أسس تهذيب النفس
العلاقة مع الله
إن الإنسان ما دام حياً في هذه الدنيا تتوفر لديه فرصة الإرتقاء في مدارج الكمال، فإن كان مبتلى بعيوب فعليه أن يتخلص منها ويصلح نفسه، وإن كان موفقاً بالتَّحلي بصفات نفس جيدة وأعمال جوارح حسنة، فعليه أن يسعى نحو الأحسن، ولكن الإصلاح وتهذيب النفس لا يأتي صدفة، وإنما هو نتيجة سعي الإنسان.
عدد الزوار: 99
إن الإنسان ما دام حياً في هذه الدنيا تتوفر لديه فرصة الإرتقاء في مدارج الكمال، فإن كان مبتلى بعيوب فعليه أن يتخلص منها ويصلح نفسه، وإن كان موفقاً بالتَّحلي بصفات نفس جيدة وأعمال جوارح حسنة، فعليه أن يسعى نحو الأحسن، ولكن الإصلاح وتهذيب النفس لا يأتي صدفة، وإنما هو نتيجة سعي الإنسان ﴿وَأَن لَّيسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾(النجم:39)، فما هو البرنامج الذي يساعده على ذلك؟
السؤال المطروح هنا: ما هي الخطوات المتّبعة لتهذيب النفس؟
خطوات تهذيب النّفس
أولاً: يشارط نفسه على ما تفعله وتتركه.
ثانياً: يراقبها دائما وأبداً وفي جميع الحالات ليمنعها من أي انحراف محتمل.
ثالثاً: يحاسبها ليرى مدى التزامها بما اشترطه عليها.
رابعاً: يعاتبها لو تبين له عدم التزامها بما اشترطه عليها.
خامساً: له أن يعاقبها بعد إدانتها، فيمنعها من تحقيق شهواتها سيما في موارد تقصيرها.
هذه الخطوات الخمس هي البرنامج اليومي الذي يجب أن يلتزم به الإنسان.
هذا على نحو الإجمال وسنتحدث عن هذه المراحل بشيء من التفصيل.
المشارطة
فالمشارطة هي أن يشارط الانسان نفسه في أول يومه على أن لا يرتكب اليوم أي عمل يخالف أوامر الله تعالى، ويتخذ قرارا بذلك ويعزم عليه، وأما العزم فيكون عند كل شخص بحسبه فمن كان تاركا لبعض الواجبات فعليه أن يعزم على أن لا يترك واجباً، ومن كان فاعلا للمحرمات والعياذ بالله فعليه أن يعزم على تركها، وأما من كان قد ترفّع عن هذين الأمرين بحيث كان يفعل الواجب ويترك المحرم فعليه أن يعزم على الثبات، وواضح أن ترك ما يخالف أوامر الله تعالى ليوم واحد أمر يسير للغاية، ويمكن للإنسان بكل سهولة أن يلتزم به، وإن اختلفت درجات يسره من شخص لآخر إلا أنه في النهاية أمر يسير، فاعزم وشارط نفسك وجرب، وأنظر كيف أن الأمر سهل يسير، فإن الله تعالى إذا رأى من العبد سعياً للتقرب إليه أخذ بيده ويسر له أمره ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾(الليل:7)، ومن الممكن أن يصور لك إبليس اللعين وجنده أن الأمر صعب وعسير. فاعلم أن هذه هي من تلبيسات هذا اللعين، فالعنه قلباً وعملاً، وأخرج الأوهام الباطلة من قلبك، وجرب ليوم واحد، فعند ذلك ستصدق هذا الأمر.
وينبغي الالتفات هنا أن لا يثقل الإنسان على نفسه كما ورد في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إن الله عز وجل وضع الإيمان على سبعة أسهم على البر والصدق واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم، ثم قسم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل، محتمل، وقسم لبعض الناس السهم ولبعض السهمين ولبعض الثلاثة حتى انتهوا إلى سبعة، ثم قال: لا تحملوا على صاحب السهم سهمين ولا على صاحب السهمين ثلاثة فتبهضوهم1..."2.
المراقبة
وبعد هذه المشارطة عليك أن تنتقل إلى "المراقبة"، وهي أن تنتبه طوال اليوم إلى عملك، وإذا حصل لا سمح الله حديث لنفسك بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله وهذا أمر ممكن الحصول لأن الشيطان وجنده لن يدعوك تهزمهم بهذه السهولة، فهم يريدونك أن تتراجع عمّا اشترطته على نفسك، فالعنهم واستعذ بالله من شرهم، واخرج تلك الوساوس الباطلة من قلبك، وقل للشيطان: "إني اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم وهو يوم واحد بأي عمل يخالف أمر الله تعالى، وهو ولي نعمتي طول عمري، فقد أنعم وتلطّف عليّ بالصحة والسلامة والأمن وألطاف أخرى، ولو أني بقيت في خدمته إلى الأبد لما أديت حق واحدة منها، وعليه فليس من اللائق أن لا أفي بشرط بسيط كهذا"، والمراقبة لا تتعارض مع أي من أعمالك كالكسب والسفر والدراسة، فكن على هذه الحال إلى الليل ريثما يحين وقت المحاسبة3.
