يتم التحميل...

الإمام علي عليه السلام في كلام الولي دام ظله

الحياة السياسية للإمام علي (ع)

إنّ وجود أمير المؤمنين عليه السلام يُعدّ درساً خالداً لا يُنسى لكلّ الأجيال البشريّة، من جهاتٍ عدّة وفي الظروف والأوضاع المختلفة؛ سواءٌ في عمله الفرديّ والشخصيّ أم في محراب عبادته أم في مناجاته أم في زهده أم في فنائه في ذكر الله،

عدد الزوار: 400
مدرسة الإمام علي عليه السلام

إنّ وجود أمير المؤمنين عليه السلام يُعدّ درساً خالداً لا يُنسى لكلّ الأجيال البشريّة، من جهاتٍ عدّة وفي الظروف والأوضاع المختلفة؛ سواءٌ في عمله الفرديّ والشخصيّ أم في محراب عبادته أم في مناجاته أم في زهده أم في فنائه في ذكر الله، أم في جهاده مع النفس والشيطان والدوافع النفسانية والمادية. ما زالت كلمات أمير المؤمنين عليه السلام تصدح وتملأ آفاق عالم الخلقة والحياة الإنسانية: "يا دنيا ... غرّي غيري"1. أيّتها الزخارف الدنيوية والزبارج المليئة بالجاذبيّة وكلّ أنواع الزبارج التي تجذب أقوى البشر، اذهبي إلى شخصٍ آخر لتخدعيه، إنّ علياً أكبر وأقوى وأسمى من هذه الأمور. لهذا يجد كلّ إنسانٍ صاحٍ دروساً لا تُنسى في كلّ لحظات حياة أمير المؤمنين عليه السلام وفي ارتباطه بالله وإيمانه به.

وفي البعد الآخر أيضاً، في جهاده لأجل رفع خيمة الحقّ وإقامة العدالة، أي منذ ذلك اليوم الّذي حمل فيه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ثقل الرسالة على عاتقه، ومن الساعات الأولى، وجد إلى جانبه شخصاً مجاهداً مؤمناً مضحّياً - كان ما زال في بداية عهده وشبابه - وهو عليٌّ عليه السلام . وإلى آخر ساعات حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المباركة، لم يتوقّف أمير المؤمنين عليه السلام لحظةً واحدة عن الجهاد في طريق إقامة النظام الإسلاميّ، وفيما بعد من أجل الحفاظ عليه. فكم جاهد وكم خاطر بنفسه وكم ذاب في طريق الجهاد من أجل إقامة الحقّ والعدل؟ هناك حينما لم يصمد في الميدان أحد، كان يبقى. هناك حين لم يكن يجرؤ أحدٌ على الإقدام كان يقدم. هناك حين كانت الصعاب كالجبال الرواسي تنهال على رؤوس المجاهدين في سبيل الله، كانت قامته الشامخة تمنح الآخرين العزم والطمأنينة. بالنسبة له كان معنى الحياة هو أن يستفيد من الإمكانات الّتي منحه الله إيّاها من القوّة الجسمانية والروحيّة والعاطفيّة وغيرها من أجل إعلاء كلمة الحقّ ولإبقاء الحقّ حيّاً. وبقدرة وإرادة عليّ وعضده وجهاده بقي الحقّ حيّاً.

إذا كانت مفاهيم الحقّ والعدل والإنسانية وغيرها من المفاهيم الّتي لها قيمة إنسانية بالنسبة لأصحاب الفهم في هذا العالم، قد بقيت وازدادت قوّة ورسوخاً يوماً بعد يوم، فذلك بسبب تلك المجاهدات والتضحيات. لو لم يكن أمثال عليّ بن أبي طالب عليه السلام - والّذين هم عبر تاريخ البشرية قلّة نادرة - لما كان اليوم لأيّة قيمة إنسانية من وجود، ولما كانت هذه العناوين الجذّابة للناس تمتلك أيّة جاذبية. ولما كان للبشر حياةٌ وحضارةٌ وثقافةٌ وآمالٌ وقيمٌ وأهدافٌ ساميةٌ، ولتبدّلت البشرية إلى حيوانية وحشية وسبعية. إنّ البشرية مرتهنة لأمير المؤمنين عليه السلام ولكلّ إنسانٍ بلغ من السموّ مرتبته، في حفظ المفاهيم السامية. إنّ كلّ ذلك الجهاد ترك هذا الأثر.

البعد الآخر من حياة أمير المؤمنين عليه السلام هو في ميدان الحكومة. عندما تسلّم هذا الإنسان، صاحب الفكر العميق والشخصية العظيمة، في نهاية الأمر، الحكومة، في ذلك العهد المختصر قام بأعمالٍ، لو قام المؤرّخون والكتّاب والفنّانون ولسنواتٍ طويلة بالكتابة عنها وتجسيدها وتصويرها لما قالوا إلا القليل. كان وضع حياة أمير المؤمنين عليه السلام في عصر حكومته قيامة. أصلاً، لقد بدّل عليّ معنى الحكومة.

إنّه تجسيدٌ للحكومة الإلهية، وتجسيدٌ للآيات القرآنية بين المسلمين، وتجسيدٌ لـ ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ2، وتجسيدٌ للعدل المطلق. "كان يقرّب المساكين"3 ويعتني بالضعفاء عنايةً خاصّة. ولقد كان الوجهاء، الّذين يفرضون أنفسهم بغير حقّ بواسطة المال والسلطة وغيرها من الوسائل، كانوا في نظر عليٍّ هم والتراب على حدّ سواء. والّذي كان في نظره وقلبه ذا قيمة، هو الإيمان والتقوى والإخلاص والجهاد والإنسانية. وبهذه المباني القيّمة حكم أمير المؤمنين عليه السلام أقلّ من خمس سنوات. ولقرونٍ يُكتب عن أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد كُتب القليل، وعجزوا عن تصوير الحقيقة دائماً، وأفضل هؤلاء يعترفون بالعجز والتقصير. (10/11/1369)

إنّ أعظم خصائصه هي التقوى. فنهج البلاغة هو كتاب التقوى، وحياته طريق وسبيل التقوى. (18/10/1377)

هذه الآية الشريفة ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾4 نزلت في أمير المؤمنين. وتأويل هذه الآية هو عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام. تقول الآية: إنّ من بين الناس هناك من يبيع نفسه ووجوده، أي أعزّ ما عند الإنسان، هذا الرأسمال العزيز الوحيد الّذي لا يمكن جبرانه - بحيث إنّك لو قدّمته لن يكون بعدها عنه بديل - فبعض يقدّم هذا الرأسمال وهذا الموجود دفعةً واحدة من أجل الحصول على رضا الله لا غير، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي﴾يعني يبيع، يقدّم، نفسه يعني وجوده، ﴿ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾ أي أنّه لا يوجد مقصد دنيويّ أو نزعة أو دافعٍ ذاتيّ، إنّما فقط وفقط الحصول على رضا الله. وفي مقابل مثل هذا الإيثار وهذه التضحية، فإنّ الله لا يمكن أن يكون دون ردّ فعل يناسبها، ﴿وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ ومصداقه الكامل هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام . وسوف أبيّن هذا البعد.

