النمو الناقص في أثناء الحمل و دور الأم
تربية الأبناء
بحثنا في هذا المقال يدور حول نقطتين: 1- العلة في جعل الملاك في سعادة الأطفال وشقائهم في الروايات رحم الأم بالذات من دون ذكر لصلب الأب.2- النواقص والعوارض التي تعتري الجنين في رحم الأم من دون سابقة.
عدد الزوار: 111
قال الله تعالى في كتابه العظيم: ﴿... وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾(مريم:33).
بحثنا في هذا المقال يدور حول نقطتين:
1- العلة في جعل الملاك في سعادة الأطفال وشقائهم في الروايات رحم الأم بالذات من دون ذكر لصلب الأب.
2- النواقص والعوارض التي تعتري الجنين في رحم الأم من دون سابقة.
أما بالنسبة إلى النقطة الأولى من البحث. فاننا نرى أن بذور الورد تبذر في جوف تربة الأصيص، وبعد مرور مدة من الزمن تنبت البذرة بصورة سويق صغير يشق سطح التربة، وينمو تدريجياً ويأخذ بالتفريع والإزهار. إن بذرة الورد تعتبر الخلية التناسلية الكاملة، وتخزن في باطنها جميع الذخائر اللازمة لانبات نبتة جديدة. ولا يشكل الأصيص سوى المحيط الذي تنمو فيه النبتة والبيئة التي تعيش فيها.
الخلية التناسلية الكاملة
صحيح أن رحم المرأة يكون بالنسبة إلى نطفة الرجل كالأصيص بالنسبة إلى البذرة. إلا أن الأمر يختلف تماماً في موضوع تكوين الخلية التناسلية، إذ ليست نطفة الرجل هي الخلية التناسلية الكاملة كما كانت البذرة وكذلك رحم الأم يتحمل في المرحلة الأولى نصف مسؤولية عملية التلقيح، ثم ينفرد في أنه يتحمل مسؤولية الاحتفاظ بالنطفة لمدة تسعة أشهر كاملة في داخله حتى يصنع إنساناً كاملاً.
ولهذا ورد في القرآن الكريم: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾(الدهر:2). أي أننا خلقناه من نطفة مركبة وممزوجة من الرجل والمرأة كليهما.
"إن خلايا الخصية تفرز من غير توقف، وخلايا الحياة كلها، حيوانات ميكروسكوبية وهبت لها حركات نشيطة للغاية، هي الحيوانات المنوية. وهذه الحيوانات تسبح في المخاط الذي يغطي المهبل من الرحم، وتقابل البويضة على سطح الغشاء المخاطي الرحمي... وتنتج البويضة من النضج البطيء لخلايا المبيض الجرثومية. ويوجد نحو 300000 بويضة في مبيض الفتاة وتبلغ نحو اربعمائة منها فقط درجة النضج، وفي وقت الحيض ينفجر الكيس المشتمل على البويضة. ثم تبرز البويضة فوق غشاء (بوق فالوب)، فتنقلها السيليا (الأهداب) المتحركة للغشاء إلى داخل الرحم وتكون نواتها قد تعرضت في تلك الأثناء لتغير هام. ذلك أنها تكون قد قذفت بنصف مادتها... وبعبارة أخرى بنصف كل (كروموسوم). وحينئذ يخترق الحيوان المنوي سطح البويضة. وتتحد كروموسوماته التي تكون فقدت أيضا نصف مادتها، بكروموسومات البويضة. وهكذا يولد مخلوق جديد"1.
منشأ ظهور الطفل
يستفاد من هذه الفقرة أمران:
الأول: أن نطفة الرجل تتحد بنطفة المرأة، ويحصل من اتحاد نصف خلية الرجل ونصف خلية المرأة (الخلية التناسلية الكاملة) التي هي العامل الأول في ظهور الطفل.
والثاني: أن بويضة المرأة عندما تقابل سيل الحيامن الذكرية، إنما تتلقح بواحدة منها فقط، أما البواقي فتندثر.
"حينما يقذف الرجل بالسائل المنوي إلى الخارج فإنه يكون حليبي اللون وبحجم 3 سم 3، يوجد في كل سانتيمتر مكعب منه من 100 إلى 200 مليون حيمن".
"إن الحيامن المنوية قادرة على الاحتفاظ بقابليتها على التلقيح لمدة 48 ساعة بعد الخروج من الرجل. وذلك في وسط قلوي (قاعدي) وتحت درجة حرارة 37 مئوية..."2.
لم يكن بإمكان البشر قبل أربعة عشر قرنا أن يتصوروا أن منشأ ظهور الانسان هو موجود صغير وضئيل يوجد منه في نطفة الرجل مئات الملايين في كل مرة. وهذه الذرة الصغيرة كافية في أن تلقح إمرأة. ومع ذلك فقد صرح القرآن الكريم بهذه الحقيقة منذ ذلك الحين حيث قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ﴾(السجدة:8). أي أن الله جعل نسل الانسان من خلاصة ماء حقير وضعيف، فليس العامل في إبقاء نسل الانسان هو هذا الماء الحقير الذي يخرج منه كله بل جزء منه، وهو خلاصته (سلالته).
ويتضح تنبه الامام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى هذه الحقيقة من خلال الفقرة التالية:
"جاء رجل إلى علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين كنت أعزل عن امرأتي، وإنها جاءت بولد. فقال علي عليه السلام: وأناشدك الله هل وطأتها ثم عاودتها قبل أن تبول؟ قال: نعم. قال: فالولد لك..."3.
من هذه الجملة، يعلم أن الرجل كان يعزل (يقذف السائل المنوي خارج مهبل زوجته) لمنع الحمل، ومع ذلك فقد حدث أن حملت المرأة فأدى الأمر إلى أن يشك الرجل في زوجته فجاء يسأل علياً عليه السلام وإلا فانه لم يكن يرضى بأن يفشي سره. فنجد الامام عليه السلام حين يسمع بالقصة يسأله هل اتفق له أن جامع زوجته مرتين من دون أن يبول في الأثناء، فأجابه بوقوع ذلك، فصرح الامام بأن الولد له.
والسر في ذلك واضح، لأنه عليه السلام كان يعلم أن ذرة صغيرة من النطفة كافية لأن تلقح بويضة المرأة فتحمل، فبما أن الرجل جامع زوجته في المرة الأولى ثم قذف السائل خارجاً وبقي مدة لم يبل فيها فبقيت الحيامن في المجرى، وحين جامعها للمرة الثانية خرجت إحدى تلك الحيامن ولقحت المرأة من دون أن يشعر، وبالرغم من أنه قذف السائل خارجاً في المرة الثانية إلا أن الحيامن المتبقية في المجرى كانت قادرة على الاحتفاظ بنشاطها لمدة 48 ساعة وكذلك فعلت.
