الافراط في المحبة وخطورته على الطفل
تربية الأبناء
قال الله تعالى في كتابه الحكيم: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ من عوامل نشوء عقدة الحقارة، الافراط في إبداء مظاهر الحب والحنان بالنسبة الى الطفل...
عدد الزوار: 110
قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(آل عمران:188).
من عوامل نشوء عقدة الحقارة، الافراط في إبداء مظاهر الحب والحنان بالنسبة الى الطفل. إن الأطفال الذين يبذل لهم من العناية والحب اكثر مما ينبغي ينشأون في النتيجة معجبين بأنفسهم، فيلاقون طيلة أيام حياتهم، وخاصة عند مواجهة مشاكل الحياة، الشعور بالحقارة والضعة بشدة، فيقدمون على أعمال غير مرضية... وقد يؤدي بهم الشقاء والضغط الروحي الى الجنون والانتحار.
ان المحبة ضرورية لنمو روح الطفل كالغذاء الضروري لنمو جسمه. وإن اهمية التوازن الصحيح في كمّ المحبة وكيفها وأسلوب إظهارها لا تقل عن أهمية المحبة ذاتها. وكما أن لكل من التقليل من الغذاء، والإكثار منه، وتسمّمه، أثراً في بدن الطفل، كذلك لكل من التقليل من المحبة،، اوالإكثار منها، اوالمحبة في غير موضعها لها آثار مشؤومة في روح الطفل وتسبب له مشاكل كثيرة.
الإعتدال في المحبة
الهدف من التربية الصحيحة هو أن تقرن حياة الطفل بالسعادة، وتكلّل جهوده بالنجاح. إذ الحياة على طولها تتضمن صراعاً مع المشاكل وهكذا يواجه الفرد كثيراً من المنخفضات والمرتفعات والمنعطفات والمصائب في مختلف أدوار حياته. والمربي القدير هو الذي يعمل على تنشئة جسم الطفل وروحه على أحسن الأساليب بحيث يعدّه للمقاومة والثبات أمام صعوبات الحياة.
وكما أن جسم الطفل يقوى نتيجة للمراقبة الصحية، والتوازن في أكله ونومه وحركته ورياضته، ويستطيع مقاومة البرد والحر، والجوع والعطش، والمرض على أحسن وجه، فكذلك روحه فإنها تنمو قوية في ظل الصحة الروحية والتعاليم الخلقية، والتوازن بين أساليب العطف والحنان والشدة والخشونة... وبذلك يتمكن من الصمود أمام المصائب والمشاكل والإندحارات الروحية.
وبالعكس فإن الأطفال الذين يواجهون المحبة والرأفة الزائدتين، ويستسلم لهم آباؤهم وأمهاتهم بدون أي قيد أو شرط، ويستجيبون لجميع مطاليبهم من صالح أو طالح، وبالتالي ينشأون على الاستبداد والاعجاب بالنفس... فإنهم يحملون أرواحاً ضعيفة ونفوساً سريعة الانهزام من ساحة المعركة، ويتأثرون من دور الطفولة حتى آخر لحظة من العمر من مواجهة أبسط الأشياء، وأخف المصائب، وينكسرون أمام مشاكل الحياة بسرعة.
إن الأفراد الذين نشأوا في ظل الحنان المفرط، هم أتعس الأفراد، لأنهم يعجزون عن حل مشاكل الحياة الاعتيادية، فيلجأون في الشدائد الى الانتحار متضورين أن النهاية الحتمية لفشلهم يجب أن تبرّر بالإنهزام من معركة الحياة.
أخطاء تربوية
بالرغم من أن كل أسلوب أهوج يتّبعه الوالدان في تربية الأولاد يكون له الأثر السيء، ويولد نوعاً من الانحراف، فإن الإكثار الضار من المحبة للأطفال يعد من أعظم الأخطاء التربوية. إن العواقب السيئة التي يلاقيها الأطفال بهذه المناسبة مهمة وخطرة. ولقد اهتم جميع علماء النفس بهذا الموضوع في بحوثهم التربوية، ولكل منهم حوله كلام مفصل.
ولأنقل لكم على سبيل الشاهد بعض النصوص لعدد من علماء الغرب:
1- يقول (جلبرت روبين): "إن تعويد الطفل على الاعجاب بنفسه يورث الغضب الشديد فيه لأبسط الأشياء، والإستبداد في الرأي. وفي الغالب يدفعه إلى الرغبة في طلب الجاه، وفي النتيجة يحصل الطفل على القدرة التي تساعده على التقدم، ومع كونه ذا أعصاب هزيلة فإنه ينجح بواسطة الحيلة والشدة. إن جعل الأطفال معجبين بأنفسهم يكوّن منهم أفراداً تعساء، ضعفاء، عديمي الإرادة".
"لقد كان أولئك الذين يقولون للأم العابثة بلحن مصحوب بالسخرية: ليس طفلك معجباً بنفسه، بل هو غير صالح... لم يكن كلامهم خالياً عن المبالغة فحسب، بل كان تنبؤهم صحيحاً أيضاً. هناك حالات تتقزز النفوس من مشاهدتها لعدم الالتزام في التربية، لأننا نشاهد في الحقيقة مقتولين أبرياء كان بالإمكان أنقاذهم"1.
الاطفال المدللون
2- يقول (مك برايد): "الشعور بالدلال والغنج أمارة اخرى من أمارات عقدة الحقارة، ويجب البحث عن أساسه في أسلوب التربية الخاطىء المتخذ في دور الطفولة. إن الطفل الذي كان يرى نفسه قرة عين والديه، عندما يكبر ويصبح رجلاً كاملاً يجب أن يكون في جميع نواحي الحياة محبوباً من غير علة ومحترماً لدى الجميع. فعندما يرى أنه لم يُعتن به، يفقد الهدوء والاستقرار، ويختل ما صفا من فكره، فإما أن يلتجىء إلى الانتحار، وإما أن يبغض الآخرين. إن عقدة الحقارة التي تنشأ في الناس بهذه الظاهرة مصيبة عظيمة للمجتمع"2.
3- يقول (ريموند بيج): "يجب أن ننبه على بعض الأخطاء في السنين الأولى من حياة الطفل. واكثرها شيوعاً هو الأسلوب الذي يؤدي إلى غرور الطفل وأنانيته إن المحبة بدون سبب في الأيام الأولى هي التي تسبب غرور الطفل وأنانيته".
