رحمة
كلمات وحقوق
المفتاح القرآني الثالث للسعادة الزوجية هو كلمة "رحمة" الواردة في قوله تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً.... وقد ذكر اللغويون أنَّ معنى الرحمة هو "الرقَّة والتعطف" فيقال رحمهُ إذا رقَّ له وتعطَّف عليه.
عدد الزوار: 394
والذي يظهر من معنى الرحمة أنَّها لا تتحقق بمجرَّد رقّة القلب حينما تُنسب الرحمة
إلى الإنسان، بل لا بدَّ أن يظهر ذلك في سلوكه وعمله، فحال الرحمة من الرقَّة حال
المودَّة من الحبّ، فكما أنَّ المودَّة هي الحب المتجلِّي في التعبير أوالمسلك، كذلك الرحمة هي المتجلّية في سلوك الإنسان نحو الآخر.
ولعلَّه إلى هذا المعنى يشير الطريحي في مجمع البحرين بقوله: "...الرحمة وهي في بني
آدم عند العرب: رقَّة القلب ثم عطفه، وفي الله عطفه وبرّه ورزقه وإحسانه"3.
سرُّ العطف بين المودَّة والرحمة
إنَّ ما تقدَّم يصلح مدخلاً لمعرفة السرّ في عطف الرحمة على المودَّة.
فالمودَّة هي ما يتجلى في سلوك الإنسان معبِّراً عن حبٍّ نشأ من كمالٍ يعتقده
المحبُّ في حبيبه.
أمَّا الرحمة فهي ما يتجلى في سلوك الإنسان معبِّراً عن رقَّة نشأت من ضعفٍ ونقص
يراه في من يرحمه.
ففي علاقة الزوج بزوجته وبالعكس قد يرى كلٌّ منهما في الآخر، جهة كمال تجذبه إليه، وتنشئ الحبّ له، وتفعِّل المودَّة بينهما.
لكنّ الكمال ليس هو الوجهة الوحيدة التي يراها الزوج في زوجته وبالعكس، فالإنسان لا
يخلو من جهة ثانية هي جهة نقص وضعف يرقُّ بسببهما القلب، ويُستدرُّ بها العطف.
والآية تشير إلى أنَّ على الزوجين حينما يلاحظ كل منهما جهة الضعف في الآخر أن لا
يكون سلبي، بل أن يفعِّل الرقَّة القلبية ليجلّيها من خلال الرحمة.
والخلاصة أنَّ الآية الكريمة ترشد إلى مسألة واقعية بين الزوجين هي أنَّ في كلٍّ
منهما جهة كمال وجهة نقص، وعلى كل منهما أن يقابل جهة الكمال بالمودَّة، وجهة النقص
بالرحمة0
الرحمة بين الله تعالى والإنسان
إنَّ الرحمة من القيم التي أكَّد عليها الله تعالى، بدءاً من إثباتها لنفسه بقوله
عزَّ وجل: ﴿قُل
لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ...﴾4،
وقوله سبحانه: ﴿وَإِذَا
جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ
رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾5، استمراراً في بيان سعة رحمته بقوله تعالى: ﴿رَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾6، وقوله عزَّ وجل: ﴿...فَقُل
رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾7، وقوله سبحانه: ﴿رَبَّنَا
وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً﴾8، وصولاً إلى طلبه من الإنسان أن يرحم الناس غير المحاربين لله بقوله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ
رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾9
وقوله عزَّ وجل: ﴿وَجَعَلَ
بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾10.
وقد أكدَّ الإمام علي عليه السلام على ربط رحمة الله للإنسان برحمة الإنسان
للإنسان، فعنه عليه السلام: "ببذل الرحمة تستنزل الرحمة"11.
ثواب الرحمة بين الزوجين
لأنَّ الله تعالى يريد كمال الإنسان وسعادته، ولأنَّ الرحمة بين الزوجين تحقِّق ذلك
الكمال وتلك السعادة بيَّنت النصوص الشريفة الثواب الإلهي العظيم المترتِّب على هذه
الرحمة، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "يؤتَى بالرجل من أمتي يوم
القيامة، وما له من حسنة تُرجى له، فيقول الربّ تعالى: "أَدخِلوه الجنّة، فإنَّه
كان يرحم عياله"12.
وورد عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "أحسن الناس إيماناً أحسنهم
خُلُق، وألطفهم بأهله، وأنا ألطفكم بأهلي"13.
مظاهر تحقُّق الرحمة بين الزوجين
تتحقَّق الرحمة بين الزوجين من خلال أمور أرشد إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام نذكر منها:
1- التغافل والتسامح
من تطبيقات الرحمة بين الزوجين عدم وقوف أحدهما عند هفوات الآخر وتدقيقه فيها
ومحاسبته عليه، فإنَّ هذا الأمر يعكِّر صفو الحياة الزوجية وينغِّصه، فمن أراد
السعادة الزوجية، فإنَّ من شروطها التغافل والتسامح بين الزوجين انسجاماً مع الحكمة
القائلة: "الزواج مكيال ثلثه فطنة، وثلثاه تغافل"، لذا ينبغي أن يأخذ
التسامح المبنيّ على التغافل المساحة الأوسع في الحياة الزوجية، بل إنَّ مبدأ
التغافل بنسبة ما مطلوب في الحياة العامة لأجل سعادة الإنسان، وهذا ما أرشد إليه
أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "من لم يتغافل، ويغضَّ عن كثير من الأمور
تنغَّصت عيشته"14.
2-الإعانة والخدمة
إنَّ تدبير المنزل نظافة وترتيباً وتحضيراً للطعام وما شاكل ليس من المسؤولية
القانونية الإلزامية للمرأة، لأنّ الله تعالى أراد للزوجة في حياتها أن تنطلق في
ذلك من العطاء الذاتي لا من قانون ملزم.
