يتم التحميل...

الحائر الحسيني في عهد المتوكل

مرقد الإمام الحسين(ع)

بقيت عمارة المأمون طيلة عهد المعتصم والواثق، والشيعة لا تزال في تلك الفترة تتمتع بنصيب وافر من الحرية في زيارة القبر الشريف، حتى تبوء المتوكل عرش الخلافة..

عدد الزوار: 94

بقيت عمارة المأمون طيلة عهد المعتصم والواثق، والشيعة لا تزال في تلك الفترة تتمتع بنصيب وافر من الحرية في زيارة القبر الشريف، حتى تبوء المتوكل عرش الخلافة في سنة 232 ه‍، وفي عهده بدأ في تضييق الخناق على الشيعة، وقد حذا حذو جده الرشيد في متابعة العلويين والتنكيل بهم، فقد وصفه ابن الأثير فقال عنه: " وكان شديد البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام ، ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه أنه يتولى عليا وأهله، يأخذ المال والدم " .

ولم يكتف بذلك حتى امتدت أياديه الآثمة لتطال الضريح المقدس للحسين عليه السلام ، ففي الفترة من 232 -247 ه‍ كان القبر الشريف عرضة للهدم والتخريب عدة مرات، مع إقامة المسالح على الطرق المؤدية إلى كربلاء للترصد، ومراقبة من يأتي لزيارته، وأمر بإنزال العقوبات الشديدة على من يخالف أمره.

وقد وصف أبو الفرج الأصفهاني هذه الفترة بقوله: " وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظا على جماعتهم، مهتما بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم، واتفق إن فتح بن خاقان وزيره كان سئ الرأي فيهم يحسن له القبيح في معاملتهم، فبلغ بهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، وكان من ذلك كرب قبر الحسين عليه السلام وعفى آثاره ووضع على سائر طرق الزوار مسالح لا يجدون أحدا زاره إلا أتوا به فقتله أو أنهكه عقوبة ".

وكان ابتداء المتوكل في هدم القبر وتخريبه في سنة 233 ه‍، على أثر ذهاب جارية من جواريه لزيارة قبر الحسين عليه السلام ، والحادثة كما رواها أبو الفرج الأصفهاني حيث ذكر: " إن بعض القينات كانت تبعث بجواريها إلى المتوكل قبل الخلافة يغنين له إذا شرب، فلما بعث إلى تلك المغنية فعرف أنها غائبة، وكانت قد زارت قبر الحسين عليه السلام ، وبلغها خبره فأسرعت في الرجوع وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟ قالت: خرجت مولاتي إلى الحج فأخرجتنا معها، وكان ذلك في شعبان.

فقال: أين حججتم في شعبان؟ فقالت: إلى قبر الحسين عليه السلام ، واستطار غضبا وأتى بمولاتها.

فحبست واستصفى أملاكها، وبعث برجل من أصحابه - يقال له الديزج كان يهوديا فأسلم - إلى قبر الحسين عليه السلام ، وأمره بكرابه وحفره، وإضراب كل ما حوله.

فمضى لذلك وضرب ما حوله، وهدم البناء، وكرب ما حوله نحو مائتي جريب، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد، فأحضر قوما من اليهود فكربوه وأجرى الماء حوله، ووكل به مسالح على سائر الطرق بين كل مسلحتين ميل، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجه به إليه فقتله أو أنهكه عقوبة
".

يستفاد من رواية الأصفهاني بأن زيارة قبر الحسين عليه السلام اتخذت طابعا ملحوظا خلال تلك الفترة، ولم تقتصر على الشيعة بل امتدت إلى بقية طوائف المسلمين، وأن محبة الحسين قد تغلغلت في قلوبهم، حتى امتدت إلى بعض حاشية الخليفة وخاصة جواريه.

كما يظهر أن الشيعة قد اتخذوا دورا ومنازلا حول القبر الشريف، وهذا ما دعا المتوكل إلى تهديم وتخريب الدور التي حوله، كما أنه أمر بإعادة المسالح للمراقبة ومنع زوار القبر، والتي ألغيت بعد موت الرشيد.

