يتم التحميل...

ملامح عهد الرشيد وسياسته مع الإمام الكاظم عليه السلام

شهادة الإمام الكاظم(ع)

تعتبر السنوات الأخيرة من عمر الإمام موسى الكاظم عليه السلام من أعقد مراحل حياته وأشدّها صعوبة وأذىً على الإمام عليه السلام بالقياس الى المراحل الاُخرى التي سبقتها، وقد عاصر فيها هارون الرشيد

عدد الزوار: 243

تعتبر السنوات الأخيرة من عمر الإمام موسى الكاظم عليه السلام  من أعقد مراحل حياته وأشدّها صعوبة وأذىً على الإمام عليه السلام  بالقياس الى المراحل الاُخرى التي سبقتها، وقد عاصر فيها هارون الرشيد لمدة ( 14 ) سنة وأشهراًوكانت حافلة بالآلام والمصاعب.

وقد صبّ فيها هارون كلّ الحقد الجاهلي وما تطويه نفسه الخبيثة من لؤم ودهاء على أهل البيت  عليهم السلام  فقد صمّم سياسة ظالمة تميّز بها عن غيره من الخلفاء، حتى كان من شأنها أن شل حركة الإمام  عليه السلام  وعزله عن الاُمة تمهيداً لقتله فيما بعد داخل السجن، وبهذا تشكل حياة الإمام موسى لجوؤه لأساليب اُخرى من العمل مرحلة جديدة بالنسبة لحركة الأئمة عليهم السلام  الذين سبقوه.

ويكون الحديث عن هذه المرحلة من حياة الإمام الكاظم عليه السلام  في عدة فصول:
الأوّل: عن عهد الرشيد وعن أساليبه التي استخدمها مع الإمام  عليه السلام .
الثاني: موقف الإمام  عليه السلام  من حكم وسياسة الرشيد ونشاط الإمام عليه السلام  مع الاُمة.
الثالث: عن اعتقالات الإمام ودوره في داخل السجن حتى استشهاده عليه السلام  في سنة ( 183 هـ ).

ويقع الكلام في هذا الفصل ضمن بحثين:
البحث الأول: ملامح عهد الرشيد:
سبقت الإشارة الى الظواهر الانحرافية التي اجتاحت البلاد الإسلامية والسياسة الظالمة ضد أهل البيت  عليهم السلام  التي جاء بها العباسيون في منهجهم الجاهلي.
ولا يسعنا أن نستعرض كل الاحداث والظروف التي أحاطت بالإمام  عليه السلام  في عصر حكومة الرشيد بل نحاول أن نقف على أهم ما امتازت به المرحلة من ظواهر لعلها تكون كافية لاعطاء الصورة الواقعية وحجم المأساة التي يعانيها الإمام عليه السلام .

اذا لاحظنا الأموال التي كانت تجبى له من أطراف البلاد لوجدناها تفوق ضخامتها ورقمها أموال كل من سبقه من الخلفاء وكانت تنفق على غير مصالح المسلمين مثل التفنن في الملذّات حتى أسرف هارون في هباته للمغنّين وأغدق عليهم الأموال الطائلة فقد أنشده أبو العتاهية هذه الأبيات:

بأبي من كان في قلبي له***مرة حب قليل فسرق
يا بني العبّاس فيكم ملك***شعب الاحسان منه تفترق
إنّما هارون خير كله***مات كل الشر مذ يوم خلق

وغنّاه ابراهيم الموصلي بها فأعطى كل واحد منهما مائة ألف درهم ومائة ثوب.
وكان هارون مولعاً بالجواري حريصاًعلى الاستمتاع والتلذّذ بهنّ حتى أفرط في ذلك وكان له قصة مع الجارية (غادر) جارية أخيه الهادي وكانت حسناء من أحسن الناس وجهاً وغناءاً وكان الهادي يحبها وشك ذات يوم بأن الرشيد سيتزوجها حال مماته فقال للرشيد أريد أن تحلف بأنك لا تتزوجها بعدي فحلف واستوفى عليه الايمان من الحج راجلا وطلاق الزوجات وعتق المماليك وتسبيل ما يملكه، ثم أحلفها بمثل ذلك فحلفت فلم يمض على ذلك الاشهر فمات الهادي وبويع الرشيد فبعث الى (غادر) وخطبها.