خدمة الزوجة
لذا بيَّن الله تعالى الثواب الجزيل للزوجة التي تعمل في إطار تدبير المنزل، وهذا ما نلاحظه في الأحاديث التالية:
أ- عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيام، غلَّق الله عنها سبعة أبواب النار، وفتح لها ثمانية أبواب الجنة، تدخل من أيّها شاءت"15.
ب- عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال: أيُّما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى موضع تريد به صلاحاً نظر
الله عزَّ وجل إليها، ومن نظر الله إليه لم يعذِّبه"16.
ج- عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من امرأة تسقي زوجها شربة ماء
إلا كان خيراً لها من سنةٍ صيام نهاره، وقيام ليله، ويبني الله لها بكلِّ شربة
تسقي زوجها مدينة في الجنة، وغفر لها ستين خطيئة"17.
هـ- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "... ما من امرأة تكسو زوجها (أي تلبسه ثيابه)
إلا كساها الله يوم القيامة سبعين خلعة من الجنة، كلّ خِلعة منها مثل شقائق النعمان
والريحان، وتُعطى يوم القيامة أربعين جاريةً تخدمها من الحور العين"18.
خدمة الزوج
إلا أنَّ ما مرَّ لا يعني حصر الخدمة بالمرأة، فقد بيَّنت الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ثواب خدمة الزوج لزوجته، وهذا يظهر من خلال الأحاديث النبوية الآتية:
أ- "خدمتك زوجتك صدقة"19.
ب- "إنَّ الرجل إذا سقى امرأته من الماء أُجر"20.
ج- "من لم يأنف من ثلاث فهو مؤمن حقاً: خدمة العيال، والجلوس مع الفقراء، والأكل مع خادمه..."21.
د- "يا علي، لا يخدم العيال إلا صدِّيق أو شهيد، أو رجل يريد الله به خير الدنيا
والآخرة"22.
3- الاهتمام والإكرام
حثَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام - في ما ورد عنهم من
روايات - على إبراز اهتمام كلٍّ من الزوجين بالآخر وإكرامه ومواكبته المعنوية. ومن
ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من اتخذ زوجة فليكرمها"23، و"خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم، وما أهانهنَّ
إلا لئيم"24.
ومن الحثّ النبوي على الاهتمام بالزوجة ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "مشيك
إلى المسجد وانصرافك إلى أهلك في الأجر سواء"25.
ومن مصاديق هذا الاهتمام جلوس الزوج مع زوجته وباقي أفراد الأسرة، وهذا ما دعا إليه
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "جلوس المرء عند عياله أحبُّ إلى
الله تعالى من اعتكاف في مسجدي هذا"26.
وكذا تناول الطعام مع، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ الله يحبّ
المؤمن، ويحبّ أهله وولده، وأحبّ شيء إلى الله تعالى أن يرى الرجل مع امرأته وولده
على مائدة قبل أن يتفرَّقوا من موضعهم"27.
بل ورد أنّ من الأعمال التي يحبّها الله تعالى الاهتمام بالزوجة من خلال تقديم
الزوج رغبتها هي في الطعام لا رغبته هو، وهذا ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم بقوله الوارد عنه: "المؤمن يأكل بشهوة أهله"28.
ومن جميل ما ورد في حقِّ الزوجة التي تهتمُّ بزوجها قصة ذلك الرجل الذي قال لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ لي زوجة إذا دخلْتُ تلقّتني، وإذا خرجْتُ
شيّعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت: ما يهمّك؟ إن كنت تهتمُّ لرزقك فقد تكفّل لك به
غيرك، وإن كنت تهتم بأمر آخرتك فزادك الله هم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: "إن لله عمال، وهذه من عمَّاله، لها نصف أجر الشهيد"29.
* السعادة الزوجية في ثلاث كلمات، الشيخ أكرم بركات
1- سورة الروم،
الآية 21.
2- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، (ل،ط)، بيروت، دار صادر، (ل،ت)،
ج12، ص 230.
3- الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، تحقيق أحمد الحسيني، ط2، بيروت، مؤسسة
الوفاء، 1983م، ج6، ص 69.
4- سورة الأنعام، الآية 12.
5- سورة الأنعام، الآية 54.
6- سورة الأعراف، الآية 156.
7- سورة الأنعام، الآية 147.
8- سورة غافر، الآية 8
9- سورة الفتح، الآية 29.
10- سورة الروم، الآية 21.
11- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج2، ص 1050.
12- المتقي الهندي، كنز العمال، ج16، ص 379.
13- المجلسي، محمد باقر، بحار النوار، ج68، ص 287.
14- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج3، ص 2217.
15- الحر العاملي، محمد حسن، وسائل الشيعة، ج20، ص 172.
16- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج100، ص 251.
17- الحر العاملي، محمد حسن، وسائل الشيعة، ج20، ص 172.
18- البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة، ج20، ص 242.
19- المتقي الهندي، كنز العمال، ج16، ص 408.
20- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، (ل،ط)، دار صادر، بيروت، ج 4، ص 128.
21- ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق علي شيري، (ل،ط)، بيروت، دار الفكر،
1415ه، ج6، ص 29.
22- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج101، ص 132.
23- البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة، ج20، ص 250.
24- الأمين، محسن، أعيان الشيعة، تحقيق حسن الأمين، (ل،ط)، بيروت، دار التعارف،
1403ه، ج5، ص 206.
25- البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة، ج4، ص 449.
26- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج2و ص 1186.
27- الريشهري، محمد، تعزيز الأسرة، ط1، قم، مشعر، 1430هـ، ص156.
28- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج59، ص 291.
29- الحر العاملي، محمد حسن، وسائل الشيعة، ج20، ص 32.