وبالرغم من أن الأب والأم كليهما يشتركان في صنع الخلية الأولى للطفل ويتساوى دورهما فيه ولهذا نجد أن الأطفال يكتسبون بعض صفاتهم من آبائهم وبعضها من أمهاتهم لكن الرحم هو الذي يصنع الطفل ويخرج تلك الذرة الصغيرة بصورة إنسان كامل. وإن جميع الاستعدادات التي كانت كامنة في تلك الخلية الأولية تظهر إلى عالم الفعلية في رحم الأم. إذن فالمقدرات التفصيلية للطفل من الصلاح والفساد، والجمال والقبح، والنواقص والكمالات، الظاهرية والباطنية كلها تخطط في الرحم.
المرحلة الأخيرة للتكوين
هناك مئات التفاعلات والتأثيرات الاختيارية والاتفاقية تمر في طريق أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، وتؤثر في الأطفال بصورة خفية حيث تظهر نتائجها جميعاً في الرحم. والرحم هو آخر مراحل التأثيرات المختلفة الطارئة على تكوين الطفل، وعند عبوره هذه المرحلة يبدأ الحياة على الأرض. إذن فالسعادة والشقاء التكوينيين للانسان يجب البحث عنهما في آخر المراحل وهو رحم الأم. ولهذا نجد الرسول الأعظم صلّى الله وآله وسلّم والأئمة الطاهرين عليهم السلام بالرغم من عنايتهم الشديدة بالتأثير المشترك لأصلاب الآباء وأرحام الأمهات حول سعادة الطفل وشقائه يوجهون جل إهتمامهم إلى رحم الأم فيقولون:"السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه".
أثر غذاء الأم في الجنين
هذا هو جواب السؤال الذي بدأنا به الحديث، وهو أنه لماذا اعتبرت الروايات رحم الأم هو الملاك في السعادة والشقاء، وأغفلت ذكر صلب الأب؟.
إنه لا مندوحة لنا من القول بأن دور الأم في بناء الطفل يفوق دور الأب بكثير. نعم لو اكتفينا بملاحظة دور الأب والأم في تلقيح البويضة بواسطة الحيمن لايجاد الخلية الأولى للطفل لكانا متساويين في ذلك الدور، إلا أن الواقع أن الأم تتحمل في دور الحمل مسؤولية كبيرة وبالخصوص فيما يتعلق بأسلوب تغذي الأم ونوعه.
إن دور الآباء في البناء الطبيعي للطفل ينتهي بعد انعقاد النطفة وحصول التلقيح، لكن دور الأم يستمر طيلة أيام الحمل، فالطفل يتغذي من الأم، ويأخذ منها جميع ما يحتاجه في بنائه. ولهذا فإن لسلامة الأم ومرضها، طهارتها ورذالتها، سكرها وجنونها... أثراً مباشراً في الجنين:
"إن الأب والأم يساهمان بقدر متساو في تكوين نواة البويضة التي تولد كل خلية من خلايا الجسم الجديد ولكن الأم تهب علاوة على نصف المادة النووية كل البروتوبلازم المحيط بالنواة، وهكذا تلعب دوراً أهم من دور الأب في تكوين الجنين"4.
"إن دور الرجل في التناسل قصير الأمد. أما دور المرأة فيطول إلى تسعة أشهر. وفي خلال هذه الفترة يغذى الجنين بمواد كيمياوية ترشح من دم الأم من خلال أغشية الخلاص"5.
إن الطفل أشبه ما يكون بعضو من أعضاء الأم تماماً، عندما يكون في بطنها. وجميع العوامل التي تؤثر في جسد الأم وروحها تؤثر في الطفل أيضاً. إذا ابتلي أب بعد انعقاد النطفة بشرب الخمرة أو العوارض الأخرى فانها لا تؤثر في الطفل، لأن صلة الطفل بأبيه إنما تكون ثابتة إلى حين انعقاد النطفة فقط، لكن صلة الأم تستمر لمدة تسعة أشهر، وعليه فإذا أقدمت الأم في أيام الحمل على شرب الخمر فإن الجنين يسكر ويتسمم أيضاً.
إن أحد أسباب سلامة هيكل الطفل ورشاقة قوامه، أو عدمها في أيام الحمل يتعلق بالغذاء الذي تتناوله الأم وهي حامل. وكذلك الغذاء الذي كان يتناوله الأب قبل انعقاد النطفة.
"إذا كانت نطفة الأب مسمومة حين الاتصال الجنسي فإن الجنين يوجد ناقصاً وعليلاً، وهذا التسمم ينشأ من تناول الأطعمة الفاسدة، أو معاقرة الخمرة. إذن يجب الاجتناب عن الاتصال الجنسي حين التسمم والسكر بالخصوص"6.
"لقد قام أحد الأطباء الحاذقين في أوروبا بجمع إحصائيات دقيقة للنطف التي تنعقد في ليلة رأس السنة المسيحية فوجد أن 80% من الأطفال المتولدين من تلك النطف ناقصوا الخلقة وذلك لأن المسيحيين في هذه الليلة يقيمون أفراحاً عظيمة وينصرفون إلى العرش الرغيد والافراط في الأكل والشرب ويكثرون غالباً من تناول الخمرة إلى حد يجرهم إلى المرض. وبما أن المطاعم وحانات الخمور تستقبل أكبر كمية من الزبائن في هذه الليلة فإنه يتعذر على أصحابها أن يطعموهم الأطعمة السالمة كغيرها من ليالي السنة"7.
"يصاب بعض الأطفال في الأيام الأولى من أعمارهم بقروح وجروح تسمى"أكزما الأطفال" وهذه القروح لا تزول إلا بعد أن تعذب الوالدين لمدة طويلة، وهي ناتجة من سوء تغذي الأمهات في أيام الحمل. فإن الأم لو اكثرت في أيام الحمل من أكل التوابل والأطعمة الحارة كالخردل والدارسين وما شاكل ذلك فالطفل يصاب بالأكزما"8.
"إن الفواكه والخضروات التي تحتوي فيتامين (B) تعتبر العلاج القطعي للكنة اللسان. والأم التي تتناول من هذا الفيتامين أيام حملها، فإن جنينها يأخذ بالتكلم مبكراً ولا يصاب باللكنة"9.