وكان الرشيد شديدالولع بالغناء فاشتمل قصره على مختلف الآلات الموسيقية وقد أمر المغنّين أن يختاروا له مائة صوت فاختاروها ثم أمرهم باختيار عشرة فاختاروها، ثم أمرهم باختيار ثلاثة ففعلوا وانقطع إبراهيم عن الغناء لأنه عاهد الهادي بعدم الغناء بعده، لكن الرشيد أمره أن يغنّي فامتنع فرماه في السجن ولم يطلق سراحه حتى غنّى في مجلسه.

وكان هارون من المدمنين على شرب الخمرة، وكان يدعو خواصّ جواريه إذا أراد الشراب.
قال حماد بن اسحاق عن أبيه: أرسل إليّ الرشيد ذات ليلة فدخلت عليه فإذا هو جالس وبين يديه جارية عليها قميص مورّد وسراويل مورّدة، فلما غنّت، فقال: لمن هذا اللحن؟ فقلت: لي يا أمير المؤمنين فقال: هات لحن ابن سريج فغنّيته إياه فطرب وشرب رطلا وسقى الجارية رطلا وسقاني رطلاً.

وكان الرشيد شديد التعلق بلعب القمار ( النرد ) و ( الشطرنج ). وبذل الأموال الطائلة من أجل هذه الألعاب.
أمّا موقفه من العلويين فكان الرشيد شديد العداء والحقد عليهم وقد أقسم حين تولّى الخلافة على استئصالهم وقتلهم فقال: والله لاقتلنّهم ـ أي العلويين ـ ولأقتلنّ شيعتهم وفعلا نفّذ قسمه بقتل طائفة كبيرة من أعلام العلويين هم خيرة المسلمين علماً وورعاً في الدين.

وعندما رأى جماهير غفيرة من الاُمة الإسلامية تتهافت على زيارة مرقد الحسين عليه السلام  قام بهدم الدورالمجاورة له، واقتلاع السدرة التي كانت الى جانب القبر الشريف كما أمر بحرث أرض كربلاء ليمحو بذلك كلّ أثر للقبر المطهر، وقد انتقم الله منه فإنّه لم يدُر عليه الحول حتى هلك في خراسان .

وامتدّ سلوك هذا الحاكم الفاسد الى الاُمة، حيث اُشيع في البلاد الإسلامية كل أنواع الفساد، وتحوّلت بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية في عصره الى مسرح للّهو، والرقص، وحانات الخمور ودور المجون، حتى أصبحت هذه المظاهر سمة بارزة يتميّز بها ذلك العصر، وعكس لنا الشعراء انطباعاتهم وأحاسيسهم باللهو وحبّ الجواري والتلذّذ بالخمرة، وكرّس أبو نؤاس مجهوده الفكري فيوصف الأكواب والكؤوس والسقاة والخمّارين والندماء وافتتن الناس بخمرياته.

وامتاز عصر هارون بالفقر والبؤس، الذي عم الملايين فنجد جموع المسلمين تعرى وتجوع، فيما زخرت بغداد بأموال المسلمين والتي تكرّست عند طبقة خاصة من الخلفاء وأبنائهم وعشيرتهم ووزرائهم والمغنين والجواري والخمّارين والوشاة والمنتفعين من مائدة الخلافة.
وحيث ظهر الفقر والبؤس في موطن كان منشئاً للكفر. فقد ظهرت في ذلك العصر حركات إلحادية نشطت بين البسطاء.
يقول فلهوزن: إنّ هناك صلة وثيقة بين الدعوة العباسية والزنادقة، ويقول: إنّ العبّاسيين في ذلك الوقت جمعوا الزنادقة حولهم ولم ينبذوهم إلاّ فيما بعد.

والغريب أنّ هذه الحركات الهدّامة التي انتشرت في البلاد الإسلامية مثل "المزدكيّة" وغيرها كانت تدعو للتحلّل من جميع القيم وهي نوع من أنواع الشيوعية، يقول الشهرستاني: إنّ مزدك أحلّ النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركة كاشتراكهم في المال والنار والكلاء.

