إلا لذلةٍ وجدها في نفسه"2.
وعنه عليه السلام: "ما من أحد يتيه إلا من ذلّة يجدها في نفسه"3.
قد يبدو لأول وهلة بأن أساس التكبر هو الشعور بالعظمة. أي أن الإنسان عندما يرى نفسه عظيماً، ويحس بالكبر والعلو في نفسه يتكبر ويستعلي على غيره. لكن هاتين الروايتين تذكران عكس ذلك تماماً. فقد وجدنا أن الإمام عليه السلام يذكر الأساس الوحيد للتكبر بهيئة الأستنئناف المتعقب للنفي عبارة عن الشعور بالذلة في نفس الشخص. وكذلك يعترف العلماء المعاصرون بأن التكبر من الوجهة النفسية ناشيء من عقدة الحقارة. ولتوضيح معنى الحديثين، وتحليل الحالة النفسية للمصابين بالتكبر لا بد من إلمامة مبسطة بذلك.
التوقعات المعقولة
لكل فرد من أي طبقة كان وفي أي مقام حلّ قيمة معينة ومنزلة محدودة، يعرفه المجتمع بذلك المقدار ولا يوافق على احترامه اكثر من استحقاقه. أما الأشخاص الذين عرفوا حدود أنفسهم وينتظرون الإحترام من المجتمع بمقدار كفاءتهم وجدارتهم فإن الناس يقيمون وزناً لتوقعهم ذاك بكل رحابة صدر، ويقدّرون شعورهم فيحترمونهم بذلك المقدار.
قال علي عليه السلام: "من وقف عند قدره اكرمه الناس"4.
أما الأفراد المتواضعون، الذين يحمّلون المجتمع أقل من القيمة الواقعية التي هم عليها فإن موقف الناس تجاه تواضعهم ذاك يكون بإحترامهم اكثر مما يستحقون.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة. فتواضعوا رحمكم الله"5.
التجاوز عن الحد
أما الأفراد الذين يرغبون بدافع من الإثرة والأنانية أن يحمّلوا المجتمع أضعاف ما هم عليه من القيمة الحقيقية، والذين لم يعرفوا حدودهم الواقعية فيدفعهم ذلك ا لى أن يروا أنفسهم فوق الجميع، ويتوقعوا المزيد من الشكر والتقدير والإحترام من الناس... فإنهم غافلون عن أن الناس ليسوا يهملون توقعاتهم الفارغة هذه فحسب، بل يستهزؤون بهم ويحتقرونهم بسبب من تكبرهم وأنانيتهم.
قال علي عليه السلام: "من تعدّى حدّه أهانه الناس"6.
إن الأناني الذي يرى المجتمع أن قيمته الحقيقية خمس درجات، ويعتقد هو خطأ بأن قيمته خمسون درجة يستطيع للإستمرار في علاقاته مع الناس أن يسلك أحد طريقين:
الأول: أن يعترف بقيمته الواقعية التي هي عبارة عن خمس درجات، ويغض النظر عن توقعاته الفارغة، وينصرف عنها تماماً.
الثاني: أن يستمر في غيّه، ويصرّ على خطئه فيتصور أن قيمته الحقيقية عبارة عن خمسين درجة.
في الصورة الأولى سيتغير موقف الناس تجاهه ويصبح اعتيادياً تماماً، وتعود العلاقات بينه وبين الآخرين على اساس الاحترام المتبادل، لأن مرضه النفسي قد عولج، وانصرف الأناني المتكبر عن غيه، وأخذ يعترف بقيمته الواقعية فلا ينتظر من المجتمع توقعات فارغة. والناس أيضاً سيسلكون معه حسب الواجبات الإنسانية، ويحترمونه بالمقدار الذي يستحقه.
أما الصورة الثانية فإنها تؤدي الى نشوء عقدة الحقارة، وظهور صفة التكبر فيه. إن الأناني المخدوع ينتظر من الناس أن يستسلموا لأوهامه التافهة ويحترموه بمقدار خمسين درجة. أما الناس فإنهم لما كانوا يرون أن قيمته الحقيقية التسامح معه في هذا المجال. إن إهمال الأفراد توقعاته الفارغة يؤدي الى إهانته وتحقيره، وعلى أثر ذلك فإنه يواجه أولى الضربات الروحية القاصمة. إنه يشعر بالإضطراب وعدم الإرتياح في نفسه من هذا التحقير، ويظن أن الناس لم يعرفوا قدره وغمطوا حقوقه فيأخذ بالتصريح بتوقعاته ويطالب الناس بتنفيذها له... في حين أنهم يضحكون لهذه الأماني والأوهام الفارغة ويسخرون منه فينال جزاء أنانيته وإثرته بذلك.
إن الإهانات وسيل السخرية والإستهزاء التي تواجه هذا الفرد تشدّد من تألمه، فيتراكم فشله وإنهياره في ضميره، ويصاب بعقدة الحقارة في النتيجة. إنه يسيء الظن بالمجتمع ويحمل في نفسه حقداً تجاه الأفراد، ويصبح عدّواً لمحتقريه. ولكي يتلافى ذلك يقوم بأعمال مماثلة فيحتقر المجتمع، ويقول في نفسه: هؤلاء الأشخاص الجهلاء، الفاشلون، الغافلون، المغرضون، لا يسوون شيئا... هؤلاء الأفراد الحقراء، الأراذل، التافهون ليسوا بشيء ولا يستحقون احتراماً.
