يتم التحميل...

الإمام الكاظم عليه السلام وحكومة المهدي العبّاسي

شهادة الإمام الكاظم(ع)

أولاً: لم يطرأ على سياسية الخليفة العبّاسي المهدي أيّ تغيير يعول عليه، فقد التزم بالنهج العبّاسي كخط ثابت واستوحى منه ما يجب أن يعمله من تفصيلات قد تستحدث أثناء سلطته، وسار على ما سار عليه الخلفاء العبّاسيون من قبله،

عدد الزوار: 118

ملامح عهد المهديّ العباسيّ

ويمكن أن نوجز ملامح حكومته وعهده فيما يلي:

أولاً: لم يطرأ على سياسية الخليفة العبّاسي المهدي أيّ تغيير يعول عليه، فقد التزم بالنهج العبّاسي كخط ثابت واستوحى منه ما يجب أن يعمله من تفصيلات قد تستحدث أثناء سلطته، وسار على ما سار عليه الخلفاء العبّاسيون من قبله، نعم طرأ بعض التغيير لصالح العلويين بعد ذلك التضييق الشديد من المنصور على العلويين فكانت مصلحة الحكم تقتضي شيئاً من المرونة، الأمر الذي دعا الإمام عليه السلام أن يستغل هذه المرونة التي اتّخذها المهدي العبّاسي لصالح اتباعه وتوسعة نشاطه ومحاور تحرّكه.

ثانياً:
إنّ المرونة التي طرأت على سياسة المهدي العبّاسي مع العلويين كانت في بداية حكمه وتمثلت فيما أصدره من عفو عام عن جميع المسجونين وفي ردّ جميع الاموال المنقولة وغير المنقولة والتي كان قد صادرها أبوه ظلماً وعدواناً الى أهلها، فردّ على الإمام موسى الكاظم عليه السلام ما صادره أبوه من أموال الإمام الصادق عليه السلام.

ثالثاً: بعد أن نشط الإمام عليه السلام وذاع صيته خلال حكم المهدي استخدم المهدي سياسة التشدد على الإمام موسى الكاظم عليه السلام، فلقد استدعاه إلى بغداد وحبسه فيها ثم ردّه إلى المدينة. وكان ذلك في أواخر حكم المهدي تقريباً. كما خطط في هذه المرّة لقتل الإمام عن طريق حميد بن قحطبة، حيث دعا المهدي حميد بن قحطبة نصف الليل وقال: إنّ إخلاص أبيك وأخيك فينا أظهر من الشمس، وحالك عندي موقوف.
فقال: أفديك بالمال والنفس، فقال هذا لسائر الناس.
قال: أفديك بالروح والمال والأهل والولد، فلم يجبه المهدي.
فقال أفديك بالمال والنفس والأهل والولد والدين فقال: لله درّك.
فعاهده المهديّ على ذلك وأمره بقتل الإمام الكاظم عليه السلام في السُحرة بغتة، فنام فرأى في منامه علياً يشير اليه ويقرأ: (فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطّعوا أرحامكم).
فانتبه مذعوراً، ونهى حميداً عمّا أمره، وأكرم الإمام الكاظم عليه السلام ووصله.

رابعاً: شجّع المهدي الوضّاعين في زمنه فقام هؤلاء بدوراعلامي تضليلي فأحاطوا السلاطين بهالة من التقديس وأبرزوهم في المجتمع على أنهم يمثلون ارادة الله في الارض وأن الخطأ لا يمسّهم فمثل غياث بن ابراهيم الذي عرف هوى المهدي في الحَمام وعشقه لها فحدّثه عن أبي هريرة أنه قال: لا سبق إلاّ في حافر أو نصل- وزاد فيه- أو جناح. فأمر له المهدي عوض افتعاله للحديث بعشرة آلاف درهم، ولمّا ولّى عنه قال لجلسائه: أشهد أنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله ما قال رسول الله ذلك ولكنه أراد أن يتقرب اليّ.