"إن المشروبات الروحية تعتبر خطرة جداً للحوامل لأنها بغض النظر عن التسمم الذي توجده، تهدم الفيتامينات التي تحتاجها الأم والجنين أيام الحمل، فينشأ الطفل ناقصاً ومشوهاً"10.
"إن تناول الأطعمة الفاسدة واللحوم بالخصوص حيث تؤدي إلى التسمم يجعل لون الجنين داكناً مائلاً إلى الاصفرار"11.
الغذاء والجمال
يرى العلم الحديث أن للأطعمة تأثيراً خاصاً في صباحة وجه الأطفال ورشاقة قوامهم ولون شعرهم وعيونهم، وفي كل مظاهرهم. وكذلك الرويات والأحاديث فانها لم تغفل شأن الاشارة إلى أثر الأطعمة والفواكه والخضروات والبقول، فورد في بعضها الارشاد إلى استعمال أنواع خاصة منها للحامل: "عن الصادق عليه السلام: نظر إلى غلام جميل، فقال: ينبغي أن يكون أبو هذا أكل سفرجلاً ليلة الجماع"12.
وهناك حديث آخر بشأن السفرجل: "... وأطعموه حبالاكم فإنه يحسن أولادكم"13.
وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر، فإن ولدها يكون حليماً تقياً"14.
الحوادث غير المتوقعة
يخضع الطفل في أيام الحمل لتأثيرات أمه، وإن جميع الحوادث التي تقع للأبوين تؤثر فيه، ويصنع الطفل بموجبها. فقد يصادف أن تقع بعض الحوامل في أيام الحمل فتؤدي إلى سعادة الطفل. وقد يكون العكس حيث تؤدي إلى شقائه أو سقوطه وانعدام حياته تماماً.
لنتصور مسافراً يركب سيارة ويقصد منطقة نائية جداً بحيث يطول سفره تسعة أشهر فهناك العديد من المخاطر في طريقه، فمن المحتمل في كل لحظة أن يقع في هوة سحيقة، أو واد عميق أو تصطدم سيارته بجبل، أو يقذف إلى نهر، أو تكسر يده، أو يجرح بدنه، وقد يصادف أن يطوي 99% من مجموع المسافة، ويبقى له 1% فقط فتصادفه عقبة كأداء أو حادثة سيئة في ذلك الجزء الأخير، فلا يمكن التأكد من وصول المسافر إلى مقصده بسلام إلا بعد أن يترك السيارة ويتجه إلى منزله الأخير.
وهكذا النطفة التي تنعقد في رحم الأم لأول لحظة، فهي كالمسافر الذي استقل واسطة النقل، وعليه أن يقطع المراحل الطبيعية طيلة تسعة أشهر. فهناك المئات من العراقيل والمخاطر تقع في طريقها. وفي كل لحظة يمكن أن تقع حادثة تؤدي إلى سقوط الجنين وموته، أو تحدث فيه نقصاً وانحرافاً. وقد يصادف أن يقطع الجنين ثمانية أشهر من حياته بسلام، وفي الشهر الأخير يصاب ببعض العوارض، ولا يمكن القطع بسلامة الطفل وإجتيازه المراحل كلها، وتولده سعيداً إلا بعد أن يتولد سالماً، ويخرج إلى الدنيا الخارجية.
ولهذا فإن قسطاً كبيراً من النجاح الباهر الذي أحرزه بعض العظماء في العالم يرجع إلى طهارة المولد، وكذلك الانتكاسات التي تحدث لبعض الأفراد فانها ترجع إلى انحرافات الدور الجنيني.
طهارة المولد
إن القرآن الكريم يعبر عن رجلين من هؤلاء العظماء بطهارة المولد السلام يوم الولادة وهما يحيى بن زكريا، وعيسى بن مريم. يقول القرآن في حق يحيى عليه السلام: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾(مريم:15).
ويقول على لسان المسيح ابن مريم عليهما السلام: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ﴾(مريم:33). والسلام بمعنى: عموم العافية. أي: الطهارة الكاملة للبدن والروح. وهذه الحقيقة أي طهارة المولد متساوية في حق جميع الرسل والأنبياء. والنكتة الأخرى التي يجب التنبه إليها هي: أن القرآن عبر عن السلامة في دور الرحم بسلامة يوم الولادة، وذلك لأن السلامة في تمام ذلك الدور لا تعرف إلا بعد ولادة الطفل سالماً، واجتيازه تلك المراحل كلها بنجاح حيث تنقطع صلته تماماً برحم أمه.
"كان علي بن الحسين عليه السلام إذا بشر بولد، لم يسأل: أذكر هو أم أنثى؟ بل يقول: أسوي؟. فإذا كان سوياً قال: الحمد الله الذي لم يخلقه مشوهاً"15.
ولا ريب فلسلامـة المولد قيمتها، إذ أنها هي السبب الأول في نشوه جيل مستو وخلق مجتمع فاضل تنتشر فيه روح السعادة والانسانية والصفاء.
مصدر السعادة والشقاء
يتضح مما سبق مدى أهمية رحم الأم في سعادة الطفل وشقائه، وكذلك اتضح السبب في عدم ذكر الروايات لأهمية أصلاب الآباء، إذ أن الرحم هو مصدر السعادة والشقاء، وفيه يتقرر مصير الإنسان وسلوكه بنسبة كبيرة.
فبعض الأطفال يبتلى بقسم من العيوب والنواقص العضوية في ناحية أو أكثر من البدن، ويولد مع تلك العيوب. وهناك بعض الأطفال نجدهم سالمين من حيث القوام البدني، ولكنهم مصابون ببعض الانحرافات والعوارض النفسية والروحية، ولذلك فإن الشقاء قد لحق بهم وهم في بطون أمهاتهم.
إن الانحرافات البدنية والنفسية كثيرة، وهناك الكثير منها لا يزال مجهولاً لدى العلماء حتى اليوم. إلا أن قسمأً كبيراً من تلك العاهات يمكن الإتقاء منها إذا أحرزنا السلامة البدنية والنفسية للاباء والأمهات.
وإذ جر البحث إلى هذه العاهات التي تسبب ولادة الطفل شقياً، لا بأس بذكر بعضها وتعداد أنواعها، لمناسبتها للبحث من جهة، ولفوائدها للقراء الكرام من جهة أخرى.
العاهات العضوية
1- "بقاء الجدار الداخلي للبطن مفتوحاً، وحينئذ يؤدي إلى خروج الأحشاء إلى الخارج أي خلف الجدار الخارجي وإيجاد إنتفاخ ظاهر".