إحتقار الناس
إنه يؤمن بهذه الكلمات الباطلة والخيالية على أثر تكرر الإيحاءات الداخلية، وتتركز هذه القضايا في ضميره فيحتقر الناس دائماً. ثم يصبح إحتقاره هذا في عداد صفاته الذميمة الأخرى خُلقاً ثابتاً في نفسه، فيكون جزءاً من شخصيته وكيانه...
هذا الخلق المذموم يسمى بـ (التكبر) في علم النفس والأخلاق.
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تعريفه: "الكبرُ أن يغمض الناس ويسفه الحقّ"7 أي أن التكبر عبارة عن غمط حقوق الناس باحتقارهم، وترك الحق لتعارضه مع أهوائه وغايته الشخصية.
في هذا الحديث نجد أن الإمام الصادق عليه السلام يعرّف المتكبر بصفتين: إحداهما تحقير الناس، والثانية عدم رؤية الحق والواقع وبالإمكان أن نقول إن عدم رؤية الحق والواقع هو الذي يدفع الشخص المتكبر الى تحقير الناس لأن الذي ينظر الى نفسه والآخرين بعين الحقيقة ويحترمها بالإنقياد لها، ولا يتجاوز عن حده الواقعي، لا يحتقر الناس على خلاف الحقيقة.
نستنتج مما تقدم أن التكبر ناشيء من الحقارة في نفس المتكبر. إن الشخص الذي لا يشعر بالحقارة والضعة لا يصاب بالتكبر. وبهذا يتضح معنى الحديثين اللذين بدأنا بهما البحث فقد قال الإمام عليه السلام أنه لا يصاب بداء التكبر أحد إلا إذا كان يشعر بالذلة والحقارة في باطنه.
التجبر
لا يخفى أن الحديث الاول جعل (التجبر) مثل (التكبر) ناشئاً من الشعور بالحقارة. فقد قال عليه السلام: "ما من رجل تكبّر أو تجبّر، إلا لذلّة وجدها في نفسه" وهذا من المسائل القطعية في علم النفس ويعترف به جميع العلماء في العالم. إن كل من يستند إلى الظلم، والتجاوز واستغلال السلطة، والجبروت، والطغيان، والإعتداد فلا بد وأنه يشعر في باطنه بالخوف أو الضعف أو القلق... وبصورة موجزة لا بد وأن يشكو نوعاً من الحقارة.
"إن كل مظهر من مظاهر حب التغلب والتسلط على الآخرين أمارة على الشعور بعدم الإستقرار الروحي. إن رب العمل الذي يجور على عماله كثيرا فإن ذلك لا يفسر الا بخوف خفي من فقدان القدرة عليهم، وخروجهم على أوامره. إنه يعلم جيداً أن الأثر السلبي لشخصيته وتزمته أكثر من الأثر الإيجابي... هذا القانون ينطبق على الزوج الذي يجور على زوجته، والوالد الذي يعامل أولاده بخشونة أيضاً".
"عندما يكون الإستبداد، والظلم، والتجاوز رائجاً فإنه أمارة الشعور بعدم الكفاءة وفقدان الإعتماد على النفس وبالإمكان اكتشاف جذور هذه المفاسد بمعونة عالم نفساني أو بواسطة التأمل الباطني والحياد في كشف زوايا اللاشعور"8.
"كنت أعرف مهندساً قديراً ممتازاً في فنه. كان يعامل أصدقاءه وأفراد أسرته بالبشر واللين، ولكنه كان يبذل المزيد من الخشونة والشدة تجاه العمال الذين يشتغلون تحت إشرافه... كان يتناول الطعام لوحده، ولا يشارك الآخرين في أحاديثهم ونزهاتهم، كان لا يضحك أبداً ولم تظهر الإبتسامة على فمه، وكان لا يسمح لأحد بالاعتراض والإنتقاد، ولكننا كنا نعلم أنه يتألم كثيراً في باطنه من هذا السلوك، ويتمنى أن يستطيع التكلم والضحك مع الجميع، وأن يشارك الآخرين في تناول الطعام. وعندما سأله المحلل النفسي عن ذلك وتحرى جميع جوانب شخصيته، تبين أنه يشك في انقياد العمال والموظفين الذين يعملون تحت إشرافه له من دون أن يشعر بذلك... وأنه يتصور أنهم لا يرونه جديراً بالإشراف عليهم وإدارة شؤونهم وتوجيه الأوامر نحوهم، لذلك كان يثبت شخصيته بالضغط والشدة والخشونة"9.
في جميع الطبقات
إن المقياس الأساسي والعلمي لنشوء ظاهرتي التكبر والتجبر، هو الإحساس بنوع من الضعف والحقارة. ولذلك فإن من الممكن أن يظهر هذا الداء في جميع الطبقات والأمم، فلا يختص بطبقة دون أخرى... إنه يظهر في الأغنياء والفقراء، في البيض والسود، في القادة والمنقادين.
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الكبر قد يكون في شرار الناس من كل جنس، إن رسول الله صلّى الله عليه وآله مر، في بعض طرق المدينة، وسوداء تلقط السرقين. فقيل لها: تنحي عن طريق رسول الله. فقالت إن الطريق لمعرض. فهم بها بعض القوم أن يتناولها. فقال رسول الله: دعوها فإنها جبّارة"10.
