يتم التحميل...

دور الأسرة في التربية

التربية

قال الله تعالى: مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا... ان الميول المودعة في باطن الانسان رصيد سعادته وأساس تقدمه...وهي قد أوجدت حسب نظام دقيق، وبمقادير صحيحة: وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار...

عدد الزوار: 104

قال الله تعالى: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا...(نوح:13-14).
ان الميول المودعة في باطن الانسان رصيد سعادته وأساس تقدمه...وهي قد أوجدت حسب نظام دقيق، وبمقادير صحيحة: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ(الرعد:8).

والسعيد هو الذي يتبع قوانين الخلقة المتقنة، ويستجيب لجميع ميوله الروحية والجسدية باتزان وتعقل. فمن يفرط في الاستجابة لنداء أحد ميوله أكثر من الحد اللازم، أو على العكس من ذلك يكبت في نفسه بعض ميوله الطبيعية ولا يفسح المجال لاروائها يكون خارجاً على المنهج الفطري ومصاباً بالانحراف والشقاء بنفس النسبة.

ميول الروح والجسد
إن الميول والرغبات الموجودة عند الانسان تكون تارة: واضحة وظاهرة ويسعى جميع الناس في سبيل إرضائها... فمثلاً ليست حاجة الانسان إلى الطعام والهواء والماء والنوم، والميل الطبيعي للعب عند الأطفال والغريزة الجنسية عند الشبان والشابات أمراً خافياً على أحد. هذا النوع من الميول يدركها جميع الناس... وبديهي أن مدى الاستجابة لهذه الميول يرتبط بالارشادات الدينية والعلمية، ولكن توجد في الانسان ميول أخرى تكون مستترة وغير ظاهرة وحيث أنها كذلك فقلما يلتفت إليها. إن جميع الناس يعلمون أن الطفل يحتاج إلى الماء والغذاء، ولكن القليل منهم يدرك ضرورة تنمية شخصية الطفل. إن الوالدين يدركان حاجة الطفل إلى اللعب والنوم، ولكن قلما يدرك الوالدان حاجة الطفل إلى العطف والحنان إلى درجة ما أيضاً. إن أولياء الأطفال يتنبهون إلى سلامة القلب والكبد والكلية وسائر أعضاء جسد الطفل تنبهاً كاملاً، ولكنهم لا يهتمون إلى السلامة الروحية والأخلاقية للأطفال بنفس الدرجة.

إن العناية بالميول الباطنية والرغبات النفسية للطفل وتوجيهها الوجهة الصحيحة تعد من المسائل الأساسية في التربية، وإن رصيد القائمين على تربية الأطفال في هذا السبيل هو التعاليم الدينية والأساليب العلمية الصحيحة وإن اندحار وكبت أي واحد من هذه الميول الفطرية يؤدي إلى إيجاد عقدة في روح الطفل، يظهر رد فعلها طيلة العمر في جميع مجالات الحياة، ويسبب مئات الانحرافات والمآسي.

بحثنا في هذا المقال في بيان أن الارضاء الكامل للميول الباطنية عند الطفل، والاهتمام بجميع جوانب شخصيته لا يحصل إلا في محيط الأسرة، فإن حجر الأم وحضن الأب فقط قادران على أداء هذا الدور الفعال في حياة الطفل.

إرضاء جميع الميول
إن دار الحضانة عاجزة عن أن تحل محل الأسرة، وإن مرشدة الأطفال لا تستطيع أن تقوم مقام الأم في إرضاء عواطف الطفل ومشاعره. إن حنان الأم قوي في الانسان والحيوان إلى درجة أنه لا يوجد بعد غريزة حب الذات عاطفة أخرى تعادل عاطفة الأمومة. إن قلب الأم يطفح بحب الطفل، ولذلك فهي لا تتواني عن القيام بأكبر التضحية في سبيل رشده ونموه. وحين تبتسم الأم بوجه طفلها وحين تضمه إلى صدرها، وحين تشمه وتقبله من فرط الحنان والعطف... تسري موجة من النشاط واللذة في أعماق روح الطفل وتبدو على ملامحه وعينيه آثار الفرح والرضا. وقد يبكي الطفل أحياناً من دون أن يشكو ألماً أو جوعاً لكن بكاءه لكي يناغي، إنه جائع إلى الحنان والعطف، يبكي لغذائه النفسي، فبمجرد أن الأم تحتضنه وتضمه إلى صدرها، أو تمرر يدها على رأسه فهو يهدأ، إن ملاطفة الطفل ومناغاته غذاء نفسي للطفل، ويجب أن يتغذى من هذا الغذاء النفسي بالمقدار اللازم.

دقات قلب الأم
من القضايا المشاهدة لدى الجميع ارتياح الطفل وهدوءه عندما تضمه الأم إلى صدرها، لقد أثبتت التجارب العلمية الحديثة: أن دقات قلب الأم أوقع في نفس الطفل وآنس له من أي لحن آخر، ولذلك فان دور الحضانة تسجل صوت هذه الدقات على شريط، وعندما يبكي الطفل يفتح الشريط بالقرب من أذنه ويهدأ بهذه الصورة.

فالفتاة التي قد تلقت قدراً كافياً من الحنان من محيط الأسرة في أيام طفولتها، وتغذت روحها من عطف الوالدين، لا تحتاج في دور المراهقة إلى الحنان ولا تلين بسماع بضع كلمات دافئة معسولة من هذا وذاك، ولا تستجيب لتلك الانفعالات بسرعة.

وعلى العكس فان الفتاة التي لم تتلق قدراً كافياً من الحنان في طفولتها ولم تشبع غريزتها الباطنية بحب الوالدين، تملك روحاً ضعيفة جداً، وبإمكان شاب مراوغ لبق أن يحرفها عن الطريق بإهدائه إليها باقة من الزهور، وببضع كلمات دافئة... وبذلك يجني على عفتها وطهارتها وتسقط الفتاة إلى الأبد في هوة سحيقة من الفساد والانحراف، أو تغسل العار بالانتحار.