2- "الفتق السري الناشئ من عدم انسداد الحبل السري قبل الولادة".
3- "عدم التحام جدار السرة وحصول شق في مقدم البطن إلى جهة الطحال".
4- "عدم التحام القفص الصدري بعظم القص وفي هذه الصورة يكون القلب سطحياً وواقعاً خلف الجلد مباشرة. وفي بعض الأحيان نجد بقاء قسم من الرئتين خارج القفص الصدري"16.
الوجه
1- "شق الشفة، وينشأ هذا العيب من عدم التصاق الأنسجة الرابطة بين أجزاء الفك أو الأنف. هذه العاهات قد تؤدي إلى ظهور أثر جرح، أو كشق صغير على جانب واحد جانبين من الشفة".
2- "شق القحف: هذا الشق ينشأ من عدم اتصال الأنسجة بين عظام الجمجمة".
3- "عدم إنسداد الفتحة الواصلة بين العين والأنف هذه الفتحة التي تبدأ من الجفن الأسفل للعين وتمتد إلى جهة الفم، قد تبقى مفتوحة أحياناً".
4- "إتساع فتحة الفم أكثر من المعتاد. وهو ناشئ من عدم إلتيام الأخدود الواصل بين أنسجة الفك الأعلى والأسفل".
5- "وقد يؤدي توقف أنسجة الوجه عن النمو إلى ظهور العاهات وبعض الحفر في الوجه"17.
الهندام
1- "توقف بعض أجزاء الأطراف عن النمو، وفي هذه الصورة قد نجد الأطراف ملتصقة بالجسد مباشرة من دون وجود الساعد أو الساق".
2- "ظهور أطراف زائدة كاملة أو ناقصة وهذا التشويه ينشأ في الغالب من انقسام الأنسجة الأولية".
3- "عدم التناسق في اتصال مفاصل الرجلين وفي هذه الصورة تكون الأصابع في خلف القدم والكعب في الجانب الأمامي"18
الجهاز الهضمي
1- "إنسداد المريء، وعلامته تقيؤ الطفل للحليب في اليوم الأول فور ارتضاعه".
2- "ضيق فتحة المريء حيث يؤدي فيما بعد إلى مشاكل كثيرة في بلع الأطعمة الصلبة غير السائلة".
3- "الضيق الناشئ قبل الولادة لفتحة فم المعدة، والنمو غير الاعتيادي للعضلة التي تغلق هذه الفتحة".
4- "إنسداد ثقب المخرج، أو أدائه إلى غيره من الحفر كالمثانة ونحوها"19.
هذه نماذج مختصرة للعاهات والنواقص التي تصيب جسم الطفل، وهي كثيرة، فجميع أجزاء البدن سواء الجهاز العظمي والجهاز التناسي والقلب والعروق الدموية والمخ والأعصاب خاضعة للتأثر بتلك العاهات، وقد تكون خطرة جداً إلى درجة أنها تؤدي إلى نشوء رأسين على رقبة واحدة، أو بدنين على ظهر واحد.
من قضاء الامام علي عليه السلام
ولقد حدث مثل هذا الحادث في زمن الامام أمير المؤمنين عليه السلام إذ جاءته إمرأة ولدت من زوجها الشرعي طفلاً له بدنان ورأسان على حقو20 واحد، فتحيروا في حصته من الأرث، هل يعطونه حصة واحدة أم حصتين، فصاروا إلى أمير المؤمنين عليه السلام يسألونه عن ذلك ليعرفوا الحكم فيه، فكان جواب الامام عليه السلام:
"إعتبروا إذا نام ثم نبّهوا أحد البدنين والرأسين. فإن انتبها معاً في حالة واحدة فهما إنسان واحد. وإن استيقظ أحدهما والآخر نائم، فهما إثنان وحقهما من الميراث حق إثنين"21.
والسر في هذا القضاء العادل والحكم الدقيق واضح، لأنه اعتبر ملاك الحكم هو المركز العصبي، إذ عليه المعول في توجيه الانسان، فإن كانت قيادة واحدة توجه البدنين والرأسين فهو شخص واحد. ولكن إذا كان يدير كل قسم جهاز عصبي مستقل عن الآخر، فهما بدنان، وأحسن طريقة لمعرفة أن الجهاز العصبي الذي يدير الجسم في هذا الانسان واحد أو اثنين هو إيقاظه من النوم.
فكما أن الشخص الواحد تدار عيناه بواسطة جهاز واحد، وهما يشبهان مصباحين مربوطين بزر واحد يشتعلان ويطفئا معاً، فلا يمكن أن تكون إحدى العينين يقظة والأخرى نائمة... كذلك الرأسان والعيون الأربعة، فإن كانت تدار كلها بجهاز عصبي واحد، فلا يمكن أن يكون أحد الرأسين يقظا والآخر نائماً، فيدل هذا على أن لهما دماغين مختلفين يصدران إرادتين متباينتين، ويستجيبان لأثرين متضادين، فكأنهما طفلان نائمان في فراش واحد متشابكان تماماً. ومع ذلك فيستيقظ أحدهما قبل الآخر.
وبالرغم من خفاء كثير من أسباب هذه الانحرافات على البشر، فإن لنا أن نقطع بأن حدوث أي عيب في الخلية التناسلية الأولى يؤدي إلى أن يصير الطفل في وضع غير اعتيادي، كما ثبت ذلك في بعض الحيوانات حين أجريت تجارب عديدة عليها.
"لقد استطاع شابري أن يوجد أجنة غير اعتيادية بإيجاد خدوش في الخلايا الأولية وقد نال هذا الابداع بالخصوص استحساناً بالغاً، لأن إجراء الاختبارات على خلايا بيضة لا يتجاوز طولها 1%- 2% المليمتر ليس أمراً سهلاً"22.
الانحرافات الكامنة
لا تنحصر العيوب والعاهات التي تصيب الطفل في رحم الأم بالنوع البدني منها فقط. فكثيراً ما يتفق إصابة الطفل بعوارض وانحرافات روحية فهي ليست ظاهرة بل كامنة، ولكن الأم هي التي أوجدت العوامل المساعدة لذلك الانحراف الكامن الذي لا يلبث بعد الولادة أن يظهر تدريجياً، فيكشف الزمن عن أسرار عميقة كانت مكتومة في سلوك الفرد فجميع تلك الاستعدادات تأخذ بالظهور إلى عالم الفعلية واحدة تلو الأخرى.
يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام: "الأيام توضح السرائر الكامنة"23.