الناظر إلى تاريخ حياة أمير المؤمنين عليه السلام ، منذ الطفولة، منذ ذلك الوقت الّذي كان فيه في سنّ التاسعة أو الحادية عشرة، يرى أنه كان قد آمن بنبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأدرك الحقيقة بوعيٍ تامّ وتمسّك بها، ومنذ تلك اللحظة وإلى حين لحظة محراب العبادة، سحر يوم التاسع عشر من شهر رمضان، قدّم نفسه في سبيل الله فرحاً مسروراً مليئاً بالشوق إلى لقاء ربّه. طوال هذه السنوات الخمسين تقريباً أو أكثر، منذ سنّ العاشرة وحتى سن الـ 63 يُرى أنّ هناك خطّاً واحداً مستمرّاً يشرح ويبيّن حياة أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو خطّ الإيثار. وفي كلّ القضايا الّتي مرّت عليه عليه السلام طيلة هذا التاريخ الممتدّ لـ 50 سنة تظهر علائم الإيثار من الأوّل وإلى الآخر. وهذا في الحقيقة درسٌ وعبرةٌ لنا. ونحن الّذين نتحدّث عنه ونبحث عنه ونُعرف في العالم بمحبّته يجب أن نأخذ هذا الدرس منه عليه السلام ، ومجرّد الحبّ لا يكفي، ومجرّد معرفة فضيلة عليّ لا تكفي. كان هناك من يعترف في قلبه بفضائل علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولعلّهم أكثر منّا نحن الّذين يفصلنا عنه 1400 سنة، هؤلاء أو بعضهم كانوا يحبّون عليّاً من القلب كإنسانٍ معصومٍ منزّه، ولكن كان سلوكهم مختلفاً لأنّهم لم يمتلكوا تلك الخصوصية وذلك الإيثار وترك العمل من أجل الذات، بل كانت تشغلهم أنفسهم. وكان امتياز عليّ في أنّه لم يقع في سجن الذات. لم تكن الأنا مطروحةً أمامه أبداً، بل كلّ ما كان عنده هو التكليف والهدف والجهاد في سبيل الله والله.

منذ البداية حينما آمن أمير المؤمنين عليه السلام في أيّام طفولته بالنبيّ كان يتعرّض للأذى والسخرية من الجميع في مكّة. تصوّروا مدينةً يستخدم أهلها العنف بشكل طبيعيّ، ولم يكونوا متحضّرين ووقورين ولائقين. قومٌ يتشاجرون عند أدنى مسألة، وشديدو التعصّب لتلك العقائد الباطلة، في مثل ذلك المجتمع، طُرحت رسالة من إنسانٍ عظيم جعلت كلّ شيء في ذلك المجتمع مورد تشكيك، على مستوى العقائد والآداب والتقاليد، فمن الطبيعيّ أن ينهض الجميع لمخالفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وبكلّ طبقاتهم، حتّى عامّة الناس. ولكي يدافع المرء عن هذا الإنسان وعن هذه الرسالة بكلّ وجوده ويتمسّك به ويتّبعه، هذا بحدّ ذاته يتطلّب الإيثار وتجاوز الأنا. وكانت هذه هي الخطوة الأولى من إيثار أمير المؤمنين عليه السلام .

وقف عليّ بن أبي طالب عليه السلام لمدّة 13 سنة إلى جانب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أصعب المواطن. صحيحٌ أنّ هجرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت اضطرارية وتحت الضغط المتواصل لقريش وأهل مكّة، لكنّها كانت ذات مستقبلٍ مشرق، لأن الجميع كان على علم أنّ هذه الهجرة هي مقدّمة التوفيقات والانتصارات. وهناك حينما تتجاوز أيّة نهضةٍ مرحلة المحنة لتدخل في مرحلة الراحة والعزّة، هناك حينما يكون الجميع منشغلاً بحسب العادة لكي يوصلوا أنفسهم أسرع من غيرهم علّهم يأخذون من المناصب الاجتماعية شيئاً وينالون موقعيةً، في تلك اللحظة، وفي تلك الليلة المظلمة الحالكة، كان أمير المؤمنين عليه السلام مستعدّاً لأن ينام مكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه حتّى يتمكّن من الخروج من منزله ومن هذه المدينة. في تلك الليلة، كان مقتل من ينام في ذاك الفراش أمراً شبه قطعيّ ومسلّماً به. كوننا نحن نعلم ما حدث، ونعلم أنّ أمير المؤمنين لم يُقتل في تلك الحادثة، هذا لا يعني أنّه في تلك الأثناء أيضاً كان الجميع على علم بذلك، كلّا، القضية كانت أنّه في تلك الليلة المظلمة وفي لحظة معينة، كان من القطعيّ أن يُقتل مثل هذا الإنسان. كان يُقال إنّه ومن أجل أن يخرج هذا السيّد من هنا ينبغي أن يكون هناك شخصٌ آخر مكانه حتّى يشعر الجواسيس، الّذين يراقبون، بأنّه ما زال هناك، فمن هو الحاضر المستعدّ؟ هذا هو إيثار أمير المؤمنين عليه السلام الّذي يُعدّ بذاته حادثةً استثنائية من حيث الأهمية. لكنّ توقيت هذا الإيثار يزيد على أهميّته. ففي أيّ وقتٍ كان ذلك؟ في الوقت المتوقّع فيه أنّ زمن المحنة سينقضي، وسيأتي زمن تشكيل الحكومة والراحة، حيث إنّ أهل يثرب قد آمنوا وهم ينتظرون النبيّ. الكلّ يعلم ذلك. في تلك اللحظة يؤثر أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يكن هناك أيّ دافع شخصيّ عنده لكي يُقدِم على مثل هذه الحركة الكبرى.