البحث الثاني: موقف الرشيد من الإمام الكاظم عليه السلام
كان الرشيد شديد الحساسية والحقد على الإمام موسى الكاظم عليه السلام  بالنسبة الى الخلفاء العبّاسيين الذين سبقوه، من هنا بدأ بمحاصرة الإمام ومراقبته بغية شل حركته ونشاطه، بطرق وأساليب متعددة وملتوية ومتطوّرة تمثّلت في الاستدعاءات المتعدّدة للبلاط ثم الاعتقالات المتكرّرة، ومحاولات الاغتيال بتصفية أتباع الإمام عليه السلام  وشيعته، وزجّ البعض في السجون بعد بثّه للجواسيس بشكل مكثّف ورصد ومُتابعة كل حركة تصدر من الإمام وأصحابه وإكرام الوشاة وتشجيعهم فيما إذا جاءوا بمعلومة سرّية عن الإمام حتى انه كانت تقدم رؤوس العلويين كهدايا للرشيد باعتبارها من الاُمور الثمينة عنده.

واستخدم الرشيد سياسته هذه مع الإمام على المدى البعيد وأراد فيها تطويق الإمام عليه السلام  وعزله بشكل تام وقطع كل أواصر الارتباط مع الاُمة.واتّسمت سياسة الرشيد العدوانية مع الإمام بأنها كانت منذ بويع للخلافة تراوحت بين السجن والاتّهام السياسي مرّة والاكرام والتعظيم نفاقاً مرة اُخرى.

وسوف نستعرض مجموعة النصوص التي وردت في هذا الصدد لنقف على مجموعة الأساليب الصريحة والملتوية والمتطوّرة التي سلكها هذا الطاغية لتصفية حركة أهل البيت  عليهم السلام  وأتباعهم.

الطائفة الأولى:
تتضمّن أساليب الرشيد مع الإمام والتي تدور بين اكرام الإمام مرة والتخطيط لقتله مرّة اخرى، والاعتراف بكونه الإمام المفترض الطاعة مرّة ثالثة.

1 ـ جاء عن الفضل أنه قال: كنت أحجب الرشيد، فأقبل عليّ يوماً غضباناً، وبيده سيف يقلّبه. فقال لي: يا فضل بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله  لئن لم تأتني بابن عمي لآخذن الذي فيه عيناك.
فقلت: بمن أجيئك؟ فقال: بهذا الحجازي. قلت: وأيّ الحجازيين؟ قال: موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
قال الفضل: فخفت من الله عزّ وجلّ إن جئت به إليه، ثم فكرت في النقمة، فقلت له: أفعل. فقال: ائتني بسوطَين وحصارَين وجلاّدين.
قال: فأتيته بذلك ومضيت الى منزل أبي ابراهيم موسى بن جعفر عليه السلام  فأتيت الى خربة فيها كوخ من جرائد النخل فإذا أنا بغلام أسود.

فقلت له: استأذن لي على مولاك يرحمك الله. فقال لي: لج ليس له حاجب ولا بوّاب . فولجت إليه، فإذا أنا بغلام أسود بيده مقص يأخذ اللحم من جبينه وعرنين أنفه من كثرة سجوده.
فقلت له: السلام عليك ياابن رسول الله، أجب الرشيد.
فقال: ما للرشيد ومالي؟ أما تشغله نعمته عنّي؟ ثم قام مسرعاً، وهو يقول: لولا أني سمعت في خبر عن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّ طاعة السلطان للتقية واجبة إذن ما جئت.
فقلت له: استعد للعقوبة يا أبا ابراهيم رحمك الله، فقال عليه السلام: أليس معي من يملك الدنيا والآخرة، ولن يقدر اليوم على سوء لي ان شاء الله.

قال الفضل بن الربيع: فرأيته وقد أدار يده يلوح بها على رأسه ثلاث مرات .
فدخلت على الرشيد، فإذا هو كأنه امرأة ثكلى قائم حيران فلمّا رآني قال لي: يا فضل. فقلت: لبيك. فقال: جئتني بابن عمّي؟ قلت: نعم. قال: لا تكون أزعجته؟ فقلت: لا. قال: لا تكون أعلمته أني عليه غضبان؟ فإني قد هيّجت على نفسي ما لم أرده، أئذن له بالدخول. فأذنت له.
فلمّا رآه وثب اليه قائماً وعانقه وقال له: مرحباً بابن عمي وأخي ووارث نعمتي، ثم أجلسه على مِخَدّة وقال له: ما الذي قطعك عن زيارتنا؟ فقال عليه السلام: سعة ملكك وحبّك للدنيا.