وأسرف المهدي في صرف الاموال الضخمة من أجل انتقاص العلويين والحطّ من شأنهم فتحرّك الشعراء والمنتفعون وأخذوا يلفّقون الأكاذيب في هجاء العلويين ومن جملة هؤلاء الزنديق مروان بن أبي حفصة الذي دخل على المهدي ذات يوم وأنشده قائلا:
يا ابن الذي ورث النبي محمد          دون الأقارب من ذوى الأرحام
الوحي بين بني البنات وبينكم          قطع الخصام فلات حين خصام
ما للنساء مع الرجال فريضة          نزلت بذلك سورة الانعام
أنى يكون وليس ذاك بكائن          لبني البنات وراثة الأعمام


فأجازه المهدي على ذلك بسبعين ألف درهم تشجيعاً له ولغيره على انتقاص أهل البيت عليهم السلام. ولمّا سمع الإمام موسى الكاظم عليه السلام بقصيدة مروان تأثّر أشدّ التأثّر، وفي الليل سمع هاتفاً يتلو عليه أبياتاً تجيب على أبيات بشار وهي:
أنى يكون ولا يكون ولم يكن          للمشركين دعائم الاسلام
لبني البنات نصيبهم من جدهم          والعم متروك بغير سهام
ما للطليق وللتراث وانم          سجد الطليق مخافة الصمصام
وبقي ابن نثلة واقفاً متلدد          فيه ويمنعه ذوو الأرحام
إنّ ابن فاطمة المنوّه باسمه          حاز التراث سوى بني الاعمام.


خامساً: لقد شاع اللهو وانتشر المجون وسادت الميوعة والتحلّل في حكم المهدي العباسي. وبلغ المهدي حسن صوت ابراهيم الموصلي وجودة غنائه فقرّبه اليه وأعلى من شأنه.ولقد استغرق المهدي في المجون واللهو وظن الناس به الظنون واتهموه بشتى التهم والى ذلك أشار بشار بن برد في هجائه ايّاه.
خليفة يزني بعمّاته          يلعب بالدف وبالصولجان
أبدلنا الله به غيره          ودسّ موسى في حر الخيزران


سادساً: إنّ جميع ما أخذه المنصور من أبناء الاُمة ظلماً وعدواناً وجمعه في خزانته وبخل عن بذله لإعمار البلاد واصلاح حال الاُمة قد بذله المهدي على شهواته حتى أسرف في ذلك بالرغم من كل ما شاهد من البؤس والفقر التي كانت حاضرة أمام الناظرين أيّام حكومته. وقد روي من بذخه واسرافه ما بذله لزواج ابنه هارون من زبيدة حتى قال معتز عن بدلة ليلة الزفاف: بأن هذا شيء لم يسبق اليه أكاسرة الفرس ولا قياصرة الروم ولا ملوك الغرب.

سابعاً: انّ السفّاح والمنصور لم يسمحا لنسائهما بالتدخل في شؤون الدولة ولكن المهدي لمّا استولى على الحكم بدأ سلطان المرأة ينفذ الى البلاط فزوجته الخيزران أصبحت ذات نفوذ قوي على القصر تقرب من تشاء وتبعّد من تشاء. ومن هذا العصر أخذ نفوذ المرأة يزداد ويقوى في بلاط الحكّام العباسيين حتى بلغ نهايته في أواسط العهد العباسي واستمر حتى نهاية حكمهم.

ثامناً: انّ انشغال المهدي باللهو من جانب وحاجته الى الاموال من جانب آخر شجّع عمّاله على نهب الاموال وسلب ثروات الاُمة حتى انتشرت الرشوة عند الموظّفين وتشدّد ولاته في أخذ الخراج. بل عمد المهدي نفسه الى الاجحاف بالناس فأمر بجباية أسواق بغداد وجعل الأجرة عليها. هذه هي بعض الظواهر التي جاء بها عصر المهدي لتضيف كاهلاً آخر للتركة التأريخية المؤلمة التي خلفها بنو العباس والأمويون من قبلهم على الاُمة.