وبعدها يأتي إلى المدينة وتبدأ المعارك والقتال المتواصل لحكومة النبيّ الفتيّة. فالمعارك والحروب كانت دائمة، هكذا كانت خاصيّة تلك الحكومة. كان هناك مواجهات دائمة، بدأت قبل معركة بدر، واستمرّت على مدى السنوات العشر تلك، وإلى آخر حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، خاض فيها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عشرات المعارك والمواجهات مع الكفار على مختلف أنواعهم وأقسامهم وشُعَبِهِم. وفي كلّ هذه المراحل، كان أمير المؤمنين عليه السلام حاضراً ليكون أوّل من يتصدّى وأكثر الناس تضحيةً وفداءً واستعداداً للموت بين يديّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، كما بيّنه أمير المؤمنين عليه السلام نفسه، وأظهره التاريخ في جميع هذه المراحل والميادين المهولة: "وقد واسيته بنفسي في المواطن الّتي تنقص فيها الأبطال وتتأخّر فيها الأقدام"5. وقف أمير المؤمنين عليه السلام في أشدّ اللحظات حرجاً وما كان يلوي على شيء أو يقول إنّ هناك خطراً. بينما كان بعض الناس يفكّر في نفسه والحفاظ عليها بحجة أن يكون فيما بعد مفيداً للإسلام. ولم يخدع أمير المؤمنين عليه السلام نفسه أبداً بمثل هذه المعاذير، ولم تكن نفسه السّامية لتُخدع. ففي جميع مراحل الخطر كان أمير المؤمنين عليه السلام حاضراً في الخطوط الأمامية.(18/10/1377)

مرحلة السكوت والتعاون

إنّ أشدّ مراحل حياة أمير المؤمنين عليه السلام قد بدأت في هذه السنوات الثلاثين، أي بعد أن انتهى عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورحل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الدنيا. فكانت أشدّ محن أمير المؤمنين عليه السلام في تلك المرحلة والأيّام. في تلك الأيّام الّتي كان النبيّ العزيز صلى الله عليه وآله وسلم موجوداً ويتحرّك ويجاهد في كنفه، كانت الأيّام جميلةً، وعذبة. إنّ الأيّام المرّة هي الأيّام الّتي جاءت بعد رحلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . أيّامٌ كانت الفتن فيها كقطع الليل المظلم تُرى من الأفق بحيث إنّه لم يكن من يريد أن يتحرّك تحرّكاً صحيحاً، بقادر على أن يرفع قدماً عن قدم، هناك بالتحديد وفي تلك الظروف قدّم أمير المؤمنين عليه السلام أكبر امتحانات الإيثار.

أوّلاً، وأثناء وفاة النبيّ كان أمير المؤمنين عليه السلام منشغلاً بأداء التكليف. لا أنّه لم يكن يعلم بوجود اجتماعٍ ومن الممكن أن يُحدّد فيه مصير السلطة والحكومة في العالم الإسلامي. لم تكن القضيّة بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام من أجل هذا، ولم تكن قضية الأنا متصورة عنده من الأصل. بعد أن استقرّت قضية الخلافة، وبايع الناس أبا بكر وانتهى كلّ شيء انزوى أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يُسمع عنه أيّة كلمةٍ أو موقفٍ يحكي عن معارضته للجهاز الحاكم. نعم، قد كان ذلك منه في الأيّام الأولى، كان يسعى لعلّه يتمكّن من إحقاق ما يراه بحسب عقيدته حقّاً، وممّا ينبغي القيام به. وعندما رأى الأمر خلاف ذلك، وأنّ الناس قد بايعوا وانتهت القضية، وأضحى أبو بكر خليفة المسلمين، نجد أن أمير المؤمنين عليه السلام عُرف في تاريخ الإسلام بأنّه لا يبدر منه أي خطر أو تهديد أو ضرر على الجهاز الحاكم، وإن كان معارضاً له. فأمير المؤمنين عليه السلام في هذه المرحلة - والّتي لم تكن مديدة، لعلّها لم تكن أكثر من عدّة أشهر - قال لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري ويقصد الخلافة. "ووالله لأسلمنّ ما سلُمت أمور المسلمين"، - فما دمتُ أرى أنّه لا يُظلم أحد-، "ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصّة"، فإنّني لن أقوم بأيّ عمل ولن أعارض أبداً.6

وبعد مدّةٍ وجيزة، لا تزيد على عدّة أشهر، بدأ ارتداد بعض الجماعات، ولعلّها كانت مدفوعةً لذلك، حيث شعرت بعض القبائل العربية أنّه طالما لا يوجد نبيّ ولا يوجد قائد للإسلام، فلا بأس أن يختلقوا إشكالات وأن يعارضوا ويحاربوا ويثيروا القلاقل، ولعلّ ذلك كان بتحريك من المنافقين، فنشأ تيّار الردّة - أي ارتداد مجموعة من المسلمين - وبدأت حروب الردّة. فأصبح الوضع بحيث لا يحتمل أن يجلس أمير المؤمنين عليه السلام جانباً، فكان لا بدّ له (في مثل هذا الوضع) من أن يدخل ميدان الدفاع عن الحكومة. هنا يقول: "فأمسكت يدي"، فبعد أن حدثت قضية الخلافة وصار أبو بكر خليفة المسلمين "أمسكت يدي" وجلست جانباً. فهذه الحالة، حالة الاعتزال، "حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم "7، هنا نزل إلى الميدان. وكان فعاّلاً جداً، وفي جميع القضايا الاجتماعية المهمّة، كان أمير المؤمنين عليه السلام حاضراً.

ويصف أمير المؤمنين عليه السلام حضوره في مرحلة الـ 25 سنة من خلافة الخلفاء الثلاثة، بالوزارة؛ فعندما جاؤوا إليه بعد مقتل عثمان وبايعوه بالخلافة، قال: "وأنا لكم وزير خيرٌ منّي أمير"8. أي كما كنت لكم في السابق دعوني كذلك. فقد كان مقامه وموقعيّته طوال الـ25 سنة موقعيّة الوزارة؛ أي أنّه كان دائماً في خدمة الأهداف، وكان في المواقف يُعين المسؤولين والخلفاء الّذين كانوا على رأس الأمور، ومثل هذا يُعدّ إيثاراً لا مثيل له، يحيّر الإنسان في الواقع ويجعله يفكّر كم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان مؤثّراً في حياته.

وخلال الـ 25 سنة هذه، لم يفكّر أبداً بالقيام والانقلاب والمعارضة وجمع العدّة والإمساك بالقدرة والسيطرة على الحكومة. مثل هذه الأمور تأتي على أذهان الناس. فعندما رحل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا كان عمر أمير المؤمنين عليه السلام نحو 33 سنة. وبعدها كانت مراحل الشباب والقدرة الجسمانية ومرحلة النشاط. وكانت الوجاهة والمحبوبية بين عامّة الناس، والذهن الوقّاد، والعلم الوفير، وكلّ الجاذبيات الّتي يمكن أن تتوفّر للإنسان، كانت موجودةً في أمير المؤمنين عليه السلام في أعلى درجاتها. فلو أراد أن يقوم بأيّ عملٍ لاستطاع ذلك. إلا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ، خلال مدة الـ 25 سنة هذه، لم يُسمع منه أيّ شيء، ولم يتحرّك إلا من أجل خدمة تلك الأهداف العامّة والكلية للنظام الإسلاميّ الّذي كان أولئك الخلفاء على رأسه. وكان هناك أحداثٌ عظيمةٌ استثنائية، ولا أريد الآن أن أدخل هنا في شرح الموارد التاريخية.

