الرياء من (الأربعون حديثاً)
العلاقة مع الله
عن الصادق عليه السلام: "قال النبي صلى الله عليه وآله: إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل: اجعلوها في سجّين، إنه ليس إياي أراد بهاوفي الحديث القدسي: "يا ابن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي".
عدد الزوار: 140
عن الصادق عليه السلام: "قال النبي صلى الله عليه وآله: إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل: اجعلوها في سجّين، إنه ليس إياي أراد بها".
وفي الحديث القدسي: "يا ابن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي".
معنى الرياء
الرياء هو إظهار وإبراز شيء من الأعمال الصالحة أو الصفات الحميدة أو العقائد الحقة، للناس لأجل الحصول على منزلة في قلوبهم والاشتهار بينهم بالصلاح والاستقامة والتدين، من دون أن تكون هناك نية إلهية صحيحة.
فالرياء بناء على هذا التعريف يكون في أمور ثلاث: العقائد الحقة، والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة.
ويكون الرياء في هذه الأمور الثلاثة من جهتين:
الأولى: إظهار العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة من أجل الحصول على منزلة في القلوب.
الثانية: يبعد عن نفسه العقائد الباطلة والأخلاق السيئة والأعمال القبيحة لنفس الهدف.
وسنتعرض لهذه الأمور بشيء من التفصيل:
أولاً - الرياء في أصول العقائد:
إن الرياء في أصول العقائد والمعارف الإلهية أشد من جميع أنواع الرياء عذاباً وأسوأها عاقبة، وظلمته أشد من ظلمات جميع أنواع الرياء.
والمرائي إن كان في واقعه لا يعتقد بالأمر الذي يظهره فهو من المنافقين، ونتيجة ذلك ستكون الخلود في النار والهلاك الأبدي والعذاب أشد العذاب.
وأما إن كان يعتقد بما يظهره، ولكنه يظهره من أجل الحصول على منزلة قي قلوب الناس، فهو وإن لم يكن منافقاً إلا أن رياءه يؤدي إلى زوال نور الإيمان من قلبه ودخول ظلمة الكفر، وفعله هذا من الشرك الخفي، لأن هذه المعارف الإلهية لم تكن خالصة لله بل حولها المرائي إلى الناس، وهكذا وبشكل تدريجي سيصبح قلبه مختص بغير الله تعالى، فيخرج من هذه الدنيا بدون إيمان حقيقي، وقد جاء في الحديث الشريف: "كل رياء شرك".
وعن أبي عبد الله عليه السلام: "قال الله عز وجل: أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلا ما كان لي خالصاً".
الفرق بين العلم والإيمان
قد يحصل للإنسان علم بالله تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الثبوتية والجلالية السلبية، وكذلك يعلم بالملائكة والرسل والكتب ويوم القيامة. ولكنه في نفس الوقت ليس بمؤمناً!، وما أكثر هذا النوع من الناس.
ويمكننا أن نمثل بالشيطان، فهو رغم علمه بجميع هذه الأمور بقدر علمنا، ولكنه كافر غير مؤمن.
والسبب في ذلك أن الإيمان عمل قلبي، يتضمن التقبل والاستسلام الخضوع والاعتراف. فقد يحصل للإنسان علم في العقل بكل هذه المعاني دون أن يخضع ويستسلم لها في قلبه. ولنضرب مثالاً محسوساً لذلك:
أنتم قد أدركتم بعقولكم أن الميت لا يستطيع أن يضر أحداً، وأن جميع الأموات في العالم ليس لهم حس ولا حركة بقدر ذبابة، وأن جميع القوى الجسمانية والنفسانية قد فارقته، ولكن حيث أن القلب لم يتقبل هذا الأمر ولم يسلم أمره للعقل فإنكم لا تقدرون على مبيت ليلة مظلمة واحدة مع ميت!
وأما إذا سلّم القلب أمره للعقل وتقبل هذا الحكم منه، فلن يكون في هذا العمل - أي المبيت مع الميت - أي إشكال بالنسبة إليكم، كما أنه وبعد عدة مرات من الإقدام يصبح القلب مسلّماً، فلن يبقى عنده بعدها خوف من الميت.