"إن الآباء والأمهات يأملون في الطفل النجاح والسعادة طبعاً، ولهذا فهم يرأفون به أشد الرأفة، ويتملقون له ويبعدون كل عقبة أو مشكلة حتى لو كانت تافهة عن طريقه... وكلما كبر الطفل حاولوا تهيئة وسائل اللعب المناسبة له. إن هذه الأعمال تستوجب الاستحسان في الظاهر. أما في الباطن فإن الخطر الكامن وراءها موحش جداً".
"إن الفرد الناشيء في ظل الرأفة الزائدة لا يطيق المقاومة أمام تقلبات الحياة، ولا يستطيع الصراع معها"3.
4- يستشهد (الفرد آدلر) العالم النفسي الشهير، وزعيم المدرسة الفردية في علم النفس بإمرأة "انتحرت لسبب تافه هو أن جارها كان يُعلي صوت المذياع، ولم يهتم باستنكارها المستمر. وأخيراً أقدمت على الإنتحار وتدل التحقيقات التي أجراها (آدلر) بهذا الصدد على أن هذه المرأة نشأت منذ طفولتها على الغرور والرضا بالنفس، وكان يُحضر اليها في المنزل ما تشاء من دون قيد أو شرط. ولهذا السبب فإنها لم تطق العيش في دنيا تسمع الجواب السالب على ما تطلب فيه"4.
الإفراط في المحبة
لقد حذرت الشريعة الإسلامية الغراء أولياء الأطفال في أسلوب تربيتهم من الإفراط في المحبة. إن الذين يفرطون في الرأفة بأطفالهم، ويدفعونهم بسلوكهم الأهوج هذا إلى الاعجاب بأنفسهم، ملومون من قبل الأئمّة عليهم السلام. فعن الإمام الباقر عليه السلام انه قال: "شرّ الآباء من دَعاه البرّ الى الإفراط، وشرّ الأبناء من دَعاه التقصيرُ إلى العُقوق"5.
إن العواقب السيئة التي يلاقيها الأطفال نتيجة الإفراط في المحبة تجاههم مهمة جداً وخطرة. ولهذا السبب يعرّف الإمام عليه السلام الآباء الذين يفرطون في التظاهر بالحب والحنان لأطفالهم بأنهم شر الآباء.
إن الطفل مفطور على حب الحرية... إنه يرغب في أن يعمل ما يريد، ويمدّ يده الى ما يشاء، ألا يمتنع أحد من تنفيذ ما يطلب، ولكن ذلك غير صالح للطفل، لأنه لا يميز الحسن من القبيح، ولا يفهم الخير من الشر6. إن المربي الصالح هو الذي يسير وفق مقتضيات العقل في الإستجابة لمطاليب الطفل، فيعمل على تحقيق مصلحة الطفل مع العطف والحنان عليه، ويمنعه متى كان طلبه يخالف صالحه، بكل صرامة، متبعاً في ذلك مختلف الوسائل، من النظرة الشزراء، والإهمال الموقت وما شاكل ذلك.
العواطف التافهة
هناك بعض الآباء والامهات الجهلاء ليس لهم أدنى اهتمام بخير الطفل وصلاحه. هؤلاء الوالهون المفرطون في الحب والحنان، الذين أعمى الحب عيونهم، وأصمّ آذانهم... هدفهم الوحيد هو إرضاء الطفل وتنفيذ رغباته، فيعطون المجال له بدون حساب، ويجعلون أنفسهم طائعين فعلاً وممتثلين لأوامر الطفل الصغير، منقادين له تماماً.
كل يوم يزداد من عمر الطفل يزداد إعجابه بنفسه، وتتحكم في نفسه جذور الاستبداد والتعنّت بالرأي، ويعود عالة على المجتمع.
هؤلاء الآباء والأمهات، وإن تظاهر بمظهر الحب والحنان فإنهم في الواقع يحملون معاول لهدم اساس سعادة أطفالهم، ويقودونهم بعواطفهم التافهة ومحبّتهم غير المرضية الى طريق التعاسة، والمستقبل المؤلم.
إن الأطفال الذين يتربون على هذا الأسلوب المذموم، ينشأون معجبين بأنفسهم. وهذا الخلق السيىء من الآفات الروحية الخطيرة، بحيث يترك آثاراً وخيمة على الجسم والروح، وتظهر نتائجه السيئة من خلال أقوال المصاب وأفعاله بكل وضوح.
وبهذا الصدد يقول الإمام علي عليه السلام: "شرُ الأمور الرضا عن النفس"7.
الطفل المتعنت
إن الطفل الذي كان يحكم لسنين طوال في محيط أسرته باستبداد، وكان أبواه مطيعين له بلا قيد أو شرط، ينشأ بالطبع معجباً بنفسه، ويتوقع من جميع الرجال والنساء أن يطيعوه كما يطيعه أبواه، وينفذوا أوامره بدون ترديد. وبديهي أن شخصاً كهذا ينفر منه الناس ويبتعدون عنه. وينظرون إليه يعين السخط والاحتقار. وهذا من الآثار السيئة للرضا عن النفس.
1- قال الإمام الهادي عليه السلام: "من رضي عن نفسه كثُر الساخطون عليه"8.
2- وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: إيّاك أن ترضى عن نفسك فيكثر الساخطُ عليك"9.
3- وعنه عليه السلام أيضاً: "من رضي عن نفسه كثر الساخطُ عليه"10.
العجب بالنفس
إن صاحب العقل السليم والنظر الثاقب يعرف حدوده ولا يتجاوزها وإعجاب الرجل بنفسه دليل على عدم نضوج عقله. إنه لو كان يملك عقلا حراً لم يكن مصاباً بهذا الداء، وجاعلاً نفسه في منزلة أرقى مما هي عليه، فعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "رضاءُ العبد عن نفسه بُرهان سخافة عقله"11.
إن الإطفال الذين نشأوا راضين عن أنفسهم على أثر الإفراط في المحبة تجاههم لا يتمكنون من السير مع قوانين الحياة، والتغلب على مشاكلها هؤلاء مصابون حتى نهاية عمرهم بهذا الداء ويتجرعون عوارضه الوبيلة.