وقد دُعي أمير المؤمنين عليه السلام إلى الشورى المتشكّلة من ستة أشخاص بعد موت الخليفة الثاني، فلم ينزعج ودخل في الشورى. لم يقل إنّ هؤلاء ليسوا في مستواي، فأين طلحة والزبير وأين عبد الرحمن بن عوف وأين عثمان وأين أنا؟ وطبق وصيّة عمر، جعلوا ستة أشخاص بعنوان شورى من أجل أن ينتخبوا من بينهم خليفةً. وكان حظّ أمير المؤمنين للخلافة من بين هؤلاء الستّة هو الأوفر. وكان رأي عبد الرحمن بن عوف هو الرأي الفاصل. أي أنّ أمير المؤمنين كان له صوتان هو والزبير، وكان لعثمان صوتان هو وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف كان له صوتان هو وسعد بن أبي وقّاص، وكان صوت عبد الرحمن بن عوف فاصلاً. فلو أنّه بايع أمير المؤمنين عليه السلام لصار خليفةً، ولو بايع عثمان لصار هو الخليفة. هنا توجّه (عبد الرحمن بن عوف) إلى أمير المؤمنين عليه السلام وسأله إن كان يعمل بكتاب الله وسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الشيخين، أي الخليفتين السابقين. فقال عليه السلام : كلّا، إنّني أعمل بكتاب الله وسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، كان من الممكن بأقلّ تغاضٍ عمّا هو صحيحٌ وحقّ أن يحصل على الحكومة ويمسك بزمام السلطة. لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يفكّر هكذا لحظةً واحدةً، ففقد الحكومة وخسر السلطة. وهنا قد آثر ولم يطرح نفسه وإنّيته أبداً، بل جعلها تحت قدميه. وما كانت مثل هذه المشاعر لتبرز في أمير المؤمنين عليه السلام من الأساس.

وبعد مرور 12 سنة من حكومة عثمان، في نهاية الأمر، كثُرت الاعتراضات عليه وبدأ الناس يخالفونه ويعترضون عليه كثيراً، وتقاطروا من مصر ومن العراق ومن البصرة ومن أماكن أخرى، وفي النهاية تشكّل جمعٌ كبير وحاصروا بيت عثمان وهدّدوه. هنا ماذا يمكن أن يفعل أيّ إنسان في موضع أمير المؤمنين عليه السلام ؟ ذاك الّذي يرى نفسه صاحب حقٍّ بالخلافة، وكان لمدّة 25 سنة يتغاضى عن حقّه وهو يعترض على سلوك الحاكم الحالي، ها هو الآن يرى بيت هذا الخليفة محاصراً. فالشخص العاديّ بل حتّى النخب والوجهاء ماذا يفعلون في مثل هذه الحالة؟ نفس العمل الّذي قام به الآخرون، نفس ما فعله كلّ من طلحة والزبير وغيرهم، وكلّ الآخرين الّذين كان لهم في قضية عثمان ما كان. إنّ قضية قتل عثمان هي من الأحداث المهمّة جداً في تاريخ الإسلام، ويمكن للإنسان أن يشاهد في نهج البلاغة وفي الآثار وفي التاريخ الإسلاميّ ما الّذي أدّى إلى مقتل عثمان، ليتّضح له بشكلٍ كامل من الّذي قتل عثمان ومن الّذي دفع إلى قتله. أولئك الّذين كانوا قد جعلوا ادّعاء محبّة عثمان فيما بعد محور تحرّكاتهم، هنا طعنوه من الخلف، وكانوا يحرّكون الأمور من وراء الكواليس. سألوا عمرو بن العاص من الّذي قتل عثمان، فقال: فلانٌ - وذكر اسم أحد الصحابة - هو الّذي صنع سيفه، والآخر أحدّه، والثالث سمّه، وذاك طعنه به. الواقع هو هذا.

هنا نجد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الواقعة يقوم بما يراه تكليفاً إلهياً وإسلامياً بكامل الإخلاص. فقد أرسل إلى بيت عثمان كلّاً من الحسن والحسين عليهما السلام ، هاتين الجوهرتين العظيمتين وبقية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، من أجل الدفاع عن عثمان. كان المخالفون يحاصرون بيت عثمان ويمنعون دخول الماء إليه، وكان أمير المؤمنين عليه السلام يرسل له الماء والطعام، ويفاوض مرّات ومرّات أولئك الّذين غضبوا على عثمان لعلّه يهدّئ من روعهم. وعندما قتلوا عثمان غضب أمير المؤمنين عليه السلام .

هنا أيضاً، نجد أنّه لا يمكن أن نشاهد في أمير المؤمنين عليه السلام أيّة حالة من الإنّية وحبّ الذات ومشاعر الأنا الّتي يمكن أن توجد في كل فرد من الناس. فبعد أن قُتل عثمان كان من الممكن لأمير المؤمنين عليه السلام أن ينزل إلى الميدان كوجهٍ وكشخصٍ انتهازيّ ومدّعٍ لخلاص المجتمع، ويقول أيّها الناس ها أنتم قد ارتحتم أخيراً وتخلّصتم من المشكلة، والناس سوف يحبّونه. لكنّه لم يفعل، فبعد حادثة عثمان لم يتحرّك أمير المؤمنين عليه السلام نحو السلطة والإمساك بالحكومة. كم هي عظيمة هذه الروح الكبرى: "دعوني والتمسوا غيري"9، أيّها الناس اتركوني واذهبوا إلى شخصٍ آخر. ولو اخترتم شخصاً آخر فإنّني سأكون له وزيراً وأعينه. هذه هي تصريحات أمير المؤمنين عليه السلام في تلك الأيّام. لم يقبل الناس ولم يتمكّنوا من اختيار أحدٍ سوى أمير المؤمنين للحكومة.

مرحلة الخلافة

لقد بايعت جميع الأقطار الإسلامية أمير المؤمنين عليه السلام . وحتّى ذلك الوقت، لم يكن قد جرى مثل هذه البيعة العامّة الّتي تمّت لأمير المؤمنين عليه السلام ، حيث إنّ جميع الأقطار الإسلامية وكلّ الكبراء والصحابة قد بايعوه، باستثناء الشام الّذي لم يبايعه. فقط عدّة قليلة، أقل من عشرة أشخاص، لم يبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام ، فأحضرهم إلى المسجد واحداً واحداً وسألهم لماذا لم تبايعوا - وكان من بين هؤلاء عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقّاص - فكان أن قدّم كلّ واحدٍ منهم عذراً، وقال شيئاً. بعض منهم عاد وبايع، وبعضٌ آخر لم يبايع مطلقاً - عددٌ قليلٌ جداً بعدد أصابع اليد الواحدة - فتركهم أمير المؤمنين عليه السلام . ولكن بقية الوجوه المعروفة كطلحة والزبير وغيرهما وغيرهم قد بايعوا أمير المؤمنين جميعاً، وقبل أن يبايعوه قال لهم: "واعلموا أنّي إن أجبتكم"، وهو يشير إلى أنّهم لو أصرّوا أن يمسك هو بالحكومة "ركبت بكم ما أعلم"10، فلا تتصوّروا أنّني سأراعي تلك الوجوه والشخصيات والهياكل القديمة والمشهورين والمعروفين، كلا، فلا تتصوّروا أنّني سأتّبع فلاناً وأقلّد فلاناً، أي أنّني سأديركم بحسب ما أعلم وما أشخّص وما أعرفه من الإسلام. وهكذا فقد أتمّ أمير المؤمنين عليه السلام الحجّة على الناس وقبل بالخلافة. كان من الممكن لأمير المؤمنين هنا، ولأجل حفظ المصالح ورعاية جوانب القضية وأمثالها، أن يتنازل ويجذب إليه القلوب، لكنّه وبكلّ قاطعية أصرّ على الأصول والقيم الإسلامية بحيث إنّ كلّ هؤلاء الأعداء قد اصطفّوا في مقابله وكان أمير المؤمنين عليه السلام يواجه معسكراً مليئاً بالمال والشدّة والتزوير، ومعسكراً آخر فيه الشخصيّات الوجيهة والمعتبرة والمعروفة، ومعسكراً ثالثاً يضمّ المتظاهرين بالقداسة والتعبّد، لكنهم جاهلون بحقيقة الإسلام وروحه وتعاليمه ويجهلون شأنية أمير المؤمنين عليه السلام ومقامه ممن يتشبّثون بالعنف والقسوة وسوء الخلق.