وقد نشط الإمام الكاظم عليه السلام مستغلاً هذه الفرصة المحدودة فكان برنامجه يتوزّع على خطين:
1- خط التحرك العام في دائرة الاُمة والانفتاح عليها بهدف إصلاحها ضمن صيغ وأساليب سياسية وتربوية من شأنها إعادة الاُمة إلى وعيها الإسلامي وقيمها الرسالية.
2- خط بناء الجماعة الصالحة وتأصيل الامتداد الشيعي فتوجّه خلال هذهِ الفترة القصيرة بكل قوة نحو هذا الخط حتى جاء دور الرشيد فضيّق على الإمام عليه السلام وسجنه ثم قام بتصفية نشاطه وحياته عليه السلام.

النشاط العام للإمام الكاظم عليه السلام

كان الغالب على حياة الإمام موسى الكاظم عليه السلام عدم الانفتاح على الاُمة في حركته العامة.

وجاءت هذه المحدودية في الانفتاح على الاُمة بسبب تشدّد الخلفاء العباسيين ومراقبة أجهزتهم التجسسية له التي كانت تشك في أيّ حركة تصدر منه عليه السلام.

ومع ذلك فقد تنوّعت نشاطات الإمام في مجالات شتّى يمكن أن نشير إليها فيما يلي:

قام الإمام عليه السلام بتوضيح موقفه تجاه الخلفاء والخلافة للاُمة، وان كلفه الموقف ثمناً قد يؤدّي بحياته. لقد كان هذا التحرك من الإمام عليه السلام لئلا يتسرّب الفهم الخاطئ للنفوس ويكون تقريراً منه للوضع الحاكم أو يُتخذ سكوته ذريعة لتبرير المواقف الانهزامية.

من هنا نجد للإمام عليه السلام المواقف التالية:

الموقف الأول: لقد ذكرنا بأن المهدي العباسي عند تسلّمه زمام الحكم من أبيه المنصور أبدى سياسة مرنة مع العلويين أراد بها كسبهم وحاول أن ينسب من خلالها المظالم العبّاسية الى العهد البائد، ويوحي من جانب قوة الخلافة وشرعيتها وعدالتها عندما أعلن اعادة حقوق العلويين لهم وأصدر عفواً عاماً للمسجونين، وأرجع أموال الإمام الصادق عليه السلام الى الإمام الكاظم عليه السلام.

من هنا وجد الإمام عليه السلام فرصته الذهبية لاستغلال هذه البادرة فبادر بمطالبة المهدي بارجاع فدك باعتبارها تحمل قيمة سياسية ورمزاً للصراع التأريخي بين خط السقيفة وخط أهل البيت عليهم السلام.

فدخل على المهدي فرآه مشغولا بردّ المظالم فقال له الإمام عليه السلام: "ما بال مظلمتنا لا ترد ؟ ! فقال المهدي: وما ذاك يا أبا الحسن ؟ قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيّه صلى الله عليه وآله فدك وماوالاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله: (وآت ذا القربى حقه) فلم يدر رسول الله صلى الله عليه وآله من هم ؟ فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل عليه السلام ربّه فأوحى الله اليه: ان ادفع فدك إلى فاطمة (عليها السلام).
فدعاها رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لها: يا فاطمة إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، فلمّا ولّى أبو بكر أخرج عنها وكلاءها فأتته فسألته أن يردّها عليها فقال لها: ايتيني بأسود أو أحمر يشهد بذلك، فجاءت بأمير المؤمنين عليه السلام وأم أيمن فشهدا لها، فكتب لها بترك التعرّض فخرجت والكتاب معها. فلقيها عمر فقال: ماهذا معك يا بنت محمد؟ قالت: كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة، قال: أرينيه فأبت، فانتزعه من يدها ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه، فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب فضعي الجبال في رقابنا.
فقال له المهدي: حدّها لي.
فقال عليه السلام: حدّ منها جبل احد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحدّ منها دومة الجندل.
فقال المهدي: كل هذه حدود فدك ؟ !
فقال له الإمام عليه السلام: نعم يا أمير المؤمنين هذا كلّه، إنّ هذا كله ممّا لم يوجف أهله على رسول الله بخيل ولا ركاب.
فتغيّر المهدي وبدا الغضب على وجهه حيث أعلن له الإمام عليه السلام: أنّ جميع أقاليم العالم الإسلامي قد اخذت منهم، فانطلق قائلا: هذا كثير وأنظر فيه".