"لا شك أن الطفل يحتاج حاجة ماسة الى المحبة، ولكن لا تلك المحبة المفرطة التي تحرك رغباته ومشتهياته فإن هناك فوانين لا تقبل التغيير تؤثر دائماً في كل عصر من العصور في حياة المجتمعات. ومن تلك القوانين: أن يقرر كل فرد مستقبله بيده في ظل صبره وتحمله واستقامته. والطفل المعجب بنفسه والفاسد أعجز من أن يقوم بهذا الواجب. إنه يعيش في عالم خيالي غير متوافق، ويظن أبداً أن الإبتسامة البسيطة أو الانكماشة الضئيلة ستحرك عواطف الجميع وشفقتهم".
"وبناء على ما يقول الدكتور آدلر في كتابه (تربية الأطفال) فإن الأطفال الذين نشأوا هذه النشأة يريدون أن يحبّهم الجميع، ولو قلنا: ان هؤلاء الأطفال سيظلون مدى العمر مؤمنين بهذه الفكرة لم نقل جزافاً. والحقيقة أننا نجد أن هؤلاء الأطفال يبقون على إعجابهم بأنفسهم حتى عندما يبلغون سن الشيخوخة... هؤلاء رجال قد يصلون بفضل مواهبهم وطاقاتهم إلى النجاح والموفقية، وإذا بهم حينئذ يفقدون كل إنجازاتهم بسبب أفعالهم الركيكة".
"ألا تصدّقون أن الإنسان قد يواجه مراراً نساء في الستين من أعمارهن لا يزلن يعتقدن بأن خير أسلوب للحصول على ما يرغبن إنما هو التظاهر بالاستياء، والتزّمت، والإعراض ؟ !"12.
لعل كثير من الأباء والأمهات لا يدركون بعد خطر الإفراط في المحبة بالنسبة الى الطفل إدراكاً تاماً، ولا يفهمون أنهم كيف يرتكبون ظلماً كبيراً بأعمال ظاهرها الرأفة والحنان. إنهم يدفعون الطفل إلى الإعجاب بنفسه فينشأ تعساً في جميع أدوار حياته ومستقبله من جهة، ومن جهة اخرى يجعلون أنفسهم في عداد (شر الآباء) على حد تعبير الإمام الباقر عليه السلام.
إن أول نقطة يجب أن نثيرها في بحثنا هذا هو الجواب على السؤال التالي: متى يجب أن يأخذ الوالدان بالحد الوسط من المحبة تجاه الطفل كيلا ينشأ معجباً بنفسه وأنانياً ؟
الكل يعلم أن الغذاء المادي للطفل يبدأ من يوم ولادته. الطفل إنسان حي، وكل موجود حي يحتاج إلى الغذاء للمحافظة على حياته. ولكن كثيراً من الآباء والامهات لا يعلمون متى يبدأ التطبع على العادات الحسنة أو القبيحة، التي تؤدي الى السلوك المفضل أو المستهجن، ومتى يؤثر الإفراط في المحبة الباعث الى نشأة الطفل أنانياً.
إقتباس العادات
يتصور البعض أن المولود الجديد قطعة من اللحم الحي، يحتاج الى الغذاء والنوم فقط. ويجب أن يمر عام كامل على حياته على أقل تقدير حتى تستيقظ المشاعر عنده تدريجياً، وعند ذاك يتمكن الآباء والأمهات من الابتداء بتنمية العادات الحسنة في الطفل. وبعبارة أخرى: يظن هؤلاء أن الغذاء المادي للطفل يبدأ من يومه الأول، أما حاجته الى الغذاء الروحي فإنها تبدأ بعد عام من ولادته على الأقل.
إن هذا التصور خطأ فاحش. فإن الطفل يستجيب في الأسابيع الأولى من حياته بفضل غرائزه واستعداداته للعادات والمؤثرات، بحيث لو كانت سيئة فإنها تمنع من الإنطباع على العادات الحسنة.
"يملك الطفل المتولد حديثا غرائز وانطباعات، ولكنه يفقد العادات. ان جميع العادات التي حصل عليها في الرحم لا أثر لها في أحواله بعد الولادة. ففي بعض الأحيان يجب تعليم المولود كيفية التنفس. إن الغريزة الوحيدة التي يحملها حينذاك، والتي تكون قد نمت نمواً حسناً هي غريزة مص الثدي والارتضاع. وعندما يشتغل بالإرتضاع يأنس بالمحيط الجديد، وتمرّ عليه سائر أوقات يقظته في حالة عدم شعور مبهم، وإنما يتخلص من هذه الحالة في ساعات النوم التي تستغرق اكثر ساعات اليوم... ثم تتغير جميع هذه الأوضاع من بعد أسبوعين، فيحصل الطفل من تجاربه التي تتكرر عليه خلال هذه المدة بصورة منتظمة على انطباعات يتذكرها حينذاك. ولعل تذكره ذاك يكون أكمل وأكثر من كل الأزمنة اللاحقة، ويتنفر من تغيير كل ما اعتاد عليه وأنس به".
"ان السرعة التي يسير بها الطفل في اكتساب العادات عجيبة. وسيكون حصوله على كل عادة سيئة في أولى أدوار الطفولة سداً أمام اكتسابه العادات الحسنة. ولهذا يعتبر التعوّد على العادات في أوائل أيامه مهماً للغاية. إذ لو كانت العادات الأولية حسنة فسوف نتخلص في المستقبل من الترغيبات وبواعث التشجيع والإطراء التي لا تتناهى، هذا مضافاً الى أنه يبقى في جميع أدوار حياته المقبلة متطبعاً على الغزائز المكتسبة في أوائلها وستظل مهيمنة عليه. ولا يمكن للعادات التي اكتسبها فيما بعد المنافية لها الوصول الى تلك الدرجة من الهيمنة والقوة. ولهذا يجب أن يُراعي موضوع العادات الأولية رعاية تامة. إن الأطفال الرضع محتالون اكثر مما يتصوره الأشخاص البالغون والكبار، لأنهم عندما يرون أن نتائج البكاء أنفع لهم فإنهم بلا شك يستعملون هذه الطريقة، وعندما يرون بعد ذلك أن البكاء والعبوس يسبب النفور والاستياء منهم بدلاً من الحنان عليهم يتعجبون وتكون الدنيا في أنظارهم تافهة لا فائدة فيها".
"إذن فالوقت المناسب والصحيح الذي يجب فيه البدء بالتربية إنما هو لحظة الولادة. لأن هذا الوقت هو الذي يمكن البدء فيه من دون وجود إحتمال لليأس والفشل. أما لو شرع في التربية بعد هذا الحين فإننا سوف نضطر الى مقاومة العادات المنحرفة التي اكتسبها. وفي النتيجة فإن من يحاول القيام بالمهمة التربوية بعد هذه الفترة، يقع مورداً للإنتقاد ويلاقيه الفشل حتماً"13.