بعد حادثة هدم القبر، هل امتنع الناس من زيارة القبر؟ بالتأكيد لا، فعلى الرغم من وجود المسالح على سائر الطرق المؤدية إلى كربلاء وبين كل مسلحتين ميل، لم يثن الشيعة من زيارة القبر، ويظهر أن الأهالي أعادوا تعمير القبر ولو بشكل بسيط حتى جاءت سنة 236 ه‍، ليعيد المتوكل الكرة مرة أخرى بهدمه وهدم ما حوله من الدور والمنازل، وأن يبذر ويسقي موضع القبر، وأن يمنع الناس من إتيانه، " فنادى (عامل صاحب الشرطة) بالناس في تلك الناحية، من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق! فهرب الناس، وتركوا زيارته، وحرث وزرع ".

وفي رواية المسعودي فقد ذكر الحادثة بقوله: " وفي سنة 236 ه‍ أمر المتوكل المعروف بالديزج بالمسير إلى قبر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وهدمه ومحو أرضه، وإزالة أثره، وأن يعاقب من وجد به، فبذل الرغائب لمن تقدم على هذا القبر، فكل خشي العقوبة وأحجم فتناول الديزج مسحاة وهدم أعالي قبر الحسين، فحينئذ أقدم الفعلة فيه".

ولنستمع إلى شهادة إبراهيم الديزج نفسه حيث يقول: بعثني المتوكل إلى كربلاء لنبش قبر الحسين عليه السلام ، وكتب معي إلى جعفر بن محمد بن عمار القاضي: أعلمك أني قد بعثت إبراهيم الديزج إلى كربلاء لنبش قبر الحسين عليه السلام ، فإذا قرأت كتابي هذا فقف على الأمر حتى فعل أو لم يفعل.

قال الديزج: فعرفني جعفر بن محمد ما كتب إليه، ففعلت ما أمرني به جعفر بن محمد بن عمار، ثم أتيته فقال لي: ما صنعت؟ فقلت: قد فعلت ما أمرت به فلم أر شيئا ولم أجد شيئا، فقال لي: أفلا عمقته؟ قلت: قد فعلت فما رأيت.
فكتب إلى السلطان إن إبراهيم الديزج قد نبش القبر فلم يجد شيئا، وأمرته فمخره بالماء وكرب القبر.

قال أبو علي العماري: فحدثني إبراهيم الديزج وسألته عن صورة الأمر، فقال لي: " أتيت في خاصة من غلماني فقط، وإني نبشت فوجدت بارية وعليها بدن الحسين عليه السلام ، ووجدت منه رائحة المسك، فتركت البارية على حالها وبدن الحسين عليه السلام على البارية، وأمرت بطرح التراب عليه، واطلقت عليه الماء، وأمرت البقر لتمزجه وتحرثه، فلم تطأه البقر وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه، فحلفت غلماني بالله وبالإيمان المغلظة لئن ذكر أحد هذه لأقتلنه ".

لكن هل يمكن أن نطمئن إلى رواية إبراهيم الديزج وحديثه لأبي على العماري، بأنه وجد بدن الحسين على حاله، ثم أعاد عليه التراب وهدد غلمانه بكتمان الأمر، وإبراهيم من الموالين للمتوكل، ولم يكلفه المتوكل بهذه المهمة حتى عرف منه بغضه لآل علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولو وجده فعلا كما يدعي لتقرب به إلى السلطان، حتى تعلو منزلته عنده.

لكن يظهر من تبريراته هذه أنه كان بعد هذه العملية موضعا للاستهزاء وسخرية الناس.

وبقي المتوكل يتميز غيظا وحقدا على آل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو يتحين الفرص المناسبة لإفراغ حقده الدفين عليهم، وفي عام 237 ه‍، عندما بلغه أن أهل العراق يجتمعون لزيارة قبر الحسين عليه السلام فيصير إلى قبره خلق كثير، فأمر أحد قواده وجهزه بقوات من جيشه لتخريب القبر وتهديم المنازل التي حوله، لكن هذه المرة باءت محاولته بالفشل، حيث وقف الناس ضده، وتعاهدوا على مقاومة المعتدين على القبر الشريف، وعندما رأى أن الأمور لا تسير في صالحه أمر قواته بالانسحاب إلى الكوفة.

وقد روى الشيخ الطوسي في أماليه بسنده عن القاسم بن أحمد بن معمر الأسدي الكوفي - وكان له علم بالسير وأيام الناس - قال: " بلغ المتوكل أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين عليه السلام فيصير إلى قبره منهم جماعة كثيرة، وخلق عظيم، فأنفذ قائدا من قواده، وضم إليه كنفا من الجند كثيرا ليشعث من قبره عليه السلام ، ويمنع الناس من زيارته والاجتماع عنده.