فقال: ائتوني بحقة الغالية فاُتي بها فغلفه بيده، ثم أمر أن يحمل بين يديه خلع وبدرتان دنانير.
قال الفضل: فتبعته عليه السلام  فقلت له: ما الذي قلت حتى كُفيت أمر الرشيد؟
فقال: دعاء جدي علي بن أبي طالب  عليه السلام  كان إذا دعا به، ما برز الى عسكر إلاّ هزمه ولا الى فارس إلاّ قهره، وهو دعاء كفاية البلاء. قلت: وما هو؟ قال: قل:اللهم بك أساور، وبك أُحاول وبك أحاور، وبك أصول، وبك انتصر، وبك أموت، وبك أحيا، أسلمت نفسي اليك، وفوّضت أمري اليك، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

اللهم انك خلقتني ورزقتني وسترتني، وعن العباد بلطف ما خوّلتني أغنيتني، وإذا هويت رددتني، وإذا عثرت قوّمتني، وإذا مرضت شفيتني، وإذا دعوت اجبتني يا سيدي ارض عني فقد أرضيتني".
2 ـ يصوّر لنا عبدالله المأمون بن الرشيد ذلك المستوى من الفهم الذي يمتلكه الرشيد ازاء الإمام. والذي اعترف به من خلال الاكرام والاجلال الذي قام به الرشيد للإمام الكاظم عليه السلام  والذي يستبطن مدى الحقد والبغض، ويكشف هذا المشهد ثقل الإمام الشعبي الذي دفع بالرشيد الى أن يفتعل هذا المشهد من أجل اضلال الجماهير.

قال المأمون: لقد حججت معه (الرشيد) سنة فلما صار الى المدينة تقدم الى حجابه وقال: لايدخلنّ عليّ رجل من أهل المدينة ومكة من أبناء المهاجرين والانصار وبني هاشم وسائر بطون قريش إلاّ نسب نفسه، فكان الرجل اذا أراد أن يدخل عليه يقول: أنا فلان ابن فلان حتى ينتهي الى جدّه من هاشم أو قريش وغيرهما فيدخل ويصله الرشيد بخمسة آلاف وما دونها الى مائتي دينار على قدر شرفه وهجرة آبائه.
فبينما أنا ذات يوم واقف إذ دخل الفضل بن الربيع فقال: يا أمير المؤمنين على الباب رجل زعم انه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام  فأقبل علينا ونحن قيام على رأسه والأمين والمؤتمن وسائر القوّاد، وقال احفظوا على أنفسكم.

ثم قال لآذنه ائذن له ولا ينزل إلاّ على بساطي، فأنا كذلك إذ دخل شيخ قد انهكته العبادة كأنه شن بال قد كلم السجود وجهه وأنفه، فلما رأى الرشيد رمى بنفسه عن حمار كان يركبه فصاح الرشيد: لا والله إلاّ على بساطي فمنعه الحجّاب من الترجّل، ونظرنا إليه بأجمعنا بالاجلال والاعظام، فما زال يسير على حماره حتى سار الى البساط والحجّاب والقوّاد محدقون به.

فنزل وقام اليه الرشيد واستقبله الى آخر البساط وقبّل وجهه ورأسه وأخذ بيده حتى جرّه في صدر المجلس وأجلسه معه وجعل يحدّثه ويقبل عليه ويسأله عن أحواله.ولمّا قام الرشيد لقيامه وودّعه، ثم أقبل عليّ وعلى الأمين والمؤتمن، وقال: يا عبدالله ويا محمد ويا ابراهيم: سيروا بين يدي عمّكم وسيدّكم وخذوا بركابه وسوّوا عليه ثيابه.

3 ـ قال المأمون: فلمّا خلا المجلس قلت: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي عظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟!
قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده.
فقلت: يا أمير المؤمنين أوليست هذه الصفات كلّها لك وفيك؟!
فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق.
والله يا بنيّ انه لأحقّ بمقام رسول الله  صلى الله عليه وآله  مني ومن الخلق جميعاً، والله لو نازعتني هذا الأمر لاخذت الذي فيه عيناك فإن الملك عقيم.ونلاحظ أن هذا التصريح من الرشيد والاعتراف بحقانية امامة الكاظم عليه السلام  كان أمراً سرياً.

