مسلسل الإنحراف في عهد الخلفاء الثلاثة-1
الحياة السياسية للإمام علي (ع)
قبل الحديث عن دور الإمام علي عليه السلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومواقفه من الأحداث وكيفية معالجته لها، علينا أن نلم ولو بإيجاز عن تلك الظروف الإجتماعية والسياسية التي سبقت حكمه..
عدد الزوار: 348
قبل الحديث عن دور الإمام علي عليه السلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومواقفه من الأحداث وكيفية معالجته لها، علينا أن نلم ولو بإيجاز عن تلك الظروف
الإجتماعية والسياسية التي سبقت حكمه.. والتي بدأت الأمة المسلمة، تشهد فيها
انحرافاً صريحاً عن مبادئ الإسلام وتعاليمه.
ويمكن أن نشهد هذا التحول والإنحراف بوضوح أكثر، منذ بداية النصف الثاني من عهد
عثمان بن عفان.. هذا الإنحراف نفسه صار فيما بعد أساساً للظروف والملابسات
الإجتماعية والسياسية التي عاشها الإمام علي، فتصدى له عليه السلام منذ اللحظة
الأولى من تسلمه لزمام مسؤولية الخلافة في الدولة الإسلامية، محاولاً تحصين الأمة
ضد صدمة الإنحراف والعودة بها إلى الحياة الإسلامية الكريمة.
ونشير هنا إلى مسلسل الإنحراف الذي حدث في عهد الخلفاء الثلاثة وأهم مفرداته، وإلى
أهم تلك الأحداث والظروف التي ساهمت في التمهيد للتطورات الكبرى في عهد عثمان والتي
عاش اثارها السيئة، الإمام علي عليه السلام وهي:
1- السقيفة:
فقد اجتمع الأنصار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سقيفة بني ساعدة
يتداولون بمعزل عن سائر المسلمين في مسألة الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ورأوا أنها من حقهم، بينما تكتل ضدهم فريق من القرشيين المهاجرين ينازعهم هذا
الأمر، وأسفر هذا الإجتماع عن تنصيب أبي بكر ومبايعته من قبل بعض المجتمعين مع
العلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفارقهم إلا بعد أن عهد بالحكم من بعده
إلى علي بن أبي طالب عليه السلام الذي لم يشترك في أحداث
السقيفة بسبب انشغاله مع الهاشميين وبعض الأنصار بجثمان النبي صلى الله عليه وآله
وسلم الذي كان لم يدفن بعد.
وقد قلنا في الدرس الماضي أن هذه الأحداث كانت بداية الإنحراف عن مبادئ الإسلام
وتعاليمه.
وإذا فحصنا المنطق الذي استخدم في الجدل الذي دار انذاك بين المهاجرين والأنصار نجد
أن الروح القبلية ظاهرة فيه ظهوراً بيناً، فقد أثار كلام أبي بكر الأحقاد والإحن
الكامنة بين الأوس والخزرج، وأغرى بينهما حين تحدث عما بين الحيين من القتلى، وعن
الجراح التي تداوى، بينما نرى أن الحباب بن المنذر خطيب الأنصار قد تكلم بنفس جاهلي
صرف حين تحدث إلى الأنصار يهيجهم ويشد من عزائمهم. ولم يخرج لسان المهاجرين عن هذه
الروح حين قال: "من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته".
وقد سارت الأحداث في الإتجاه الذي رسمه أبو بكر، فانقسم الأنصار، بتأثير الروح
القبلية التي تأججت، وانخذل سعد بن عبادة الخزرجي مرشحهم للخلافة حين بادرت الأوس
فبايعت أبا بكر1.
هذه الروح القبلية التي عبرت عن نفسها يوم السقيفة فتحت على المسلمين باباً من
أبواب الفتنة كما يصرح بذلك عمر بقوله: "إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله
المسلمين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من
المسلمين فإنهما تغرَّة يجب أن يقتلا"2.