إن السود كانوا يتعرضون للتحقير والإهانة من البيض دائماً ولذلك فإنهم كانوا يحترقون في نار الحقارة، ويشعرون بالذلة والهوان، وهذا ما كان يؤلمهم كثيراً... فلا عجب إذن أن تصاب امرأة سوداء بسبب من الحقارة العنصرية بالتجبر وتكلم الناس بهذا الأسلوب من التكبر.
العرب قبل الإسلام
لقد كان العرب قبل مجيء الإسلام يعيشون في أتعس الظروف المادية والمعنوية، وكانوا مرتطمين في هوة من الفساد والإنحراف، يقدمون على الجرائم المختلفة... محرومين من كل رصيد علمي أو ثقافي، بعيدين كل البعد عن القيم الاخلاقية والأسس الإيمانية، منحطين من الناحية الإقتصادية ومع ذلك فقد كانوا مصابين بأشد درجات التكبر وأعلى مراتب الجبروت، إنهم كانوا يحتقرون جميع الناس من الأمم الأخرى لتكبرهم، والسبب في ذلك شعورهم بالحقارة والذلة في أنفسهم من جميع الجهات.
لقد شرح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حالة العرب قبل الإسلام بجمل قصيرة، فقال:
"إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل. وأنتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار منيخون بين حجارة خشن وحيات صم، تشربون الكدر وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم. الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة"11.
نموذج للتكبر
بالرغم من أن النبي صلّى الله عليه وآله بذل جهداً كبيراً في سبيل إنقاذ تلك الأمة المتخلفة والمتكبرة، واستطاع من حلّ كثير من العقد النفسية بفضل تعاليمه القيمة، ولكن التكبر كان ضارباً بجذوره في قلوبهم طيلة قرون عديدة الى درجة أنه ظل بعض الأفراد مصابين بهذه الصفة الذميمة، بحيث كانوا لا يقيمون وزناً لغيرهم أصلاً كانهم ليسوا بشراً، ولا يجمعهم أب واحد.
وعلى سبيل الشاهد أذكر لكم نموذجاً تاريخياً طريفاً:
توجه علقمة بن وائل الى المدينة المنورة للقاء النبي صلّى الله عليه وآله فتشرف بحضرته وعرض عليه حاجته. ثم قصد الذهاب الى دار أحد كبار الأنصار في المدينة ولكنه لم يكن يعرف الدار. كان معاوية بن أبي سفيان حاضراً في المجلس فأمره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بإرشاد علقمة الى دار الانصاري. يقول معاوية:
خرجت بصحبة علقمة من عند النبي، فركب ناقته وأخذت أسير على قدمي الحافيتين في شدة الحر.
فقلت له في أثناء الطريق: لقد احترقت قدماي من شدة الحر فأردفني خلفك.
فقال علقمة: إنك لا تليق بأن تركب ردف السلاطين والعظماء.
فقال له معاوية: أنا ابن أبي سفيان.
فقال له معاوية: إذا كنت لا تسمح لي بالركوب خلفك، فانزع خفّيك لألبسهما وأتقي وهج الأرض.
قال علقمة: إن خفي أكبر من قدميك... ولكن أسمح لك بالسير في ظل ناقتي، وإن في هذا تسامحاً كبيراً مني تجاهك، وهو في نفس الوقت مدعاة للفخر والإعتزاز لك، أي أنك تستطيع أن تتباهى أمام الناس بأنك سرت في ظل ناقتي12.
إن هؤلاء المتكبرين والأنانيين الذين لا يريدون الخضوع للواقع، والذين يحلمون بالعظمة دائماً، ويعيشون في عالم من الخيال والوهم... يعملون على تعاسة أنفسهم وغيرهم، وربما يدفعهم ذلك الى القيام بأعمال خطيرة، وتحمل مصائب وخيمة.
الأحلام التي لا تتحقق
"العلامة الأخرى من علامات عقدة الحقارة أن الفرد يعيش في عالم من الأحلام والخيال، والذي يسمى في الإصطلاح العلمي بـ (الفانتزي). ويعني ذلك الفرار من الواقعيات، والتهرب من المشاكل والمسؤوليات، واللجوء إلى دنيا الأحلام والآمال التي لا تتحقق".
"إن خطر هذه الحالة النفسية يكون عندما يصبح الشخص مأسوراً لها بحيث يفقد القدرة على العمل والنشاط في قبال حقائق الحياة. فعندما يستولي الشعور بالهرب من الحياة على شخص ما، خصوصاً إذا كان متمتعاً بقدرة ومنزلة سامية، فإن المآسي التي تنتج من ذلك عظيمة جداً الى درجة أن تصورها يبعث على الألم والاستيحاش".
"إن الشعور بالحقارة الذي أصاب الألمان بعد إندحار عام 1918، أدى إلى أن يعيش هؤلاء في حالة من الفانتزي الروحية والإجتماعية فقد أخذوا منذ ذلك الحين يؤلفون الكتب، وينظمون الأناشيد (التي أشهرها نشيد المانيا فوق الجميع)، أملا في اليوم الذي يتغلبون فيه على الأمم الأخرى ويأخذون زمام الحكم في العالم".
"هذه الحالة النفسية هي التي مثلت مأساة الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى انكسار الألمان أيضا"13.
مما تقدم نستطيع أن نخلص الى أن التكبر والإستعلاء ناتج من عقدة الحقارة. إن الأشخاص المأسورين للأنانية والإثرة وعبادة الذات عندما يشعرون بالحقارة فإنهم يلجأون الى التكبر لإرضاء أنانيتهم، ويتداركون الحقارة بتحقير الآخرين، أو ارتكاب الجرائم العظيمة إذا تمتعوا بقدرة على ذلك.