4 ـ قال المأمون: فلما أراد الرشيد الرحيل من المدينة الى مكة أمر بصرّة فيها مائتا دينار، ثم أقبل على الفضل بن الربيع فقال له: اذهب بهذه الى موسى ابن جعفر عليه السلام  وقل له: يقول لك أمير المؤمنين نحن في ضيق وسيأتيك برّنا بعد هذا الوقت.
فقمت في صدره فقلت: يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش، وبني هاشم، ومن لا يعرف حسبه ونسبه خمسة الآف دينار الى ما دونها وتعطي موسى بن جعفر ـ وقد أعطيته مائتي دينار ـ أخسّ عطية أعطيتها أحداً من الناس؟!
فقال: اسكت لا أمّ لك، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة الف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم.

الطائفة الثانية:

نختار في هذه الطائفة ما يصوّر لنا أساليب الرشيد مع الإمام والتي يبتغي من ورائها احراج الإمام مرّة والاستهانة به مرّة أُخرى لعله يعجزه أمام الناس ويثبت لهم فشله وعدم جدارته.
ولنرى موقف الإمام عليه السلام  ازاء هذه الاحراجات والاستهانات وكيف تخلّص منها منتصراً.

1 ـ من أساليب الرشيد مع الإمام  عليه السلام  التي كان يهدف منها تخويف الإمام  عليه السلام  واستضعافه، هو اتهامه بأعمال سياسية محظورة بنظر الخلافة، مثل جبابة الخراج.
وعن هذا الإتّهام يحدّثنا الإمام موسى عليه السلام  نفسه حيث يقول: "لمّا اُدخلت على الرشيد سلّمت عليه فردّ عليّ السلام ثم قال: يا موسى بن جعفر خليفتين يُجبى اليهما الخراج؟!".

فقلت: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تبوء بإثمي وإثمك، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت أنه قد كُذب علينا منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله  بما عِلمُ ذلك عندك، فإن رأيت بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله  أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي، عن آبائه، عن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله؟! فقال: قد أذنت لك فقلت: أخبرني أبي عن آبائه عن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله  أنه قال: إنّ الرحم إذا مسّت الرحم تحرّكت واضطربت.
ثم سأله الرشيد عن أفضلية أهل البيت اولاد علي على بني العباس فأجابه الإمام عليه السلام  عن الأدلة على هذا التفضيل بعد أن أخذ منه الأمان. ثم أطلق سراحه".

وإليك نصّ ما دار بين الإمام عليه السلام  وبين الرشيد كما رواه الصدوق:قال الرشيد للإمام عليه السلام:"أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين، لم أسأل عنها أحداً فإن أنت أجبتني عنها خلّيت عنك، ولم أقبل قول أحد فيك، وقد بلغني أنّك لم تكذب قطّ فاصدقني عمّا أسألك ممّا في قلبي.
فقلت: ما كان علمه عندي فإنّي مُخبرك به ان أنت آمنتني؟ قال: لك الأمان ان صدقتني وتركت التقيّة التي تعرفون بها معشر بني فاطمة.
فقلت ليسأل أمير المؤمنين عمّا شاء؟ قال: أخبرني لم فضّلتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد، أنّا بنو العبّاس وأنتم ولد أبي طالب، وهما عمّا رسول الله صلى الله عليه وآله  وقرابتهما منه سواء؟
فقلت: نحن أقرب. قال: وكيف ذلك؟

قلت: لأن عبدالله وأبا طالب لأب وأمّ وأبوكم العبّاس ليس هو من أم عبدالله، ولا من أمّ أبي طالب قال: فلم ادّعيتم أنّكم ورثتم النبي صلى الله عليه وآله؟ والعمّ يحجب ابن العمّ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله  وقد توفي أبو طالب قبله، والعبّاس عمه حيّ؟
فقلت له: ان رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من هذه المسألة ويسألني عن كلّ باب سواه يريده فقال: لا أو تجيب.
فقلت: فآمنّي؟ قال: قد آمنتك قبل الكلام.

فقلت: إنّ في قول علي بن أبي طالب عليه السلام  اذن ليس مع ولد الصّلب ذكراً كان أو اُنثى لأحد سهم إلاّ للأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب، إلاّ أنّ تيماً وعدياً وبني أمية قالوا: العم والد رأياً منهم بلا حقيقة، ولا أثر عن النبي صلى الله عليه وآله .