أساس السلوك
إن العادات المرضية أو غير المرضية تمد جذورها في نفس الطفل منذ الأسابيع الأولى. فالصفات التي يعتاد عليها في دور الطفولة تنفذ الى اعماق روحه ويصعب تغييرها بعد ذلك.
وكما أن الآباء والأمهات الواعين يراقبون غذاء الطفل منذ الأسابيع الأولى. فالصفات التي يعتاد عليها في دور الطفولة تنفذ الى اعماق روحه ويصعب تغييرها بعد ذلك.
والآن أتصور أنه قد اتضح ما أردنا الإجابة عليه من السؤال الذي أثرناه في بداية البحث، وثبت لزوم القيام بتحديد المحبة تجاه الطفل، والمنع من نشأته أنانياً ومعجباً بنفسه منذ الأسابيع الأولى من حياته.
إن الطفل الذي مرّ عام كامل على حياته، يكون قد ترك وراء ظهره مراحل تربوية عديدة. فإذا نشأ الطفل عامه ذاك نتيجة لمحبة والديه المفرطة وغير المناسبة، ومعجباً بنفسه، فإن اصلاحه صعب جداً.
"والخلاصة: ان الاسس والركائز الخلقية للطفل تصب في الأشهر المبكرة من عمره. وبعد مضي سنة واحدة حسب كيفية تربية الوالدين فإما أن يكونا قد أوجدا إنساناً له الكفاءة والاستعداد لتقبل النظام والإنضباط، أو يكون فاقداً لهذا الإحساس بالمرة".
"لا شك أنه سيأتي زمان لا نقدر فيه على القيام بأي عمل من شأنه إصلاح تربية الطفل وتعديل سلوكه لأننا نسينا واجبنا تجاه التربية الأولية للطفل... التربية التي فكرّنا فيها أقل من تفكيرنا في سائر الأعمال الإعتيادية"14.
كيف نوازن في المحبة ؟
الموضوع الثاني الذي يلزم أن يتضح من هذا البحث هو كيفية التوازن والتعديل في المحبة والحنان، ولا ريب أن الأطفال كما لهم الرغبة في الغذاء والهواء وسائر الحاجات الطبيعية كذلك لهم رغبة فطرية نحو الحنان والمحبة، فيلزم الاستجابة لهذه الرغبة الطبيعية بدورها حسب أسلوب صحيح تشبع تلك الرغبة، وترضي الطفل، فيربّى حسب السنة الخلقية والفطرية.
إن الواجب الدقيق والثقيل على الأبوين في تحسين تربية الطفل هو أن يعلما متى يعاملاه بالحنان والمحبة، ومعرفة المقدار الذي يجب القيام به حينئذاك، لأن نشوء الطفل أنانياً ومعجباً بنفسه حصيلة أحد أمرين: المحبة حيث لا داعي لها، أو الإكثار منها.
ولبيان الأخطاء التربوية، يمكن التمثيل بعشرات الأمثلة للعواطف التي يبرزها بعض الآباء والأمهات الجاهلين من غير داع لها، نذكر ثلاثة نماذج منها:
العناية بالطفل في مرضه
1- من الموارد التي يتحبب الآباء والأمهات الغافلون الى الأطفال بصورة مفرطة، وربما يكون ذلك في غير محله، إذ قد ينشأ الطفل نتيجة لذلك معجباً بنفسه... هو عندما يتمرض الطفل ويكون مستلقياً على فراش الألم.
إن الوالدين العاقلين يستعدان في هذه المناسبة للعناية به وعلاجه، فيأتيان بالطبيب ويحضران له ما يناسبه من غذاء ودواء، ويسجلان درجة حرارة الطفل في ساعات الليل والنهار. يكون الأب والأم أمام عيني الطفل الفاحصتين كممرضين يقومان بواجبهما، ويوحيان الى الطفل ان حالتنا وحالتك طبيعية إلاّ أنه حدث أن مرضت وحُرمت لذلك من الركض واللعب وأكل الطعام العادي. إننا ننفذ أوامر الطبيب تجاهك، ويجب أن نطيعه في استعمال الدواء وزرق الابرة، وستبرأ طبعاً بعد أيام قليلة. وعلى فرض أن الأبوين متأثران في الواقع لمرض الطفل، فإنهما يظهران أمامه الوضع الإعتيادي، ولا يسببان إحساس الطفل بتشوشهما واضطرابهما.
أما بعض الآباء والأمهات فإنهم يضطربون ويرتبكون... ويظهرون إضطرابهم الشديد للطفل، ويجلسون عنده ناظرين إليه وآثار التألم بادية عليهم، يبكون، يمسحون بأيديهم على رأسه ويتكلمون معه بتوجع واضطراب، وربما يقبّلون وجهه المحموم، ويحنّون عليه قدر المستطاع، ويعتبرون مرضه حادثاً جللاً، ويفهمونه عملياً أنهم جميعاً فاقدون راحتهم واطمئنانهم، فيترك الأب عمله، وتنسى الأم كل شيء، وتضطرب الأسرة كلها لمرضه.
هذه الأعمال الفارغة التافهة ليس لها أقل تأثير في معالجة المريض، لكنها من الجانب الآخر تفسد أخلاق الطفل وتمنحه الكثير من الأنانية، فيعتقد الطفل بذلك أن له قيمة كبيرة ويقول في نفسه: أنا صاحب هذه الأهمية والمكانة، أنا الذي يسبب مرضي اضطراب العائلة وارتباكها، ويجلب الأنظار نحوي.
إن مرض الطفل يزول، ولكن تبقى هذه النظرة الخاطئة في أعماق فكره، فيتوقع دائماً من أبويه وسائر الناس أن يحترموه لدرجة كبيرة، ويعجبه حين أبتلي بصداع أن يضطرب له جميع الناس فضلاً عن أفراد اسرته.
تمارض الطفل
وقد يتمارض كي يلتذ من حنان أبويه ويسكن الى محبتهما له. وحين يكبر هذا الطفل على هذا التصور الخاطىء ويرى عدم اعتناء الناس به، وعدم اضطراب أحد لمرضه. فمن الواضح أنه يستصغر نفسه ويحس بالحقارة في ضميره الباطن.