ومن الممكن أن يبرهن إنسان بالدليل العقلي على وجود الخالق تعالى والتوحيد والمعاد وباقي العقائد الحقة، ولكن ذلك لا يسمى إيماناً، ولا يجعل الإنسان مؤمناً، فلعله من جملة الكفار أو المنافقين أو المشركين. فاليوم العيون مغشاة، والبصيرة الملكوتية غير موجودة، والعين الملكية لا تدرك ولكن عند كشف السرائر وظهور السلطة الإلهية الحقة، وخراب الطبيعة وانجلاء الحقيقة، سيعرف ويلتفت بأن الكثيرين لم يكونوا مؤمنين بالله حقاً، وأن حكم العقل لم يكن مرتبطاً بالإيمان، فما لم تكتب عبارة ﴿لا إله إلا الله﴾ بقلم العقل على لوح القلب الصافي لن يكون الإنسان مؤمناً بوحدانية الله تعالى.
وعندما ترد هذه العبارة النورانية إلى القلب، تصبح سلطة القلب لذات الحق تعالى، فيسلم أن لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى ولا ملك سواه، ولا يتوقع من شخص آخر جاهاً ولا تنزيهاً، ولا يبحث عن المنزلة والشهرة عند الآخرين. وبالتالي فلن يكون القلب مرائياً ولا مخادعاً.
فإذا رأيتم رياء في قلوبكم فاعلموا أن قلوبكم لم تسلم للعقل وأن الإيمان لم يقذف نوره فيها، وأنكم تحسبون في قلوبكم شخصاً آخر هو المؤثر في هذا العالم غير الحق تعالى فتكونون في زمرة المنافقين أو المشركين أو الكفار.
يبقى أن نشير إلى أن نور الإيمان إذا قوي حصل الاطمئنان في القلب، فالاطمئنان ليس هو العلم وإنما هو كمال الإيمان.
كيف نستأصل جذور الرياء
نذكر هنا أمراً نأمل أن يكون مؤثراً في علاج هذا المرض القلبي، وهذا الأمر قد أشارت إليه آيات من القرآن الكريم والعديد من الروايات ودلت عليه الأدلة العقلية واكتشفته القلوب البصيرة العارفة بالله تعالى. وهو:
إن الله تعالى قدرته محيطة بجميع الموجودات وسلطانه مبسوط على جميع الكائنات وقيمومته جارية على جميع المخلوقات، وقلوب الناس ليست مستثناة من ذلك، فالله تعالى هو القيّم والمسلّط والمحيط بقلوب الناس جميعاً.
ومادام تعالى هو القيم على قلوب الناس فلا يمكن للإنسان التصرف بها والتأثير فيها إلا بإذن الله تعالى، بل أن الإنسان غير قادر على التصرف حتى بقلبه هو بدون إذن من الله تعالى، وبهذا المعنى وردت كلمات إشارة وكناية وصراحة في القرآن الكريم وفي أخبار أهل البيت عليهم السلام.
إذا، فرياؤك وتملقك، إذا كانا لأجل جذب قلوب العباد ولفت نظرهم والحصول على المنزلة والتقدير في القلوب والاشتهار بالصلاح، فإن ذلك خارج عن تصرفك تماماً وهو تحت تصرف الله تعالى، فهو إله القلوب وصاحبها الذي يوجهها نحو من يشاء، بل من الممكن أن تحصل على نتيجة عكسية! وقد رأينا الكثير من الأشخاص المتملقين والمنافقين كيف افتضح أمرهم وبان زيفهم وحصلوا على عكس ما أرادوا الحصول عليه في نهاية الأمر!
وفي رواية عن أبي عبد الله عليه السلام يشرح قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾(الكهف:110)
قال عليه السلام: "الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله، إنما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمع به الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربه. ثم قال: ما من عبد أسرّ خيراً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهر الله له خيراً، وما من عبد أسرّ شراً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهر الله له شراً".
إذاً أيها العزيز، أطلب السمعة والذكر الحسن من الله، والتمس قلوب الناس من مالك القلوب، اعمل لله وحده وستجد أن الله تعالى بالإضافة إلى الكرامات والنعم الأخروية سيتفضل عليك في هذا العالم أيضاً بكرامات عديدة، فيجعلك محبوباً ويعظم مكانتك في القلوب ويجعلك مرفوع الرأس وجيهاً في كلتا الدارين.
ثم لو فرضنا أنك حصلت على قلوب الناس من خلال التملق والرياء، فماذا ستجني من حب الناس الضعاف لك، وما فائدة هذه الشهرة وهذا الصيت؟ وهم لا يملكون شيئاً من دون الله!