المحاسبة
وأما "المحاسبة" فهي أن تحاسب نفسك لترى هل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخن ولي نعمتك في هذه المعاملة الصغيرة؟ وقد ورد عن أمير المؤمنين: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ووازنوها قبل أن توازنوا، حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأداء المفروض عليها والأخذ من فنائها لبقائها"4 وعنه: "ما أحق الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل، يحاسب فيها نفسه فينظر فيما اكتسب له وعليها، في ليلها ونهارها"5، وإذا كنت قد وفيت حقاً فاشكر الله على هذا التوفيق، وإن شاء الله ييسر لك سبحانه التقدم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، لأن النفس مطواعة لعقل الإنسان كالشمع في يديه لا كالحديد إذ من الصعب أن يلوى، فعلى الإنسان أن يطوع نفسه على الأمور الحسنة ولو كانت للشر أميل منها للخير فالإنسان نفسه هو الذي أوصلها لهذه الحالة، كما أن النفس في صغر العمر أسهل إصلاحاً من الكبر، ولذا اشتهر القول "العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، فعلى الإنسان المهتم بإصلاح النفس أن يجهد في شبابه لاقتلاع الملكات الرديئة التي يصعب قلعها في الكبر، وهذا ما حثت عليه الروايات منها قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لأبي ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه: "يا أبا ذر، اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك..."6.
وعلى كل حال فإن كنت مهتما بإصلاح نفسك، فواظب على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحول إلى مَلَكَة فيك بحيث يصبح يسيراً للغاية، وستشعر عندها باللذة والأنس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه.
وإذا حدث لا سمح الله في أثناء المحاسبة تهاون وفتور تجاه ما اشترطت على نفسك، فاستغفر الله وأطلب العفو منه، وأعزم على الوفاء بكل شجاعة بالمشارطة غداً، وكن على هذا الحال كي يفتح الله تعالى أمامك أبواب التوفيق والسعادة، ويوصلك إلى الصراط المستقيم للإنسانية.
المعاتبة والمعاقبة
بعد أن يشترط الإنسان على نفسه ويراقبها ويحاسبها فإن تبين له أنها ارتكبت ما يخاف الشرط الذي اشترطه عليها، فلا بد أن يعاتبها ثم يعاقبها من أجل أن تتم صفقته ويجني ثمارها، وإلا فلم يجد إلا أنه قد أهدر عمره وقد خسر رأس ماله في صفقة خاسرة لم يتدارك الخسارة فيها من أولها، وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "حق على كل مسلم يعرفنا أن يعرف عمله في كل يوم وليلة على نفسه، فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها وإن رأى سيئة استغفر منها، لئلا يخزى يوم القيامة"7 يقول الفيض الكاشاني: والعجب أنك تعاقب عبدك وأمتك وأهلك وولدك على ما يصدر منهم من سوء خلق وتقصير في أمر، وتخاف أنك لو تجاوزت عنهم خرج أمرهم من يدك وبغوا عليك، ثم تهمل نفسك وهي أعظم عداوة لك وضراوة، وأشد طغيانا عليك، وضررك من طغيانها أعظم من طغيان أهلك، فإن غرضهم أن يشوشوا عليك معيشة الدنيا، ولو عقلت لعلمت أن العيش عيش الآخرة، وأن نعيم الجنة هو النعيم المقيم الذي لا آخر له، ونفسك هي التي تنغص عليك عيش الآخرة فهي أولى بالمعاقبة من غيرها8.
العقوبة على قدر المخالفة
كان علماؤنا العظام قدس الله تعالى أسرارهم يشارطون ويعاهدون الله تعالى على فعل ما أو ترك أمر ما وينذرون الصيام لأوقات محددة لو خالفوا ما شرطوه على أنفسهم، وبذلك يكون مثل هذا النذر مانعاً لهم عن مخالفة الشرط لأن ثقل العقاب يشكل رادعا عن ارتكاب الجريمة.
ومن المناسب أن يلتفت الإنسان إلى أن العقوبة يحسن أن تكون من صنف الخيانة التي قام بها الإنسان لشرطه، فلو كانت الخيانة مرتبطة بالطعام والشراب فليكن العقاب بالمنع عنهما كالصوم، ولو كانت من صنف شهوة النساء فيكون العقاب للنفس بمنعها عن هذه الشهوة لمدة يحصل بها الغرض من العقاب، ولو كانت بسبب كثرة الكلام، فليعاقب نفسه بالصمت لفترة وهكذا.
العقاب ضمن الموازين الشرعية
إن إيجابية أن يعاقب الإنسان نفسه لا تعني أن يعاقبها بأي عقاب، كما قد يفعل بعض الناس كأن يعذبون أنفسهم بشكل مؤذٍ وخطير، والإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر عليه أن يلتفت إلى حدود الشريعة في هذا المورد كما في سائر الموارد وكما هو معروف "لا يطاع الله من حيث يعصى"، ولعل الصوم من أفضل الأمور التي يستعان بها على النفس لقوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ...﴾(البقرة:45) والمقصود من الصبر الصيام، كما تؤكد الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام9.
*جهاد النفس، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، حزيران 2005م ، ص133-141.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص42.
3-الأربعون حديثاً للإمام الخميني قدس سره الحديث الأول بتلخيص وتصرف.
4-مستدرك الوسائل، ج12، صفحة153.
5- مستدرك الوسائل، ج12، صفحة154.
6- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص114.
7- مستدرك الوسائل، ج12، صفحة153.
8- المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني قدس سره، ج8، ص169.
9- الكافي، ج4، ص63. 2009-08-12