الأنانية
هنا يثور سؤال:
لماذا يصاب البعض بمرض الأنانية ؟ وكيف تتأصل هذه الصفة الذميمة في نفوسهم ؟ إلى درجة انهم تعشى عيونهم عن رؤية الحق والواقع ويشعرون بالإستعلاء على الجميع، ناسبين لانفسهم قيمة أعلى مما يستحقون ؟
للإجابة على هذا السؤال نقول:
هناك علل وعوامل كثيرة تتسبب في إيجاد هذه الحالة النفسية، وإصابة الفرد بمرض الانانية. ولما كان الموضوع الاساسي لبحثنا عبارة عن تربية الطفل، فسنتحدث في هذا المقال عن عاملين يتعلقان بدور الطفولة فقط، مرجئين البحث عن العوامل المؤدية الى نشوء الأنانية عند الكبار الى مجالات خاصة بذلك.
إن العامل الأول لنشوء هذه الحالة النفسية عبارة عن الوضع الطبيعي للطفل. فكما أن بعض الأطفال يتولدون مع نقائص عضوية أحياناً، بعضها قابل للإصلاح والبعض الآخر لا طريق لمعالجته... كذلك البناء الروحي لبعض الأطفال فإنه قد يكون غير طبيعي منذ اليوم الأول من الولادة، وهذا بدوره قد يكون قابلاً للتعديل، وقد تعقم جميع الوسائل المستخدمة لعلاجه.
إن العلماء المعاصرين يسمون الأطفال غير الاعتياديين بـ (الأطفال المعقدين). وقد أجروا تجارب وتحقيقات كثيرة حولهم، وصنفوهم إلى طبقات مختلفة.
الأنانية عند الأطفال المعقدين
هناك طبقة من الأطفال المعقدين، يعتبر الغرور والانانية جزءً من فطرتهم. هؤلاء كأنهم تولدوا متكبرين وأنانيين مع بنائهم الروحي الخاص، وإنهم يمتازون بشذوذ روحي منذ البداية.
"إن الطفل المعقد يمتاز بسلوك خاص منذ اللحظة الأولى لولادته، وذلك كالغرور الفطري الذي يؤدي الى سيطرة أنانيته على جميع ميوله الأخرى".
"إن اللهجة الناتجة من المنطق الخاطىء واضحة عند الطفل المعقد. وإن خطر هذه الحالة يكمن في أنه يستند الى هذا المنطق الخاطىء دائما ولا يرضى بالتنازل عنه، ولذلك توجد في ذهنه صور مغلوطة تماماً عن الأشياء والموجودات، كأنها قد نُظر إليها من خلال أشعة منكسرة.
"يتميز الطفل المعقد بتركيب خاص واضح. إن وجهه منقبض في الغالب، ويكون في حالة عصبية دائماً... شفتاه دقيقتان ونظرته ثابتة وباهتة، وعندما يبهت لشيء فلا يمكن إخراجه عن هذه الحالة من الجمود الروحي، لأن وضعه الروحي يشبه عضلات وجهه في الجمود والخمول. في هذه الحالة ينطوي الطفل على نفسه، ثم يسلك سلوكاً يوهم كونه في حالة من الهجوم، لأنه يهمل كل شيء وقد يؤدي ذلك إلى عدم إحترام الآخرين".
"هذه هي علائم للشخصية التي قد تتحطم ولكنها لا تتغير. إنه سريع في حركاته، ويرغب في الإستقلال منذ الطفولة ويحاول أن يجد طريق حياته لوحده. أحياناً يعلن هؤلاء الأطفال الحرب على المجتمعات التي لم ترض شعورهم بالأنانية والإثرة، ولما كانوا أشخاصاً خطرين فإنهم يتسببون في إحداث مشاكل عظيمة"14.
هؤلاء الأطفال الذين يعبدون ذواتهم، وكأنهم جُبلوا على الغرور تكون حركاتهم وسكناتهم، أقوالهم وأفعالهم، تجاه الأطفال والكبار، عند اللعب وفي الحالات الإعتيادية مليئة بالتكبر والإستعلاء.
هؤلاء يندحرون في حياتهم بسرعة. ويطردهم المجتمع الذي ينفر من الاحتكاك بهم والتعاون معهم.
تربية الأطفال المعقدين
إن التربية الصحيحة لهؤلاء الأطفال الذين جُبلوا على التكبر والغرور تحتاج الى أسلوب خاص، يختلف عن أسلوب تربية الأطفال الإعتياديين، لا بد من وجود مربّ قدير يشرف عليهم، ويعمل على قمع تلك الصفات الذميمة فيهم بالأساليب العلمية والتطبيقية، ويزرع بذور الصفات الطيبة بدلاً منها.
يقول (شاويني) بالنسبة الى معالجة العناد والتناقضات في الأطفال المتكبرين: "إن العنصر الأصيل للتناقضات هو التكبر. إن مشاهدات الشخص المتكبر خاطئة غالباً، ومن الخطورة بمكان أن نفاجئه بالحقيقة رأساً ومن دون مقدمات، وربما كان ذلك سبباً لتركيز عاداته البذيئة لأنه سوف لا يعترف بأنه يتحدث بالتناقضات، ويسند كلامه بأدلة وتبريرات. لا تصرّوا على إثبات كلام آخر في قبال كلامه أبداً لأنكم بعملكم هذا تكونون قد ساعدتموه على الإستمرار في سلوكه لأنه سيزداد إصراراً على كلامه".
