قصّة هجرة الرسول الأعظم (ص)
الهجرة النبوية
كان زعماء قريش ورؤساؤها يجتمعون عند كل نائبة تنوبهم في "دار الندوة" لحل المشاكل ومعالجة ما عرض لهم من نائبةٍ من خلال التشاور حولها وتداول الرأي فيها، ومن خلال تضافر الجهود على حلها، ورفعها أو دفعها.
عدد الزوار: 321
كان زعماء قريش ورؤساؤها يجتمعون عند كل نائبة تنوبهم في "دار الندوة" لحل المشاكل ومعالجة ما عرض لهم من نائبةٍ من خلال التشاور حولها وتداول الرأي فيها، ومن خلال تضافر الجهود على حلها، ورفعها أو دفعها.
وفي السنوات: الثانية عشرة، والثالثة عشرة من البعثة واجه أهل مكة خطراً كبيراً جدّياً، فقد حصل المسلمون على مركز هام، وقاعدة صلبة في يثرب، وتعهّد اليثربيون الشجعان بحماية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والدفاع عنه، وكلُّ هذا كان من علامات ومظاهر ذلك التهديد الخطير، الذي بات يهدد كيان المشركين والوثنيين والزعامة القرشية.
وفي شهر ربيع الأوّل من السنة الثالثة عشرة من البعثة التي وقعت فيه هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وبينما لم يكن قد بقي من المسلمين في مكة إِلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وعلي وأبو بكر وجماعة قليلة من المسلمين المحبوسين، أو المرضى، أو العجزة، وكان هؤلاء على أبواب الهجرة ومغادرة مكة الى المدينة اتخذت قريش فجأة قراراً قاطعاً وحاسماً وخطيراً جداً في هذا المجال.
فقد انعقدت جلسة هامة للتشاور في "دار الندوة" حضرها رؤساء قريش وزعماؤها وبدأ متكلمهم1 يتحدث عن تجمع القوى والعناصر الإسلامية وتمركزها في المدينة والبيعة التي تمت بين الخزرجيين والأوسيين وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ثم أضاف قائلاً: يا معشر قريش إِنه لم يكن أحد من العرب أعزَّ مِنّا، نحن أهل اللّه تفد إِلينا العرب في السنة مرتين، ويكرموننا، ونحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا "محمّد بن عبد اللّه" فكنّا نسميّه (الأمين) لصلاحه، وسكونه، وصدق لهجته، حتى إِذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادّعى أنه رسول اللّه، وأن أخبار السماء تأتيه، فسفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبّاننا، وفرق جماعتنا، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا، وقد رأيت فيه رأياً، رأيت أن ندسّ اليه رجلاً منّا ليقتله، فان طلبت بنو هاشم بدمه2 اعطيناهم عشر ديات.
فقال رجل مجهول حضر ذلك المجلس ووصف نفسه بانه نجدي: ما هذا برأي لأن قاتل محمّد مقتول لا محالة، فمن هذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؟ فانه اذا قُتِل محمّد تعصّب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة، وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على وجه الارض فيقع بينكم الحروب وتتفانوا.
فقال أبو البختري: نلقيه في بيت ونلقي اليه قوته حتى يأتيه ريبُ المنون.
فقال الشيخ النجديّ مرةً اُخرى: وهذا رأي أخبث من الآخر، لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فاذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم، واجتمعوا عليكم فاخرجوه.
فقال ثالث: نُخرجه من بلادنا ونتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا، أو قال نرحّل بعيراً صعباً ونوثّق محمّداً عليه كتافاً، ثم نضربُ البعير بأطراف الرماح فيوشَكُ أن يقطّعه بين الصخور والجبال إِرباً إِرباً.
فانبرى ذلك النجدي يخطّئ هذا الرأي أيضاً قائلاً: أرأيتم إِن خلص به البعير سالماً إِلى بعض الناس فأخذ بقلوبهم بسحر بيانه وطلاقة لسانه، فصبأ3 القوم اليه، واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلةً، فليسيرنّ حينئذ اليكم الكتائب والجيوش فلتهلكنّ كما هلكت أياد ومن كان قبلكم.
فتحيّروا وساد الصمت ذلك المجلس، وفجأة قال أبو جهل (وعلى رواية: قال ذلك الشيخ النجدي): ليس هناك من رأي إِلا أن تعمدوا الى قبائلكم فتختاروا من كل قبيلة منها رجلاً قوياً ثم تسلّحوه حساماً عضباً وليهجموا عليه معاً بالليل ويقطعوه إِرباً إِرباً فيتفرق دمه في قبائل قريش جميعاً فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلها في صاحبهم فيرضون حينئذ بالدية منهم!!