الموقف الثاني: في هذه المرحلة كان الإمام عليه السلام حريصاً على تماسك الوجود الشيعي في وسط المجتمع الإسلامي ووحدة صفه، لان الظروف الصعبة، تشكّل فرصة لنفوذ النفوس الضعيفة والحاقدة بقصد التخريب. وظاهرة القرابة والمحسوبية كانت أهم الركائز التي اعتمد عليها بناء الحكم العبّاسي، وكانت هي الحاكمة فوق كل المقاييس. لذا نجد موقف الإمام عليه السلام من خطورة هذه الظاهرة كان حاسماً، إذ نراه يعلن عن مقاطعة عمّه محمّد بن عبدالله الأرقط أمام الناس تطهيراً للوجود الشيعي من أيّ عنصر مضر مهما كان نسبه قريباً من الإمام عليه السلام، فلم يسمح له بالتسلق وصولا للمواقع أو استغلالا لها.

فعن عمر بن يزيد قال: كنت عند أبي الحسن عليه السلام فذكر محمد بن عبدالله الأرقط فقال: "اني حلفت ان لا يظلّني وإيّاه سقف بيت.
فقلت في نفسي: هذا يأمر بالبرّ والصلة ويقول هذا لعمّه !
قال: فنظر اليّ فقال: هذا من البر والصلة، انّه متى يأتيني ويدخل عليّ فيقول يصدّقه الناس واذا لم يدخل عليّ، لم يقبل قوله إذا قال".
وزاد في رواية ابراهيم بن المفضّل بن قيس: "فاذا علم الناس أن لا اُكلّمه لم يقبلوا منه وأمسك عن ذكرى فكان خيراً له".

الموقف الثالث: هو موقف الإمام الكاظم عليه السلام من ثورة الحسين بن علي ابن الحسن- صاحب ثورة فخ- بن الحسن المثنى ابن الحسن المجتبى عليه السلام. إن الإمام الكاظم عليه السلام بالرغم من امتداد شيعة أبيه في أرجاء العالم الإسلامي لم يعمل في هذه المرحلة بصيغة المواجهة المسلّحة طيلة أيام حياته، حتى أعلن عن موقفه هذا من حكومة المهدي عندما حبسه المهدي ورأى الإمام علياً عليه السلام في عالم الرؤيا وقصّ رؤياه على الإمام عليه السلام وقرر إطلاق سراحه، قال له: أفتؤمنني أن تخرج عليّ أو على أحد من ولدي؟ فقال الإمام عليه السلام: "والله لا فعلت ذلك ولا هو من شأني".

وهذا الموقف للإمام عليه السلام بقي كما هو مع حكومة موسى الهادي لأسباب موضوعية سبقت الاشارة الى بعضها إلاّ أن الإمام عليه السلام مارس دور الاسناد والتأييد لثورة الحسين- صاحب فخ- من أجل تحريك ضمير الاُمة والارادة الإسلامية ضد التنازل المطلق عن شخصيتها وكرامتها للحكام المنحرفين.

ولمّا عزم الحسين على الثورة قال له الإمام عليه السلام: "إنّك مقتول فأحدّ الضراب فإنّ القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويضمرون نفاقاً وشركاً فإنّا لله وإنّا إليه راجعون وعند الله أحتسبكم من عُصبة".

ولمّا سمع الإمام الكاظم بمقتل الحسين رضي الله عنه بكاه وأبّنه بهذه الكلمات: "إنّا لله وإنا إليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً، صوّاماً قوّاماً، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله".