وورد عن الامام جواد عليه السلام: "الأيام تهتك لك الأمر عن الأسرار الكامنة"24.
وهكذا، فكما أن الأم المصابة بالسل والسرطان تكون عاملاً مساعداً في إصابة طفلها بنفس المرض، فالأم المأسورة للانحرافات الروحية والسيئات الخلقية والصفات الرذيلة تكون تربة مساعدة أيضاً لانحراف سلوك الطفل وتفكيره أيضاً. وتأخذ تلك الانحرافات الروحية بالظهور بالتدريج في الطفل.
ومن هنا يتضح لنا السر في أن الدين الاسلامي الحنيف يعتبر الصفات الرذيلة والملكات الذميمة والتمادي في الاجرام في عداد الأمراض الخطرة. فالخلق السيء ليس سبباً للأمراض الروحية والعصبية فحسب، بل يؤدي أحياناً إلى اختلالات بدنية عظيمة، مما يؤدي إلى إصابة صاحب الأخلاق السيئة بأمراض جسدية، وهكذا نجد الأمهات المصابات بالانحرافات الخلقية والأمراض المعنوية يلدن أطفالاً مصابين أيضاً.
وهنا نكتة مهمة: وهي أن الأمراض الجسدية يمكن أن تكشف بسرعة لظهور بوادرها كالحمى وما شاكلها، ولكن المصابين بالأمراض الروحية ومضاعفاتها ومخلفاتها ليس فيهم بوادر ومقدمات، ولذلك فإن المصاب لا يلتفت إلى الخطر، إلا عندما يتأصل فيه المرض ويستبد به الانحراف... حيث يكون أحياناً غير قابل للتدارك أصلاً.
ومن المؤسف له أن أكثر الناس في العالم ومن ذلك بلادنا أيضاً يصرفون جل اهتمامهم إلى الجهات المادية فقط، غافلين عن الجهات المعنوية ولهذا السبب بالذات فانهم يتلقون الفضائل الخلقية والمثل الانسانية والتقوى على أنها أمور حقيرة حتى أن البعض يفرضون أنفسهم في غنى منها.
الغفلة عن الانحرافات الروحية
يرى الناس أن المرض منحصر بالنوع الجسماني منه، فالسيئات الخلقية والملكات الرذيلة لا يعتبرونها أمراضاً. المصاب بالسل والسرطان يعتبر مريضاً، أما الحسود والحقود فليس مريضاً عندهم، إنهم يرون قرحة المعدة أو الاثني عشر مرضاً، ولكن الافساد في الأرض والأنانية لا يرونهما كذلك.
وهكذا نجد الرجال حين الإقدام على الزواج يعطفون جل اهتمامهم على جمال الوجه والهندام وسلامة الجسد للمرأة، من أن يسألوا عن صفاتها الخلقية وملكاتها المعنوية، وكذلك نظرة النساء إلى الرجال. فقصر القامة أو الحول في العين يعتبر عيباً في الزواج. ولكن الأنانية وبذاءة الأخلاق لا تعد من العيوب عندهم. وعليه فمن البديهي أن السيئات الخلقية تنتشر بسرعة في ظرف كهذا، ويزداد عدد المصابين بها يوماً بعد يوم.
وبما أن السجايا الخلقية من الأركان المهمة في موضوع تربية الطفل وهي في نفس الوقت مفيدة لجميع الطبقات، نرى من الضروري أن نفصل القول فيها.
إتصال الجسد بالروح
إن الانسان مركب من روح وجسد، وكل منهما يؤثر في الآخر، فكما أن الجهود الجسمانية تترك آثاراً عميقة في الروح الانسانية، كذلك الأفكار والمعنويات فانها تؤثر على بدنه، وهذه القاعدة كانت من جملة المسلمات عند الفلاسفة والعلماء في القرون الماضية.
لنفرض إنساناً لا يملك أبسط المعلومات عن الخط أو الرسم، ومع ذلك يأخذ القلم أو الفرشاة بيده ويتمرن أشهراً وسنين طوالاً وبالتدريج نجد أن روحه تقع تحت تأثير هذا التمرين الجسماني حتى يصير فن الخط أو الرسم في النهاية ملكة نفسانية له. وما هي إلا أيام حتى يكون في عداد خطاطي أو رسامي العالم. هذا تأثير الجسم في الروح.
ولنفترض إنساناً يخجل أو يخاف من شيء ما. وبالرغم من أن الخوف أو الخجل شعور نفساني ومن الأمور المتعلقة بالروح، نجد أن هذه الحالة النفسية تؤثر في بدنه، فالمصاب بالخوف يصفر لونه، أما المصاب بالخجل فيحمر وجهه، وهذا تأثير الروح في الجسم.
ولم يفت العلم الحديث التنبه إلى هذه النكتة، وهي تأثير كل من الروح والجسد في بعضهما البعض، بل أثبت العلماء ذلك، وذكروا هذه القاعدة بأسلوب أوضح في كتبهم:
ولنستمع إلى (الكسيس كارل) يقول:
"من الواضح أن النشاط العقلي يتوقف على وجوه النشاط الفسيولوجي فقد لوحظ أن التعديلات العضوية تتصل بتعاقب حالات الشعور، وعلى العكس من ذلك فإن حالات وظيفية معينة للأعضاء هي التي تقرر الظواهر السيكولوجية.... فالعقل والجسم يشتركان معاً في الانسان"25.
تأثير الجسم في الروح
"وحقيقة الأمر، أن المراكز المخية لا تتكون من المادة العصبية فحسب، إذ أنها تشتمل أيضاً على سوائل غطست فيها الخلايا وينظم تأليفها بواسطة مصل الدم. ويحتوى مصل الدم على افرازات الغدة، والنسيج التي تنتشر في الجسم كله، ولما كان كل عضو موجوداً في النخاع الشوكي بوساطة الدم والليمفا، فمن ثم فان حالاتنا الشعورية مرتبطة بالتركيب الكيميائي لأخلاط العقل مثل ارتباطها بالحالة التركيبية لخلاياه. وحينما يحرم الوسيط العضوي من إفرازات غدد (السوبر ارينال) فان المريض يسقط فريسة للانقباض الشديد، ويشبه حيواناً شرساً، وتؤدي الاضطرابات الوظيفية لغدة الثايارويد إما إلى الهياج العصبي والعقلي أو إلى البلادة وفقد الاحساس. وقد وجد معتوهون وضعاف عقول ومجرومون في أسر، أصبح تغير تركيب هذه الغدة فيها بسبب إصابتها بجروح أو بأمراض، مسألة وراثية"26.