ومن قال بقول علي عليه السلام  من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن درّاج يقول في هذه المسألة بقول علي عليه السلام  وقد حكم به، وقد ولاّه أمير المؤمنين المصرين الكوفة والبصرة، وقد قضى به فأنهي الى أمير المؤمنين فأمر باحضاره واحضار من يقول بخلاف قوله منهم سفيان الثوري، وابراهيم المدني والفضيل بن عيّاض فشهدوا أنه قول علي عليه السلام  في هذه المسألة فقال لهم ـ فيما أبلغني بعض العلماء من أهل الحجاز ـ: فلم لا تفتون به وقد قضى به نوح بن درّاج؟ فقالوا جسر نوح وجبنا وقد أمضى أمير المؤمنين قضّيته بقول قدماء العامة عن النبي صلى الله عليه وآله  أنّه قال: علي أقضاكم، وكذلك قال عمر بن الخطاب علي أقضانا، وهو إسم جامع لأن جميع ما مدح به النبي صلى الله عليه وآله  أصحابه من القراءة والفرائض والعلم داخل في القضاء. قال: زدني يا موسى.

قلت: المجالس بالأمانات وخاصّة مجلسك؟ فقال: لابأس عليك.
فقلت: إنّ النبي صلى الله عليه وآله  لم يورّث من لم يُهاجر، ولا أثبت له ولاية حتّى يهاجر فقال: ماحجّتك فيه؟
قلت: قول الله تبارك وتعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يُهاجروا) وإنّ عمّي العبّاس لم يُهاجر، فقال لي: أسألك ياموسى هل أفتيت بذلك أحداً من أعدائنا؟ أم أخبرت أحداً من الفقهاء في هذه المسألة بشيء؟
فقلت: اللهم لا، وما سألني عنها إلاّ أمير المؤمنين. ثم قال: لم جوّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم الى رسول الله صلى الله عليه وآله  ويقولون لكم: يا بني رسول الله، وأنتم بنو علي وانّما يُنسب المرء الى أبيه وفاطمة انّما هي وعاء، والنبي صلى الله عليه وآله  جدّكم من قبل أمكم؟

فقلت: يا أمير المؤمنين لو أن النبي صلى الله عليه وآله  نُشر فخطب اليك كريمتك هل كنت تجيبه؟
فقال: سبحان الله ولم لا أجيبه؟! بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.
فقلت: لكنّه  صلى الله عليه وآله  لايخطب اليّ ولا أزوجه، فقال: ولم؟
فقلت: لأنه ولدني ولم يلدك، فقال: أحسنت يا موسى. ثم قال: كيف قلتم انّا ذريّة النبي، والنبي صلى الله عليه وآله  لم يعقب؟ وانّما العقب للذكر لا للانثى، وأنتم ولد الابنة، ولا يكون لها عقب؟
فقلت: اسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إلاّ ما أعفيتني عن هذه المسألة.

فقال: لا أوتخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم، وإمام زمانهم، كذا اُنهي الي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه، حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، فأنتم تدّعون معشر ولد علي أنّه لا يسقط عنكم منه شيء  ألف ولا واو  إلاّ وتأويله عندكم،واحتججتم بقوله عزّ وجلّ ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَاب وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.
فقلت: تأذن لي في الجواب؟ قال: هات.

فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ فقال: ليس لعيسى أب.

فقلت: انّما ألحقناه بذراري الأنبياء  عليهم السلام  من طريق مريم  عليها السلام، وكذلك الحقنا بذراري النبي صلى الله عليه وآله  من قبل أمّنا فاطمة  عليها السلام . أزيدك يا أمير المؤمنين؟ قال: هات.

قلت: قول الله عزّ وجلّ ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِين ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبي  صلى الله عليه وآله  تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلاّ علي بن أبي طالب وفاطمة، والحسن، والحسين  عليهم السلام  فكان تأويل قوله عزّ وجلّ أبناءنا: الحسن والحسين، ونساءنا: فاطمة، وأنفسنا: علي بن أبي طالب.

إنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ جبرئيل قال يوم اُحد: يا محمد إنّ هذه لهي المواساة من علي قال: لأنّه منّي وأنا منه فقال جبرئيل: وأنا منكما يا رسول الله ثمّ قال: "لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي"، فكان كما مدح الله عزّ وجلّ به خليله عليه السلام  إذ يقول: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم انّا معشر بني عمك نفتخر بقول جبرئيل انّه منّا. فقال: أحسنت يا موسى ارفع الينا حوائجك.
فقلت له: أوّل حاجة أن تأذن لابن عمك أن يرجع الى حرم جدّه عليه السلام  والى عياله فقال: "ننظر ان شاء الله" .

2 ـ اتّهام الإمام بانحرافات فكرية لكسر هيبة الإمام عليه السلام  وتبرير اضطهاده.
قال هارون للإمام الكاظم عليه السلام: "بقي مسألة تخبرني بها ولا تضجر.
فقال له الإمام عليه السلام  سل. فقال: خبّروني أنكم تقولون أن جميع المسلمين عبيدنا، وجوارينا، وأنّكم تقولون: من يكون لنا عليه حق ولا يوصله الينا فليس بمسلم.

فقال له موسى عليه السلام: كذب الذين زعموا اننّا نقول ذلك، واذا كان الأمر كذلك فكيف يصح البيع والشراء عليهم ونحن نشتري عبيداً وجواري ونقعد معهم ونأكل معهم ونشتري المملوك ونقول له: يا بنيّ، وللجارية:يا بنتي ونقعدهم يأكلون معنا تقرّباً الى الله سبحانه فلو انهم عبيدنا وجوارينا ما صح البيع والشراء..
.".

3 ـ هناك محاولة اُخرى لإحراج الإمام عليه السلام  والاستهانة به وكانت في مجلس هارون الرشيد حينما حضره حكيم هندي، ويبدو أن الرشيد قد قصد حضور هذا الحكيم الهندي مع الإمام وخطط لادانة الإمام عمليّاً. كما يبدو ذلك من خلال تعليقة الرشيد بعد استسلام الحكيم الهندي لعلم الإمام عليه السلام .

حضر مجلس الرشيد هنديّ حكيم، فدخل الإمام الكاظم عليه السلام  فرفع الرشيد مقامه، فحسده الهندي وقال: اغتنيت بعلمك عن غيرك، فكنت كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى.
فقال عليه السلام  أخبرني، الصور الصدفية إذا تكاملت فيها الحرارة الكلية، وتواترت عليها الحركات الطبيعية، واستحكمت فيها القوى العنصرية، صارت اخصاصاً عقلية، أم أشباحاً وهميّة؟

فبهت الهندي وقبّل رأس الإمام عليه السلام  وقال: كلّمتني بكلام لاهوت، من جسم ناسوت.
فقال الرشيد: كلما أردنا ان نضع أهل هذا البيت أبى الله إلاّ أن يرفعه.
فقال عليه السلام: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون".

4 ـ يُبرز لنا هذاالمشهد احدى محاولات الاغتيال التي كان قد أعدّها الرشيد للإمام موسى عليه السلام  وفشلها بالتسديد الإلهي.
لمّا همّ هارون الرشيد بقتل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام  دعا الفضل بن الربيع وقال له: قد وقعت لي اليك حاجة أسألك أن تقضيها ولك مائة ألف درهم.

قال: فخرّ الفضل عند ذلك ساجداً وقال، أمرٌ أم مسألة؟ قال: بل مسألة.
ثم قال: أمرت بأن تحمل الى دارك في هذه الساعة مائة ألف درهم، وأسألك أن تصير الى دار موسى بن جعفر وتأتيني برأسه.
قال الفضل: فذهبت الى ذلك البيت فرأيت فيه موسى بن جعفر وهو قائم يصلي، فجلست حتى قضى صلاته، وأقبل عليه السلام  اليّ وتبسّم وقال: "عرفت لماذا حضرت، أمهلني حتى اُصلي ركعتين".

قال: فأمهلته فقام وتوضأ فأسبغ الوضوء، وصلّى ركعتين وأتمّ الصلاة بحسن ركوعها وسجودها، وقرأ خلف صلاته بهذا الحرز فاندرس وساخ في مكانه، فلا أدري أأرض ابتلعته؟ أم السماء اختطفته؟
فذهبت الى هارون وقصصت عليه القصة. قال: فبكى هارون، ثم قال: قد أجاره الله مني 1.


1-موسوعة اعلام الهداية سيرة الامام الكاظم

2012-12-21