"لا تناقشوا معه مطلقاً، واحذروا عن كل شيء يؤدي إلى إثارته، ولكن بالرغم من أنكم تعلمون أنه لا شيء وراء هذه المظاهر فمن المناسب أن تستشيروه في قضاياه وتسألوه عن رأيه فيها. ستعجبون إذا لم تكونوا قد جربتم ذلك عندما تجدون أن هذا الشخص المغرور والمتكبر ينقلب الى شخص حائر ومتردد لا يعلم ما يقول، لأنه كان قد أعدّ نفسه لمعاندتكم فقط... دعوه على هذه الحالة لفترة وإذا بكم تجدونه يطلب المعونة منكم بكل خضوع وسيقبل آراءكم جميعها !".
"هذا الأسلوب الذي يمنع من معارضة الطفل، من محاسنه أنه يمنع من نمو هذه الميول الروحية المتطرفة فيه، مضافاً الى أنه يحفزه نحو الإبتكار والإبداع وهذا بنفسه يمكن أن يكون علاجاً قطعياً فيعتاد أخيراً على أن يعمل برأيه على نحو الاستقلال في كل قضية تواجهه"15.
لو لم يتلقّ هؤلاء الأطفال غير الإعتياديين تربية سليمة، ونشأوا تبعاً لذلك على الغرور وعبادة الذات أصبحوا أفراداً خطرين وفوضويين، وقد يجرّون على انفسهم وعلى سائر الناس سلسلة من المشاكل والمآسي لأن تحقير الناس وإهمالهم مضافاً الى أنه يزيد في غرورهم ويبلغ بتكبرهم الى درجة الجنون، يزرع في نفوسهم بذور الحقد والبغضاء تجاه المجتمع الذي لم يستجب لمطالبهم ولم يرض شعورهم بالإثرة والأنانية، ولذلك نجدهم يقدمون على مختلف الأعمال الخطيرة.
الغرور في صورة إجرام
يقول (جلبرت روبين): "كمثال على هؤلاء الأطفال أذكر لكم قصة شاب جميل في الخامسة عشرة من عمره إنه كان يقضي جميع أوقاته في تحليل وقياس المواد المتفجرة التي كان يحوزها، وفي إحدى الأيام تفجر شيء من المساحيق وسبّب حريقاً عظيماً. هل تستطيعون أن تعرفوا الدافع له الى ذلك العمل ؟ أجل، إنه كان يريد أن يحرق الدنيا بأسرها، وهذه هي عبارته، والهدف العظيم الذي كان يسير حثيثاً نحو تحقيقه"16.
نستنتج مما تقدم أن البناء الروحي لبعض الأطفال ليس اعتيادياً، بل إنهم يملكون غروراً ذاتياً وشعوراً بالإنانية منذ البداية. وهذا هو العامل الأول الذي يؤدي الى نشوء صفة التكبر الذميمة عند بعض الأطفال وعن طريق الأساليب التربوية الدقيقة فقط يمكن هداية نفوسهم المريضة وطبائعهم المنحرفة الى الطريق المستقيم. ولحسن الحظ فإن عدد هؤلاء الأطفال المعقدين قليل جداً.
المدح من غير استحقاق
والعامل الثاني الذي قد يؤدي الى نشوء الشعور بالأنانية وعبادة الذات عند الانسان، ويوقع الإنسان في هوة التعاسة والشقاء هو الأساليب التربوية الفاسدة التي يتلقاها في طفولته. إن الأبوين الجاهلين اللذين يمدحان الطفل من غير استحقاق، ويبذلان له من العطف والحنان ما يزيد على الحد المعقول يحطمان شخصيته بذلك، ويزرعان بذور الأنانية في نفسه منذ البداية.
إن هؤلاء الآباء والأمهات يقومون بأعمال ظاهرها الحب ولكنها تحمل في أعماقها العداء. لأنهم يتسببون في انحراف الطفل الذي لا يعرف حدوده الواقعية. إنهم يقولون له: أنت الروح، أنت القلب، أنت قرة العين، أنت نور البيت، أنت الدرة الفريدة، أنت أغلى من جميع الأطفال والخلاصة:انهم يتحدثون معه بالأكاذيب والخدع الكثيرة، ويفهمونه تدريجياً بأنه يتمتع بمنزلة سامية ودرجة رفيعة.
هذا المدح، وهذا الحنان يثبت جذوره في روح الطفل... وإذا بسلوكه في الكبر ينبع من تلك الأسس التي نشأ عليها والأفكار التي أعتنقها بصورة نهائية.
"إن دور الطفولة يستند إلى أسس قويمة بحيث يرتبط الإتساع في المشاعر في الفترات اللاحقة الى ذلك الدور وذخيرة الحب التي يحصل عليها الطفل تعتبر من هذه الأسس. إن الحب، مضافاً الى جانب جلبه للذة الشخصية التي تؤدي الى نشوء عبادة الذات في الطفل، يشتمل على مجموعة من المشاعر التي يحصل عليها في جو الأسرة، والمدرسة".
"تترك مظاهر الحب التي تلقاها الطفل في الدور الأول من حياته، أي قبل بلوغه الخمس أو الست سنين، وكذلك التجارب الطيبة أو المرة الناتجة من ذلك، آثارها في الجانب اللاشعوري من ضمير الطفل. هذه الآثار تكون النقاط البارزة من وضعه الروحي"17.