وبهذا الصدد أنقل لكم نصاً من كتاب لعالم نفسي شهير هو (ديل كارنيجي):
"ذكرت لي القصاصة الشهيرة (ماري روبرتس راين هارت) قصة سيدة شابة سليمة تمارضت حتى تجلب اهتمام العائلة نحوها، وتثبت مكانتها، وكلما ازداد عمرها علمت بضعف احتمال تزوجها، فاظلمت الدنيا في عينيها، ولم يكن لها ما يسعدها في الحياة".
"كانت السيدة الكاتبة تقول: تمرضت هذه السيدة فكانت أمها العجوز تداريها طيلة عشرة أعوام، وتحمل أواني طعامها كل يوم مراراً، إلى أن توفيت أمها فأخذت المريضة بالنياحة مدة أسابيع، وبما أنه لم يستجب لندائها أحد، نهضت وارتدت ملابسها، وجعلت تستمر في الحياة بصورة اعتيادية"15.
إن الإعجاب بالنفس أحد العوامل المهمة للشقاء والشعور بالحقارة في جميع ادوار الحياة. والعطف الفارغ لأولياء الأطفال الذي هو ظلم عظيم لهم هو سبب نشوء هذه الصفة الذميمة.
اللحظات الحاسمة
2- طفل حديث عهد بالحركة، يلعب بمحضر والديه في الغرفة، وبيده كرة صغيرة، يرميها كذلك، ويكرر هذا العمل.. في إحدى المرات تصل الكرة الى جانب الجدار ويأتي الطفل منحنياً ليرفعها فترتطم جبهته بالجدار... إن هذه الصدفة تعتبر للطفل جديدة ولا يعلم ما ينبغي أن يكون موقفه منها. هل يبكي أو يضحك أو يسكت ؟ ! فهو متحير... ينظر إلى أبويه كي يطلع على مدى تأثير هذه الصدفة فيهم، وعند ذاك يظهر ردّ الفعل المناسب تجاهها. ليس للطفل رأي في الموضوع، بل إنه يفعل ما فعله والداه، فإن ضحكا يضحك، وإن تألما يبكي، وإن سكتا يسكت ويستمر في لعبه.
إن هذه اللحظة ولحظات أخر مثلها شديدة التأثير في الطفل من الوجهة التربوية، فإن سلوك الوالدين السيء تجاه مواقف كهذه يترك أثراً سيئاً في نفسية الطفل.
إن الآباء والأمهات الواعين لا ينظرون في هذه الأحيان الى الطفل أصلاً، ولا يعتنون بتوقعه العطف والحنان منهما، ولا يعتبرون هذه الصدفة شيئاً، وبذلك كله يفهمون الطفل عملياً أن الارتطام بالجدار، والسقوط على الأرض، وما يشبه ذلك حوادث اعتيادية في حياة الإنسان.
هناك الآباء والأمهات الواعين لا يظهرون أي رد فعل للحادثة، ولكنهم يستفيدون من تلك الفرصة فينصحون الطفل قائلين له: عندما تقترب من الجدار أو العمود، تأخر قليلاً حتى لا ترتطم جبهتك بالحائط عندما تنحني.
أما الأباء والأمهات الغافلون فإنهم يظهورن في مثل هذه الحوادث حناناً مفرطاً، فيضمون الطفل الى صدورهم ويقبلونه، ويمسحون بأيديهم على جبهته أو ما تألم من أعضائه، ويظهرون التأثر والتألم لما حدث للطفل وربما يضربون الأرض أو الجدار ترضية للطفل، فيبدي رد الفعل أمام كثرة ما يلاقيه من حب وحنان، ويرفع صوته بالبكاء والعويل، ويسكب الدموع، ويرى نفسه أهلاً للحنان بالنسبة لما حدث له... وعندما تتكرر محبة الوالدين الفارغة في حوادث أخر مشابهة لهذه الحادثة، تتولد جذور الصفة الرذيلة (الإعجاب بالنفس) في ضمير الطفل تدريجياً، ويكبر الطفل على الدلّ، ويتوقع الحنان والمحبة لكل حدث حقير يقابله.
ينشأ الطفل مع هذا التوقع الخاطىء، ويترك مرحلة الطفولة منتفلاً الى المراحل الأخرى من حياته، ويقابل في المجتمع آلاماً كبيرة فلا يتحبب اليه أحد خلافاً لما كان يتوقعه... حينذاك يتألم، ويحس في نفسه بالدناءة ويصاب بعقدة الحقارة، فيقضي حياته كلها بالتعاسة والشقاء.
إن محبة الوالدين التافهة هي التي أدت الى هذا المصير... فشرّ الآباء من دعاه البر الى الإفراط.
الميول المضرة
3- هناك تضاد طبيعي بين متطلبات نفس كل انسان من جهة، ومصالحه الفردية والإجتماعية من جهة اخرى. ويحب كل فرد بدافع من رغباته الفردية وأهوائه الشخصية أن يتحرر من كل قيد، وألاّ يقف مانع في طريق آماله، فيقول ما يشاء، ويأكل ما يرغب، ويحاول إرضاء شهواته كيفما كان. ولكن مصلحته الخاصة ومصلحة المجتمع الذي يعيش فيه تستوجب أن يتخلى كل فرد عن آماله الضارة وغير المشروعة وينصرف عن إرضائها... وهذا أهم شرط في الحياة الإجتماعية لجميع شعوب العالم.
يتمكن المجتمع البشري من الوصول الى هذا الهدف المقدس والحياة السعيدة باتباع أصلين مهمين:
الأول: أن يتعرف كل فرد على حسنات الحياة وسيئاتها.
والثاني: أن يسيطر كل فرد على نفسه ويبعدها عن المساوىء.
وهذا هو هدف القادة الإلهيين والغرض المهم الذي يتبناه رجال التربية العظماء. فإن الآلام والجرائم تقل بنسبة تقدم التربية الصحيحة في المجتمع وحكومة الأدب على الناس. وبالعكس من ذلك كلما أهمل الناس القيام بالتربية ازداد حجم المساوىء فيه.
عن علي عليه السلام: "من كُلّف بالأدب قلت مساويه"16.
وفي حديث آخر: "من قلّ أدبه كثرت مساويه"17.
تقبل التربية
وبالرغم من أن البشر في جميع أدوار حياتهم يتقبلون التربية، ولكن استعدادهم في دور الطفولة لذلك أكثر. إن جسم الطفل وروحه مستعدان لكل تربية صالحة أو فاسدة، وكل ما يتعلمه في دور الطفولة ينفذ إلى أعماق روحه، ومن السهولة بمكان ضمان استمرار ذلك مدى العمر.
