صدى الولاية - العدد 158- جمادى الثانية 1437 هـ

إنَّ الاعتقاد بالشهادة والإيمان بعظمة الشهداء يُمثِّلُ بالنسبة إلى أيِّ شعبٍ العمقَ المعنويَّ لشخصيَّةِ ذلك الشعب وهُويَّتِه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الشهادة والشهيد:حقيقة تثير الدهشة
إنّ الشهادة والشهيد من أبرز المفاهيم في الإسلام. وحقيقة الشهادة لها معنى كبير يثير الدهشة. ولكن بما أنَّنا اعتدنا على مشاهدة الشهداء ومعالم التضحية والفداء والعظمة والطريق الذي انتهى بهم إلى الشهادة، بقيت هذه الحقيقة الوضّاءة خافيةً عنا؛ كحقيقة الشمس التي تبقى لشدّة ظهورها خافيةً على من يراها على الدوام.

ثمَّ إنَّ الحديث عن الشهادة والشهداء، فضلاً عن الشهادة نفسها، يؤثِّر في القلوب والنفوس بشكل واضح ومدهش؛ فكلُّ واحد من هذه الكواكب المنيرة بإمكانه أن يضيء عالماً بأسره، ومعنى هذا أنّ حقيقة الشهادة حقيقة عظمى، ولو بقيت هذه الحقيقة حيّةً ولها قدسيّتها ومكانتها، سيبقى تاريخنا المقبل يستقي العبر من تضحياتهم الكبرى.

الشهادة: نعمةٌ عظيمةٌ
إنّ أعظم لطف من الله هو ما يمنُّ به على الشهيد. فهذه الدنيا وكلُّ من عليها فانٍ، والناس يهلكون بشتّى أنواع الموت الذي لا يفرق بين كهل وشاب، والموت قَدَرٌ محتومٌ، إلَّا أنَّه عزَّ وجلَّ جعل ميتة الشهيد على قدر كبير من الأهمية لم يجعله لسائر أنواع الموت الطبيعي، فهل هناك فضل على الشهيد أكبر من هذا؟

مضافاً إلى أنَّ لحظة الشهادة من أطيب وأحلى اللحظات عند كل شهيد، فيا لها من فضيلة رفيعة سامية!

وإذا نظرنا إلى الشهادة من زاويةٍ أخرى نراها ظاهرةً باهرةً؛ وذلك لأنَّ كلَّ عملٍ خيريٍّ سواها وأيَّ بِرٍّ آخر يفعله الإنسان إنَّما هو عمله بمفرده، إلَّا الشهادة فهي حصيلة جهود جماعةٍ من الناس. فالشابُّ الذي يمَّم وجهه صوب الجبهة واستشهد هناك، لم يكن وحده قد جاهد فحسب، بل قد جاهد والداه أيضاً؛ إذ قَبِلا ذهابه وتوجُّهَه نحو مكامن الخطر، وتشاطرُه زوجتُه جهادَه، ويشاطره أولادُه جهادَه، ويشاطرُه كلُّ مَنْ يودُّه جهادَه.

الشهادة: استقبال الموت لأجل هدف مقدّس
إنَّ الشهادة في الشرع المقدّس والآيات والروايات معناها أنْ يتحرَّك الإنسان ويستقبل الموت لأجل هدفٍ مقدَّسٍ واجبٍ أو راجحٍ. هذه هي الشهادة الإسلاميَّة الصحيحة. أمَّا أن يتحرَّك الإنسان لأجل أن يُقتل فلا.

الشهادة: قتل في سبيل الله مع الإخلاص والشجاعة والمثابرة
من الواضح أنْ ليس كل أنواع القتل شهادة، وإنما الشهادة هي القتل في سبيل الله، والمقترن بالإخلاص والشجاعة والمثابرة. والشهيد هو من يعمل ويسعى بجِدٍّ ومثابرةٍ وشهامةٍ، ويتحرَّك في سبيل الله، وهو إذا لم يكن ذا نُبلٍ وشهامةٍ لا يُوفَّق للشهادة.

الشهادة: أن يبذل المرء ذاته في سبيل هدف إلهي
إذا نظرنا إلى منـزلة الشهادة عند الله تعالى نجد ألسنتنا عاجزة عن بيان ما لها من قيمة كبرى عنده عزَّ وجلَّ. وقد ورد في الحديث: «فَوْقَ كُلِّ ذِي بِرٍّ بِرٌّ حَتَّى يُقْتَلَ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ اللَّه، فَإِذَا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّه فَلَيْسَ فَوْقَه بِرٌّ». فما من شيء أسمى من أن يبذل المرء ذاته ووجوده وبملء إرادته في سبيل هدف الهي وكبير، وهذا هو معنى الشهادة.

الشهادة: بقاء الدين حيّاً
الذي يضع روحه على طبق الإخلاص ويجود بها في سبيل الغايات النبيلة للدين لا بدّ وأن يتّسم بالإخلاص والنقاء.