إن الضمير الباطن للطفل المدلّل مليء بالإثرة والأنانية. هذا الطفل لا يجد في الحياة أحداً غيره، لأن أبويه لم يعلمّاه غير هذا الأمر. إن الذخيرة الوحيدة التي تركزت في روحه منذ الصغر هي عبادة الذات. إنه يتذكر إنطباعاته عن دور الطفولة، فهو القلب، وهو الروح، وهو أغلى من الجميع. إنه يدخل المجتمع بتلك الروح ويتوقع من جميع النساء أن يدللنه كأمه، وينتظر من جميع الرجال أن يحترموه كأبيه.
الفشل
هذا الطفل عندما يشب ويترعرع لا يجد من الناس الإحترام الذي كان يتصوره، لذلك يتألم من البرودة التي يعامله المجتمع بها، الى أن يتولد عنده الشعور بالحقارة. إن تكرار الإهمال والبرودة يؤدي إلى إزديار التوتر النفسي، والفشل المتواصل يؤلم ضميره حتى يتحول الشعور بالحقارة الى عقدة الحقارة وتحدث فوضى عظيمة في روحه.
"لقد أكد (آدلر) في التحقيقات التي أجراها بصدد الآلام الناشئة من عقدة الحقارة على دور الوضع الروحي للتعليم والتربية، والاعتناء بالشخصية، في نشوء كثير من الأمراض الروحية والعصبية"18.
إن التكبر من أعظم الحجب الذي تُسدل على العقل فتؤدي إلى ظلمته وكلما كان نفوذ هذه الصفة الذميمة في روح الفرد أقوى كان حرمان العقل من إدراك الحقائق ورؤية الواقع أشدّ.
إن المتكبرين يقدمون في سلوكهم على أعمال غير عقلائية، وربّما أدى الأمر الى الجنون. لقد صرّحت الأحاديث بذلك واعتبرت التكبر آفة عظيمة من آفات العقل، تؤدي الى نقصه وضعفه.
فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: "شر آفات العقل الكبر"19.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "ما دخل قلب امريء شيء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك، قل أو كثر"20.
في العلم الحديث
يرى العلم الحديث أيضاً أن التكبر من الأمراض الروحية، وأن المتكبرين مصابون بنوع من الجنون، حتى أن بعض العلماء يعدّونهم في عداد سائر المجانين.
"في بعض الموارد يأخذ الهذيان أي أسلوب التفسير الباطل طبيعة اخرى، ويرتبط باختلال الاخلاق والإدراك. في هذه الحالة يصبح الشخص متكبراً ومحباً للشر، فيسيىء الظن بمن حوله وبالتدريج يتأصل هذا الإتجاه في دماغه. عندما تقف الأمور عند هذا الحد فإننا نجابه إنساناً شديد الحساسية. أما إذا ظهرت بصورة ملموسة فقد تنتهي الى الهذيان الحقيقي وردود الفعل المعاكسة للمجتمع".
"لقد بحث العالمان (سريو) و (كاب گرا) هذه الأمور بصورة مفصلة تحت عنوان (الهذيان في التفسير).
هؤلاء المصابون لا يبدو عليهم الجنون لأول وهلة، لأنهم لم يفقدوا قدرتهم على الاستدلال، وإن الذي يتحدث معهم يتصور أنهم مفكرون ومتعمقون في القضايا ولهذا السبب بعينه فقد كانت هذه الحالات تسمى في السابق بـ (الجنون المعقول). إن إصلاح (الجنون الجزئي) يشير الى هذه المظاهر. إن الاختلال الأساسي الذي يوجه هذا الميل الروحي عبارة عن حالة نفسية ناشئة من التكبر، بحيث تمنع المصاب من أن يكون حيادياً في تحكيمه، فيتهم البعض بدون دليل ما بكونهم عقبة في سبيل تحقيق أهدافه، هذا الاختلال الذي يختص بمميزات معينة يشاهد في الحياة الإعتيادية خصوصاً في الحياة السياسية، الذي تجد فيها الأحقاد والأهواء والأغراض الشخصية الميدان الوسيع لنشاطها. يكون الميل للسيطرة والتكبر أوضح عند البعض، لأن ضمائر هؤلاء تكون مصابة بنوع من التخدير والشلل، ولذلك فإن كل ما يرغبون في تحقيقه يبدو لهم أنه عين الصواب، ولكنهم ينتقدون سلوك الآخرين بشدة. كل من يخالفهم أو لا يخضع لأعمالهم الطائشة يعتبرونه عدواً ويتصورون أنه يؤلمهم كثيراً، في حين أنهم هم الذي يؤلمون الآخرين"21.
أما عقدة الحقارة فهي عبارة عن مجموعة من الخواطر الروحية المتراكمة التي لم تصبح جزء من شخصية الإنسان بعدُ، ولا تستطيع أن تصبح جزء من شخصيته بواسطة إجراء تحوير شكلي أو ظاهري... لأن العقد مؤلمة جداً، والصراع دائب بينها وبين روح الفرد. هذه ا الخواطر الروحية المتراكمة قد تنشأ في الإنسان نتيجة لتجارب مختلفة، فبدلاً من أن يطردها من دماغه أو ينسى شعوره الخاص نحوها يودعها في ضميره الباطن وفي زاوية اللاشعور ثم يتذكرها بالتدريج. في حين أن تجددها يبعث الألم والقلق في صاحبها"22.