فخرج القائد إلى الطف، وعمل ما أمر به، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فثار أهل السواد، واجتمعوا عليه، وقالوا: لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك منا لزيارته، والاجتماع عنده، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة، فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكف عنهم، والسير إلى الكوفة مظهرا أن مسيره إليها في مصالح أهلها والانكفاء إلى المصر
".

يظهر من هذه الرواية أن هدم القبر لم يكن بالقدر الكبير، لما رأوا من المعارضة الشديدة التي أبداها أهل السواد ضدهم، كما نستخلص منها أيضا بأن القبر قد أعيد بناؤه بعد هدمه في سنة 237، ويظهر أيضا أن الناس الغيارى من شيعة آل البيت هم الذين أعادوا بناء القبر في تلك الفترة القصيرة.

لقد أصاب المتوكل الذهول، وهو يرى المشهد المقدس يزداد شموخا سنة بعد أخرى، كما أن عوامل الارهاب والخوف التي ابتدعها ضد زوار الحسين عليه السلام لم تجد نفعا، حتى صار مثلا لاستهجان وسخرية المسلمين " وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد ".

كما هجته الشعراء بقصائد لاذعة، (كما لتشنيعات زيد المجنون على المتوكل، وأعماله المفضوحة أثرها الفعال في نفس طاغية بني العباس، فارتدع مدة من الزمن من التعرض للقبر المطهر).

بقي القبر الشريف محفوظا من انتهاكات المتوكل مدة عشر سنين، حتى فاض حقده الدفين على العلويين مرة أخرى، يغرونه ندماء السوء بالفتك بآل علي عليه السلام ، فيذكر ابن الأثير " إنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي، فيهم: علي بن الجهم الشاعر الشامي، من بني شامه بن لؤي، وعمر بن فرخ الرخجي، وأبو الشمط من ولد مروان بن حفصة، ومن موالي بني أمية، وعبد الله بن محمد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجه.

وكان يخوفونه من العلويين، ويشيرون عليه بإبعادهم، والإعراض عنهم، والإساءة إليهم، ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان، فغطت هذه السيئة جميع سيئاته
".

ففي سنة 247 ه‍ قرر الفتك بالعلويين الذين يتواجدون حول الضريح المقدس للحسين عليه السلام ووضع حدا لنهاية هذا القبر الذي افتتن الناس به، فكان يتحرى الذرائع لتنفيذ فعلته الشائنة، فاستغل زيارة شعبان حيث يكون زخم كثيف لزوار الحسين عليه السلام في هذا الشهر، فيروي الشيخ الطوسي في أماليه: " فبلغ المتوكل مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه السلام ، وأنه قد كثر جمعهم لذلك، وصار لهم سوق عظيم، فأنفذ قائدا في جمع عظيم من الجند، وأمر مناديا ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبره عليه السلام ، ونبش القبر وحرثه، وانقطع الناس عن الزيارة، وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة، فقتل لعنه الله، ولم يتم ما قدر ".

وعن شهادة عبد الله بن دانية الطوري، كما ذكر ذلك الشيخ الطوسي في أماليه، قال: " حججت سنة سبع وأربعين ومائتين، فلما صدرت عن الحج صرت إلى العراق، فزرت أمير المؤمنين عليه السلام على حال خيفة من السلطان وتقية، ثم توجهت إلى زيارة الحسين عليه السلام ، فإذا هو قد حرثت أرضه ومخر فيها الماء، وأرسلت الثيران والعوامل في الأرض، فبعيني كنت أرى الثيران تأتي في الأرض فتنساق لهم فيها حتى إذا حاذت مكان القبر يمينا وشمالا، فتضرب بالعصا الضرب الشديد، فلا ينفع ذلك فيها ولا تطأ القبر بوجه من الوجوه ولا سبب، فما أمكنني الزيارة، فتوجهت إلى بغداد وأنا أقول:

تالله إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فقد أتاك بنو أبيه بمثلها * هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا * في قتله فتتبعوه رميما


فلما قدمت بغداد سمعت الهائعة، فقلت: ما الخبر؟ قالوا: وقع الطير بقتل جعفر المتوكل، فعجبت من ذلك وقلت: إلهي ليلة بليلة .
ويؤيد شهادة عبد الله بن دانية الطوري، رواية محمد بن جعفر بن محمد بن الرج الرخجي، قال: حدثني أبي، عن عمه عمر بن فرج، قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين عليه السلام فصرت إلى الناحية فأمررنا بالبقر بمن فيها على القبور، فمرت عليها كلها، فلما بلغت قبر الحسين عليه السلام لم تمر عليه.

