يتم التحميل...

أهداف المأمون من البيعة ومبررات القبول

شهادة الإمام الرضا(ع)

في ظل وضع المأمون السياسي المتدهور في كل الأطراف الإسلامية أكره الإمام وألجأه للمجيء إليه كان لا بدّ لنا أن نعرف بالحدس أو التنقيب ما هي الأهداف التي توخّاها المأمون من جعل الإمام خليفة أو وليّاً للعهد.

عدد الزوار: 322

في ظل وضع المأمون السياسي المتدهور في كل الأطراف الإسلامية أكره الإمام وألجأه للمجيء إليه كان لا بدّ لنا أن نعرف بالحدس أو التنقيب ما هي الأهداف التي توخّاها المأمون من جعل الإمام خليفة أو وليّاً للعهد.

الهدف الأول: أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من جانب هذه الشخصية العظيمة التي أجمع العدو والصديق على احترامها لأنّها كانت رمزاً للعلويين الذين يقومون بإشعال الثورة في كل بلد ولم يكن أحد يستغني عن علوم الإمام فيما لو أصبح أميراً إذاً سيكون للإمام اليد الطولى في تسيير دفة الحكم ولو لم يكن ثائراً، ولربما دعا الإمام الناس بعد هذا إلى نفسه وهو أحقّ الناس بهذا الأمر وهذا الذي كان يقض مضجع المأمون فجاء به ليجعله وليّ عهده فأي عمل يقوم به بعد ذلك يعتبره الناس أنّه نكران للجميل، ويستطيع المأمون حينئذٍ بأساليبه ودعاياته المضللة أن يشوّه أي حركة يقوم بها الإمام وبالأخص حينما يكون قريباً منه. وقد أشار المأمون إلى ذلك بأنّه: خشي إن ترك الإمام أن يتفتق عليه ما لا يسدّه، ويأتي عليه منه ما لا يطيقه.

الهدف الثاني: أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة من الداخل والخارج ولا يستبعد أنّ زواج بنت المأمون من الرضا التي يكبرها بأربعين سنة ما هو إلاّ محاولة جادّة لإحصاء تحرّكات الإمام من حيث لا يشعر.

ولقد كان المأمون يبعث للإمام بالوصائف مع أنّه زوج ابنته وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ أنّ المأمون خاف من أن يكون الرضا قد ملك قلب ابنته فلم تعد تنقل أخباره خوفاً من الله فكان يتفق مع الجارية المعلمة الجميلة لتنقل إليه خبر الإمام حرفياً.

ولم يكتف بكل ذلك فإنّه وضع على الإمام عيوناً آخرين يضبطون عليه كل كلمة وكل تصرّف وتحرّك.

فقد كان هشام بن إبراهيم الراشدي من أخصّ الناس عند الرضا (عليه السلام) وكانت أمور الرضا تجري من عنده وعلى يده ولكنه لما حمل إلى (مرو) اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين والمأمون فحظي بذلك عندهما وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره فولاّه المأمون حجابة الرضا وكان لا يصل إلى الرضا إلاّ من أحب. وضيق على الرضا فكان من يقصده من مواليه لا يصل إليه وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلاّ أورده هشام على المأمون وذي الرئاستين.

وعن أبي الصلت أنّ الرضا كان يناظر العلماء فيغلبهم فكان الناس يقولون: والله إنّه أولى بالخلافة من المأمون فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه.

وكان جعفر بن محمد بن الأشعث يطلب من الإمام (عليه السلام) أن يحرق كتبه إذا قرأها مخافة أن تقع في يد غيره ويطمئنه الإمام بذلك فيهدأ.

الهدف الثالث: أن يجعل الإمام قريباً منه ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية ويبعد الناس عنه حتى لا تؤثّر فيهم شخصيته الكبيرة والأهم أنه يريد عزل الإمام عن شيعته ومواليه ويقطع صلاته بهم بحيث ينقطع هذا الحبل الطويل وبذلك يتقلص الظل العلوي حتى ينعدم نهائياً من قلوب المؤمنين.

وقد ذكرنا في الهدف الثاني أنّه كان هشام بن إبراهيم الراشدي لا يوصل إلى الإمام إلاّ من أحبّ.

والرضا (عليه السلام) ذكر هذا المعنى في رسالته إلى أحمد بن محمد البيزنطي يقول: وأمّا ما طلبت من الإذن عليّ فإن الدخول إليّ صعب وهؤلاء قد ضيّقوا عليّ في ذلك الآن فلست تقدر الآن وسيكون إن شاء الله.

كما أننا نرى أنّه عندما وصل إلى القادسية وهو في طريقه إلى مرو يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (اكر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج فإنّه أستر عليك). ولا يستبعد أن يكون عزل الإمام هو سبب إرجاعه مرتين عن صلاة العيد، وللسبب نفسه، أيضاً فرّق عنه تلامذته عندما أخبر أنّه يقوم بمهمة التدريس.