أمارة النقص
إن الأنانية التي يتّسم بها الأفراد المغرورون والمتكبرون، لهي أمارة على النقص المعنوي وانخفاض المستوى الأخلاقي عندهم. إن هؤلاء الأفراد يصابون بعقدةالحقارة عندما يجدون أن المجتمع لا يعير اهتماماً لتوقعاتهم الفارغة، وعندما يرون نتائج فشلهم صريحة في تحقير الأفراد إياهم.
لقد قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك: "كفى بالمرء منقصةً أن يعظم نفسه"23.
وعنه عليه السلام: "كفى بالمرء غروراً أن يثق بكل ما تسول له نفسه"24.
وعنه أيضاً: "من سأل فوق قدره، استحق الحرمان"25.
حل العقد النفسية
إن مرض هذا الإنسان ناشىء من نفسه، وعلاجه بيده. إنه لو استعان بالعقل والمنطق، وتنبه الى فساد التربية التي درج عليها، وزكى نفسه وطهرها، وترك الإستعلاء والتكبر، ونسي عبادته لذاته، وأعطى نفسه ما تستحق... فإن الأستار المظلمة سترفع، والغيوم الكثيفة ستنقشع، وتنتهي المآسي.
أما لو ثبت على خطئه، وأصرّ على عبادة ذاته، وأغفل نداء عقله، ولم يعرف قدر نفسه، وظل يظن نفسه عزيزاً ومدللاً، يتوقع الإحترام والتكريم من الجميع... فإن الإنهيارات المتتالية ستحطم شخصيته، وتضيق العقد المؤلمة الخناق عليه. فيبدأ بالتخطيط للإنتقام لتدارك حقارته... يحتقر الآخرين ويتكبر عليهم، ويقابل إهمال الناس وتحقيرهم بالإهمال والتحقير أيضاً.
عندئذ تتشدّد المصيبة ويتسع الخرق على الراقع لأن الإنحراف الخلقي يزداد في المجتمع. ذلك أنه عندما يبتلي المصابون بالغرور بداء التكبر، وتستأصل فيهم النخوة المستندة الى الجهل فإنهم يواجهون مشاكل جديدة ويصطدمون بآلام شديدة.
إن الذي يصاب بالتكبر وينظر الى المجتمع بعين الحقارة والذلة، يواجه بلا ريب رد فعل مشابه من الناس، فيأخذ المجتمع باحتقاره وعدم الإعتناء به. وهذا هو أفضل جزاء للمتكبر.
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "مَن تكبّر على الناس ذلّ"26.
المجنون حق الجنون
روي جابر بن عبدالله الأنصاري أنه: "مرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله برجل مصروع وقد اجتمع عليه الناس ينظرون إليه. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: على ما اجتمع هؤلاء:
فقيل له: على مجنون يصرع.
فنظر إليه فقال: ما هذا بمجنون. ألا أخبركم بالمجنون حق الجنون ؟ !
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: إن المجنون حق الجنون: المُتبخترُ في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرّك جنبيه بمنكبيه. فذاك المجنون وهذا المبتلى"27.
التكبر وضعف العقل
إن المصابين بداء التكبر ينظرون إلى جميع أعمالهم نظرة الإستحسان ويتوقعون من الجميع أن ينقادوا إليهم ويقتدوا بسلوكهم، ويصدّقوا جميع أقوالهم. ومن يخالفهم في ذلك فهو مجنون في عرفهم، حاقد لا يستطيع رؤية ما هم عليه من الفضيلة والكمال ! وهذا بنفسه أعظم علائم ضعف العقل.
ففي الحديث: "العُجب درجات. منها أن يُزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيُعجبه ويحسب أنه يحسن صنعاً"28.
وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: إعجاب المرء بنفسه يدلّ على ضعف عقله"29.
فقر الإنسان وحاجته
إن الكبرياء والعظمة لله فقط، لأنه هو الغني بذاته، لا طريق للفقر والاحتياج الى ذاته المقدسة فهو الكمال المطلق... وجميع الموجودات محتاجة اليه.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾(فاطر:15).
الانسان الذي يفقد القدرة على المقاومة في قبال الجوع أو العطش، أو الحرّ أو البرد... الشخص الذي يهرب من وجه الوحوش المفترسه، والحشرات المؤذية... الموجود الذي كله ضعف وعجز... لا يملك العظمة الحقيقية والكبرياء الواقعية حتى يدعوه ذلك: الى التجبر والتبختر.
فاذا عرف الانسان حدّه، وأدرك: حقيقته، ولم يتجاوزها... فانه لا يصاب بداء التكبر والغرور أبداً، ولا ينظر الى عباد الله نظرة الاستخفاف والاحتقار !
وعلى العكس فان الانسان الذي جهل حدّه، لا يرى في الوجود أحداً غير نفسه. ولا يفكر في شيء غير ارضاء ميوله وتحقيق مصالحه الشخصية... انه لا يقيم وزناً لسعادة المجتمع. ولذلك: فلا يتورع من الاقدام على الجرائم العظيمة.