إن المدرسة الأولى لتربية الطفل هي حجر الوالدين. فالوالدين مكلفان بتعليم الطفل حسب مقتضيات فهمه واستعداده بالمحاسن وترغيبه في العمل بها، وإرشاده الى المساوىء ثم تحذيره من ارتكابها. وبلوغ هذا الهدف لا يتيسر مع المحبة المفرطة التافهة. إن الطفل الذي يجد نفسه حراً من جميع الجهات، ويرتكب كل قبيح وحسن، ثم لا يرى من أبويه في قبال سلوكه إلا المحبة والحنان ينشأ مدللاً معجبا بنفسه. إنه لا يكتفي بعدم الاجتناب عن القبيح، بل يتوقع استحسان الناس وتقديرهم لأعماله السيئة، وذلك لأن والديه عاملاه بهذه المعاملة.
بين الخوف والرجاء
يجب أن يعامل الطفل في البيت بين الخوف والرجاء دائماً، يرجو من أبويه المحبة ويخاف منهما الغضب والشدة. يجب أن يعتقد الطفل أنه ليس حراً في إرتكاب الأعمال القبيحة وسيؤاخذ عليها. يجب أن تتوفر في الأسرة: المحبة والشدة والتغافل والمحاسبة، والترغيب والإهمال... كل في محله، وعلى الآباء والأمهات الاتصاف بهذه الصفات في كل مورد مناسب حتى ينشأ الطفل وفق تربية صحيحة.. في محيط كهذا يحس الطفل بالمسؤولية ولا ينشأ معجباً بنفسه أبداً.
"يلزم القيام بكل ما هو ضروري لصحة الطفل وحفظ سلامته. فحينما يشكو الطفل من الزكام فلا بد من مراقبة مزاجه وحفظه في مكان دافىء بعيداً عن البرد والرطوبة.. لكنه لو بكى بدون علة محسوسة يلزم تركه على حاله يصيح أنى يشاء. فلو عومل بغير ذلك نشأ بصورة حاكم مستبد، اما عندما يكون الإهتمام به ضرورياً فلا بد أن يكون ذلك بدون إفراط، بل يجب الاقتصار على قدر الضرورة. وهكذا لا يفرط في العطف تجاهه، ولا يصح مطلقاً أن يؤخذ الطفل في مرحلة من مراحل حياته كآلة لهو، بل لا بد أن ننظر إليه من أول أمره نظرة اهتمام وجدّ، ونظرة داعية الى أن هذا الطفل سيبلغ في غد ويصبح عضواً بارزاً في المجتمع".
"لا ريب أنه لا يمكن للطفل أن يستوعب جميع عادات الأفراد البالغين ولكن علينا الإبتعاد عما يقف حاجزاً في طريق اكتسابه هذه العادات، وبصرف النظر عن ذلك يجب أن لا نوجد في الطفل الإحساس بأهمية نفسه، الإحساس الذي ستؤلمه التجارب المستقبلة، ولا يطابق الواقع في حال من الأحوال... إن الطفل لو لم يراقب بدقة فإنه سيشعر بذلك ويحكم بأهمية نفسه الى درجة إحساس أبويه بذلك، وسوف لا ينظر إليه المجتمع في الحياة المقبلة نظرة الإستحسان والتقدير، وستؤدي عاداته التي سببت أنانيته بحيث يرى نفسه ذا مكانة عظيمة في الأوساط إلى اليأس والحرمان" (درر تربيت ص 56).
لقد أدت محبة الآباء والأمهات الجاهلين حيث لا داعي لها، وتغافلهم حيث لا مبرر له إلى نشأة بعض الأطفال مضافاً الى كونهم عديمي الحياء، مسيئين، معجبين بأنفسهم، أنانيين بحيث يبعث ذكر أعمالهم على التأثر الشديد والخجل. إننا نرى أطفالاً يبلغ بهم الإعجاب بالنفس وسوء التربية الى حدّ الفحش في القول وإيذاء خادم البيت، وتمزيق ملابسه، ورميه بالعصا والحجارة، وقد يؤدي ذلك الى كسر الرأس والأضرار البدنية. إن الآباء والأمهات الغافلين يلتذون من الأفعال السيئة لأطفالهم، ويضحكون في وجوهم بدلاً من مؤاخذاتهم وتوبيخهم، وبضحكتهم الجنونية يشجعون أطفالهم على تلك الأعمال البذيئة ويسوقونهم نحو الشقاء.
قال الإمام الباقر عليه السلام: "شرّ الآباء من دعاه البرّ الى الإفراط".
توقع المدح
إن الأطفال الذين نشأوا معجبين بأنفسهم نتيجة المحبة المفرطة تجاههم يتوقعون من والديهم وسائر الناس توقعات فارغة. إنهم يحبون أن تقع أفعالهم وأقوالهم دائماً موقع الاستحسان والاحترام في الأسرة والمجتمع لأنهم نشأوا على ذلك منذ الطفولة. إنهم يريدون أن يمجدهم الناس ويقدروهم لأعمال حسنة لم يفعلوها، أو أفعال سيئة قاموا بها. ان المجتمع لا يعتني لهذه الأماني التي لا مبرر لها، ولا يرى هذه التوقعات الجنونية قابلة للتنفيذ.
قال علي عليه السلام: "طلبُ الثناء لغير استحقاقٍ خُرقٌ"18.
إن الانكسار الذي يصاب به المعجبون بأنفسهم عندما يجدون عدم اعتناء الناس ونظرتهم السيئة اليهم مرهق جداً... إنه يؤدي بهم إلى الدناءة والإحساس بالحقارة، ويتألمون في باطنهم من تحقير الناس بشدة، وبالتالي إما أن يصابوا بداء روحي والذي قد ينتهي الى الجنون وإما أن يقدموا على الجرائم والأعمال الشنيعة.
لقد توعد القرآن الكريم هؤلاء المعجبين بأنفسهم بالعذاب بصراحة، حيث قال: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (آل عمران:188).
وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الصدد: "رضاءُ العبدِ عن نفسه مقرون بسخطِ ربه"19.
الحذر من العجب بالنفس
لقد كان أولياء الإسلام عليهم السلام يجتنبون كل عمل تشم منه رائحة الإعجاب بالنفس، وينفرون من أولئك الأشخاص الذين كانوا يقومون بها. وبالمناسبة أذكر لكم حديثاً من سيرة الإمام السجاد عليه السلام.
