يتم التحميل...

المبادرة في الفعل المقاوم

ذاكرة الجهاد

المبادرة هي إحدى السمات الهامة التي لا بد للقيادة من التحلي بها لاقترانها بالتحفز والإقدام لتحقيق الغايات، وبدونها يتحول القادة إلى قادة رأي ومنظرين أو فلاسفة ينشدون فهم علل الوجود في بداهتها وعمقها ومن دون أن ينقض ذلك دورهم التغييري.

عدد الزوار: 780

المبادرة هي إحدى السمات الهامة التي لا بد للقيادة من التحلي بها لاقترانها بالتحفز والإقدام لتحقيق الغايات، وبدونها يتحول القادة إلى قادة رأي ومنظرين أو فلاسفة ينشدون فهم علل الوجود في بداهتها وعمقها ومن دون أن ينقض ذلك دورهم التغييري. فمثالاً لا حصراً لعب مفكرو عصر الأنوار في القرن التاسع عشر دوراً في إحداث التغيير الذي شهدته القارة الأوروبية بعدما سرت أفكارهم حول الحرية والعدالة والمساواة وعلى امتداد عقود من الزمن، ووجدت لها مكاناً دافئاً في عقول المستنيرين الطامحين إلى استبدال الواقع المتردي بفعل سيادة السلطات المطلقة، وانعدام الأمن والحرية والعدالة. إن مبادرة هؤلاء المفكرين تجلت عندما انبروا إلى إعمال الفكر والنظر من أجل العبور من الواقع المتردي إلى واقع أفضل من خلال بلورة ممكنات التغيير.

وقد لا يحتاج التغيير إلى فلاسفة ومنظرين، وإنما إلى مبادرين من نوع آخر ممن تشكلت لديهم قناعات تغييرية زاوجت بينها وبين الفعل التغييري على غرار ارنستو تشي غيفارا وفيدل كاسترو وأحمد بن بلا وغيرهم من القادة التاريخيين الذين أفرد التاريخ لهم صفحات بيضاء خلدت أدوارهم وجعلت منهم مثالاً يحتذى لدى شعوبهم.

وفي المرحلة الراهنة المتصلة بالصراع مع إسرائيل يتجلى الدور القيادي للسيد حسن نصر الله باستناده إلى خيار المقاومة داعياً إلى توسلها في حسم مسألة الصراع الذي مضى عليه عقود من الزمن فيما المشروع الصهيوني يتقدم على ما عداه من مشاريع لحل هذه المعضلة.

فالدعوة إلى المقاومة هي بحد ذاتها مبادرة، جعلت من أصحابها دعاة تغييريين وقادة تتحلق حولهم الجماهير.

إنّ المبادرة تكون شديدة الحاجة والإلحاح حين يسود حال من المأساوية والضياع، وحين انعدام أفق الحلول، وتجمد الوعي التغييري، أو بفعل وجود الوعي التغييري كاستعداد كامن في النفوس ولكن من دون خروجه إلى حيز الواقع بفعل القهر والتسلط الداخلي والخارجي على الشعوب.

وقد يصح هذا الوصف في محايثته وتزامنه مع الواقع الذي يبرز فيه الدور القيادي المقاوم للسيد نصر الله إن لناحية الإخفاقات في حروب الأنظمة العربية في صراعها مع إسرائيل أو لناحية الانحدارات في القضية الصراعية التي مالت منذ كامب ديفيد، ثم مؤتمرات التسوية المزعومة منذ مدريد وأوسلو، إلى تنحية مسألة الصراع والاستعاضة عنها بمفاوضات السلام، فضلاً عن ضغط الأنظمة العربية على شعوبها المتحفزة نحو استعادة الأرض والحقوق المشروعة بالارتكاز على خيار المقاومة، بمقابل مبررات تستند إليها تلك الأنظمة قوامها الظروف الموضوعية وانعدام حال التوازن مع القوة الأسطورية لإسرائيل ومساندة الغرب لها وبأن الأمور بخواتيمها طالما أن تلك الخواتيم هي استعادة الأرض.

وعلى هذا النحو، تصبح المبادرة في الفعل المقاوم مغامرة غير محسوبة النتائج بنظر الحكام لأن منطلقاتها تتجافى مع منطق العقل ومقتضياته في تعيين الآليات والوسائل للوصول إلى الأهداف.

ورغم أن دحض فكرة المبادرة برزت أولى ملامحه مع كامب ديفيد بمشاريع التسوية في مدريد ووادي عربة، إلا أن أصبحت بعد ذاك مغامرة في إطار الرد على الفعل الإجرائي للمقاومة في لبنان بخطف جنديين إسرائيليين من أجل مبادلتهما بأسرى لبنانيين في السجون الإسرائيلية، ولذلك دعت السيد نصر الله إلى تحمل النتائج.

ترى إذا كانت المبادرة مغامرة تقف بمواجهة عقلنة القرار السياسي وتوظيف العقل العملي والمعياري في قضية تدخل في إطار شبكة من القضايا المعقدة في الصراع مع إسرائيل، فلماذا حظي الفعل المقاوم في أحد حلقاته المتصلة بحرب تموز 2006 بهذا التأييد من الشعوب العربية والإسلامية دون بعض حكامها؟ تكمن الإجابة في أن هذا التأييد والالتفاف لا يحيل إلى حب المغامرة غير محسوبة النتائج لهذه الشعوب، بقدر ما يحيل إلى انفتاحها على الأبعاد الوظيفية للعقل في جوانبه النظرية والعملية في آن معاً. ذلك أن وظيفة العقل النظري التطلع الدائم نحو الحقيقة التي تحيط بعالم الإنسان وبينها حقيقة الوجود الصهيوني المعادي، فيما ترتبط الجوانب العملية بالآليات والوسائل التي منها الفعل المقاوم الذي يقف على دفتي الترجيح بين المبادرة أو الاستسلام.

وأما من ناحية قيادة المقاومة، فإن الخطاب الموازي للفعل المقاوم لم يخل يوماً من تقديم مبررات للعقل الجمعي على أن المقاومة لا تعني المغامرة وإنما تقترن بالعقل حيث نجد عناصر هذا الخطاب تقدم بإزاء أعمال العدوان اليومي لإسرائيل وأمريكا في فلسطين والعراق تجربة نجاح المقاومة في تحرير الأرض في جنوب لبنان، وعناصر أخرى تتصل بالتخطيط في إدارة المعركة، وبأن المقاومة تمتلك كل أسباب القوة من سلاح ردعي وبنية قتالية متماسكة وهي عناصر تحمل قدراً كبيراً من الأهمية لتسويغ المبادرة. وحتى ولو كانت النتائج متواضعة بنظر بعضهم، فإن المقاومة تكون متصلة بحلقات أخرى في البناء الاستراتيجي لخوض المعركة المصيرية التي تستوجب المبادرات العربية والإسلامية بعد أن تكون المقاومة قدمت النموذج في هذا الميدان.


القيادة وتجربة الفعل المقاوم في لبنان، منتدى الفكر اللبناني

2023-05-19