نقص التربية في رياض الأطفال

لقد انتشرت رياض الأطفال في المدن الأوروبية منذ عهد قريب، وتقوم تلك المؤسسات برعاية الأطفال، فالأمهات الموظفات وكذلك النساء اللاهيات اللاتي لا يردن أن يجدن مزاحمة من أطفالهن في مجالس الرقص والقمار والفساد، يستغللن هذه الفرصة، ويودعن أطفالهن في (رياض الأطفال).

إن حياة الطفل في روضة الأطفال جميلة جداً بحسب الظاهر، فهو يلبس الملابس النظيفة والأنيقة، ويمشط شعره، وقوامه رشيق، إن روضة الأطفال تجهز بالوسائل الصحية اللازمة فالغرف مبنية على الأساليب الفنية والأسرة مغطاة بالشراشف، والطعام يحضر حسب المناهج الصحيحة، والطفل يلعب بالمقدار الكافي، وينام في الوقت المقرر، وبصورة موجزة فان جانباً مهماً من ميول الطفل ورغباته الروحية والجسدية يكون مضموناً.

لكنه توجد في أعماق الطفل عواطف ومشاعر لا تشبع في المحيط الاجتماعي لروضة الأطفال، فهناك فرق كبير بين علاقة إمرأة واحدة تشرف على مائة طفل لغرض الانتفاع المادي فقط بالطفل، ولهيب الحب السماوي المودع في قلب الأم. فلا توجد المناغاة الحارة التي تبعث الطفل على الرضا والانشراح إلا في حجر الأم، أما في روضة الأطفال فلا.

إن الطفل الذي يعيش بين مائة طفل حياة غير مستقلة، لا يدرك معنى للشخصية والاستقلال الفردي، وهما من أبرز الخصائص الانسانية1 إن حركات الطفل وسكناته يمكن أن تراعى بدقة في الأسرة بينما تضيع أفعاله وسط أفعال مائة طفل كموجة بين مئات الأمواج في البحر حيث تصطدم بعضها ببعض، وتزول كلها.

"يجب ألا يكون التعليم مانعاً من التوجيه الصائب... مثل هذا التوجيه يعود إلى الوالدين، فهما وحدهما وبصفة أخص الأم، قد لاحظا منذ شبا الصفات الفسيولوجية والعقلية التي يهدف التعليم إلى تنظيمها وتوجيهها... لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة جسيمة حينما استبدل المدرسة بتدريب الأسرة استبدالاً تاماً... ولهذا تترك الأمهات أطفالهم لدور الحضانة حتى يستطعن الانصراف إلى أعمالهن، أو مطامعهن الاجتماعية، أو مباذلهن، أو هوايتهن الأدبية أو الفنية أو للعب البريدج، أو ارتياد دور السينما، وهكذا يضيعن أوقاتهن في الكسل... إنهن مسؤولات عن اختفاء وحدة الأسرة واجتماعاتها التي يتصل فيها الطفل بالكبار فيتعلم منهم أموراً كثيرة... إن الكلاب الصغيرة التي تنشأ مع كلاب أخرى من عمرها في حظيرة واحدة لا تنمو نمواً مكتملاً كالكلاب الحرة التي تستطيع أن تمشي في أثر والديها... والحال كذلك بالنسبة للأطفال الذين يعيشون وسط جمهرة من الأطفال الآخرين، وأولئك الذين يعيشون بصحبة راشدين أذكياء لأن الطفل يشكل نشاطه الفسيولوجي والعقلي والعاطفي طبقاً للقوالب الموجودة في محيطه... إذ أنه لا يتعلم إلا قليلاً من الأطفال الذين هم في مثل سنه. وحينما يكون وحده فقط في المدرسة فانه يظل غير متكمل... "2.

تربية اليتيم

نعرض هنا لقضية تربية اليتيم وموقف التعاليم الاسلامية العظيمة منه، ثم ننتقل إلى دور الأسرة في تربية الطفل.

كثيراً ما يصادف أن يموت الآباء أو الأمهات في أيام الحروب أو في الحالات الاعتيادية، ويخلفون أطفالاً صغاراً يجب أن يحافظ عليهم في المجتمع وليصيروا رجال الغد بفضل التربية الصحيحة، وإن الدول وضعت للأيتام نظماً معينة تكفل لهم حقوقهم.

والأسلام أيضاً يتضمن التعاليم القانونية والخلقية الخاصة به في حل هذه المشكلة. فإذا كان الطفل اليتيم قد ورث من أبويه مالاً فإن القيم (وهو الشخص يعين من قبل الحاكم الاسلامي العادل لادارة شؤون اليتيم) يقوم بتهيئة ما يحتاج إليه من طعام ولباس ومسكن من ماله الخاص أما إذا لم يملك اليتيم مالاً، فان بيت المال هو المسؤول عن مصارفه فحياة اليتيم إذن مؤمنة طبقاً للنظام المالي في الاسلام. ولكن النكتة الجديرة بالدقة هي: أن الاسلام لا يرى انحصار سعادة اليتيم في توفير وسائل الحياة المادية من الطعام واللباس والمسكن فقط.

اليتيم إنسان قبل كل شيء، ويجب أن تحيى فيه جميع الجوانب المعنوية والفردية، وله الحق في الاستفادة من الحنان والعطف والأدب والتوجيه، وكل ما يستفيد منه الطفل في حجر أبويه. اليتيم ليس مثل شاة في القطيع يذهب صباحاً إلى المرعى معهم ويرجع في المساء. إنه إنسان ويجب الاهتمام بميوله الروحية وغذائه النفسي مضافاً إلى الرعاية الجسدية والغذاء البدني.