قال عمي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي، فما زلت أضربها حتى انكسرت العصا بيدي، والله ما جازت على قبره، وكان هذا الرجل شديد الانحراف عن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد جاء وصف حالة القبر الشريف ووصف حالة زائريه في تلك الأيام السوداء من حكم المتوكل في رواية لأبي الفرج الأصفهاني عن محمد بن الحسين الأشناني حيث قال: " بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفا، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن بالنهار ونسير بالليل، حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل، فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا، حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نتسمه ونتحرى جبهته حتى أتيناه، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق، وأجرى الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه، فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط من الطيب، فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه؟ فقال: لا والله ما شممت مثلها بشئ من العطر، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع، فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر، وأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه ".

وفي رواية أخرى بسند عن هشام بن محمد، قال: لما أجري الماء على قبر الحسين عليه السلام نضب بعد أربعين يوما، وامتحى أثر القبر فجاء أعرابي من بني أسد، فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمه، حتى وقع على قبر الحسين فبكى وقال: بأبي وأمي ما كان أطيبك وأطيب تربتك ميتا، ثم بكى وأنشأ يقول:

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه * فطيب تراب القبر دل على القبر

هكذا كانت أيام المتوكل حالكة السواد بالنسبة للعلويين والشيعة بشكل عام، فكان يمنع من زيارته فيمتنع الناس مدة، أو تقل زيارتهم، ويزورون خفية ثم تكثر زيارتهم فيمدد المنع إلى أن قتله الله، وقد قال أحد الشعراء:

أيحرث بالطف قبر الحسين * ويعمر قبر بني الزانية
لعل الزمان بهم يعود * ويأتي بدولتهم ثانية


لقد انتهى المتوكل وسقط في قعر الذل والمهانة، وقتل شر قتله، وسجل تاريخه بأحرف سوداء، هي وصمة خزي وعار في جبينه، وقد لقى حتفه على يد أقرب الناس إليه، بعدما تمادى في غيه واستهتاره بالقيم الإسلامية، حتى وضع المنتصر ابنه حدا لهذا الطاغية الأهوج، وقد ذكر ابن الأثير مصرع الطاغية المتوكل بقوله: " وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه أنه يتولى عليا وأهله يأخذ المال والدم، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث، وكان يشد على بطنه، تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه، وهو أصلع، ويرقص بين يدي المتوكل، والمغنون يغنون: قد أقبل الأصلع البطين، خليفة المسلمين، يحاكي بذلك عليا عليه السلام والمتوكل يشرب، ويضحك، ففعل ذلك يوما، والمنتصر حاضرا، فأومأ إلى عبادة يتهدده، فسكت خوفا منه، فقال المتوكل: ما حالك؟ فقام وأخبره، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين إن الذي يحكيه هذا الكاذب، ويضحك منه الناس، هو ابن عمك، وشيخ أهل بيتك، وبه فخرك، فكل أنت لحمه إذا شئت، ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه! فقال المتوكل للمغنين غنوا جميعا:

غار الفتى لابن عمه * رأس الفتى في حر أمه

فكان هذا من الأسباب التي استحل بها المنتصر قتل المتوكل.
لقد سقط رأس الضلال، وسقطت معه الرؤوس العفنة، التي كانت أدوات طيعة له في تنفيذ أوامره الخبيثة من هدم وتخريب قبر سيد الشهداء عليه السلام ومطاردة العلويين، ففي رواية الفضل بن محمد بن عبد الحميد قال: دخلت على إبراهيم الديزج وكنت جاره أعوده في مرضه الذي مات فيه، فوجدته بحال سوء، فإذا هو كالمدهوش وعنده الطبيب، فسألته عن حاله، وكانت بيني وبينه خلطة وأنس توجب الثقة بي والانبساط إلي، فكاتمني حاله، وأشار إلى الطبيب، فشعر الطبيب بإشارته، ولم يعرف من حاله، ما يصف له من الدواء ما يستعمله، فقام فخرج، وخلا الموضع فسألته عن حاله، فقال: أخبرك والله واستغفر الله إن المتوكل أمرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين عليه السلام ، فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر، فوافيت الناحية مساء، ومعنا الفعلة والدركاريون معهم المساحي والمراود، فتقدمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه، فطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر ونمت فذهب بي النوم فإذا ضوضاء شديدة، وأصوات عالية، وجعل الغلمان ينبهوني فقمت وأنا ذعر، فقلت للغلمان: ما شأنكم؟ قالوا: أعجب شأن، قلت: وما ذاك؟ قالوا: إن بموضع القبر قوما قد حالوا بيننا وبين القبر وهم يرموننا مع ذلك بالنشاب، فقمت معهم لأتبين الأمر فوجدته كما وصفوا، وكان ذلك في أول الليل من ليالي البيض، فقلت: ارموهم فعادت سهامنا إلينا، فما سقط سهم منهم إلا في صاحبه، فاستوحشت لذلك وجزعت، وأخذتني الحمى والقشعريرة، ورحلت عن القبر لوقتي ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لما لم أبلغ في القبر ما تقدم إلي به.