ميزان الحق والقيم الإسلامية

لقد قاتل أمير المؤمنين عليه السلام ثلاثة معسكرات بثلاثة خطوطٍ منفصلة، هم الناكثون والقاسطون والمارقون. وكلّ واحدة من هذه الوقائع تدلّ على تلك الروح الرفيعة للتوكّل على الله والإيثار والبعد عن الأنانيّة والإنّية، في أمير المؤمنين عليه السلام . وفي النهاية استُشهد على هذا الطريق، حتّى قيل بشأنه إنّ عدل عليّ عليه السلام قد قتله. لو لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام مريداً للعدالة، وعمد بدل ذلك إلى رعاية هذا وذاك، وتقديم الشأنية والمقام والشخصية على مصالح العالم الإسلامي لكان أكثر الخلفاء نجاحاً وقدرةً، ولما وجد له معارضاً. لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو ميزان الحقّ والباطل. ولهذا كان عليه السلام يتحرّك وفق جوهر التكليف دون أيّة ذرّة من تدخّل الأنا والمشاعر الشخصية والمنافع الذاتية، وقد تحرّك على هذا الطريق الّذي اختاره. هكذا كانت شخصية أمير المؤمنين عليه السلام . لهذا فإنّ عليّاً عليه السلام هو في الواقع ميزان الحقّ. هكذا كانت حياته عليه السلام ، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾. فلم يكن في الشهادة عظيماً فحسب، ولم يكن عند الممات ممّن يفدي نفسه فحسب، بل على مرّ حياته كان دائماً يقدّم نفسه في سبيل الله. (08/02/1368)

أثبت أمير المؤمنين خلال هذه المدّة أنّ الأصول الإسلاميّة والقيم الإسلامية الّتي وُجدت في مرحلة عزلة الإسلام وفي مرحلة صغر المجتمع الإسلاميّ، هي قابلةٌ للتطبيق مثلما أنّها كذلك في مرحلة الرفاهية والتوسّع والاقتدار والتقدّم والازدهار الاقتصاديّ للمجتمع الإسلامي. ومهم جداً أن نلتفت إلى هذه النقطة. فلقد نزل الوحي الإلهيّ بالأصول الإسلامية، والعدالة الإسلامية، وتكريم الإنسان، وروح الجهاد، والبناء الإسلاميّ، والمرتكزات الأخلاقية والقيمية الإسلامية، فـي زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وتمّ تطبيقها من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فـي المجتمع الإسلامي ضمن الحدود المتاحة. ولكن كيف كان المجتمع الإسلاميّ فـي عهد الرسول؟ تأسّست القيم الإسلامية فـي بيئة صغيرة وضئيلة، إذ حتى عشر سنوات لم يكن سوى المدينة، وكانت مدينة صغيرة تضم بضعة آلاف من الناس، ثمّ فُتحت مكّة والطائف؛ وهي منطقة محدودة بثروات قليلة جدّاً، فالفقر كان شاملاً، والإمكانات الّتي كانت فـي متناول أيديهم ضئيلة جدّاً...

مضت خمس وعشرون سنة على رحيل الرسول عن الدنيا. وقد ازدادت مساحة الدولة الإسلامية، خلال هذه المدّة، مئات الأضعاف، لا ضعفين أو ثلاثة أو عشرة. فيوم تسلّم أمير المؤمنين عليه السلام الحكم كانت الأرض التي تمتدّ من آسيا الوسطى حتّى شمال أفريقيا - أي مصر - داخلةً ضمن نطاق الدولة الإسلامية. أمّا الدولتان العظميان المجاورتان للدّولة الإسلامية فـي بداية الأمر - أعنـي إيران والروم - فقد تلاشت إحداهما نهائياً وهي الدولة الإيرانية، وصارت كافّة الأراضي الإيرانية بيد الإسلام. ودخلت أجزاء مهمّة من الأراضي الرومانية - بلاد الشام وفلسطين والموصل ومناطق أخرى - أيضاً فـي دائرة الإسلام. مثل هذه الرقعة الواسعة كانت بيد الإسلام يومذاك. إذاً توفّرت ثروات طائلة ولم يعد ثمّة فقر وعوز وشحّ طعام. كان الذهب رائجاً، والأموال وفيرة، واجتمعت ثروات طائلة، وأضحت بالتالـي الدولة الإسلامية ثريّة. الكثيرون تمتّعوا برفاه جاوز الحدود. لو لم يكن الإمام عليّ عليه السلام في البين، لربّما كان التاريخ سيحكم قائلاً إن المبادئ الإسلامية والقيم النبوية كانت جيّدة لفترة المدينة النبوية فقط، أي لذلك العهد الّذي تميّز بضآلة حجم المجتمع الإسلاميّ وفقره. أمّا بعد أن اتّسع المجتمع الإسلاميّ واختلط بالحضارات المختلفة حيث وفدت من إيران والروم ثقافات وحضارات شتّى إلى حياة الناس، وانضوت شعوب مختلفة تحت مظلّة المجتمع الإسلامي، فلا تبقى تلك المبادئ كافية ولا قادرة على إدارة البلد". وقد أثبت أمير المؤمنين عليه السلام ، طوال هذه السنوات الخمس، بممارساته وسيرته وأسلوبه فـي الحكم أنّ الأمر على العكس من ذلك؛ فتلك المبادئ نفسها الّتي كانت متألّقة في صدر النبوّة - ذات التوحيد، والعدل، والإنصاف والمساواة بين الناس - هي ممكنة التطبيق على يد خليفة قويّ كأمير المؤمنين عليه السلام . هذا شيء خلّده التاريخ. ومع أنّ هذا المنهج لم يستمرّ بعد أمير المؤمنين عليه السلام ، لكنّه أثبت أنّ الحاكم الإسلاميّ ومديري المجتمع والمسؤولين المسلمين إذا قرّروا وعزموا وكانوا أصحاب عقيدة راسخة لأمكنهم تطبيق نفس تلك المبادئ فـي عهد اتّساع رقعة الدولة الإسلامية وظهور ظروف جديدة ومتنوِّعة للحياة، حتّى ينتفع بها الناس... فمن الواضح أنّ إقامة العدالة الاجتماعية فـي مجتمع يضمّ عشرة أو خمسة عشر ألف نسمة فـي المدينة تختلف اختلافاً هائلاً عنها فـي مجتمع يضم عشرات الملايين أو مئات الملايين كما كان الحال في عهد أمير المؤمنين عليه السلام . وقد نهض أمير المؤمنين عليه السلام بهذه المهام.