اليتيم في أحضان الأسرة
إن الرويات الكثيرة تصر على معاملة اليتيم معاملة بقية الأطفال في الأسرة، وأن يقوم الرجال والنساء مقام الوالدين في رعاية اليتيم. لقد كان بإمكان الحكومة الاسلامية في عصر الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم من الناحية المادية أن تنشئ في كل مدينة داراً لرعاية اليتيم وتصرف عليهم من بيت المال، ولكن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يفعل ذلك. لأن هذه المؤسسات والدور ناقصة من وجهة نظر التربية الكاملة من الناحيتين الروحية والمادية. فالأسرة فقط هي التي تستطيع أن تلبي نداء عواطف الطفل، ولذلك فقد ظل يوصي الآباء والأمهات وأولياء الأسر بمنطق الدين والايمان بالمحافظة على اليتيم. وأخذه إلى بيوتهم وإجلاسه على موائدهم، ومعاملته كأحد أولادهم، والسعي في تأديبه وإدخال السرور على قلبه بالعطف والحنان والمحبة.

لا شك أن تأسيس دور للأيتام وإكسائهم وإشباعهم، عبادة إسلامية كبيرة، ولكن مناغاة اليتيم والعطف عليه، وتأديبه وتربيته عبادة أخرى وقد خص الله لذلك أجراً وثواباً خاصاً.

وها نحن نعرض النصوص الواردة في حق اليتيم:

1- قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "خير بيوتكم بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيوتكم بيت يساء اليه"3.

2- عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: "من عال يتيماً حتى يستغني، أوجب الله له بذلك الجنة "4.

3- وعنه صلّى عليه وآله وسلّم: "من كفل يتيماً من المسلمين، فأدخله إلى طعامه وشرابه، أدخله الله الجنة البتة، الا أن يعمل ذنباً لا يغفر "5.

4- عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: "من مسح رأس يتيم، كانت له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات "6.

5- "من أقعد اليتيم على خوانه، ويمسح رأسه يلين قلبه "7.

6- قال رسول الله (ص): "من أنكر منكم قساوة قلبه، فليدن يتيماً فيلاطفه وليمسح رأسه يلين قلبه بإذن الله، فإن لليتيم حقاً "8.

7- عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال: "جيئ بمقدار من العسل إلى بيت المال، فأمر الامام علي عليه السلام بإحضار الأيتام، وفي الحين الذي كان يقسم العسل على المستحقين كان بنفسه يطعم الأيتام منالعسل، فقيل له يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها ؟ فقال: إن الامام أبو اليتامى وإنما ألعقتهم هذا برعاية الآباء "9.

8- قال أمير المؤمنين عليه السلام: "أدب اليتيم مما تؤدب منه ولدك واضربه مما تضرب منه ولدك "10.

9- من وصية الامام أمير المؤمنين إلى أولاده: "الله الله في الايتام فلا تغبوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم "11.

10- عن فقه الرضا عليه السلام: "وإن كان المعزى يتيماً فامسح يديك على رأسه "12.

11- "لما أصيب جعفر بن أبي طالب، أتى رسول الله أسماء فقال لها: أخرجي لي ولد جعفر فأخرجوا إليه فضمهم وشمهم. قال عبد الله بن جعفر: أحفظ حين دخل رسول الله على أمي، فنعى لها أبي ونظرت إليه وهو يمسح على رأسي، ورأس أخي "13.

يستفاد من مجموع النصوص الاسلامية ضرورة تربية الأيتام كسائر الأطفال في المجتمع، ولهم الحق في الاستفادة من جميع المزايا والعواطف الانسانية. إن الأيتام في الدولة الاسلامية يمتازون برعاية كاملة من حيث الطعام واللباس والحنان والأدب بحيث لا يحسون بأي فرق بينهم وبين سائر الأطفال. وطببيعي أن تربية كهذه تكون مصونة من الانحراف والخطأ. وإن طفلاً كهذا لا يصاب بعقدة الحقارة والذلة، فينمو بصورة معتدلة وتشبع رغباته الباطنية جميعها بشكل صحيح، ولكن القيام بمثل هذا الواجب المقدس والعبء الثقيل يتطلب إيماناً قوياً وعقيدة مستقيمة.

لقد اهتم الاسلام بتعليم أتباعه هذا الدرس المقدس والآن حيث يطوي هذا الدين السماوي قرنه الرابع عشر نجد في أطراف العالم الاسلامي الرجال والنساء الكثيرين الذين يفتحون صدورهم بكل رضى واعتزاز للقيام بهذه المهمة، ويتوروعون عن إتيان أصغر عمل يسبب الأذى لليتيم ويجرح عواطفه.

"وحين يحرم الموت المبكر طفلاً من ملجئه الطبيعي يشدد الآخرون في رعايتهم له والاستجابة لاحتياجاته. لكن هذا العمل لا بد وأنه منبثق من كنز عظيم يفيض بالحنان والعاطفة. وإن كنزاً كهذا لا يوجد إلا في باطن ثلة قليلة من البشر الممتازين "14.

وإذا كان قائد الاسلام العظيم يوصي الأسرة الخيرة باحتضان الأطفال اليتامى لتربيتهم التربية الصحيحة ومعاملتهم كأطفالهم كي يحصلوا على المقدار الكافي من الحب والحنان، ويتلقوا الأدب والسلوك المستقيم، ويصبحوا أفراد كاملين، فهل يمكن أن يرضى الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم للأمهات أن يتركن أطفالهن لأعذار يعرفنها ويحرمنهم من التربية الصحيحة، والفوائد المهمة التي يستطيعون أن يحصلوا عليها في محيط الأسرة فقط ؟!.

"إن حرارة الأسرة تسبب تفتح جميع المشاعر والعواطف الراقية الكامنة في نفس الطفل بنفسها، وبذلك يتطبع الطفل منذ حداثته على الصدق والأمانة والشهامة. إن الأسرة هي الميدان العملي لتطبيق تعاليم الشعور بالمسؤولية والوجدان، وإظهار ذلك كله بصورة بارزة ظاهرة أمام عيني الطفل ".

"إن الأسرة التي ينتشر فيها الوفاء والتضحية، الصدق والشهامة في الأقوال والأفعال، الأمانة والشجاعة في العمل، الايثار والتواضع... ترسم نموذجاً صالحاً للأطفال ".

"إن جميع هذه العوامل تتجلى لعيني الطفل بالتدريج خلال حياته، وفي الحين الذي يتلقاها بصورة تلقائية يتطبع عليها بدوره "15.