"ان موضوع الميول الشخصية التي نعبّر عنها بالغرور والأنانية عبارة عن وجودنا بكلا شطريه: الجسمي والنفسي وإذا كانت الميول الإجتماعية تدعونا الى نشاطات لصالح المجتمع وتحقق الخير والنفع للجميع، فإن الميول الفردية تهمل شأن المجتمع تماماً. إنها لا تنظر في نشاطاتها إلا إلى وجود الفرد ومنافع (الأنا) فقط، فيتذكر حقوقه جيداً لكنه ينسى واجباته. عندئذ يظهر الإجرام بصورة مختلفة من الميول الفردية كالتكبر، والإهتمام بالذات، والرغبة في الحصول على الثروة، وغير ذلك. إن المتيقن هو أن جميع هذه الميول تنبع من حب الذات وعبادة الشخصية، وهي التي تدفع الفرد الى التضحية بالآخرين في سبيل نفسه"30.
النصائح المناسبة
من الخدمات العظيمة التي يقوم بها الرجال العظماء والساهرون على مصلحة المجتمع، قيامهم باسداء النصائح اللازمة في الأوقات المناسبة الى المتكبرين والمغرورين... حيث انهم بنصائحهم الثمينة ينزلونهم من صهوة غرورهم ولو لبضع ساعات. وهناك شواهد تاريخية كثيرة على ما نقول.
لقد كان (المنصور الدوانيقي) من الخلفاء المتجبرين في السلسلة العباسية. لقد جعلت ذبابة يوماً وجهه مسرحاً لنشاطها وتنقلها، فقد أخذت تطير من شفته الى عينيه، ومن عينيه الى أنفه، ومن أنفه الى جبهته حتى ضاق بها ذرعاً وتألم كثيراً. فقال لخدمه: انظروا من ينتظرنا بالباب، فقالوا له: مقاتل بن سلمان.
كان مقاتل هذا من كبار المحدثين والمفسرين في ذلك العصر فأمر المنصور بالسماح له في الدخول. وما أن دخل حتى وجه له المنصور السؤال التالي:
"هل تعلم لماذا خلق الله الذباب ؟!
قال: نعم. ليذلّ الجبابرة !
... فسكت المنصور"31 من هذا يظهر أن كلام مقاتل أثر فيه، فقد وجده مطابقاً للحقيقة، ومنسجماً مع الحالة السابقة التي كان عليها.
ونموذج آخر نجده في قصة المهلب بن أبي صفرة والي عبد الملك بن مروان على خرسان. فقد كان في بعض الأيام مرتدياً ثوباً من خز، ويسير في الطرقات بكبرياء وتبختر، فقابله رجل من عامة الناس وقال له: يا عبدالله، إن هذا المشية مبغوضة من قبل الله ورسوله.
فقال له المهلب: أما تعرفني ؟
قال: بلى أعرفك... أولك نطفة مذرة، وآخرتك جيفة قذرة، وانت بين ذلك تحمل عذرة.
فمضى المهلب وترك مشيته تلك، دون أن يتعرض للرجل بسوء32.
درجة من الإلحاد
إن التكبر من أعظم الصفات الذميمة في الإسلام. وقد وردت في ذلك آيات وأحاديث كثيرة يحتاج نقلها جميعاً الى كلام طويل، لكني سأكتفي بحديث واحد في نهاية المقال فقد سأل الراوي الإمام الصادق عليه السلام عن أدنى الإلحاد، فقال: "إن الكبر أدناه"33.
في هذا الحديث نجد أن الإمام الصادق لم يعتبر التكبر صفة ذميمة فحسب، بل اعتبره مرتبة من مراتب الكفر والإلحاد. وكأنه يريد أن يقول: ان المتكبر يكون قد خطا الخطوة الأولى في طريق الإلحاد والمروق عن الدين.
الخلاصة
يجب على الوالدين أن يبذلا الدقة الكاملة في تربية أطفالهما، ويراعيا الأعتدال في معاملتهم بالحب والحنان، والتشجيع والمدح. لأن الإفراط في ذلك يؤدي الى نشوء الأطفال على الغرور والتكبر، ولا يخفى ما في ذلك من مشاكل وآلام.
لقد نصح لقمان الحكيم ابنه قائلا له: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾(لقمان:18).
*الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفي، الأعلمي ط3، 2002م، ج2، ص317-339.
1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2-309.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2-312.
3- نفس المصدر.
4- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 668.
5- مجموعه ورام ج1-201.
6- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 668.
7- معاني الأخبار ص 242.
8- عقدة حقارت ص 82.
9- رشد شخصيت ص 117.
10- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2-309.
11- نهج البلاغة شرح الفيض الاصفهاني ص 83.
12- آداب النفس للعينائي ج1-302.
13- عقده حقارت ص 36.
14- جه ميدانيم ؟ تربية اطفال دشوار ص 33.
15- چه ميدانيم ؟ تربيت اطفال دشوار ص 80.
16- چه ميدانيم ؟ تربيت اطفال دشوار ص 34.
17- چه ميدانيم ؟ بلوغ ص 42.
18- جه ميدانيم ؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص 42.
19- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 448.
20- سفينة البحار للقمي ص 460 مادة كبر..
21- چه ميدانيم بيماريهاى روحى وعصبى ص 33.
22- عقده حقارت ص 29.
23- غرر الحكم ودرر الكلم لللامدي ص 558.
24- نفس المصدر ص 558.
25- المصدر السابق ص 665.
26- تحف العقول عن آل الرسول ص 88.
27- معنى الأخبار ص 237.
28- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2-313.
29- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17-79.
30- جه ميدانيم ؟ جنايت ص 17.
31- حياة الحيوان للدميري ج1-255.
32- مجموعة ورام ج1-199.
33- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2-309.