فقد خرجت قريش من هذه التجربة وهي ترى أن الحكم حق من حقوقها. وأن الخلافة وراثة
الت إليها بحكم كون نبي المسلمين منها. مما سبب أسوأ الاثار في فهم القريشيين لمهمة
الحكم في الإسلام. وستظهر هذه الاثار واضحة في عهد عثمان.
2- مبدأ عمر في العطاء:
سوّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين في العطاء، فلم يفضل أحداً منهم
على أحد، وجرى على مبدأ التسوية في العطاء أبو بكر مدة خلافته.
أما عمر فقد جرى حين فرض العطاء في سنة عشرين للهجرة على مبدأ التفضيل: "ففضل
السابقين على غيرهم، وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضل
المهاجرين كافة على الأنصار كافة وفضل العرب على العجم، وفضل الصريح على المولى"3.
وفضل مضر على ربيعة، ففرض لمضر في ثلاثمائة ولربيعة في مائتين4، وفضل الأوس على
الخزرج5.
وقد ولد هذا المبدأ فيما بعد أسوأ الاثار في الحياة الإسلامية. حيث أنه وضع أساس
تكون الطبقات في المجتمع الإسلامي، وجعل المزية الدينية من سبل التفوق المادي، وزود
الأرستقراطية القرشية التي مكنت لنفسها من جديد بتمكن أبي بكر من الحكم بمبرر جديد
للإستعلاء والتحكم بمقدرات المسلمين، فجميع اعتبارات التفضيل تجعل القريشيين أفضل
في العطاء من غير القريشيين6 وهذا يعني أن قريشاً هي أفضل الناس لأنها قريش، وكفى
بهذا مبرراً للحكم والإستعلاء.
وقد كون هذا المبدأ سبباً جديداً من أسباب الصراع القبلي بين ربيعة ومضر وبين الأوس
والخزرج بما تضمن من تفضيل سائر مضر على سائر ربيعة، وتفضيل الأوس على الخزرج. ونظن
أن هذا المبدأ قد أرسى أول أساس من أسس الصراع العنصري بين المسلمين العرب وغيرهم
من المسلمين بما جرى عليه عمر من تفضيل العرب على العجم والصريح على المولى.
وكأن عمر قد أدرك في اخر أيامه الأخطار السياسية والإجتماعية التي يؤدي إليها مبدؤه
هذا، ولذلك أعلن عزمه على الرجوع إلى المبدأ النبوي في العطاء فقال: "إني كنت تألفت
الناس بما صنعت في تفضيل بعض على بعض، وإن عشت هذه السنة ساويت بين الناس فلم أفضل
أحمر على أسود، ولا عربياً على عجمي، وصنعت كما صنع رسول الله وأبو بكر"7.
ولكن عمر قتل قبل أن يرجع عن هذا المبدأ، فجاء عهد عثمان وسار عليه، فظهرت اثاره
الضارة في الحياة الإسلامية، وكان من أهم العوامل التي مهدت للفتنة بين المسلمين.
3- الشورى:
ونعني بها الشورى التي اقترحها عمر لاختيار الخليفة من بعده، فقد جعل عمر الشورى في
ستة نفر من قريش كمرشحين للخلافة من بعده وهم: علي بن أبي طالب عليه السلام، وعثمان
بن عفان. وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد
الله، وطلب منهم أن يتشاوروا في مهلة أقصاها ثلاثة أيام من وفاته حتى يختاروا
واحداً منهم.
وعندما اجتمع المرشحون ليختاروا واحداً منهم بادر عبد الرحمن بن عوف فخلع نفسه من
الشورى ليكون في موقف المحايد وحصر الترشيح في علي عليه السلام وعثمان ليختار هو
بينهما بعد ما انسحب الاخرون من الشورى. فبدأ عبد الرحمن بعلي عليه السلام، وقال
له: أُبايعك على كتاب الله وسنّة رسول الله، وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر.
فقال عليه السلام: "بل على كتاب الله وسنّة رسوله واجتهاد رأيي".
فعدل عنه إلى عثمان وطلب منه نفس ما طلب من الإمام علي عليه السلام، فأجابه عثمان
على الفور بالموافقة.. فضرب بيده على يده وبايعه.. وتمت له الخلافة8.