عدالة الإمام علي عليه السلام

نورد هنا نماذج من أعمال أمير المؤمنين عليه السلام تجلّت فـي كلمات هذا العظيم. وثمّة آلاف الأمثلة الأخرى فـي حياته. جاء الناس وأصرّوا وبايعوا، لكنّه لم يوافق. وازداد إصرار جميع الناس، من أكابر، وصغار، ورؤساء، وصحابة قدماء قالوا جميعاً: كلا، لن يكون غير عليّ بن أبـي طالب عليه السلام ولن يستطيع ذلك سواه. جاؤوا وأخذوا الإمام مصرّين. فقال الإمام عليه السلام : إذاً لنذهب إلى المسجد. ارتقى الإمام المنبر، وألقى خطبة أوضح فيها آراءه، فقال: الأموال الّتي استحوذ عليها الخواصّ والوجهاء من دون وجه حقّ سأعيدها إلى بيت المال أينما وجدتها. استطاع بعض الأشخاص خلال تلك السنوات مصادرة أموال من بيت المال لصالحهم. قال سأعيد كلّ هذه الأموال، لو وجدته قد تُزوّج به النساء حتّى لو وجدت أنّكم جعلتم تلك الأموال مهوراً لنسائكم، أو "مُلك به الإماء" واشتريتم بها الجواري لحريمكم "لرددته"11 وأعدته إلى بيت المال. ليعلم الناس والأكابر أنّ هذه هي طريقتي.

بعد أيّام بدأت المعارضات، وكان المستضعفون من الناس والطّبقة المضطَّهدة فـي المجتمع يتمنّون من الله أن يُتّبع مثل هذا المنهج، أمّا أصحاب النفوذ والمخاطبون الحقيقيّون بهذا الكلام فمن البديهيّ أن يسخطوا. فجلسوا وعقدوا اجتماعاً وقالوا ما هذا الّذي يريد عليّ صنعه. قام الوليد بن عقبة - وهو نفسه الّذي كان والي الكوفة في زمن عثمان - وجاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، نيابةً عنهم، فقال له يا عليّ إنّ لبيعتنا إياك شروطاً، "ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال فـي أيام عثمان"12، شرطنا هو أن لا تنال من الأموال الّتي حصلنا عليها وتترك لنا ما كسبناه خلال العهد الّذي سبقك. ومن بعد الوليد بن عقبة، جاءه طلحة والزبير. الوليد بن عقبة، بالطبع، يختلف عن طلحة والزبير. فالوليد بن عقبة كان فـي الحقيقة من حديثي العهد بالإسلام، وكانت عائلته ضدّ الإسلام ومعارضة للثورة وقد حاربت الإسلام. وبعد ذلك حين ساد الإسلام، فـي نهاية عهد النبيّ، دخل فـي الإسلام كغيره من بنـي أميّة. أمّا طلحة والزبير فكانا من السابقين في الإسلام ومن أعوان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المقرّبين. جاء طلحة والزبير أيضاً - وهما يومذاك من أكابر الإسلام ومن البقية الباقية لأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وتكّلما كلاماً فيه عتاب، منه قولهم: "إنّك جعلت حقّنا فـي القَسْم كحقّ غيرنا". فقد ساويت بيننا وبين غيرنا فـي تقسيم بيت المال. "وسوّيت بيننا وبين من لا يماثلنا"، ساويت فـي منح أموال بيت المال بيننا وبين من هم ليسوا مثلنا، فأيّ قسمة هذه؟ لماذا لا تقرّر امتيازات معيّنة؟ "من لا يماثلنا فـي ما أفاء الله تعالى بأسيافنا ورماحنا"13 هذه خيرات استُحصلت بأسيافنا. نحن الّذين رفعنا الإسلام، نحن الّذين بذلنا الجهود والمساعي، وإذا بك تساوينا بالجُدد والأعاجم ومن جاءوا من البلدان المفتتحة.

لم يسجل لنا التاريخ جواب أمير المؤمنين عليه السلام للوليد بن عقبة لكنّه أجاب الآخرين. صعد الإمام المنبر وأجابهم جواباً شديداً. قال بشأن قضية المساواة فـي تقسيم بيت المال: "فإنّ ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء"، فلست أنا من أسّس لهذه الطريقة وهذا المنهج "بل وجدتُ أنا وأنتما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكم بذلك"14 فأنا وأنتم كنّا قد شاهدنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بهذه الطريقة. لم أجئ بأسلوب جديد من عندي، إنّما أتّبع الفعل الّذي كان يأتي به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . أريد تكريس تلك القيم والقواعد الاعتقادية والسلوكية في المجتمع، في هذا العصر. وقد كرّسها الإمام عليّ عليه السلام وكان يفعل. وقد دفع أمير المؤمنين عليه السلام ثمن ذلك أيضاً فكان الثمن نشوب ثلاث معارك. تحرّك أمير المؤمنين عليه السلام ، ومن البديهيّ أنّه كان يرى لنفسه حقّ الخلافة. لكن هذا لم يحصل بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .

لم يتحرّك أبداً طيلة خمس وعشرين سنة من أجل الشيء الّذي كان يعلم أنّه حقّه. وكان يهدِّئ الّذين يريدون التحدّث بهذا. لم تصدر عنه إزاء تلك القضية ردود فعل على مدى خمس وعشرين سنة. ولكن تحمّل أمير المؤمنين عليه السلام ثلاث حروب: حرب الجمل، وحرب صفّين، وحرب النهروان، تجاه قضيّة - تبدو في الظاهر أهون من تلك القضية - هي قضية العدالة الاجتماعية، وإحياء المبادئ النبوية، وإعادة تشييد الصرح الإسلامي المتين الذي أرسى دعائمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . فكم كانت هذه القضية مهمّة بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام ؟ وهذا هو الإنجاز العظيم الّذي نهض به أمير المؤمنين عليه السلام . وله فـي هذا المجال كلمة أخرى، يقول فيها: "لا تمنعنّكم رعاية الحقّ لأحدٍ عن إقامة الحقّ عليه"15، أي أنّ الإنسان إذا كان مؤمناً ومجاهداً فـي سبيل الله وبذل جهداً كبيراً وخاض المعارك وأنجز أعمالاً كبيرة فستكون مراعاة حقّه واجبة. وأمّا إذا تعدّى هذا الشخص حدوده فـي حالة خاصة وضيّع حقّاً من الحقوق، فلا ينبغي التغاضي عن خطئه هذا بحجّة أعماله الحسنة السابقة، إذاً ولا بدّ من التمييز بين الأمور. إذا كان الإنسان صالحاً وذا قدر كبير وسابقة محمودة وجهود بذلها للإسلام والبلاد فهذا جيّد وحقوقه مقبولة ومحفوظة وينبغي أن تقدّر، ولكن إذا تعدّى وتجاوز، فإنّ مراعاة ذلك الحقّ ينبغي أن لا تؤدّي إلى غضّ الطرف عن المخالفة الّتي ارتكبها. هذا هو منطق أمير المؤمنين.