المجال الاخلاقي والتربوي:

لقد أشاع الحكّام العبّاسيون أخلاقاً وممارسات جاهلية أصابت القيم والاخلاق الإسلامية بالاهتزاز وعرّضت المثل العليا للضياع.

وهذا المخطط كان يستهدف المسخ الحضاري للاُمة الإسلامية ولم يكن حالة عقوبة أفرزتها نزوة الخليفة فقط وانّما هي ذات رصيد تأريخي وجزء من تخطيط جاهلي هادف لتغيير معالم الحضارة والاُمة الإسلامية التي ربّاها القرآن العظيم والرسول الكريم.

من هنا واجه الإمام عليه السلام هذا المخطط باسلوب أخلاقي يتناسب مع أهداف الرسالة يذكّر الاُمة بأخلاقية الرسول صلى الله عليه وآله ويعيد لها صوراً من مكارم أخلاقه.

هنا نشير الى نماذج من نشاطه:

النموذج الأول: عن حماد بن عثمان قال: بينا موسى بن عيسى في داره التي تشرّف على المسعى، إذ رأى أبا الحسن موسى عليه السلام مقبلا من المروة على بغلة فأمر ابن هيّاج- رجل من همدان منقطعاً اليه- أن يتعلّق بلجامه ويدّعي البغلة، فأتاه فتعلّق باللجام وادعّى البغلة، فثنى أبو الحسن عليه السلام رجله فنزل عنها وقال لغلمانه: خُذوا سرجها وادفعوها اليه، فقال والسرج أيضاً لي، فقال له أبو الحسن عليه السلام: "كذبت عندنا البيّنة بأنه سرج محمد بن علي، وأمّا البغلة فانا اشتريتها منذ قريب وأنت أعلم وما قلت".

النموذج الثاني: خرج عبد الصمد بن علي ومعه جماعة فبصر بأبي الحسن عليه السلام مقبلا راكباً بغلاً، فقال لمن معه: مكانكم حتى أضحككم من موسى بن جعفر، فلما دنا منه قال له: ما هذه الدابّة التي لا تدرك عليها الثأر، ولا تصلح عند النزال؟ فقال له أبو الحسن عليه السلام: "تطأطأت عن سموّ الخيل وتجاوزت قموء العير، وخير الاُمور أوسطها". فافحم عبد الصمد فما أحار جواباً.

النموذج الثالث: عن الحسن بن محمد: أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن عليه السلام فكان يسبّه إذا رآه ويشتم علياً عليه السلام. وقد لاحظنا حسن تعامل الإمام معه وكيف أدّى ذلك الى صلاح رؤيته وتعامله مع الإمام عليه السلام.

المجال العلمي

1- قال أبو يوسف للمهدي- وعنده موسى بن جعفر عليه السلام -: "تأذن لي أن أسأله عن مسائل ليس عنده فيها شيء؟ فقال له: نعم.فقال لموسى ابن جعفر عليه السلام أسألك ؟ قال: نعم.
قال: ما تقول في التظليل للمحرم؟ قال: لا يصلح. قال: فيضرب الخباء في الارض ويدخل البيت؟ قال: نعم.
قال: فماالفرق بين هذين؟ قال أبو الحسن عليه السلام: ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة؟ قال: لا. قال: فتقضي الصوم ؟ قال: نعم، قال: ولم؟ قال: هكذا جاء.
قال أبو الحسن عليه السلام: وهكذا جاء هذا.
فقال المهدي لابي يوسف: ما أراك صنعت شيئاً ؟ ! قال: رماني بحجر دامغ".

2- وكان أحمد بن حنبل يروي عن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه حتى يسنده الى النبي صلى الله عليه وآله ثم يقول: وهذا اسناد لو قرئ على مجنون أفاق".