"ولضياع أرقى التجليات الروحية. يكفي حرمان بلازما الدم من بعض المواد. فحين تتوقف غدة الثايارويد عن إفراز الثايروكسين في الدم مثلاً يضيع الشعور بالأخلاق وتذوق الجمال والاحساس الديني. وكذا إزدياد أو نقصان نسبة الكالسيوم يؤدي إلى اختلالات روحية كثيرة. ولهذا فالشخصية الانسانية تاخذ طريقها إلى الاضمحلال في الانسان المدمن على الخمرة".
"إن مما لا شك فيه أن الحالة النفسية ترتبط بالحالة الجسمانية تماماً، وبصورة موجزة: فإن الجهود الفكرية والنشاط العاطفي ينشأ من العوامل الفيزياوية والكيمياوية والفسيولوجية المرتبطة بالبدن"27.
من خلال هذه النصوص اتضح لنا تاثير الجسم والقوى البدنية في الأجهزة المعنوية والنفسية. والآن لنبحث عن كيفية تأثير الأفكار والعوامل النفسية في شؤون الانسان الجسدية.
تأثير الروح في الجسم
"فالعواطف كما هو معروف جيداً هي التي تقرر تمدد أو تقلص الأوردة الصغيرة عن طريق الأعصاب المحركة، فهي إذن تقترن بتغييرات في دورة الدم في الخلايا والأعضاء. فالفرح يجعل جلد الوجه يتوهج في حين يكسبه الغضب والخوف لوناً أبيض... وقد تحدث الأنباء السيئة تقلصاً في الأوردة الجوفاء أو أنيميا القلب، والموت المفاجئ في أشخاص معينين، كما أن الحالات العاطفية تؤثر في الغدد كلها، وذلك بزيادة دورتها أو نقصها... انها تنبه أو توقف الافرازات أو تحدث تعديلاً في تركيبها الكيميائي... فالرغبة في الطعام تثير اللعاب حتى ولو لم يكن هناك أي طعام... فكلاب بافلوف كان لعابها يسيل على أثر سماعها صوت جرس، لأن جرساً دق قبل ذلك، حينما كانت الحيوانات تطعم. وقد تؤدي العاطفة إلى إثارة نشاط عمليات ميكانيكية معقدة. فبينما يثير الانسان عاطفة الخوف في القط، كما فعل (كانون) في تجربته المشهورة، فإن أوعية غدد (السوبرارينال) تتمدد، وتفرز الغدد الادرينالين. ويزيد الادرينالين ضغط الدم وسرعة دورته ويهيء الجسم كله إما للهجوم أو للدفاع... إن العواطف تحدث تعديلات كبيرة في الأنسجة والأخلاط. وبالأخص في الأشخاص الشديدي الحساسية... فقد ابيض شعر رأس امرأة بلجيكية كان الألمان قد حكموا عليها بالاعدام في الليلة السابقة لتنفيذ الحكم فيها... وثمة امرأة أخرى أصيبت بطفح جلدي في أثناء إحدى الغارات الجوية، وكان هذا الطفح يزداد احمراراً وإتساعاً بعد انفجار كل قنبلة ومثل هذه الظواهر بعيدة عن أن تكون استثنائية أو شاذة. فقد برهن (جولترين) على أن الصدمة الأدبية قد تحدث تغييرات ملحوظة في الدم. إذ حدث أن تعرض أحد المرضى لخوف عظيم فهبط ضغط دمه فنقص عدد كريات دمه البيضاء وكذلك الفترة التي استغرقها تخثر بلازما الدم"28.
"الاضطرابات الروحية التي توجب توقف المبيض عن العمل: أثبتت تجارب الحرب العالمية الأخيرة أن البقاء في المعسكرات الكبيرة لمدة طويلة يسبب انقطاع النزيف الشهري الذي يتسبب من تغيرات دورية تحصل في المبيض في حين أن هذا الاضطراب يرجع إلى حالته الأولى بمجرد الرجوع إلى الحياة الاعتيادية من دون حاجة إلى علاج أصلاً"29.
"يقول في البحث عن العوارض البدنية الناتجة من مرض روحي خاص: إنه يسبب اختلال جميع العضلات والأعصاب، يسبب زيادة التبول في بعض المراحل، ونقصانه بشدة في مراحل أخرى، يؤدي إلى الأرق أحياناً وإلى شدة النعاس أحياناً. وهكذا يضطرب النشاط الجنسي أيضاً فقد يشتد تارة وقد يقل ويخمد. وحتى البشرة لا تسلم من تغيرات هذا الاختلال. حيث تظهر على الجلد بعض الدمامل التي لا تعالج بأي دواء أصلاً، في حين تزول من تلقاء نفسها في بعض مراحل المرض. هذه هي العوارض العديدة لهذا الداء الفتاك"30.
الأمراض النفسية
إن الاسلام يعتبر الانحرافات الخلقية والصفات الرذيلة أمراضاً. ولهذا وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تعبر عنها بالأمراض. إنه يعتبر المكر والخداع مرضاً فيقول في وصف المنافقين: ﴿يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا... فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾(البقرة:9-10).
وكذلك عندما منع القرآن نساء النبي وحريمه من التكلم بالرقة واللين فإنه علل ذلك من ناحية الخوف من طمع المستهترين الذين لا يعرفون للعفة وزناً ولا يدركون للشرف معنى فنراه يقول: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾(الأحزاب:32).
وهكذا يصرح الامام علي عليه السلام بالنسبة إلى الحقد،"الحقد داء دوي ومرض موبي"31 .
ويقول بالنسبة إلى متابعة هوى النفس: "الهوى داء دفين"32.
وإليك نصاً عن أحد علماء الغرب بهذا الصدد:
"لا يقل خطر الحسد عن ميكروب الطاعون الرئوي لأنه يجعل صاحبه يعمل لاضرار الآخرين أكثر من العمل لجلب المنفعة لنفسه. وهكذا الحقد والبغضاء وغيرهما من الصفات الرذيلة تعتبر معاول هدامة لا أكثر"33.
مظاهر الأمراض النفسية
إن الأمراض الروحية والانحرافات النفسية يظهر أثرها على روح المريض نفسه قبل كل شيء ولكل منها مظاهر وعوارض خاصة. فالاضطراب، والحيرة، والاستيحاش، والجمود، واليأس، والجبن، ونحوها تعد من الحالات المرضية، وقد يشتد أثر هذه الاضطرابات والانحرافات فيؤدي إلى الجنون.