كان هناك شاعرٌ اسمه النّجاشيّ، هو من شعراء أمير المؤمنين عليه السلام ومدّاحيه، وصاحب أفضل القصائد فـي حرب صفّين وتحريض الناس ضدّ معاوية، ومن محبّي أمير المؤمنين عليه السلام وأحد الداخلين فـي حزبه، وأفعاله مشهورة بالإخلاص والولاية والسوابق، كان قد شرب الخمر فـي نهار شهر رمضان. حين علم أمير المؤمنين عليه السلام بالأمر قال إنّ حدّ الخمر معروف، آتوني به لإقامة الحدّ عليه. أقام أمير المؤمنين عليه السلام عليه حدّ الخمر أمام أعين الناس، ثمانين سوطاً. فجاءت عائلته وقبيلته إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقالوا: يا أمير المؤمنين، أرقت ماء وجوهنا. لقد كان هذا من أصحابك وأصدقائك - وبتعبيرنا المعاصر - كان من تيّارك. فقال أنا لم أفعل شيئاً، إنّه مسلم ارتكب مخالفة، فوجب عليه حدّ من حدود الله، فأقمت ذلك الحدّ. بالطبع، قال النّجاشيّ بعد أن جُلد من قبل عليّ عليه السلام : طالما كان الأمر كذلك، فسأذهب إلى معاوية وأنظم أشعاري به. فقام وفارق أمير المؤمنين عليه السلام والتحق بمعسكر معاوية. فلم يقل أمير المؤمنين عليه السلام أنّ النجاشيّ قد تركنا وهذه خسارة مؤسفة، لنحاول إبقاءه هنا، كلّا، إنْ ذهب، فليذهب! بالطبع، من الأفضل كان أن يبقى. هذا هو منطق أمير المؤمنين عليه السلام ومنهجه. قال الإمام عليه السلام لأصحاب النجاشي: "فهل هو إلاّ رجل من المسلمين انتهك حرمة من حُرَم الله فأقمنا عليه حدّاً كان كفّارته"16. أقمنا عليه الحدّ فسقط عنه ذنبه.

ورجل من قبيلة بنـي أسد - كان من أقارب أمير المؤمنين عليه السلام - وجب عليه حدٌّ من الحدود. فقال نفرٌ من محبّي أمير المؤمنين عليه السلام ومن رجال قبيلة ذلك الشخص: لنذهب إلى أمير المؤمنين عليه السلام ونعالج المشكلة بنحو من الأنحاء. فجاؤوا أوّلاً إلى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ليكون واسطتهم لدى أبيه، فقال الإمام الحسن: لا ضرورة لمجيئي، اذهبوا أنتم، فوالدي أمير المؤمنين يعرفكم. فجاؤوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقالوا هذه هي حالنا فساعدنا. فقال الإمام عليه السلام فـي معرض إجابتهم لا مانع لديّ فـي أيّ أمر أكون فيه حرّاً مختاراً، وسأفعله لكم، ففرح هؤلاء وخرجوا، وفـي الطريق صادفوا الإمام الحسن عليه السلام فسألهم: ماذا فعلتم؟ قالوا له: انتهى الأمر على خير والحمد لله، وقد وعدنا أمير المؤمنين عليه السلام . فسألهم: ماذا قال لكم أمير المؤمنين؟ قالوا: قال لنا أفعل لكم ما أكون حرّاً فيه ويعود أمره إلـيّ. فتبسّم الإمام الحسن عليه السلام وقال: إذاً اذهبوا وافعلوا كلّ ما يجب أن تقوموا به فـي حال إقامة الحدّ عليه! وأقام أمير المؤمنين عليه السلام الحدّ عليه بعد ذلك. فجاؤوا وقالوا: يا أمير المؤمنين، لمَ أقمت الحدّ على هذا الرجل؟ فقال: ليس الحدّ ممّا أملك أمره وحرّية التصرّف فيه. الحدّ حكمٌ إلهيّ. قلتُ لكم ما أكون حرّاً فيه أفعله لكم17. والحدّ ليس فـي يدي. هذا، وبنو أسد من أصدقاء أمير المؤمنين عليه السلام والمخلصين له. هكذا كانت حياة أمير المؤمنين عليه السلام .

ثمّة روايات كثيرة عن قضائه، وثيابه، ومعيشته، وأولاده. يقول الراوي: ذهبت فشاهدت الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام جالسين يأكلان الطعام، طعامهما كان خبزاً وخلّاً وبعض الخضار. فقلتُ لهما يا سيّداي أنتما أميران، أنتما العائلة الحاكمة، ابنا أمير المؤمنين وفي السوق كلّ هذه المأكولات "وفي الرحبة ما فيها"، في الرحبة - بقرب الكوفة - يباع كلّ شيء والناس تشتري، وأنتما ابنا الأمير عليه السلام ، أهذا هو طعامكما؟ فالتفتا إليه وقالا: "ما أغفلك عن أمير المؤمنين"18، أنت غافل عن أمير المؤمنين، اذهب وانظر إلى حياته! كان الإمام هكذا حتّى مع عائلته.