ومَن يسير على طريق التضحية والفداء ويجود بنفسه بصدقٍ وإخلاصٍ في سبيل الله، كان حقَّاً على الله أنْ يكتب له الحياة، إذ إنَّه قال في كتابه الكريم: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ﴾ (البقرة: 154)، وقال أيضاً: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: 169). وأحد أبعاد الحياة هو هذه المعالم التي لا يمحى أثرها ولا ينتكس لواؤها. وقد قضت سنَّةُ الله بديمومة سبيل النزهاء والصالحين والمخلصين؛ ولهذا بقي الدين حيَّاً بفضل تضحية الحسين بن علي عليهما السلام وبفضل دمه ودماء أصحابه.
 
مبدأ الشهادة: سندٌ شامخ
كلَّما دنا الإنسان من الشهادة، لمس عظمتها أكثر فأكثر، كالجبل الشاهق الذي يراه الإنسان عن بُعدٍ مُجرَّد جبل، ولكنَّه كلَّما اقترب منه، تعذَّرت عليه الإحاطة به فكريَّاً. ولهذه الظاهرة تأثير في مناحي التقدُّم الهائل لكلِّ شعبٍ، فأيُّ شعبٍ استند إلى مبدأ الشهادة وعرفها وتعلَّم منها، يبقى على الدوام شامخاً لا يُهزم.

فالشعب الذي يؤمن بمبدأ الشهادة، والشعب الذي يؤهِّل أبناءه شباباً ورجالاً ونساءً للقتل في سبيل الله، هل يخضع للتهديد؟ وهل يرتشي؟ وهل يستسلم للجبابرة؟ وهل يُداهن الاستكبار؟ كلَّا وألف كلَّا. وهذا ما ثبت منذ مطلع الثورة وحتَّى اليوم، حيث مارس الاستكبار خلالها مختلف أنواع الضغوط، وعلى الجبهات كافَّة، ولكنَّه اندحر في كلِّ هذه الهجمات الغادرة، وسيندحر في ما يأتي منها؛ لأنَّ شعبنا أصبح بفضل دماء الشهداء شعباً شهماً ومنجباً للشهداء.

الشهداء: موقفان عظيمان
للشهداء موقفان في منتهى الروعة والعظمة، وكل واحد منهما يحمل نداءً عميقاً؛ أحدهما، موقف من الإرادة الإلهية المقدسة، وإزاء دين الله وعباده الصالحين، والموقف الآخر أمام أعداء الله.

أما فيما يتعلق بالموقف الأول، فهو يتلخَّص بالإيثار والتضحية؛ فالشهيد قد آثر وضحَّى لله. الإيثار معناه إنكار الذات. فلو أنَّه أقحم ذاته في الحسابات، ولم يخاطر، لما بلغ هذه المنزلة.

فرسالة الشهداء هي أنَّ مَنْ يبتغي مرضاة الله، ويطمح لأن يكون وجوده نافعاً في سبيل الله على طريق تحقيق الغايات الإلهيَّة السامية في عالم الوجود، فعليه أن ينكر ذاته في مقابل الأهداف الإلهيَّة.

وأمَّا الموقف الثاني، فهو الصمود والثبات المطلق بوجه العدو وعدم خشيته، وعدم التهيُّب منه، أو الانفعال أمامه.
 
دماء الشهداء: ثباتٌ وبقاء
إنّنا اليوم جميعاً نجلس على مائدة الشهداء. فبقاء قِيَمنا، إنّما كان بدماء الشهداء. فالشهادة هي التي توقِّع على ثبات وبقاء واستمرار القيم. إنّ أعظم أجرٍ يُعطى للشهيد في هذا العالم هو بقاء ورسوخ تلك الحقيقة التي ضحّى هذا الشهيد بنفسه من أجلها، والله تعالى يحفظ هذه الحقيقة ببركة دمه. والآلية المنطقيَّة والعقلائيَّة لهذا الأمر واضحة أيضاً، فعندما يبذل أيُّ مجتمعٍ من روحه ووجوده وراحته من أجل قيمةٍ وحقيقةٍ ما، فإنّه يثبت حقَّانيَّتها في العالم. وحقانيَّتها أنَّها تبقى، فالحقُّ هو الذي يبقى، هذه هي السُنَّة الإلهيَّة.

الشهداء: الخالصون من علائق الدنيا
إنّ الشهداء هم أشخاصٌ قطعوا علاقتهم القلبيّة بكلّ رغباتهم الشخصيّة. ولم يكن هذا القطع للعلاقة بالمال فقط، بل بالعواطف أيضاً. فالشهيد ينقطع بقلبه عن عاطفة الأمّ وظلّ الأب، وضحكة الطفل، وعشق الزوجة، ويتحرّك نحو أداء التكليف.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.