قال أبو برزة: فقلت له: قد كفيت ما تحذر من المتوكل، قد قتل بارحة الأولى وأعان عليه في قتله المنتصر، فقال لي: قد سمعت بذلك، وقد نالني في جسمي ما لا أرجو معه البقاء، قال أبو برزة: "كان هذا في أول النهار فما أمسى الديزج حتى مات ".

وفي رواية عن أبي عبد الله الباقطاني، قال: ضمني عبيد الله بن خاقان إلى هارون المصري، وكان قائدا من قواد السلطان أكتب له، وكان بدنه كله أبيض شديد البياض، حتى يديه ورجليه كانا كذلك، وكان وجهه أسود شديد السواد، كأنه القير، وكان يتقيأ مع ذلك مدة نتنة، قال: فلما أنس بي سألته عن سواد وجهه فأبى أن يخبرني، ثم إنه مرض مرضه الذي مات فيه، فقعدت فسألته فرأيته كأنه يحب أن يكتم علي، فضمنت له الكتمان.

فحدثني، قال: وجهني المتوكل أنا والديزج لنبش قبر الحسين عليه السلام وإجراء الماء عليه فلما عزمت على الخروج والمسير إلى الناحية رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فقال: لا تخرج مع الديزج ولا تفعل ما أمرتم به في قبر الحسين، فلما أصبحنا جاءوا يستحثوني في المسير فسرت معهم حتى وافينا كربلاء، وفعلنا ما أمرنا به فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فقال: ألم أمرك أن لا تخرج معهم؟ ولا تفعل فعلهم؟ فلم تقبل حتى فعلت ما فعلوا، ثم لطمني وتفل في وجهي فصار وجهي مسودا كما ترى وجسمي على حالته الأولى.

لقد انهار عرش المتوكل بين ليلة وضحاها، وكل محاولاته في طمس آثار القبر باءت بالفشل، وبقي قبر الحسين عليه السلام شامخا يتحدى الزمن بما حمله من ويلات ومحن، وظل منذ الوهلة الأولى غرة في جبين الدهر، وقد عبر محمد بن أبي طالب صاحب تسلية المجالس عن هذا المعنى بقوله: " كم راموا إخفاء منارها، وإطفاء أنوارها، وإعفاء آثارها، وإهلاك زوارها، وتخريب عامرها، وإدحاض مآثرها، وتتبعوا زعمائها، وأخفوا معالمها، ودرسوا قبورها، وطمسوا مشهورها، وجعلوها لسوامعهم مرتعا، ولحرثهم مزرعا، ولم يتركوا لها علما مشهورا، ولا جذرا معمورا.

وأظهر الله ما أخفوا، وأنار ما أطفوا، طار ذكر بيت نبيه في المغارب والمشارق، وألقى فضلهم على كل لسان ناطق، حتى طبق الآفاق ذكرهم، وعلى السبع الطباق فخرهم، وسطرت في الدفاتر مناقبهم، وشرفت على كل شرف مراتبهم، همتهم تستخرج العذراء من خدرها، وزمام محبتهم تجذب القلوب من برها وبحرها، يقاسي وليهم في هجرته إلى مشاهدهم من أعداء الله ما الموت أيسر بعضه، ويتحمل الأذى في الله ممن خف ميزان يوم حسابه وعرضه، ويستعذب العذيب في مسيره إلى زيارتهم، ويستطيب فراق الحميم والحبيب لمشاهدة أنوار بهجتهم
"1.


1-مرقد الامام الحسين عليه السلام تحسين آل شبيب.

2012-11-15