وقصّة زينب الكبرى والاستعارة من أبـي رافع مشهوره. وكذلك قصّة عقيل الّذي جاء إلى الإمام وطلب شيئاً: "صاع من بُرّ"، أراد من القمح مقداراً أكثر من حصّته. ثمّ أخذ الإمام تلك الحديدة المحمّاة وقرّبها منه - طبعاً لم يضعها عليه - وهدّده ولم يقبل طلبه. جاءه عبد الله بن جعفر - ابن أخيه وصهره، زوج السيّدة زينب - وقال: يا أمير المؤمنين ليس فـي يدي شيء، وأنا مضطرّ لبيع بعض أدوات منزلي. فساعدني ببعض شيء، فلم يوافق الإمام عليه السلام وقال: إلاّ إذا قلت لـي اذهب يا عمّ واسرق واعطني من مال الناس. حدّد أمير المؤمنين عليه السلام معيار الحكم فـي مجتمع متطوّر، كبير، متحضّر، وثريّ، كالّذي كان فـي زمانه على أساس ما كان فـي زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . كلّ شيء كان قد تطوّر. أراد أمير المؤمنين عليه السلام بسلوكه إثبات أنّه بالإمكان إحياء تلك المبادئ حتّى في أحلك الظروف. هذا هو العمل الكبير الّذي قام به أمير المؤمنين عليه السلام . مبدأ الإيمان، والعدالة، والجهاد، وبناء الناس، والإدارة الكفاءة اللائقة المؤمنة - وحياة أمير المؤمنين عليه السلام زاخرة بأحداث وأمور اشتُهر بها على مدى سنوات على شكل قصص وروايات وأحاديث له عليه السلام موزّعة على أبواب عدّة - كلّها دلائل على هذه الحقيقة، وخلاصتها أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يبرهن للعالم أنّ هذه المبادئ الإسلامية ممكنة التطبيق في كلّ الظروف. وهذا هو الواقع. ليست المبادئ الإسلامية في شكل ثياب أمير المؤمنين عليه السلام بحيث إذا كان يرتدي مئزراً أو قميصاً علينا اليوم ارتداء نفس الملابس. المبادئ الإسلامية هي العدالة، والتوحيد، وإنصاف الناس، واحترام حقوقهم، ومتابعة شؤون الضعفاء، والوقوف بوجه الجبهات المعادية للإسلام والدين، والإصرار على ركائز الحقّ والإسلام والدفاع عن الحقّ والحقيقة. هذه مفاهيم ممكنة التطبيق فـي جميع العصور.

بالطبع، حينما نقول هذا اليوم إنّما نتحدّث عن القلّة، فمن ذا الّذي بوسعه حتّى أن يتصوّر التشبّه بأمير المؤمنين عليه السلام ؟ كلّا، لا أحد يمكنه التشبّه بأمير المؤمنين عليه السلام . الإمام السجّاد عليه السلام وهو حفيد أمير المؤمنين عليه السلام وله مقام العصمة، حين قيل له إنّك كثير العبادة قال أين عبادتنا من عبادة عليّ عليه السلام ؟ أي أنّ الإمام العابد السجّاد يقول ليس بالإمكان مقارنتي بعليّ عليه السلام . وبين الإمام السجّاد عليه السلام وخيرة العُبّاد والزهّاد في زماننا آلاف الفراسخ. أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى النّموذج والقمّة واتّجاه الحركة وحدّد الملاك، فلنصل أينما استطعنا الوصول. النظام الإسلاميّ نظام العدل والإنصاف وخدمة الناس واحترام حقوق الإنسان ومجابهة الظلم الّذي يمارسه القويّ ضدّ الضعيف. هذه هي مشكلات البشرية المهمّة على امتداد التاريخ. ابتُليت البشريّة بهذه المشكلات دائماً ولا تزال تعاني هذا الابتلاء. لاحظوا اليوم كيف يدّعي العتاة والأقوياء فـي العالم أنّ العالم كلّه لهم. تعاني الشعوب الصفعات وضنك العيش بسبب هذا التعسّف. إنّ منطق الإسلام ومنطق أمير المؤمنين عليه السلام ومنطق الحكومة العلوية مجابهة هذه الأشياء، سواء داخل المجتمع إذا أراد قويّ ابتلاع ضعيف، أم على المستوى العالميّ والدوليّ.(15/08/1383)

القدرة والمظلومية والنصر

لقد التأمت في شخصية وحياة وشهادة هذا الرجل الفذّ ثلاثة عناصر تبدو غير منسجمة تماماً مع بعضها بعضاً في الظاهر، وتلك العناصر الثلاثة هي عبارة عن: القوّة، والمظلومية، والانتصار.

فقوّته تكمن في إرادته الصلبة وعزمه الراسخ، وفي تسيير دفّة الشؤون العسكرية في أعقد المواقف، وفي هداية العقول نحو أسمى المفاهيم الإسلامية والإنسانية، وتربية وإعداد شخصيّات كبرى من قبيل مالك الأشتر وعمّار وابن عباس ومحمّد بن أبي بكر وغيرهم، وشقّ مسار مميّز في تاريخ الإنسانية. ويتمثّل مظهر قوّته في اقتداره المنطقيّ واقتداره في ميادين الفكر والسياسة، وفي اقتدار حكومته وشدّة ساعده. ليس ثمّة ضعف في شخصية أمير المؤمنين عليه السلام في أيّ جانب من جوانبها.

ويعتبر في الوقت ذاته من أبرز الشخصيات المظلومة في التاريخ. وقد كانت مظلوميّته في كلّ جوانب حياته؛ لقد ظُلم في أيّام شبابه، حيث تعرّض للظلم حينذاك من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وظُلِم في سنوات كهولته وفي عهد خلافته واستُشهد مظلوماً، وظلّ من بعد استشهاده يُسبّ على المنابر على مدى سنوات طوال، وتُنسب إليه شتّى الأكاذيب.

لدينا في جميع الآثار الإسلامية شخصيّتان أُطلقت عليهما صفة "ثار الله". ولا توجد في اللغة الفارسية كلمة معادلة تماماً لكلمة "الثأر" كما في اللغة العربية؛ فعندما يُقتل شخص ظلماً فأسرته هي وليّ دمه، وهذا ما يُسمّى بالثأر، ولأسرته حقّ المطالبة بثأره. أما ما يُسمّى بـ "ثار الله" فهو تعبير قاصر وناقص لكلمة الثأر ولا يوصل المعنى المطلوب. فالثأر معناه حقّ المطالبة بالدّم. فإذا كان لأسرةٍ ما ثأر، فلها حقّ المطالبة به. وورد في التاريخ الإسلاميّ اسما شخصيّتين، وليّ دمهما الله، فهو الّذي يطلب بثأرهما، أحدهما الإمام الحسين عليه السلام ، والآخر هو أبوه أمير المؤمنين عليه السلام : "يا ثار الله وابن ثاره"19، أي أنّ المطالب بدم أبيه هو الله تعالى أيضاً.

أمّا العنصر الثالث الّذي طبع حياة الإمام عليّ عليه السلام فهو النصر؛ حيث تغلّب في حياته على جميع التجارب العصيبة الّتي فُرضت عليه؛ ولم تستطع جميع الجبهات، الّتي سنذكرها لاحقاً، والّتي فتحها ضدّه أعداؤه أن تنال منه وإنّما هزمت كلّها أمامه. ومن بعد استشهاده أخذت حقيقته الناصعة تتجلّى وتتفتّح يوماً بعد آخر أكثر ممّا كانت عليه في أيّام حياته. ففي عالم اليوم، ليس العالم الإسلاميّ وحده وإنّما العالم كلّه، هناك أناس كثيرون لا يؤمنون حتّى بالإسلام، إلا أنّهم يؤمنون بعليّ بن أبي طالب عليه السلام كشخصيّة تاريخيّة لامعة. وهذا هو جلاء ذلك الجوهر الوهّاج، وكأنّ الله يكافئه على ما لحق به من ظلم. فلا
2013-04-01