المدرسة الأولى
إن محيط الأسرة مدرسة تستطيع أن تنمي المواهب الكامنة في نفس الطفل، وتعلمه دروساً في العزة والشخصية، الشهامة والنبل، التسامح والسخاء... وغير ذلك من القيم الانسانية العليا، لا روضة الأطفال.

كان الامام علي عليه السلام دون أية مبالغة إنساناً كاملاً، وشخصية مثالية في العالم كله، فلقد ظهرت جميع الصفات الانسانية والملكات الفاضلة على أكمل وجه في هذا الرجل الالهي. إنه معلم مدرسة الانسانية ومثلها الأعلى. فلقد خضع له الصديق والعدو، المسلم وغير المسلم، وكل من اطلع على تاريخه المشرق النير.

هذه الشخصية الالهية الكبيرة نجده يفخر بكل صراحة بالتربية التي تلقاها في أيام طفولته ويتحدث لنا عن الثروة المعنوية الضخمة التي حصل عليها في تلك المرحلة من حياته الشريفة، ويتباهى بمربيه العظيم نبي الاسلام القدير فيقول: "وقد علمتم موضعي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه "16.

... ثم يستطرد فيقول: "يرفع لي في كل يوم علماً من أخلاقه ويأمرني بالاقتداء به "17.

لقد تشبعت جميع الميول العقلية والعاطفية للامام علي عليه السلام في فترة الطفولة في حجر النبي الحنون، فلقد أروى عواطفه بالمقدار الكافي من ينبوع محبته وعطفه من جهة ولقد أعطاه دروساً في الأخلاق وأمره باتباعها من جهة أخرى.

ومن كان في طفولته واجداً لأثمن الذخائر الروحية والمادية من الوجهة الوراثية، ومن ناحية التربية قد تلقى المثل في أطهر أسرة وكان مربيه الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم جدير بأن يكون في الكبر قائد السعادة البشرية وأمير جيش الإيمان والتقوى...

إن الاساليب التربوية العميقة الحكيمة التي اتخذها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مع علي عليه السلام قد أحيت جميع مواهبه الكامنة وأوصلته في مدة قصيرة إلى أعلى مدارج الكمال، فلقد تقبل الاسلام في العاشرة من عمره عن وعي وإدراك وعمل على نشر تعاليمه متبعاً في ذلك سيرة النبي ولم ينحرف عن الصراط المستقيم قدر شعرة إلى آخر حياته.

ونموذج آخر للتربية الصالحة نجده في التاريخ المشرق للامام الحسين بن علي عليه السلام فهو غير خفي على أحد. فلقد خلدت القرون المتمادية شهامة الحسين وتضحيته، إيثاره وعظمته في إعلاء كلمة الحق والعدالة، ولم يغب ذلك كله عن أذهان البشرية على مر الأجيال. ولقد تباهى ذلك الامام العظيم كوالده بطهارة أسرته العريقة في أحرج المواقف. وتحدث عن تربية عائلته له آنذاك قائلاً: "ألا وإن الدعي إبن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت "18.

أجل ! فلقد قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ(المنافقون:8) والامام الحسين عليه السلام هو نفسه من المؤمنين وهو قائد المؤمنين وعليه يجب أن لا ينصاع لقوى الظلم والبغي. وأما دليله الثاني فهو أنه من أسرة أنفت الذل وأبت الضيم. وكأنه يقول: إني تربيت في حجر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلّم وعلي بن أبي طالب والصديقة الزهراء، لقد نشأت على الشرف والاباء... كان بيتنا الصغير منبع الفضيلة والشهامة، ولم تجد الحقارة طريقاً لها إلى أسرتنا... لقد تربيت في أحضان من عاشوا حياة ملؤها العز والحرية، فكيف أرضى بالذلة والخضوع متناسياً ثروتي العائلية ؟! هذا مستحيل، فلن أبايع يزيد أبداً ولن أخضع لأوامره...

هذه الشهامة والعزة، وهذا الأباء والشرف... نتيجة التربية الأصيلة في الأسرة، التربية النابعة من حنان الوالدين وحبهما، ذلك الحب الممزوج بالإيمان، التربية التي ملؤها الصفاء والاخلاص والطهارة والواقعية.

... إن رياض الأطفال أعجز من أن تربي أولاداً كهؤلاء. فهي مؤسسة تجارية قبل أن تكون مركزاً ثقافياً وتربوياً، فإن مؤسسي رياض الأطفال يهدفون في الدرجة الأولى إلى الحصول على مال من وراء الأجور الشهرية للأطفال، ويهتمون بالتربية في الدرجة الثانية، مع أن التربية أيضاً سطحية وبسيطة. إن الآباء والأمهات الذين لا يملكون هدفاً بغير التربية يجدون لذتهم في أن يربوا أولادهم تربية صحيحة ويجعلوهم أفراداً جديرين أكفاء في المجتمع، وإن مركز هذا النشاط هو الأسرة فقط.

ثم إن الميزة الأخرى التي تضفي أهمية كبيرة على قيمة الأسرة هي إحياء الخصائص الفردية. فالأفراد ليسوا متفاوتين فيما بينهم من ناحية المنظر والبناء الخارجي فقط، بل يختلفون من حيث معنوياتهم ونفسياتهم أيضاً. وهذا نفسه أحد مظاهر القدرة الآلهية... ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا(نوح:13-14).

قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: "الناس معادن، كمعادن الذهب والفضة "19.

الأطفال الممتازون

وهكذا نجد أن بعض الأطفال يولدون مع صفات وخصائص معينة لا توجد عند الأطفال الاعتياديين. فربما يوجد العقل والادراك والذكاء والفطنة، الحافظة وسرعة الانتقال، الشهامة والسيطرة على النفس، وقسم آخر من الصفات في بعض الأفراد بصورة أكثر من المعتاد.