"وهناك نوع من الجنون يظهر في الأشخاص السالمين والمعتدلين في سلوكهم. إن تحليل أدمغة هؤلاء بأقوى الميكروسكوبات يثبت سلامة أدمغتهم، وعدم وجود أي نقص في أنسجة المخ عندهم. فلماذا يا ترى يفقد هؤلاء عقولهم؟ لقد ألقيت هذا السؤال على كبير الأطباء في إحدى المستشفيات العقلية عندنا. فأجاب ذلك العالم الذي كان له الكثير من التحقيقات الواسعة والتجارب الدقيقة في أحوال المجانين، أجاب بصراحة بأنه لم يفهم بعد السبب في فقدان الناس عقولهم ولم يتوصل أحد إلى سر الموضوع بالضبط. ومع ذلك فهو كان يقول بأن كثيراً من هؤلاء المجانين الذين عالجتهم وجدت أن الجنون يرضي فيهم الشعور بالأنانية، فكأنهم يجدون في عالم الخيال ما هم محرومون منه في حياتهم الاعتيادية. ثم نقل لي هذه القصة فقال: توجد هنا تحت العلاج سيدة أصيبت بحادث مزعج في حياتها الزوجية، حيث كانت تأمل أن تحرز منزلة عالية في المجتمع بعد الزواج والحصول على الأولاد والعيش المرفه لكن حوادث الدهر هدمت قصر آمالها، فهجرها زوجها إلى درجة أنه لم يرغب في أن يتناول الطعام معها، فأجبرها على أن تسكن الغرفة الواقعة في الطابق السفلي من العمارة. هذا الحادث دفع بها إلى الجنون، والآن ترى نفسها في عالم الخيال وكأنها تطلقت من زوجها السابق، وتزوجت من مليونير إنكليزي، وتصر على أن نسميها: الليدي سميث، أضف إلى أنها تتصور في كل ليلة أنها ولدت طفلاً. فمتى ما تراني تقول لي: (سيدي الدكتور لقد ولدت البارحة طفلاً)"34.
وهكذا، فإن الذين يعمرون نفوسهم بآمال طوال، ويبقون في أسر الميول المفرطة يجب أن يعلموا أنهم مصابون بمرض خلقي وانحراف روحي. وكما قال الامام علي عليه السلام: "الهوى داء دفين" هذا الداء يؤدي إلى الجنون أحيانا، وقد يجر في بعض الأحيان إلى الموت الحتمي، يقول الامام علي عليه السلام: "من جرى في عنان أمله عثر بأجله"35.
وما أكثر الذين قتلوا حتف آمالهم الطويلة البعيدة، وما أكثر الرجال والنساء المنتحرين لعدم تحقيق أمنياتهم وعدم وصولهم إلى آمالهم غير الناضجة!!.
تأثير السلوك في الجسم
والأثر الثاني للأمراض الخلقية هو رد الفعل الحاصل منها في أجساد المصابين بها، فالرجل السيء الخلق ليس مأسوراً للانحراف الروحي فقط، بل إن ذلك الانحراف يؤثر في جسمه فيصاب بعوارض مختلفة.
إن العلم الحديث يعتبر هذه القضية من المسائل القطعية المسلمة، وهنا نكتفي بنقل نص بسيط إلى القارئ الكريم:
"هناك بعض العادات التي تقلل من القدرة على الحياة، كالأنانية والحسد والتعود على الانتقاد في كل شيء واحتقار الآخرين وعدم الاطمئنان بهم. لأن هذه العادات النفسية السلبية تؤثر على الجهازالسمبثاوي الكبير والغدد الداخلية. وبإمكانها أن تؤدي إلى اختلالات عملية وعضوية أيضاً"36.
إن الروايات المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام قد أكدت على هذه الناحية وصرحت بأن الأخلاق السيئة تجعل جسد صاحبها مريضاً وضعيفاً، وعلى سبيل المثال نذكر بعض الروايات الواردة عن الامام أمير المؤمنين عليه السلام حول الحسد وتاثيره السيء في أبدان الحساد:
1- "العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد"37.
2- "الحسد يذيب الجسد"38.
3- "الحسد يفني الجسد"39.
4- "الحسود دائم السقم"40.
5- "الحسود أبداً عليل"41.
نستنتج مما سبق عدة أمور:
1- إن الروح والجسد مرتبطان. ويؤثر كل منهما على الآخر.
2- تعتبر الأخلاق الرذيلة والصفات المذمومة أمراضاً في عرف الدين والعلم.
3- لهذه الأمراض مضافاً إلى عوارضها الروحية آثار على الجسد فتؤدي إلى انحراف صحة المصابين بها أيضاً.
والآن وبعد أن أخذنا جولة واسعة في موضوع الأمراض الروحية وكيفية إنتقالها بالوراثة، نرجع إلى صلب الموضوع وهو دور الأم في تحقيق سعادة الطفل وشقائه.
تأثير حالات الأم على الجنين
إن جميع الحالات الجسدية والنفسية للأم تؤثر على الطفل. لأن الطفل في رحم الأم يعتبر عضواً منها. فكما أن الحالات الجسمانية للأم والمواد التي تتعذى منها تؤثر على الطفل، كذلك أخلاق الام فانها تؤثر في روح الطفل وجسده كليهما. وقد يتأثر الطفل أكثر من أمه بتلك الأخلاق. فإذا أصيبت الأم في أيام الحمل بخوف شديد، فالأثر الذي تتركه تلك الحالة النفسية على بدن الأم لا يزيد على اصفرار الوجه، أما بالنسبة إلى الجنين فإنه يتعدى ذلك إلى صدمات عنيفة.
"إذا حدث للمرأة في أيام الحمل حادث مخيف فإنه يتغير لونها ويقشعر بدنها لكن تظهر على جسم الجنين آثار امتقاع اللون تسمى بالخسوف"42.
وهكذا فإن هموم الأم وغمومها، غضب الأم واضطرابها، تشاؤم الأم وحقدها، حسد الأم وأنانيتها، خيانة الأم وجنايتها، وبصورة موجزة جميع الصفات الرذيلة للأم... وكذلك إيمان الأم وتقواها، طهارة قلب الأم وتفاؤلها، صفاء الأم وحنانها، مروءة الأم وإنسانيتها إطمئنان الأم وراحة بالها، شجاعة الأم وشهامتها، وبصورة موجزة جميع الصفات الحميدة للأم... جميع هذه الصفات خيرها وشرها تترك آثارها في الطفل، وتبني أساس سعادة الجنين وشقائه. وهنا يتحقق قول النبي صلّى الله عليه وآله سلّم: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه".
