كيف حدثت التجزئة
الوحدة الإسلامية
حينما ظهرت الدولة العثمانية في بدايات القرن الثامن الهجري، تطلع إليها المسلمون والتفوا حولها، لتجميع شمل الأمة من جديد، ولمواجهة التحديات الخطيرة التي واجهتها الأمة..
عدد الزوار: 122
حينما ظهرت الدولة العثمانية في بدايات القرن الثامن الهجري، تطلع إليها المسلمون والتفوا حولها، لتجميع شمل الأمة من جديد، ولمواجهة التحديات الخطيرة التي واجهتها الأمة، على أيدي المغول الذين غزوا بلاد المسلمين، واحتلوا بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وكذلك تحدي إمبراطورية الروم البيزنطية وسائر القوى الأوروبية الصليبية.
وبفتح القسطنطينية سنة 857هـ / 1453م، على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، تعززت موقعية هذه الدولة داخلياً وخارجياً، فقد اتجهت إليها أنظار الشعوب الإسلامية، كما تراجعت أمام قوتها وهيبتها القوى الصليبية الأوروبية.
وإقراراً للعثمانيين بزعامة الأمة، فقد تنازل الخليفة العباسي المتوكل على الله الثالث، والذي كان يمثل الخلافة اسمياً، تنازل للسلطان العثماني سليم الأول عن الخلافة سنة 1517م.
وانضمت كل الدويلات والإمارات الإسلامية، إلى هذه الدولة الإسلامية الكبرى، وانضوت تحت رايتها، مما جعل منها دولة عالمية مهابة، تحققت من خلالها وحدة الأمة الإسلامية.
فقد "أدى ضم الدولة العثمانية مصر والشام والحجاز والعراق والمغرب الإسلامي، إلى دمج هذه الدول في كلٍّ موحد شاسع، يحده المغرب الأقصى وإيران وبراري روسيا الجنوبية والحبشة. وهذا الكل الموحد يمثل دولة تعتبر من حيث اتساعها 2.500.000 كلم في لحظة أقصى توسع لها ومن حيث وجودها على ثلاثة أرباع محيط البحر المتوسط، كياناً سياسياً لم يعرف الغرب نظيراً له منذ نهاية الإمبراطورية الرومانية. ووفقاً لتعبير ج. سوفاجيه: فإن كل رعية من رعايا السلطان، كان بوسعه منذ ذلك الحين الانتقال من الدانوب إلى المحيط الهندي، ومن فارس إلى المغرب، من دون أن يكف عن أن يكون خاضعاً لقوانين واحدة، ولتنظيم إداري واحد، ومن دون أن يكف عن التحدث بلغة واحدة واستخدام عملة واحدة".
هذا الظهور القوي للدولة الإسلامية العثمانية، وما رافقه من فتوحات استهدفت عمق أوروبا، أثار مخاوف الأوروبيين وقلقهم، فبدءوا ينسجون المؤامرات، ويخططون لإضعاف هذا الكيان الإسلامي وللإطاحة به. وقد عقدت مؤتمرات عديدة في روما، لبحث الخطر التركي برعاية البابا ومشاركة مجمع الكرادلة والأمراء المسيحيين.
وتحكي الرسالة التي بعث بها شارل الخامس، إمبراطور الغرب وملك أسبانيا إلى سفيره في إنجلترا، مدى الهلع والقلق لدى الأوربيين؛ فقد جاء في رسالته والمؤرخة 16 نيسان 1523م، ما يلي: نبعث إليك بكتاب اعتماد خاص مرسل إلى هنري وولزي ترفعه إليهما أولاً، وعليك أن توضح للملك ملك بريطانيا وللكاردينال، مبلغ الخطر الذي يتعرض له العالم المسيحي، والذي نشأ عن سقوط جزيرة رودس بيد الأتراك. ونكاد نعتقد أن الأتراك سينوون مهاجمة العالم المسيحي هذه السنة، وستكون أرض المعركة إما في إيطاليا أو هنغاريا، أو في البلدين معاً، وفي الوقت ذاته. ولكن أنّى هاجم الأتراك في العالم المسيحي، فإن ذلك من شأنه أن يعرض كرامتنا بصفتنا إمبراطوراً وحامياً للكنيسة إلى الامتهان.
هذه الأجواء الحانقة الغاضبة، التي كانت تسيطر على القوى الأوربية تجاه الدولة العثمانية، دفعت باتجاه السعي والعمل لتفتيت هذا الكيان، بعد أن فشل الأوربيون في مواجهته عسكرياً.