ويختلف العظماء والنوابغ في العالم من حيث البناء الطبيعي عن بقية الأفراد. وإن النجاح الذي أحرزه كل منهم في ميدانه في أثناء حياته يعزى إلى الدقة المعمولة في خلقهم وبنائهم. وعلى سبيل الشاهد ننقل قصة أبي زكريا التبريزي تلميذ أبي العلاء المعري وقد تلمذ على يده سنوات عديدة. ولما كان أبو العلاء مكفوف البصر فلقد كان لا يستطيع القراءة. وفي أحد الايام كان أبو زكريا يقرأ لأبي العلاء كتاباً له في مسجد المعرة وفي الأثناء حضر مسافر من تبريز إلى الجامع ليصلي، فسر أبو زكريا لرؤيته كثيراً وتوقف عن قراءة الكتاب لعدة لحظات فسأله الاستاذ عن السبب، فأخبره بمجيء صاحبه. فأمره أبو العلاء بأن يذهب إليه ويتحدث معه فقال له: أمهلني أكمل الصفحة، فقال: لا، وسأنتظرك حتى تنهي حديثك. فجلس أبو زكريا مع صاحبه على بعد خطوات من أبي العلاء وأخذ يتحدث معه باللغة المحلية ويسأله عن بعض القضايا فيجيبه. وعندما رجع إلى استاذه سأله: أي لغة هذه ؟ قال: لغة آذربايجان ! فقال: إني لم أفهم ما تداول بينكما من حديث، ولكني حفظت ما قلتماه، وأعاد جميع الألفاظ بلا زيادة أو نقصان. فتعجب صاحب أبي زكريا من حافظة أستاذه بشدة، وكيف أنه حفظ تلك الألفاظ بسرعة دون أن يفهم معانيها20 .

نوابغ العالم

لقد وجد على مر القرون المتصرمة نوابغ عظماء لا يقاسون مع سائر الأفراد من حيث إدراك الحقائق العلمية، والذكاء الخارق. وإن الترقيات التي نالت البشر في الحياة المادية مدينة إلى مواهب هؤلاء الرجال البارزين فهم الذين أدركوا الحقائق العلمية بفضل مواهبهم الخاصة، وقادوا ركب الانسانية إلى الأمام.

"إننا نختار من بين الملايين أفراداً معدودين في تلك الدولة حيث خدموا التقدم العام، واستطاعوا بفضل مواهبهم أو دهائهم أن يجعلوا أنفسهم فوق مستوى الآخرين، وأن يكونوا قائدي زمام التمدن ".

"إننا نلاحظ الانسانية على أنها مجموعة حية في حالة دائمة من التغير والذكاء، ونعلم أن تطورات هذه المجموعة تبدأ بواسطة أناس نادرين ومتفردين في الغالب ! "

"هذه الأدمغة البارزة هي مركز الأمواج التي تشبه الأمواج الحادثة عند سقوط قطعة من الحجر في الماء. هؤلاء يمكن أن يوجدوا في آسيا، أو أمريكا، أو أي طبقة أخرى من البشر. هؤلاء ليسوا صينيين، أو أمريكان، أو انكليز، أو فرنسيين، أو هنود... إنهم بشر "21.

رسل السماء

إن تكامل الانسان في المدارج المعنوية، وخلاصة من عبادة الأصنام والنار، ونجاته من الأوهام والخرافات مدين لجهود الأنبياء والرسل. فلقد كانوا أناساً غير اعتياديين في بنائهم ومواهبهم الباطنية. وبالرغم من أن تعاليم الأنبياء والقوانين التي يسنها الرسل إنما هي من السماء وهو يقومون بإيصالها إلى البشر فقط، يجب أن لا ننسى أن هذه المنزلة لا يستطيع إحرازها كل فرد، وليس بإمكان كل فرد أن يصير نبياً.﴿... اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه...(الأنعام:124).

لم يكن نبوغ نبي الاسلام العظيم قبل نزول الوحي عليه، وكمال عقله وذكائه الخارق أمراً مخفياً على الناس. فانه كان فريداً في بابه قبل أن يختاره الله لهذا المنصب العظيم. فالأفكار العالية والقريحة الفريدة التي كان يمتاز بها كانت قد رشحته لأن يكون أوحدياً، وقدوة للبشرية أجمع، ذلك الرجل العظيم، والشخصية المثالية كان جديراً بمقام النبوة، ولذلك فقد اختاره الله تعالى لهذه المهمة.

الخصائص الفردية
الخلاصة:
إنه يوجد في باطن بعض الأطفال من المواهب الخاصة ما ليست موجودة عند باقي الأفراد. وإن ظهور تلك الخصائص يسبب تقدم البشرية ورقيها، فإنهم يجب أن يخضعوا منذ الصغر إلى رقابة تربوية صحيحة، وتهيأ لهم ظروف وبيئة صالحة، وإن البيئة الوحيدة التي تستطيع أن تنمي القابليات الخاصة وتستغل الطاقات الكامنة وتخرجها إلى حيز الوجود هي الأسرة.

"وبدلاً من أن يشبه الآلة التي تنتج في مجموعات، يجب على الانسان بعكس ذلك أن يؤكد وحدانيته ولكي نعيد تكوين الشخصية يجب أن نحطم هيكل المدرسة والمصنع والمكتب... إننا نعلم أنه من المستحيل أن ننشىء أفراداً بالجملة، وأنه لا يمكن اعتبار المدرسة بديلاً من التعليم الفردي... إن المدرسين غالباً ما يؤدون عملهم التهذيبي كما يجب، ولكن النشاط العاطفي والجمالي والديني يحتاج أيضاً إلى أن ينمى، فيجب أن يدرك الوالدان بوضوح أن دورهما حيوي ويجب أن يعدا لتأديته... ".

"حينما اعترف المجتمع العصري بالشخصية كان عليه أن يقبل عدم مساواتها، فكل فرد يجب أن يستخدم تبعاً لصفاته الخاصة... وفي محاولتنا توطيد المساواة بين الناس ألغينا الصفات الفردية الخاصة التي كانت أكثر نفعاً، إذ أن السعادة تتوقف على ملاءمة الفرد ملاءمة تامة لطبيعة العمل الذي يؤديه... ولذلك يجب أن ينوع البشر بدلاً من أن يصبحوا جميعاً على نسق واحد، كذلك يجب أن تستبدل هذه الاختلافات التي حفظتها وهولتها طريقة التعليم وعادات الحياة... "22.