وإليك النص الآتي كشاهد من العلم الحديث:
"إن الاضطرابات العصبية للأم توجه ضربات قاسية إلى مواهب الجنين قبل تولده، إلى درجة أنها تحوله إلى موجود عصبي لا أكثر. ومن هنا يجب أن نتوصل إلى مدى أهمية التفات الأم في دور الحمل إلى الابتعاد عن الأفكار المقلقة، والهم والغم، والاحتفاظ بجو الهدوء والاستقرار"43.
إن الاسلام قام بجميع الاحتياطات اللازمة في موضوع الزواج للاهتمام بطهارة الأجيال الاسلامية، وأمر بتعاليم دقيقة في الزيجات حول الجهات الروحية والجسدية للرجال والنساء. ولقد رأينا فيما مضى كيف أن الاسلام منع من التزوج من المصابين بالحمق والجنون والمدمنين على الخمرة ولكنه لم يكتف في سبيل ضمان النشء الاسلامي بذلك الحد بل منع ـ في مقام الاستشارة ـ من تزويج الرجل سيء الخلق:
"عن الحسين بن بشار الواسطي قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام ان لي قرابة قد خطب إلي وفي خلقه سوء، قال: لا تزوجه إن كان سيء الخلق"44.
الامراض الوراثية
لسلوك الأم تأثير عميق في سعادة الأطفال وشقائهم. وعليه فالرّجل الذي يأمل أن يحصل على ولد شريف وطاهر القلب لا بد له من أن يمتنع من التزوّج من النساء البذيّئات (والسر في ذلك واضح لأن الفلاح الذي يريد الحصول على ثمرة صالحة لا بد له من أن يبذر بذرته في تربة صالحة. وإلا ففساد التربة يؤثر في الثمرة، لانها تحيط بها وهي مصدر غذائها). "لقد أثبت أطباء الأمراض النفسية أن من بين الأطفال المصابين بتلك الأمراض يوجد 26% منهم وروثوها من أمهاتهم. إذ لو كانت الأم ذات جهاز عصبي سالم، فإن الطفل يكون سالماً أيضاً. فلو كانت تفكر الأم في صحة طفلها وسلامة جهازه العقلي فلا بد وأن تفكر في سلامة نفسها قبل تولده".45
إن هناك سلسلة من القوانين المتقنة والقوية تحكم الكون، وتلك القوانين هي التي أوجدت هذا النظام العظيم المحير للعقول في مختلف الكائنات والتي أخصعت جميع أجزاء العالم لحكمها. فكل موجود مضطر إلى الانقياد لها وإطاعتها.
السنن الآلهية
وهكذا يعمل قانون (الحياة) بدقة عجيبة، ونظام متقن تحت سلسة من الشروط الدقيقة على إكساء المادة الجامدة لباس الوجود. وفي قباله قانون (الموت) يعمل على سلب الوجود من تلك الموجودات تحت شروط معينة أيضاً. وكذلك قانون (الوراثة) فإنه يعمل بدقة وحكمة على نقل صفات الجسم الحي ـ من نبات أو حيوان أو إنسان ـ وخصائصه إلى الأجيال اللاحقة.
إن القرآن الكريم يعبر عن قوانين الكون (التي تعتبر قانون الحياة وقانون الوراثة من ضمنها) بالسنن الآلهية ويرى فيها أنها ثابتة غير خاضعة للتغير والتبديل : ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِد لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾(فاطر:43).
ويعتبر الانسان جزءاً ضئيلاً جداً من هذا المنهاج العالمي العام، وعليه أن يخضع كسائر أجزاء الكون للقوانين العامة والسنن الالهية.
الانقياد للقوانين والسنن
والانسان يتأثر بتلك القوانين من اللحظة الأولى التي تنعقد نطفته في رحم أمه إلى يوم الولادة، وهكذا من دور الرضاعة إلى المراهقة إلى الكهولة إلى الشيخوخة إلى الموت. فالسنن الالهية ترافقه خطوة خطوة، وتصدر أوامرها غير القابلة للعصيان إليه. فإذا قرر أن يتخلف عن قانون الخلقة فانه يجد عقابه على قدر عصيانه.
فعلى العاقل أن يطيع قوانين الخلقة ولا يتخلف عنها، بل يعمل على التوفيق بين ميوله ورغباته وبين السنن الالهية. فيجتنب عما يخالف الموازين والتعاليم الصحيحة كيما يضمن لنفسه حياة سعيدة هانئة.
أما الجاهل فعلى العكس من ذلك يغض النظر عن تلك السنن ويطلق العنان لميوله ورغباته ويأمل في أن يخضع العالم كله له في شهواته وأهوائه وبما أن هذه الرغبة ليست قابلة للتطبيق فلا يمر زمن طويل حتى يلاقي حتفه عندما يصطدم بقوانين الخلقة.
يقول الامام علي عليه السلام: "إن الله يجري الأمور على ما يقتضيه، لا على ما نرتضيه"46.
إن الخمر السم المهلك يترك آثاراً خطرة على أنسجة الجسم، على المخ والأعصاب، والكلية والكبد... وغيرها من الأعضاء، وهذا هو أحد قوانين الخلقة. فالرجل العاقل يجب أن يصون نفسه من التخلف عن هذا القانون فيجتنب عن الخمرة كي يبقى إلى آخر العمر في حصن منيع من عواقبها الوخيمة. ولكن الجاهل ظناً بالقدرة على المقاومة أو اعتماداً على تحقيق اللذة العاجلة يلوث نفسه بها فيتسمم تدريجياً، ولا تمضي مدة طويلة حتى يقضي أعز أيام شبابه في زاوية المستشفى مع جسم نحيف وكبد ملتهب ومتورم، وأعصاب مختلة ومرتعشة، وبتلك الصورة يتجرع آخر لحظات حياته غصصاً وهموماً لقاء تخلفه عن القانون الكوني.
يقول النبي العظيم صلّى الله عليه وسلّم: "لا تعادوا الأيام فتعاديكم"47.
وكذا ورد عن الامام علي عليه السلام أنه قال:"من كابر الزمان غلب"48 فالذي يعاند الزمان يهلك.
وعن الامام الجواد عليه السلام راوياً عن جده صلّى الله عليه وآله وسلّم: "من عتب على الزمان طالت معتبته"49. فالذي ينظر إلى الدنيا نظرة المتشائم المتنكر ويعاتب الدنيا سخطاً عليها، فإن عتابه سيطول من دون جدوى.
ومن هنا
2009-08-26