3- وحجّ المهدي فصار في قبر ( قصر ) العبادي ضجّ الناس من العطش فأمر أن يحفر بئر فلمّا بدا قريباً من القرار هبّت عليهم ريح من البئر فوقعت الدلاء ومنعت من العمل فخرجت الفعلة خوفاً على أنفسهم. فأعطى علي بن يقطين لرجلين عطاءاً كثيراً ليحفرا فنزلا فأبطأ ثم خرجا مرعوبين قد ذهبت ألوانهما فسألهما عن الخبر. فقالا: إنا رأينا آثاراً وأثاثاً ورأينا رجالا ونساءً فكلما أومأنا الى شيء منهم صار هباءً، فصار المهدي يسأل عن ذلك ولا يعلمون. فقال موسى بن جعفر عليه السلام: "هؤلاء أصحاب الاحقاف غضب الله عليهم فساخت بهم ديارهم وأموالهم".

4- وعن هشام بن الحكم قال موسى بن جعفر عليه السلام لأبرهة النصراني: "كيف علمك بكتابك ؟ قال: أنا عالم به وبتأويله. فابتدأ موسى عليه السلام يقرأ الانجيل. فقال أبرهة: والمسيح لقد كان يقرأها هكذا، وما قرأ هكذا إلاّ المسيح وأنا كنت أطلبه منذ خمسين سنة، فأسلم على يديه".

5- وقال الشيخ المفيد: وقد روى الناس عن أبي الحسن عليه السلام فاكثروا، وكان أفقه أهل زمانه.. وأحفظهم لكتاب الله واحسنهم صوتاً بالقرآن.

6- أمر المهدي بتوسعة المسجد الحرام والجامع النبوي سنة ( 161 هـ ) فامتنع أرباب الدور المجاورين للجامعين من بيعها على الحكومة وقال فقهاء عصره بعدم جواز اجبارهم على ذلك فأشار عليه علي بن يقطين أن يسأل الإمام موسى بن جعفر عن ذلك فجاء جواب الإمام ما نصه بعد البسملة: "إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى ببنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها"، ولمّا انتهى الجواب الى المهدي أمر بهدم الدور واضافتها الى ساحة المسجدين.

7- طلب المهدي من الإمام الكاظم عليه السلام أن يستدل له على تحريم الخمر من كتاب الله تعالى قائلا له: "هل الخمر محرّمة في كتاب الله؟ فان الناس إنّما يعرفونها ولا يعرفون التحريم. فقال الإمام عليه السلام: بل هي محرمة في كتاب الله. فقال المهدي في أي موضع هي محرّمة ؟ فقال عليه السلام: قوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ... واستشهد على أن ( الاثم ) هي الخمرة بعينها بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ. فالاثم في كتاب الله هو الخمر والميسر واثمهما كبير، كما قال الله عزّ وجلّ". والتفت المهدي الى علي بن يقطين قائلا له: هذه والله فتوى هاشمية. فقال علي بن يقطين: صدقت والله يا أمير المؤمنين. الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت. فلذعه هذا الكلام فلم يملك صوابه فاندفع قائلا: صدقت يا رافضي".

الإمام الكاظم عليه السلام وبناء الجماعة الصالحة

كرّس الإمام الكاظم عليه السلام جهده لإكمال بناء الجماعة الصالحة التي يهدف من خلالها الى الحفاظ على الشريعة من الضياع ويطرح النموذج الصالح الذي يتولّى عملية التغيير والبناء في الاُمة، حيث مارس الإمام عليه السلام تحرّكاً مشهوداً في هذا المجال وقدّم للاُمة النموذج الصالح الذي صنعته مدرسة أهل البيت عليهم السلام.