ولقد تلقى الامام علي عليه السلام الاختلافات الطبيعية بين الأفراد باهتمام بالغ، وربط مصير سعادة الناس وخيرهم بالمحافظة على تلك الاختلافات كما ربط شقاءهم وهلاكهم بإزالة تلك الفوارق الطبيعية.

"قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا استووا هلكوا "23.

مسايرة التربية للفطرة

من الضروري أن يستفاد من الاختلافات الطبيعية للبشر في موضوع التربية، وتربية كل فرد حسب المواهب والقابليات المودعة في بنائه الفطري لكي يستفيد المجتمع أقصى الفائدة من جميع الذخائر الفطرية المودعة في باطن الأفراد.

وإذا أغفلنا هذه النقطة التي أقرها الله حكمته البالغة ولم تنسجم تربية كل فرد مع غرائزه الفطرية فإن الفرد سيبقى محروماً من الكمال اللائق به، ويكون مصاباً بالانحراف بنفس النسبة.

يتولد بعض الأطفال مع خصائص غير مرغوب فيها، قد ضربت جذورها فيهم كسوء الخلق أو التلذذ بإيذاء الآخرين.

"حيث يقع سلوك الانسان وخلقه تحت تأثير التحريكات الداخلية يمكن اعتبار الغضب خاصة أصيلة فيه. فالطفل لا يعلم ما يصنع، أو أنه لا يدرك الموقف كما ينبغي أن يدركه، إن هذا الغضب شديد وخطر".

"نرى الطفل يتدحرج على الأرض، يضرب رأسه بالجدار، يقتلع شعر رأسه، يضرب، يعض من حوله، يحطم الأثاث، يكسر زجاج النوافذ، وربما يرتكب جريمة قتل... ".

"وبعد هذه الفورة من الغضب يهدأ الطفل، وحين يستولي عليه التعب تماماً يحس من نفسه بحاجة شديدة إلى النوم "24.

... لقد أثرت ظروف خاصة على بنية أطفال كهؤلاء، فجعلتهم ينشأون على هذه الخصائص، ويجب أن لا نلومهم على ذلك، يقول الامام الصادق عليه السلام بهذا الصدد: "لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق، لم يلم أحد أحداً "25.

هؤلاء الأطفال يجب أن يوضعوا منذ البداية تحت رقابة تربوية صحيحة وأن يهتم المربي بجميع خصائصهم النفسية ويستخدم تلك الميول الفاسدة في المجاري الصحيحة، وإرضائها بهذه الصورة.

"يستطيع الشخص المصاب بعقدة الايذاء إرضاء رغبته هذه في طريق آخر حسب مستواه الثقافي وظروف حياته أي أنه إذا كان مستواه العلمي واطئاً يختار مهنة القصابة ويصبح قصاباً وإذا كان حائزاً على درجة علمية راقية فيستطيع أن يشتغل جراحاً، وبهذه الصورة تشبع رغبته في إيذاء الآخرين بطريقة تلقائية "26.

والنتيجة التي توصلنا إليها هي: أن الأسرة تستطيع أن تتعهد ثلاثة أمور مهمة مضافاً إلى المحافظة على الطفل وتربيته الاعتيادية. هذه الأمور هي:

1- تهتم بجميع الميول الداخلية والمثل الانسانية للطفل وتعمل على إرضاء كل منها في مورده وبالمقدار المناسب له. وبذلك يكتسب الطفل شخصية كاملة متزنة.

2- تهتم بالأطفال البارزين الذي يملكون قابليات ومواهب عالية بصورة خاصة وتهيئ الوسائل اللازمة لظهور تلك المواهب والقابليات وتقويتها لتعطي ثمارها بعد حين.

3- إذا كان الطفل يملك بعض الخصائص السيئة فإن من الممكن أن يخضع في ظل الأسرة لرقابة صحيحة، وبالتالي تعديل تلك التصرفات غير المرغوب فيها وهدايتها إلى الطريق الصحيح. هذه هي الوظائف الرئيسية التي يمكن للأسرة أن تقوم بها بينما تعجز روضة الأطفال عن القيام بها.

الأسر الشريفة والأسر المنحطة

وفي نهاية المطاف يجب أن نتنبه إلى نكتة مهمة، وهي أنه ليس باستطاعة أي أسرة أن تقوم بالتربية الصحيحة وليس بإمكان حجر كل أب أو أم أن يصبح أحسن مدرسة للطفل. فالشرط الأساسي هو أن يكون جو الأسرة نزيهاً مبرءاً من الفساد والإجرام والخيانة وارتكاب الخطأ بل يشترط أن يكون الوالدان حائزين على صفات وملكات فاضلة. فالوالدان المنحرفان لا يستطيعان أن يربيا في أحضانهما أطفالاً صالحين فإن (فاقد الشيء لا يعطيه).

ولقد قال الشاعر:

يـا أيها الرجل المعلم غيره      هلا لنفسـك كـان ذا التعليم
إبدأ بنفسك فانهها عن غيها   فإذا انتهت عنه فأنـت حكيم

لقد أدى إسراف المدنية الحديثة في الجوانب المادية والشهوات الحيوانية إلى إضعاف الجوانب المعنوية والروحية. فإن كثيراً من الأسر فقدت معنوياتها على أثر التلوث بأنواع الجرائم والذنوب، وانتجوا في النهاية أولاداً مجرمين ومنحطين، فاسدين ومنحرفين !!.