ثم لو فرضنا أن هناك فائدة من ذلك، فما هو مقدار هذه الفائدة وما هي قيمتها؟ إنما هي فائدة تافهة ولأيام معدودة، ومن الممكن أن يوصل الإنسان إلى الشرك والنفاق والكفر - لا سمح الله - وإن لم يفتضح في هذا العالم فسيفتضح في ذلك العالم في محضر العدل الرباني عند عباد الله الصالحين وأنبيائه العظام وملائكته المقربين ويهان ويصبح مسكيناً ذليلاً، إنها فضيحة وأي فضيحة ؟!إنه اليوم الذي يقول فيه الكافر ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾(النبأ:40)! فمقابل هذه المحبة البسيطة وعديمة الفائدة بين العباد، خسرت تلك الكرامات وفقدت رضا الله وعرّضت نفسك لغضبه تعالى.
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال النبي صلى الله عليه وآله: إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل: اجعلوها في سجّين، إنه ليس إياي أراد بها".
الله أعلم كيف ستكون صورة تلك الأعمال في سجين!
ثانياً: الرياء في الصفات الحميدة والأخلاق الحسنة
الرياء في هذا الأمر وإن لم يكن بخطورة الرياء في أصول العقائد، إلا أنه قد يفضي إلى الكفر أيضاً ويوصل إليه، وبالتالي ستكون نتيجته بخطورة نتيجة الرياء في أصول الاعتقاد.
لقد أوضحنا فيما سبق أن الناس وإن كانوا جميعاً لهم صورة إنسانية ظاهرية في هذه الدنيا إلا أنهم في عالم الملكوت ستظهر صورهم الحقيقية وقد تكون غير إنسانية، وهذه الصور تابعة لقلوبهم وصفاتهم التي يتصفون بها، فالملكات الفاضلة ستشكل للإنسان صورته الإنسانية عندما يحشر معها، ما لم تتصرف النفس الأمارة بالسوء فيها. فمرحلة القلب والصفات والملكات القلبية مهمة جداً.
وما يهمنا أن نركزّ عليه الآن هو أن الإنسان قادر على ترويض نفسه وإلباس قلبه أي ثوب أراد سواء كان ثوب الصفات الفاضلة أو ثوب الصفات الرذيلة، ويمكن أن يروض نفسه برياضة شرعية صحيحة أو رياضة باطلة زائفة.
ونسأل هنا هذا السؤال:
ما هو المعيار الذي نميّز من خلاله الرياضة الصحيحة الشرعية عن الرياضة الباطلة الزائفة؟
والجواب: عن هذا السؤال سهل وبسيط، يتلخص بكلمة "خطى النفس وخطى الحق" فالإنسان الذي يتحرك بخطى النفس وكانت رياضته من أجل الحصول على قوى النفس وقدرتها وتسلطها، فرياضته هذه باطلة وسلوكه سيوصله إلى سوء العاقبة، ومن أمثال هؤلاء تظهر الدعاوى الباطلة عادة.
أما إذا كان تحرك السالك بخطى الحق وكان باحثاً عن الله تعالى، فإن رياضته هذه حقّة وشرعية وسيأخذ الله تعالى بيده ويهديه كما تنص على ذلك الآية الشريفة ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ...﴾(العنكبوت:69) وستكون نتيجة عمله السعادة فتسقط عنه الأنا ويزول عنه الغرور والعجب.
ومن المعلوم أن خطوات الشخص الذي يعرض أخلاقه الحسنة وملكاته الفاضلة على الناس ليلفت أنظارهم إليه هي خطوات النفس، وهو بالتالي أناني معجب بنفسه وعابد لها. فإذا فتحت العيون البرزخية لترون أنفسكم سترون صورة غير إنسانية وإنما هي صورة أحد الشياطين مثلاً.
وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: "لا تسعني أرضي ولا سمائي، بل يسعني قلب عبدي المؤمن".
فليس هناك موجود يكون آية جمال المحبوب سوى قلب المؤمن، فالمتصرف في قلب المؤمن هو الله تعالى لا النفس، والمؤثر في وجوده هو المحبوب، فلا يكون قلب المؤمن متمرداً ولا تائهاً "قلب المؤمن بين إصبعي الرحمن يقلبه كيف يشاء".
خلق الله الإنسان لنفسه سبحانه
في الحديث القدسي: "يا ابن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي".
فالله تعالى اتخذ من قلبك منزلاً له، فأنت وقلبك من النواميس والحرمات الإلهية، والله تعالى غيور، فلا تهتك حرمته وناموسه إلى هذا الحد، ولا تدع الأيادي تمتد إلى حرمه وناموسه. احذر غيرة الله وإلا فضحك في هذا العالم بصورة لا تستطيع إصلاحها مهما حاولت.