أولاً: تركيز الانتماء لخط أهل البيت عليهم السلام

الانتماء السياسي: ركّز الإمام عليه السلام على بعد الانتماء لخطّ أهل البيت عليهم السلام ولا سيّما الانتماء السياسي لهم وتحرك الإمام على مستوى تجويز اندساس بعض أتباعه في جهاز السلطة الحاكمة، وأبرز مثال لذلك توظيف علي بن يقطين ووصوله الى مركز الوزارة; وذلك لتحقيق عدّة أهداف في هذه المرحلة السياسية الحرجة وهي كما يلي:

الهدف الأول: الإحاطة بالوضع السياسي
إنّ الاقتراب من أعلى موقع سياسي، من أجل الإحاطة بالمعلومات السياسية وغيرها التي تصدر من البلاط الحاكم أمر ضروري جدّاً وذلك ليتخذ التدابير والحيطة اللازمة لئلاّ يتعرّض الوجود الشيعي للإبادة أو الانهيار. والشاهد على ذلك: أنه لمّا عزم موسى الهادي على قتل الإمام موسى عليه السلام بعد ثورة الحسين- صاحب فخ- وتدخل أبو يوسف القاضي في تغيير رأي الهادي عندما قال له بأن موسى الكاظم عليه السلام لم يكن مذهبه الخروج ولا مذهب أحد من ولده حيث استطاع أبو يوسف أن يقنع الخليفة. هنا كتب علي بن يقطين الى أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام بصورة الأمر من أجل أن يكون الإمام على علم بنشاطاته وسترى في المرحلة التالية الدور الفاعل الذي لعبه علي بن يقطين في خلافة الرشيد لمصالح الإمام الكاظم عليه السلام والشيعة الموالين له.

الهدف الثاني: قضاء حوائج المؤمنين
إنّ قضاء حوائج المؤمنين بخطّ أهل البيت والذين يعيشون في ظل دولة ظالمة تطاردهم وتريد القضاء على وجودهم يشكّل هدفاً مهمّاً يصب في رافد بقاء واستمرار وجود هذه الجماعة الصالحة. وقد طلب علي بن يقطين من الإمام الكاظم عليه السلام التخلي عن منصبه أكثر من مرة، وقد نهاه الإمام عليه السلام قائلا له: "يا علي إنّ لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي". وقال له في مرة اُخرى: "لا تفعل فإن لنا بك اُنساً ولإخوانك بك عزّاً وعسى الله أن يجبر بك كسيراً أو يكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه. يا علي كفارة أعمالكم الاحسان الى اخوانكم.. اضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثاً، اضمن لي أن لا تلقى أحداً من أوليائنا إلاّ قضيت حاجته واكرمته أضمن لك أن لا يظلك سقف سجن أبداً ولا ينالك حد السيف أبداً ولا يدخل الفقر بيتك أبداً....

وعن علي بن طاهر الصوري: قال: ولّي علينا بعض كتاب يحيى بن خالد وكان عليَّ بقايا يطالبني بها وخفت من الزامي ايّاها خروجاً عن نعمتي، وقيل لي: انه ينتحل هذا المذهب، فخفت أن أمضي اليه فلا يكون كذلك، فأقع فيما لا أُحبّ.
فاجتمع رأيي على أني هربت الى الله تعالى، وحججت ولقيت مولاي الصابر- يعني موسى بن جعفر عليه السلام - فشكوت حالي اليه فاصحبني مكتوباً نسخته:
"بسم الله الرحمن الرحيم اعلم أنّ لله تحت عرشه ظلا لا يسكنه إلاّ من أسدى الى أخيه معروفاً، أو نفّس عنه كربة، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك، والسلام.
ومن مصاديق قضاء حوائج الاخوان المؤمنين: جباية الاموال جهراً وإرجاعها إليهم سراً.
عن علي بن يقطين قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام ما تقول في أعمال هؤلاء ؟
قال: "ان كنت لابدّ فاتق الله في أموال الشيعة".
قال الراوي: فأخبرني علي انه كان يجبيها من الشيعة علانية ويردّها عليهم في السرّ.