فاستحسن الجميعُ هذا الرأي، واتفقوا عليه، ثم اختاروا القتلة وتقرّر ان يقوموا بمهمتهم اذا جنّ الليل وساد الظلام كل مكان.4
الإمدادات الغيبية والعنايات الالهية
لقد كان اولئك العتاة الجهلة يتصورون أن رسالة محمّد صلّى اللّه عليه وآله المدعومة من قبل اللّه تعالى والمؤيّدة من جانبه سبحانه يمكن ان يقضى عليها بواسطة هذه الحيل والمكائد، والخطط والمؤامرات، ولم يكونوا يدركون أن هذا النبيّ- كغيره من الأنبياء- يتمتع بالمدد الالهيّ الغيبي، وان اليد التي حفظت مشعل الاسلام طوال ثلاثة عشر عاماً في وجه الاعاصير والرياح، قادرة على افشال هذه الخطة الاثيمة، وتعطيل هذه المؤامرة أيضاً.
يقول المفسرون: بعد أن دبّر الكفار ما دبروا نزل ملك الوحي "جبرئيل"، على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخبره بما حاك ضدّه المشركون من مؤامرة اذ قرأ عليه قول اللّه تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين﴾5.
وعندئذ اُمِر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالهجرة من مكة إِلى المدينة، ولكنّ التخلص من أيدي القساة المكلّفين بقتله من قبل زعماء الوثنيين وبالنظر الى المراقبة الدقيقة التي كانوا يقومون بها لجميع التحركات، لم يكن بالأمر السهل وخاصة بالنظر الى بُعد المسافة بين مكة والمدينة.
فاذا لم يكن رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله يخرج من مكة وفق خطة دقيقة صحيحة كان من المحتمل جداً أن يدركه المكيّون في أثناء الطريق ويقبضوا عليه ويسفكوا دمه الشريف قبل ان يصل الى أتباعه وأصحابه.
ولقد ذكر المفسرون والمؤرخون صوراً مختلفة لكيفية خروج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وهجرته، والاختلاف الذي نلاحظه بين هؤلاء المفسرين والمؤرخين في خصوصيات وتفاصيل هذه الواقعة مما يقل نظيره في غيره من الوقائع.
وقد استطاع مؤلف "السيرة الحلبية" أن يُوفّق الى درجةٍ ما، بين المنقولات والمرويات المختلفة ببيان خاص، ولكنه لم يوفّق لازالة التناقض والاختلاف في بعض الموارد في هذا الصعيد.
على أنّ الموضوع الجدير بالإهتمام هو أن اكثر المؤرّخين الشيعة والسنة نقل كيفية هجرة النبيّ، وخروجه من منزله، ثم من مكة بنحو مؤداه إِسناد نجاة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وخلاصه إِلى عامل الاعجاز، وبالتالي فقد اسبغوا عليه صبغة الكرامة، والمعجزة.
في حين أن الإمعان في تفاصيل هذه القصة يكشف عن أن نجاة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله كانت نتيجة سلسلة من الاجراءات الاحترازية، والتحسبات، والتدابير الحكيمة، وإن إِرادة اللّه تعالى تعلّقت بان ينجّي نبيّه الكريم، عن طريق الأسباب العادية المألوفة، وليس عن طريق التدخّل الغيبيّ وإِعمال قدرته تعالى الغيبية.
ويدل على هذا المطلب أنّ النبيّ توسل بالعِلل الطبيعية، والوسائل والأسباب العادية (كمبيت شخص في فراش النبيّ، واختفاء رسول اللّه في الغار وغير ذلك مما سيأتي ذكره)، وبهذا الطريق نجّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نفسه، وتخلّص من أيدي اعدائه، العازمين على إراقة دمه.
ملك الوحي يخبر رسول اللّه
لقد اخبر ملك الوحي "جبرئيل" رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بخطة قريش المشؤومة لاغتياله وامره بالهجرة، وتقرر- بغية إِفشال عملية الملاحقة- ان يبيت شخص في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ليتصوّر المشركون أنّ النبيّ لا يزال في منزله، ولم يخرج بعد، وبالتالي يركّزوا كلّ إِهتمامهم على محاصرة البيت، وينصرفوا عن مراقبة طرقات مكة، ونواحيها.
ولقد كانت فائدة هذا العمل أي حصر اهتمام المراقبين ببيت النبيّ انه تسنى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اغتنام الفرصة والخروج من مكة، والاختفاء في مكان ما من دون ان يحس به أحد من الذين باتوا يراقبون بيته، ويبغون قتله.
والآن يجب أن نرى من الذي تطوّع للمبيت في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وفدى النبيّ بنفسه، ووقاه بحياته؟
ستقولون حتماً: إِن الذي سبق جميع المسلمين الى الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويقي من بدء بعثته والى ذلك الحين يذب عنه، هو الذي يتعيّن أن يضحّي بنفسه في هذا السبيل، وبقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بحياته في هذه اللحظة الخطيرة، وهذا المضحّي بحياته ونفسه، هو "عليّ" ليس سواه احد، انه تقدير صحيح، وحدس مصيب. فليس غير "علي" يصلح لهذه المهمة الخطيرة.
ولهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لعليّ عليه السلام:"يا عليّ إِن قريشاً اجتمعت عَلى المكر بي وقتلي، وإِنّه اُوحيَ إِليّ عن ربّي أن اهجر دار قومي، فنَم على فراشي والتحف ببردي الحضرميّ لِتُخفي بمبيتك عليهم أثري فما أنت قائل وصانع؟؟ فقال علي عليه السلام: أوَتَسلَمَنَّ بِمَبِيتي هناك يا نبيَّ اللّه؟
قال: نعم، فتبسّم عليّ عليه السلام ضاحكاً مسروراً وأهوى إِلى الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من سلامته، فلما رفع رأسه قال للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله:إِمض لما اُمرتَ فِداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومُرني بما شئتَ اكن فيه كمسرّتك، واقع فيه بحيث مرادك، وإِن توفيقي إِلا باللّه.
ثم رقدَ عليّ عليه السلام على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله واشتمل ببرده الحضرمي الاخضر، ولما مضى شطر من الليل حاصرَ رصَد قريش- وهم اربعون رجلاً- بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقد جرّدوا سيوفهم، ينتظرون لحظة الهجوم على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ويتطلّعون إِلى داخل البيت من فرجة الباب بين الحين والآخر ليتأكدوا من بقاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في مضجعه، فيظنون أنّ النائمَ في الفراش هو النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.
وهنا أراد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أن يخرج من بيته.
فمن جانب يحاصر الأعداءُ بيته صلّى اللّه عليه وآله من كل جانب، ويراقبون كلّ شيء، ومن جانب آخر تعلّقت مشيئة اللّه تعالى وارادته القاهرة الغالبة أن ينجو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من ايدي تلك الزمرة المنحطة، فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سورة (يس) لمناسبة مطلعها لظروفه حتى بلغ الى قوله تعالى: "فهم لا يبصرون"6 وخرج من باب البيت دون ان يشعر به رصدُ قريش المكلّفون بقتله، وذهب الى المكان الذي كان من المقرر ان يختبئ فيه على النحو الذي سيأتي تفصيله.
وأما كيف استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ان يخترق الحصار البشري المشدّد الذي ضُرِبَ على بيته، ويتجاوز رصد قريش من غير ان يشعروا به فذلك غير معلوم جيداً.
إِلا أنه يستفاد من رواية نقلها المفسرُ الشيعيٌّ المعروفُ المرحومُ عليٌّ بن ابراهيم في تفسيره: قول اللّه تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ان رجال قريش كانوا نياماً ينتظرون الفجر عند خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ولم يكونوا يتصوّرون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد عرف بتدبيرهم ومؤامرتهم.
ولكن يصرّح غيره من المؤرّخين وكُتّاب السيرة7 بان المحاصرين لمنزل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله كانوا يقظين حتى لحظة الهجوم على بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله خرج من البيت عن طريق الاعجاز والكرامة من دون ان يروه ويحسوا به.
إِن امكان وقوع مثل هذه الكرامة ليس موضع شك، ولكن هل كان هناك ما يوجب ذلك؟؟
ان دراسة قصة الهجرة بصورة كاملة تجعل هذه المسألة أمراً قطعياً وهي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله كان عارفاً بمؤامرة القوم قبل محاصرة بيته، وكان قد دبّر ورسم لنجاته خطةً طبيعيةً عاديةً، ولم يكن في الأمر أي اعجاز.
ولقد كان يريد صلّى اللّه عليه وآله باضجاع علي عليه السلام في فراشه أن ينجو بنفسه من أيدي المشركين من الطرق العادية والقنوات الطبيعية من غير الاستعانة بالاعجاز والكرامة.
وعلى هذا كان في مقدور النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ان يتحسب لمسألة المحاصرة والطوق الذي كان سيُضرَب على بيته من أوائل الليل، وذلك بمغادرة بيته قبل المحاصرة وقبل الغروب.
ولكن يمكن ان يكون لتوقف النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في البيت حتى ساعة المحاصرة علة لا نعرفها الآن.
من هنا يكون إِدّعاء هذا الموضوع "وهو خروج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله من البيت في الليل) غير مقطوع به لدى الجميع لاعتقاد البعض بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله غادر منزله قبل فرض الحصار عليه، وقبل غروب الشمس".8
1- وروي انه كان المتكلم: أبو جهل.
2- وفي رواية: بديته.
3- صبأ فلان: أي خرج من دينٍ إلى دين غيره وكانت العرب تسمّي النبيّ صلّى اللّه عليه وآله الصابئ لأنه خرج من دين قريش إِلى دين الاسلام وتسمي المسلمين: الصباة. وهو جمع الصابئ.
4- الطبقات الكبرى: ج 1 ص 227 و228، السيرة النبوية: ج 1 ص 480- 482.
5- الانفال: 30، ليثبتوك أي ليسجنوك.
6- يس: 9.
7- الطبقات الكبرى: ج 1 ص 228، تاريخ الطبري: ج 2 ص 100.
8- السيرة الحلبية: ج 2 ص 29.