"عن أبي عبدالله عليه السلام قال: لما حضر محمد بن أسامة الموتُ دخلت عليه بنو هاشم فقال لهم: قد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم وعليّ دين فأحب أن تضمنوه عني. فقال علي ابن الحسين عليه السلام: أما والله ثُلث دَينك عليّ، ثم سكت وسكتوا. فقال علي ابن الحسين عليه السلام عليّ دينك كله. ثم قال علي بن الحسين: أما إنه لم يمنعني أن أضمنه أولاً إلا كراهية أن يقولوا: سبقنا"20.
وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "نظر أبي الى رجل ومعه أبنه يمشي والإبن متكيء على ذراع الأب. قال: فما كلّمه أبي مقتا له حتى فارق الدنيا"21.
الأطفال المدللون
تظهر سيرة الأطفال الذين نشأوا معجبين بأنفسهم في أوقات مختلفة وبأشكال متنوعة. هؤلاء الأطفال يؤذون آباءهم وأمهاتهم بأعمالهم الهوجاء، ويخلقون لهم مشاكل كبيرة.
"في الأسرة التي يكون فيها طفل مدلل، عندما يولد الطفل الثاني تتوجه ضربة قاصمة نحو الطفل الأول الذي كان مستأثراً بحنان والديه، لأن أسلوب تربيته كان خاطئاً، لأنهم كانوا قد عوّدوه حتى اليوم الماضي على أن يكون المتنفّذ الفعّال في البيت وقرة عين والديه، وعلى أن يتحملوا غنجه ودلّه بكل رحابة صدر، ولكنه بتولد الطفل الثاني يجد أمامه رقيباً خطراً ليس مزاحماً له في كل شيء فحسب، بل انه يحاول عزله عن منصبه وتنحيته عن السلطة التي كان يمتاز بها طيلة الأعوام السابقة. ولذلك فإن الطفل الأول لا يملك أي ردّ فعل لهذه الحالة، ولا يعرف ماذا ينبغي له أن يقوم به... فنراه يبدأ بإظهار مشاعر الفوضى والشغب، وقد يتعمد التبول في فراشه ليلاً بغية جلب أنظار والديه نحوه، أو يأخذ بالصياح والعويل من دون سبب، أو يتكلم بلكنةٍ وتمتمة... وما شاكل ذلك من الأفعال المثيرة"22.
"ينشأ الطفل الأكبر في بعض الأسر مدللاً، تبعث حركاته وسكناته، ابتسامته وكلماته، السرور والارتياح في قلب والديه الشابين ويتلقيان كل ذلك على أنها وقائع غير مترقبة، ذات تأثير خاص، ويجب أن تعتبر نموذجاً وقدوة للأسرة. إن الطفل الذي يراقب هذه القضايا يعتقد تدريجياً بأن هذا الإهتمام كله يجب أن يختص به وحسب. فإذا ولد طفل ثان في الأسرة عند ذاك تبدأ المشكلة الكبيرة. لأن الطفل الأكبر يجب أن لا يوافق على توزيع الحب والحنان بينه وبين أخيه فقط، بل يجب أن يوطن نفسه أيضاً لتطرق شيء من الإهمال والغفلة نحوه... وهذا بلا ريب امر لا يطاق بالنسبة له. إذا أصيب هؤلاء الأطفال المنكسرون بمرض فإنهم يحاولون أن يستأثروا بعناية الوالدين وعطفهما وحنانهما، وقد يتذرعون لذلك برسم خطط وتدبير حيل من شأنها أن تؤدي الى المطلوب... وبهذه الصورة نجد أن الطفل الذي كان عاقلاً واعتيادياً لذلك الحين ينقلب مشاغباً وفوضوياً بمجرد تولّد الطفل الثاني، وتظهر منه آلاف الأعمال التي ظاهرها الحماقة والبلادة الى درجة أنها تبعث الوالدين على الاستغراب والحيرة"23.
الإنهيار الخلقي
تصل المآسي والمشاكل الإجتماعية التي يلاقيها الأطفال المدللون والمعجبون بأنفسهم قمتّها عندما يتركون دور الطفولة ويدخلون في المجتمع حقيقة... إنهم يكشفون بأعمالهم البذيئة وسلوكهم الأهوج عن مستوى إنهيارهم الخلقي، ويظهر عدم كفائتهم وجدارتهم لتحمل أعباء الحياة من خلال التجارب التي يمرّون بها.
إن الشخص الذي نشأ على الدلّ يواجه مشكلتين عظيمتين:
الأولى: إنه يتوقع من أفراد المجتمع رجالاً ونساءً أن يحترموه كما كان يفعل ذلك أبواه، وينفذوا أوامره دون تردّد فعندما يجد أنهم لا يحترمونه بل يسخرون منه لتوقعاته الفارغة هذه يتأذى كثيراً ويحس بالحقارة والضعة في نفسه.
الثاني: إن حوادث الاخفاق والفشل التي يلاقيها والتي كانت منشأ ظهور عقدة الحقارة فيه جعلت منه فرداً عصابياً وسيء الأخلاق، وأدت الى أن يفقد الصبر والثبات أمام أبسط مشكلة، وينظر إلى الناس جميعاً نظرة ملؤها التشاؤم والاستياء، فيبدأ بالتعرض لهم بالكلمات البذيئة والعبارات المشينة. ويظل يئن من هاتين المشكلتين طيلة عمره !
"إن الحياة في القرن العشرين تتطلب الشجاعة والصلابة قبل كل شيء، وبغير ذلك لا يمكن مواجهة مشاكلها. إن الطفل الذي لم ينل حصة وافرة من التربية الصالحة فاقد لهاتين الصفتين، بمعنى أن كان قد تُرك حرأً في طفولته، وعُوّد على أن يُحضر له جميع ما يريد، وبصورة عامة كان ديكتاتوراً مطلقاً في عالم الطفولة، وفي جو الأسرة بالخصوص، وتكون النتيجة أن تكون الحواجز والموانع والصعوبات والمشاكل والغربة كلمات فاقدة للمعنى عند طفل كهذا".