الهدف الثالث: التأثير في السياسة العامّة عليه السلام
استخدم الإمام آليات متقنة ومحكمة في نشاطه الاستخباري وتأمين الاتّصال السري مع علي بن يقطين أو غيره من الشيعة المندسين في مراكز النظام الحاكم، ولعل الهدف من هذا الاختراق ومسك مواقع متقدمة من السلطة إمّا للتأثير في السياسة العامة للسلطة أو لإنجاز أعمال سياسيّة أو فقهيّة لصالح الاُمّة من خلال قربه لهذه المواقع.
يحدّثنا اسماعيل بن سلام عن آليات هذا الارتباط وما يتضمّنه من نشاط في النصّ التالي:
قال اسماعيل بن سلام وابن حميد: بعث الينا علي بن يقطين فقال: اشتريا راحلتين، وتجنّبا الطريق. ودفع الينا أموالا وكتباً حتى توصلا ما معكما من المال والكتب الى أبي الحسن موسى عليه السلام ولا يعلم بكما أحد، قال: فأتيناالكوفة واشترينا راحلتين وتزوّدنا زاداً، وخرجنا نتجنّب الطريق حتى إذا صرنا ببطن الرّمة شدّدنا راحلتنا، ووضعنا لها العلف، وقعدنا نأكل فبينا نحن كذلك، إذ راكب قد أقبل ومعه شاكري، فلما قرب منّا فاذا هو أبوالحسن موسى عليه السلام فقمنا اليه وسلمنا عليه ودفعنا إليه الكتب وما كان معنا فأخرج من كمّه كتباً فناولنا ايّاها فقال: هذه جوابات كتبكم.

ثانياً: التثقيف السياسي

إنّ النشاط السياسي الذي يقوم به أصحاب الإمام عليه السلام في هذه المرحلة ولما يمتاز به من صعوبات كان يحتاج الى لون خاص من الوعي ودقة في الملاحظة وعمق في الايمان، ممّا دفع بالإمام عليه السلام الى أن يرعى ويشجع الخواص ويعمق في نفوسهم روح التديّن ويمنحهم سقفاً خاصاً من المستوى الايماني ويدفعهم الى اُفق سياسي يتحرّكون به ضد الخصوم بشكل سليم ويوفّر لهم قوة تمنحهم قدرة المواصلة وسموّ النفس.

وفي هذا المجال نلاحظ ما يلي:

1- شحّذ الإمام عليه السلام الهمم التي آمنت بالحق موضحاً أنّ الأمر لا يتعلق بكثرة الانصار أو قلتها. فعن سماعة بن مهران قال: قال لي العبد الصالح عليه السلام: "ياسماعة أمنوا على فرشهم، وأخافوني أما والله لقد كانت الدنيا وما فيها إلاّ واحد يعبد الله، ولو كان معه غيره لاضافه الله عزّ وجلّ اليه حيث يقول: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فصبر بذلك ماشاء الله. ثم إن الله آنسه باسماعيل واسحاق، فصاروا ثلاثة. أما والله إن المؤمن لقليل، وإنّ أهل الباطل لكثير أتدري لم ذلك ؟ فقلت: لا أدري جعلت فداك. فقال: صيّروا اُنساً للمؤمنين يبثّون اليهم ما في صدورهم، فيستريحون الى ذلك ويسكنون إليه".

2- لقد سعى الإمام عليه السلام لتربية شيعته على أساس تقوية أواصر الاخوة والمحبة الايمانية بحيث تصبح الجماعة الصالحة قوة اجتماعية متماسكة لا يمكن زعزعتها أو تضعيفها لقوة الترابط العقائدي والروحي فيما بينها. لنقرأ النص التالي معاً: سأل الإمام موسى عليه السلام يوماً أحد أصحابه قائلا له: "ياعاصم كيف أنتم في التواصل والتبارّ ؟ فقال: على أفضل ما كان عليه أحد. فقال عليه السلام: أيأتي أحدكم عند الضيقة منزل أخيه فلا يجده، فيأمر باخراج كيسه فيخرج فيفضّ ختمه فيأخذ من ذلك حاجته، فلا ينكر عليه؟! قال: لا، قال: لستم على ما أحب من التواصل والضيقة والفقر".


* أنظر مصادر الروايات في سيرة الإمام الكاظم (ع) من موسوعة أعلام الهداية .

2012-06-14