ويكشف الكتاب الذي ألفه الوزير الروماني ت. ج. دجوفارا، وظهرت طبعته الأولى باللغة الفرنسية عام 1914م، بتقديم لويس رينو الأستاذ في كلية الحقوق وكلية العلوم السياسية، عن مدى جدّية الأوروبيين واهتمامهم بالقضاء على وحدة الأمة الإسلامية، في ظل كيان الدولة العثمانية. وعنوان الكتاب "مائة مشروع لتقسيم تركيا"، بالاعتماد على أوراق وأراشيف وزارات خارجية الدول الأوربية، وتبلغ صفحات الكتاب 650 صفحة من القطع المتوسط، وقد صدر في بداية الحرب العالمية الأولى، في وقت كانت السلطنة العثمانية قد شارفت على نهايتها، فالكتاب كتب في جوٍ انتصاري، وأقرب إلى الاحتفال بنهاية السلطنة، ويتضمن الكتاب المشاريع التي صدرت عن السلطات البابوية، وملوك أوربا، ورؤساء حكومات دولها، من رجال دين وفكر وسياسة وفلاسفة وجنرالات، ليؤكد أن التعاون أثمر نتيجة كبرى.
بالطبع فإن عوامل التخلف والفساد الداخلي، الذي نخر في كيان الدولة العثمانية، ساعد على إنجاح تلك الخطط والمؤامرات؛ حيث اعترى الضعف والوهن ذلك الكيان الشامخ، وتقلصت هيبته وهيمنته الروحية على العديد من شعوب الأمة، فتجرأت القوى الأوربية على اقتطاع أوصال وأجزاء رئيسية من جسد الدولة الإسلامية، فكانت البدايات دخول فرنسا إلى الجزائر سنة 1830م، ثم تونس ثم المغرب واقتسامها مع أسبانيا، ودخول إيطاليا إلى ليبيا، ودخول بريطانيا إلى عدن وعمان ومصر والسودان والكويت. حتى جاءت الحرب العالمية الأولى والتي كان من أسبابها الرئيسية، تنازع الدول الغربية على اقتسام تركة الدولة التركية. وانتهى الأمر إلى صدور اتفاقيات سايكس بيكو، وسان ريمو، واتفاقيات باريس، والتي قسمت بموجبها البلاد العربية والإسلامية إلى مناطق نفوذ واستعمار بين الدول الأوربية. فكان ذلك التقسيم نواة وأرضية لقيام هذه الكيانات والدول المتعددة في العالم العربي والإسلامي.
ولما استنفذ الاستعمار المباشر أغراضه، واضطرت الدول الأوربية إلى الانسحاب عسكرياً من البلاد الإسلامية، تحت ضغط ثورات الشعوب وانتفاضاتها التحررية، عملت على تكريس حالة التجزئة، وتثبيت الكيانات القطرية، وتشجيع التيارات القومية والمحلية في مقابل بعضها البعض.
فالحدود المرسومة حالياً بين الدول العربية والإسلامية، وضعت في غالبها بتوجيه وترتيب من الدول الاستعمارية، وبشكل يستبطن إثارة النزاع والصراع فيما بعد.
ويقول أحد الباحثين:
لو تأملنا بهدوء وعمق خريطة الوطن العربي اليوم، لحز في أنفسنا أن نراه على ما هو عليه من أجزاء مبعثرة هنا وهناك، مقسم إلى دول ودويلات وإمارات، متوزع في أنظمته بين الجمهورية والمملكة والإمارة والمحمية، وغيرها مما لا هوية له. فواصل على الخريطة لا وجود لها في الطبيعة، خطوط سوداء داكنة وضعتها يد رسام مجهول، تفصل بين أبناء الأمة الواحدة، لا بل أبناء العائلة الواحدة حتى تصل إلى حبة التراب على الأرض الواحدة المشتركة. فلو حاولنا أن نتعرف على أسباب هذه التجزئة وعلى العوامل التي أملتها، لعرفنا دون أي عناء أنها إرادة الأجنبي، أنها مشيئة أولئك المستعمرين الطامعين في السيطرة على هذه الأرض الغنية وسلب خيراتها، وإبقاء شعبها في حالة من الفقر والتخلف تساعدهم على إبقاء نفوذهم عليها أطول مدة ممكنة 1.
1- الشيخ حسن الصفار.
2013-01-24