إن الطفل الذي أسيئت تربيته عندما يكبر ويرث ثروة ضخمة فإنه يضطر إلى الاتصال بالناس والإحتكاك بهم، ولكنه إذ لا يرى أصحابه ومن حوله كأصحابه الذين كانوا يتساهلون معه ويحنون عليه في أيام الطفولة، يضطر إلى أن يعتبر الجميع منحطين لا يستحقون الصداقة والمعاشرة... وهكذا ينكد العيش على نفسه. أما اإذا لم يرث ثروة ما من أبويه واضطر إلى أن يذهب وراء عمل ليسدّ به رمقه، عند ذاك تبدأ المأساة بالنسبة له ويحصر بين صخرتي اليأس والشقاء، ويدرك بسرعة أنه لفقدانه الشعور بالشجاعة والإعتماد على النفس لا يستطيع الإستمرار في حياة يكون التنازع فيها على البقاء، ولا يقدر على الوقوف على قدميه... حينئذ ينخرط في سلك الافراد الذين ليسوا عالة على المجتمع فقط، بل يشكلون خطراً كبيراً على الآخرين كالسرّاق والمشعوذين، والمقامرين، والخمارين... الخ"24.
إن صفة الإعجاب بالنفس أساس جميع العيوب والنقائص. فالمصابون بهذا الداء الخُلقي يتميزون بانحراف ظاهر في سلوكهم وأحاديثهم، والذي يكشف عن نفسه من خلال صداقتهم وعداوتهم،وتصديقهم وتكذيبهم،وموافقتهم ومخالفتهم... هذا الإنحراف المتثمل في الأثرة والانانية وتقديم الصالح الفردي على الصالح الجماعي. لكن هؤلاء يفضحون أنفسهم بسلوكهم ويكشفون عما خفي من عيوبهم.
وفي هذا يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "بالرّضاء عن النفس تظهر السوءات والعيوب"25.
وعنه عليه السلام أيضاً: "من رضيَ عن نفسه ظهرت عليه المعايب"26.
ضعف النفس
من الآثار الوخيمة للإعجاب بالنفس ضعف النفس. فالأطفال المدللون الذين يجدون الإنقياد الكامل لهم من قبل آبائهم وأمهاتهم، وينالون ما يريدون دون جهد أو تعب يتميزون بضعف كبير في نفوسهم. إنهم لا يملكون القدرة على المقاومة في قبال مشاكل الحياة، والعقبات الكأداء التي تعترض سبيلهم، إنهم يسخرون المعركة في الصراع القائم، عندما يصطدمون بالحواجز والآلام... عند ذاك يضطرون الى الإنسحاب وأمارات الفشل بادية عليهم. إن أولى مظاهر هذا الانسحاب تتمثل في التملق للآخرين، والإنزواء، والانتحار، والرضوخ للذلة وأفعال تشابه ذلك.
درس الجلد والثبات
يجب أن يلقن الطفل منذ اليوم الأول درس الجلد والثبات ويعوّد على كيفية مجابهة مشاكل الحياة برحابة صدر. يجب أن يتربى شجاعاً وصلباً، وعلى الوالدين أن يهتما بذلك أيّما إهتمام، فإن الإعجاب بالنفس لا ينسجم وقوة الإرادة بحال من الأحوال.
إن غريزة حب الأولاد حجاب يُسدل على العقل فيمنعه عن مشاهدة الحقائق، فإذا انضم إلى ذلك الجهل والإهمال من قبل الوالدين في تطبيق الأساليب التربوية الصالحة، أدى ذلك الى انحرافهما عن الصراط المستقيم الذي يجب عليهما أن يسلكاه في التربية، فتجدهما يهملان الجوانب الدينية والعلمية المهمة، ويفرطان في معاملة الطفل بالحب والحنان، الأمر الذي يتضمن بين طياته آلاف المشاكل والصعوبات. وفي الحقيقة فإن هذا الإفراط في المحبة لا يعدو أن يكون عداءً في مظهر الحب.
إن تربية كهذه لا يرضى بها الدين ولا يوافق عليها العلم. إن الآباء والأمهات الذين يظلمون اولادهم بالافراط في المحبة تجاههم يتسببون في نشأتهم على الإعجاب بالنفس، ولذلك فهم مسؤولون أمام الله في تعريض أطفالهم الى الانحراف والشفاء.
تذكروا دائماً حديث الإمام الباقر عليه السلام، حيث يقول: "شرّ الآباء من دعاه البر إلى الإفراط".
*الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفي، الأعلمي ط3، 2002م، ج2، ص181-206.
1- چه ميدانيم ؟ تربيت اطفال دشوار ص 23.
2- عقده حقارت ص 27.
3- ما وفرزندان ما ص 39.
4- روح بشر ص131.
5- تاريخ اليعقوبي ج3-53.
6- وبصورة عامة يجب أن نفهم الطفل بأن الحرية المطلقة ليست إلاّ الهمجية، والفوضى، والحيوانية. ولا يتسنى ذلك في الأدوار الأولى التي لا يفهم فيها الطفل كثيراً من الفكر العلمية والآراء التي يجب أن يتبناها الفرد الصالح في حياته... وعليه فيجب إفهامه بأن هناك حواجز وموانع تقف في سبيل تنفيذ الفرد رغباته بصورة مطلقة، وذلك بالوقوف أمام الأعمال العابثة والضارة التي تصدر منه. عندئذ يفهم الطفل جيداً أنه يجب أن يتقيّد بالأوامر والأعراف والتقاليد النافعة، ان لا يتعداها. أما إذا فسح له المجال في أن يعمل ما يريد، ويذهب أين شاء، فلذلك يؤسس ركيزة الأيديولوجية الفردية الاستبدادية التي ترى أن الفرد يستطيع أن يحقق لنفسه ما يريد وإن أضرّ ذلك بمصالح الجماعة، وأخلّ بالمثل التي يتبناها بنو جنسه.
7- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 446.
8- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17-215.
9- غرر الحكم ودرر الكلم ص 147.
10- نفس المصدر ص 424.
11- نهج البلاغة، شرح الفيض الأصفهاني ص 1081.
12- ما وفرزندان ما ص 40.
13- در تربيت، ص 57.
14- ما وفرزندان ما ص 39.
15- ائين دوست ي. وقد ترجم الكتاب الى العربية تحت عنوان: كيف تكسب
الأصدقاء وتؤثر في الناس.
16- غرر الحكم ودرر الكلم للامدي ص 645.
17- المصدر السابق 635.
18- غرر الحكم ودررالكلم للآمدي ص 470.
19- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 424.
20- روضة الكافي لثقة الإسلام الكليني ص 332.
21- مجموعة ورام ج2-208.
22- عقده حقارت ص 14.
23- ما وفرزندان ما ص 45.
24- عقده حقارت ص 14.
25- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 338.
26- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 685.31.