أتهتك في قلبك وفي محضر الملائكة والأنبياء العظام ستر الناموس الإلهي وتقدم الأخلاق الفاضلة - التي تخلّق بها الأولياء إلى الحق - إلى غير الحق؟ وتمنح قلبك لخصم الحق؟
كن حذراً من الحق تعالى فإنه لن يكتفي بهتكك في الآخرة وفضحك أمام الأنبياء العظام والملائكة المقربين بل سيفضحك في هذا العالم أيضاً ويبتليك بفضيحة لا يمكن تلافيها!
إن الحق تعالى ستار ولكنه غيور أيضاً، إنه أرحم الراحمين ولكنه أشد المعاقبين أيضاً،يستر ما لم تتجاوز الحد، فقد يؤدي عملك إلى تغليب الغيرة على الستر.
فعد إلى الله فإنه رحيم وهو يبحث عن ذريعة لإفاضة الرحمة عليك، وإذا توجهت إليه فإنه يستر بغفرانه معاصيك وعيوبك الماضية ويجعلك صاحب فضيلة ويظهر فيك الأخلاق الكريمة ويجعلك مرآة لصفاته تعالى.
فيا أيها العزيز، أنت أعرف بنفسك فاختر إما هذا وإما ذاك، فالله غني عنا وعن كل المخلوقات إنه غني عن إخلاصنا وإخلاص كل الموجودات.
ثالثاً - الرياء في المناسك والعبادات:
إن هذا النوع من الرياء هو الأكثر وجوداً والأوسع شيوعاً بين عامة الناس، لأن الناس ليسوا من أهل النوعين الأولين عموماً حتى يدخل الشيطان من تلك الأبواب، ولكنبما أن معظم الناس متعبدين وهم من أهل العبادات والمناسك الظاهرية، فيحاول أن يتلاعب الشيطان بهم من خلال هذا الأمر. كما أن مكائد النفس في هذه المرحلة أكثر.
فعلى الذين يملكون هذا الجانب فقط، ولا زاد لهم سوى زاد الأعمال، عليهم أن يكونوا حذرين كل الحذر لئلا يفقدوا لا سمح الله زادهم ويضيعوا طريقهم ويصبحوا من أهل جهنم.
الرياء أمر دقيق وخفي
كثيراً ما يكون الشخص المرائي غافلاً عن كون الرياء قد تسرب إلى أعماله واستولى عليها، والسبب في ذلك يعود إلى أمرين:
الأول: إن مكائد الشيطان والنفس الأمارة من الدقة والخفاء، وصراط الإنسانية من الرهافة والظلمة إلى درجة لا يتنبه الإنسان إلى ما هو فيه إن لم يكن حذراً جداً.
الثاني: لما كان الإنسان مجبولاً على حب النفس فإن حجاب حب النفس يستر عنه معايب نفسه.
ولنذكر مثالاً على ذلك:
- إن طلب العلم ودراسة العلوم الدينية هي من الطاعات والعبادات المهمة، ولكن يمكن أن يتسلل الشيطان من خلال ذلك، فتجد الإنسان يرغب أن يتفرد في استيعاب معضلة علمية وحلها لدى محضر العلماء والرؤساء والفضلاء ويبتهج أكثر كلما كان توضيحه للمسألة العلمية أحسن، ولفت انتباه الحاضرين أكثر، وتراه يحب أن ينتصر على من يناظره. إنه يشعر بنوع من التفوق العلمي، وإذا اقترن ذلك بتأييد شخصية علمية لكان نور على نور!
إن هذا المسكين غافل عن أنه أحرز هنا موقعاً لدى الفضلاء والعلماء ولكنه سقط من عين ربهم وملكهم، وأن مصير عمله أصبح بأمر الحق المتعالي في سجين.
هذا الرياء الذي قد يمتزج بمعاصي أخرى أيضاً كفضح المؤمن وإيذاءه وإذلاله، وأحياناً التجرؤ على المؤمن وهتكه، وكل واحدة من هذه الأمور كافية لإدخال مرتكبها إلى جهنم.
فإذا اكتشفت أنك وقعت في الرياء تأتي النفس الأمارة لتلقي شباك كيدها فتقول: إن هدفي هو إعلان الحكم الشرعي وإظهار كلمة الحق وهو من أفضل الطاعات، وليس المقصود إظهار العلم وحب الظهور.
ولتبطل كيد نفسك اسألها:
لو كان زميلي المساوي لي في الدرجة العلمية هو الذي قال ذلك الحكم الشرعي وهو الذي حل تلك المعضلة العلمية وكنتِ أنتِ المغلوبة هنا، أكان على حد سواء عندكِ؟ إذن فاعلموا أنكم مراؤون وأن عملكم في سجين بحسب الرواية .