"في كثير من الأسر لا يواجه الطفل إلا أساليب فاسدة وبعيدة عن الأخلاق، ولا يتجلى أمام ناظريه الثاقبين إلا أمثولة السلوك الأهوج والإهمال والكسل. من المؤسف أن هذه الحقيقة غير قابلة للإنكار، وأن عدداً كبيراً من حوادث السقوط والانهيار في المجتمع ينبع من هذه النقطة. وإذا لم يقدر طفل أن يظهر بصورة إنسان كامل في أمثال هذه الأسر المنحطة، وسببت إرادته المهملة التائهة نوعاً من الفوضى والاضطراب في المجتمع فيجب أن نقول: إن أسرة واحدة قد قصرت في أداء واجبها الطبيعي. لقد كتب الدكتور (آدفرير) بهذا الصدد: إن مسألة التربية في الأسرة تصطدم بهذه النقطة وهي أن الوالدين يجب أن يكونا غنيين بالعواطف الراقية والأفكار الممتازة، حتى تشع هذه الصفات منهما إلى الخارج، وتنير الطريق لطفلهما وتحثه على السير في الطريق الصحيح "(ما وفرزندان ما ص 5).

"لقد أصبحت الأسرة جواً مخزياً للتربية بصورة عامة لأن الآباء والأمهات في العصر الحديث قد تجاوزوا الحد المقرر في السذاجة أو العصبية، أو الضعف، أو الشدة وربما يعلم أكثرهم بعض العيوب لأطفالهم. فما أكثر الأطفال الذين يجدون صوراً مختلفة عن سوء الأخلاق، والفساد، والمشاكسة، والسكر في البيت والأسرة، والكثيرون منهم إن لم يجدوا مثل هذه القضايا في البيت فلا بد وأنهم تعلموها من أصدقائهم. فيمكن القول بلا مبالغة أن كثيراً من الآباء والأمهات في العصر الحديث يجهلون تربية أطفالهم مهما كانت الطبقة التي ينحدرون عنها والمدارس أيضاً لا تستطيع أن تؤدي واجبها لأن الأساتذة لا يختلف سلوكهم عن سلوك الأبوين كثيراً... ".

"والخلاصة انه ليس بإمكان المدرسة ولا الأسرة أن تعلم الطفل أسلوب الحياة الأمثل. ولهذا السبب فاننا نجد في سحنات وجوه الشباب مرآة صافية قد انطبعت عليها صورة عدم كفاءة القائمين على تربيتهم "27.

"إن التناسل في أكثر الشعوب تحضراً آخذ في التناقص كما أنه لا ينجب إلا نسلاً وضيعاً... قد أتلفت النساء أنفسهن إختياراً بشرب الخمر والتدخين، كما أنهن يعرضن أنفسهن لخطر (الرجيم) رغبة منهن في نحافة أجسامهن، وعلاوة على ذلك فإنهن يرفضن الحمل... ويعزى هذا النقص إلى تعليمهن وأنانيتهن... "28.

إنهيار الأسر الشريفة

تستطيع أسرة شريفة أن تربي في حجرها أولاداً أبراراً متى كان الرجال والنساء في تلك الأسرة غير منحرفين أو منحطين، بل كانوا محافظين على الرصيد المعنوي الذي ورثوه عائلياً، ليسلموه إلى من يخلفهم جيلاً بعد جيل، أما إذا وجد الاجرام والفساد والذنب طريقه إلى تلك الأسرة فستخلي الفضائل والمثل الحميدة مكانها للرذائل، وتتبدل الأسرة الأصيلة التي اعتادت الشرف والمجد عدة مئات من السنين إلى أسرة منحطة خلال قرن أو نصف قرن.

ولقد اهتم علماء الغرب بهذا الموضوع، وتحدثوا كثيراً عن عيوب الأسر وتلوث الآباء والأمهات في بلدانهم. وانتقدوا الأوضاع بشدة، وهم يبدون قلقهم على مستقبل بلدانهم من تربية أولادهم الفاسدة وإيجاد الجيل المجرم المنحل. أما في بلادنا حيث المستوى الثقافي العام أوطأ منه في الغرب وحيث الانحطاط الخلقي ينتشر بسرعة أكثر في الأسر والعوائل وبين الشباب فإن الأمر يدعو إلى القلق أكثر.

فضعف الأسس الدينية والخلقية من جهة، والإفراط الشديد في العلاقات غير الشرعية بين الشبان والفتيات من جهة أخرى، قد أخذا ينخران في أجساد بعض الأسر العريقة كداء السرطان، ويعملان بأشد ما يمكن لاقتلاع جذور الفضائل واحدة بعد الأخرى.

بالأمس كان بعض الآباء يملكون أرواحاً قوية بفضل الرصيد الايماني والمعنوي، ولم يكونوا ليقتربوا في سلوكهم من الدنس والاجرام، وكانوا مستقيمين في معاملاتهم، ويتغلبون على مشاكل الحياة بقوة الايمان والثبات... واليوم نجد أبناءهم ذوي نفسيات ضعيفة جداً وذلك لا بتعادهم عن الإيمان والإهمال في الواجب، ونجدهم مصابين بأنواع الجرائم، ولا يستطيعون الوقوف أمام مصاعب الحياة أبداً، بل ان الملجأ الأخير لهم هو الانتحار !!

بالأمس كان أولئك الآباء يجالسون الفضلاء والأشراف في المجالس العلمية ومجالس الترفيه والتسلية... واليوم أصبح أبناؤهم يجالسون المنحرفين والنساء الباغيات اللاهيات في مراكز الفساد !!.

بالأمس كان أولئك الآباء يقضون ساعات فراغهم في جو الأسرة المليء بالدفء والحنان والسكينة، مع أعصاب هادئة وروح مطمئنة... أما اليوم فان أبناءهم يقضون أوقاتهم الثمينة في محلات القمار بأعصاب محطمة وأرواح مضطربة !!.

ما أكثر الأمهات العفيفات اللائي كن بالأمس ينظمن شؤون عوائلهن ويربين في أحضانهن أحسن الأولاد وأليقهم وأسعدهم... واليوم نجد بناتهن اللاهيات قد تركن البيت والأسرة، ورأين سعادتهن في الاجهاض وإقامة العلاقات اللامشروعة مع الشبان المنحرفين وعباد الشهوة في دور السينما ومراكز الفساد الأخرى !!