ولا ريب في أن البيعة لعثمان كانت على خلاف إرادة الأكثرية من الناس، لأن أكثرية
الناس كانوا يريدون علي بن أبي طالب عليه السلام.
يقول ابن أبي الحديد وهو يصوّر لنا توزع القوى السياسية بين المرشحين للخلافة
بعد عمر: ".. فخرج عبد الرحمن ابن عوف فمكث ثلاثة أيام يشاور الناس ثم رجع، واجتمع
الناس وكثروا على الباب، لا يشكون أنه يبايع علي بن أبي طالب9، وكان هوى قريش كافة
ما عدا بني هاشم في عثمان، وهوى طائفة من الأنصار مع علي، وهوى طائفة أخرى مع
عثمان، وهي أقل الطائفتين"10.
فالناس يريدون علياً لأنهم يخشون سلطان بني أمية، أما قريش فهي تخشى علياً وعدله
واستقامته، ولعل كثيرين منهم كانوا على علم ببعض ارائه في المال والإجتماع
والولايات، وأما الأنصار فكثرتهم مع علي وقلتهم مع عثمان، وهذا طبيعي بسبب خوفهم من
تسلط قريش على جميع مقدرات الدولة.
فعلي كان مرشح الأكثرية المسلمة، ولكن عثمان مرشح الأرستقراطية القرشية فاز بالبيعة
دون علي بن أبي طالب.
فقد الت الشورى، إذن في النتيجة إلى استيلاء الأمويين في شخص عثمان على الحكم،
ولكنها خلقت مواقف مختلفة من هذه النتيجة، حيث بدأ التفكير في الخلافة يتسرب إلى
نفوس هؤلاء المرشحين من رجال الشورى، وغدا كل واحد منهم يرجوها لنفسه بعد أن رشحه
لها عمر. وطمح إلى الخلافة رجال غير رجال الشورى من قريش، لأنهم رأوا أن بعض من
رشحهم عمر لا يفضلونهم في شيء، بل ربما امتازوا عليهم في أشياء كثيرة.
وقد روى ابن عبد ربه حديثاً لمعاوية بن أبي سفيان اعترف فيه بأنه: "لم يشتت بين
المسلمين ولا فرق أهوائهم إلا الشورى التي جعلها عمر في ستة نفر... فلم يكن رجل
منهم إلا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك نفسه"11.
وكان لنظام الشورى أسوأ الأثر في نفسيات الأنصار، هؤلاء الذين وعدوا في السقيفة بأن
يكونوا وزراء وشركاء في الحكم وإذا بهم يحرمون من كل شيء حتى من
حق المشورة، أضف إلى هذا أن النتيجة التي الت إليها لم تكن مرضية لهم، فقد رأوا في
انتصار الأمويين انتصار لأعدائهم القدماء من مشركي مكة.
وقد عبّر علي بن أبي طالب عليه السلام عن عدم رضاه عن هذه النتيجة وتسليمه بالأمر
الواقع قائلاً: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة".
1- مما لا يخلو
من مغزى أن عمر حين فرض العطاء على مبدئه في تفضيل بعض المسلمين على بعض، فضل
الأوس على الخزرج في ذلك، راجع: فتوح البلدان، 437.
2- المل والنحل للشهرستاني.
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 111/8.
4- تاريخ اليعقوبي: 106/2.
5- فتوح البلدان، 437.
6- فهم عرب، وقريشيون، ومضرويون، ومهاجرون.
7- تاريخ اليعقوبي 107/2، وشرح نهج البلاغة ) بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (
132 131/2، وابن الطقطقي في الفخري، 73.
8- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، ص188.
9- وليس هنا شيء جديد بالنسبة إلى موقف الناس من علي. فهذا هو موقفهم منه منذ
السقيفة، ففي تاريخ اليعقوبي 83/2 "وكان المهاجرون والأنصار لا يشكون في علي".
10-ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 52/9.
11- ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد بتحقيق: محمد سعيد العريان ج5، ص32
31.