وهكذا سائر أعمالنا، فهي تحت تصرف الشيطان الملعون الذي ينزل في كل قلب كدر ملوث، ويحرق الأعمال الظاهرة والباطنة ويجعلنا من أهل النار عن طريق الأعمال الحسنة.
من علامات الرياء
في جملة وصايا النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: "ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحب أن يحمد في جميع أموره".
إن الرياء هو سيئة خفية تغيب حتى عن الإنسان نفسه، فيكون باطنه من أهل الرياء وهو يتوهم عمله خالصاً، ولهذا ذكروا للرياء علامات، وبواسطة العلامة يعرف الإنسان سريرته فيبادر لعلاجها.
والعلامة التي ذكرتها الرواية أن الإنسان يشاهد في نفسه عزوفاً عن العبادات عندما يكون لوحده، وإذا اشتغل بالعبادات في تلك الحالة يحس بالكلفة أو تكون مجرد عادة من دون توجه وإقبال، ولكن عندما يحضر في المساجد والمجامع وفي الأماكن العامة يؤدي تلك العبادة وظاهره مليء بالنشاط والسرور وحضور القلب ويميل إلى إطالة الركوع والسجود ويؤدي المستحبات أيضاً بشكل حسن...
على الإنسان أن يسأل نفسه عن سبب هذا التفاوت بين الحالتين؟ ربما تأتي النفس الأمارة لتزين له وتموّه عليه قائلة: يشتد النشاط في المسجد وفي الجماعة لأنها أكثر استحباباً وأعظم ثواباً فبسبب شدة الاستحباب وعظم الثواب يزداد اهتمامك بها. وعندما ترى أنك حتى خارج المسجد وفي صلاة الفرادى تفعل ذلك أمام الناس تأتي لتقول لك: يستحب أداء العمل أمام الناس بصورة حسنة لكي يقتدي به الآخرون ويرغبون بالدين! وهكذا تخدع النفس هذا الإنسان المسكين لتبعده عن المبادرة إلى العلاج.
إن النفس تظهر المعصية بصورة العبادة والتكبر والغرور على أنه ترويج للدين!
فيمكن للإنسان أن يسأل نفسه: إن الإتيان بالمستحبات في الخلوات مستحب فلماذا ترغب النفس بأدائها في العلن؟ لماذا تراه في ليالي القدر بين جموع الناس يبكي ويخشع ويصلي مائة ركعة ويقرأ دعاء الجوشن وأجزاء من القرآن المجيد دون أن يتلكأ أو يحس بالتعب؟ ولماذا يرغب بمدح الناس على كل عمل يعمله؟ فتجد أذنه متوجهة إلى ألسن الناس وقلبه عندهم، علّه يسمع كلمة: ما أشد تدين و التزام هذا الإنسان! إذا كان الله تعالى هو الهدف فما هذا الميل المفرط نحو الناس؟ انتبه فإن هذا الميل ليس بعيداً عن الرياء الخبيث، فاسعَ ما استطعت إلى إصلاح نفسك من أمثال تلك الميول ما دام الإصلاح ممكناً.
اختلاف مراتب الناس
إن لكل واحدة من الصفات التي يتصف بها الإنسان سواء كانت حسنة أو سيئة درجات ومراتب وكذلك الرياء فله درجاته ومراتبه، ويختلف قبحها من شخص لآخر، فلرب مرتبة تعتبر نقصاً عند أولياء الله تعالى والعرفاء بالله لا تعتبر نقصاً عند غيرهم بل قد تكون بمعنى من المعاني كمالاً بالنسبة إليهم وهكذا تكون حسنات فئة سيئات لفئة أخرى.
فالإخلاص في جميع مراتب الرياء هو من مختصات أولياء الله، والآخرون لا يشاركوهم في هذه المرتبة، واتصاف الناس بدرجة من الإخلاص ليس نقصاً لهم بحسب المقام الذي هم فيه، ولا يضر بإيمانهم وإخلاصهم، فمثلاً تميل نفوس عامة الناس بحسب الغريزة والفطرة إلى أن تظهر خيراتها أمام الناس وإن لم يقصدوا أن يظهروها، ولكن نفوسهم مفطورة على هذا الميل. وهذا ليس موجباً لبطلان العمل أو الشرك أو النفاق أو الكفر، وإن كانت هذه الحالة نفسها نقص عن الولي وشرك ونفاق بالنسبة للعارف بالله. ومرتبة الإخلاص في جميع المراتب والتنزه عن جميع أنواع الشرك هو أول مرتبة ومقام من مقامات الأولياء.
*الأخلاق من (الأربعون حديثاً)،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية،ط 2 ،2007م ،ص70-82