لقد اختفى الايمان والتوحيد، الصلاة والعبادة، صفاء القلب والمناجاة في السحر، التقوى والورع، مساعدة الضعفاء وخدمة الناس، في بعض الأسر تماماً، وأخذ الفتيان والفتيات لا يفكرون بغير الشهوة واللذة ولسوء الحظ لا يجدون لذتهم إلا في ذلك السم الزعاف... الخمرة والحشيشة. لقد تحولت موائد الاحسان والاطعام في بعض العوائل إلى موائد القمار، وتبدلت مجالس الفضيلة والموعظة إلى مجالس اللهو والطرب... لم يبق للقيم الانسانية والمثل العليا إسم ولا رسم، وقد تركت الشجاعة وعزة النفس مكانها إلى الذلة والانحطاط والحقارة، وحل التملق محل الشخصية وعلو الهمة... ولقد ضرب الحقد والحسد، الأنانية والاثرة، التهمة والخيانة وعشرات العادات الرذيلة الأخرى التي يعد كل منها داء خطير في نفسه بجذورها في أعماق القلوب، وتعمل على إحراق القلوب والأجساد باستمرار !.

والخلاصة: أن أخلاف بعض الأسر العريقة والشريفة نجدهم بصور رجال ونساء ضعيفي العقول، عليلي الأمزجة، منحرفين وسيئي الأخلاق، قد عملت العادات الخطيرة في إضعاف أجسادهم، وعملت الأفكار الهدامة والسيئات الخلقية على انحراف نفوسهم فهم يقدمون على كل رذيلة، لا يتهيبون الكذب والتملق، ولا يقيمون وزناً للسرقة والارتشاء، الافساد وإيجاد الفتن، الغيبة والتهمة، بل إن ذلك كله أمور إعتيادية في نظرهم !.

إن الآباء والأمهات المصابين بهذه الانحرافات، والساقطين في هوة الرذيلة لا يستطيعون أبداً أن يربوا في أحضانهم أولاداً شرفاء، إن الأطفال الذين يتلقون تربيتهم في أمثال هذه الأسر المنحطة يكونون بلا شك عناصر خبيثة في المجتمع.

فبديهي حينئذ أن روضة أطفال منظمة تملك مشرفين مهذبين شاعرين بالمسؤولية، تفوق هذه الأسر بكثير. ذلك أنها إن لم تستطع إحياء الخصائص الفردية للطفل، فلا أقل من أنها لا تعلمه على الكذب والدجل والاجرام والسباب، وإن لم تقدر على تلقينه دروساً في الشهامة والتضحية فلا أقل من أنها لا تمد أمامه موائد الخمر والقمار، ولا تفتح عينيه على الرذائل والذنوب الكبيرة.

ومن المؤسف أن هذه الانحرافات لم تقتصر على تلويث أذيال بعض الأسر المنحطة وإسداء ضربة قاصمة إلى الأمة وروح الوطنية فيها بذلك فقط بل أنها شملت حتى الأجواء الساذجة في الأرياف... وانتشر الاجرام والانحطاط في كل مكان كداء الطاعون... لكن الذي يبعث على الأمل هو أن الفرصة لم تفت بعد، ولم ينقض وقت الكفاح، فلا يزال يوجد في هذه البلاد أسر شريفة كثيرة ورجال ونساء مؤمنون ومسلمون يتحصنون بالايمان ضد الانحراف... يجب أن نستغل هذه الفرصة ونتخذ التدابير اللازمة لمكافحة المآسي في مجتمعنا.

*الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفي، الأعلمي ط3، 2002م، ج1، ص226-246.


1- ومن المناسب أن ندرج هنا ما أوردته مجلة العربي. في فصل دردشة. تحت عنوان: الأم هي المعلمة الأولى.: "تستطيع الأم الفاضلة أن تؤدي مهمة مائة أستاذ من أساتذة المدارس. هذا ما قاله الشاعر الانجليزي جورج هربرت وهذا ما أثبته التاريخ. فجورج واشنطون أول رئيس للجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية، كان قد فقد أباه وهو في الحادية عشرة من عمره، وما كان ليشب على نحو ما شب عليه من رصانة الخلق وقوة الشخصية لو لم تكن أمه على جانب كبير من الحكمة والاقتدار. وقد تولت تربيته، منفردة، بعد وفاة أبيه. ويصدق ذلك كثيراً أو قليلاً على عدد من أعلام الأدب والعلم والشعر عبر التاريخ نذكر منهم على سبيل المثال: جوته، وجري، وشيللر، وبيكون، وأرسكني. فلولا تربية أمهاتهم لهم لما احتل هؤلاء مكانتهم بين الأعلام المبدعين ". عن مجلة العربي 95- ص: 59.
2- الانسان ذلك المجهول ص 208.
3- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 1-148.
4- تحف العقول ص 198.
5- مستدرك الوسائل ج 1-148.
6- المصدر السابق ج 2-616.
7- سفينة البحار مادة يتم. ص 731.
8- الوسائل ج 1-157.
9- البحار ج 9-536.
10- الوسائل ج 5-125.
11- نهج البلاغة ص 470.
12- مستدرك الوسائل ج 1-147.
13- بحار الأنوار ج 18-212.
14- ما وفرزندان ما ص 3.
15- ما وفرزندان ما ص 4.
16- نهج البلاغة ص 406.
17- نهج البلاغة ص 406.
18- نفس المهموم ص 149.
19- البحار ج 14-405.
20- ينقل القصة بكاملها صاحب قاموس دهخدا. الفارسي عند ترجمة أبي العلاء المعري. ص 636.
21- سرنوشت بشر ص 190.
22- الانسان ذلك المجهول ص 239 ـ 240.
23- البحار للمجلسي ج 17-101.
24- جه ميدانيم ؟ أطفال دشوار. ص 48.
25- وسائل الشيعة للحر العاملي ج 4-71.
26- أنديشه هاى فرويد ص 2583.
27- راه ورسم زندكى ص 164.
28- الانسان ذلك المجهول ص 228.

 

2012-03-20