الهدف الرابع: إنّ المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجنّاً يتقي به سخط الناس على بني العباس ويحوط نفسه من نقمة الجمهور يريد أيضاً أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه، ويوظّف ذلك في صالحه إنّه يهدف من وراء اللعبة أن يجبر قاعدة الإمام الشعبية الهائلة لصالح دولته فيريد أن يجعله وليّاً للعهد ليقول لهؤلاء هذا إنسان عادل وطاهر ويحب أهل البيت عليهم السلام فيصبح له في قلوبهم عاطفة ومحبة وفي النهاية عندما تنمو هذه المحبة يستريح من الرضا بواسطة خفية ويحافظ على هذه المكتسبات.

يقول الدكتور الشيبي وهو يتحدث عن الرضا: أنّ المأمون جعله وليّ عهده لمحاولة تأليف قلوب الناس ضد قومه العباسيين الذين حاربوه ونصروا أخاه ويقول: قد كان للرضا من قوة الشخصية وسموّ المكانة أن التف حوله المرجئة وأهل الحديث والزيدية ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.

وكذلك يقول: إنّ الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم وإنّما مرّ بنا أنّ الناس حتى أهل السنّة والزيدية وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة قد اجتمعت على إمامته واتباعه والالتفاف حوله. وقد اعترف المأمون بأنّه الأرضى في الخاصة والعامة، وأنّ كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب حتى أنّ البيعة له بولاية العهد لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنّه كان من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول للمأمون في حقّه: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد من دون اللهّ).
وقد ذكر المأمون في رسالته للعباسيين (.. وإن تزعموا أنّي أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة – يعني العلويين – فإنّي في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم..).

الهدف الخامس: نستطيع أن نقول إنّه يريد أن يقوي دعائم حكمه حيث أصبح الحكم بعد ولاية العهد يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا.

ولقد كان الحكم بحاجة إلى شخصية من هذا القبيل بدل الشخصيات العلمية المهزوزة التي فشلت في المقارع الكلامية مع الآخرين من أهل المذاهب الأخرى. إنّ الحكم بحاجة إلى العلماء الأكفاء والأحرار في تقليدهم لا العلماء الجامدين والمهزوزين، ولذا رأينا الحكم يستبدل أهل الحديث بأهل الكلام فيقرب المعتزلة كبشر المريسي وأبي الهذيل العلاف وأحزابهما ولكن الشخصية العلمية التي لا يشك أحد في تفوقها هي شخصية الإمام الرضا باعتراف المأمون كما بيّنا ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من أي شخصية أخرى.

الهدف السادس: إنّه يريد أن يحمي الدولة من الانهيار بعد أن وصل إلى درجة من الانحلال والابتعاد عنه وكيف يثق الناس به وقد قتل أخاه من أجل الملك وقضى على كثير من القادة فرأى لكي يسترد الحكم عافيته ويعود له دوره أن يموّه على الأمة مرة من الزمن بإرجاع الحق إلى صاحبه ونشر لواء العدل من طريقه فيهدأ للأمة بال ويقرّ لها قرار وعندئذٍ سوف يعود إلى طبيعة عمله الظالم وسلوكه اللئيم الغاشم كأسلافه حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل.

وتأمل معي ما ورد من أنّ المأمون بعد ولاية العهد كتب إلى الجبّار بن سعد المساحقي عامله على المدينة أن أخطب الناس وأدعهم إلى بيعة الرضا فقام خطيباً فقال: يا أيها الناس! هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ستة أباؤهم ما هم! هم أفضل من يشرب صوب الغمام...

وقد أكّد ذلك بحسن اختياره إذ اختار هذه الشخصية التي تمثّل أمل الأمّة ورجائها في حاضرها ومستقبلها. وتكون النتيجة أنّه قد حصل على حماية لكل تصرّف من تصرفاته مهما كان غريباً وبعيداً عن منطق العدل والدين.

الهدف السابع: لقد كان من نتائج اختياره الإمام والبيعة له لولاية العهد التي كان يتوقعها، أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأقطار، ولعلّه لم تقم أي ثورة علوية ضد المأمون بعد بيعة الرضا سوى ثورة عبد الرحمن بن أحمد في اليمن وكان سببها – باتفاق المؤرخين – هو ظلم الولاة وجورهم وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه ويمكن لنا أن نقول أيضاً فإنّه لم يخمد ثوراتهم فحسب بل حصل على ثقة كثير منهم ومن شايعهم ووالاهم ويقول المأمون في رسالته التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى: (ما أظن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعدما عملته بالرضا). ولقد كان قسم كبير من الشيعة لم يبايعوه قد دانوا له بالطاعة بعدئذٍ.

الهدف الثامن: يريد بالبيعة الحصول على اعتراف العلويين بشرعية خلافته ليمكّن دعائمها علي أعلى مستوى من الاعتراف ولقد صرّح المأمون بذلك حيث قال: فأردنا أن نجعله ولي عهدنا ليكون دعاؤه لنا وليعترف بالملك والخلافة لنا.

مبررات قبول الإمام لولاية العهد

ولقد قبل الإمام ولاية العهد ولكن بعد أن عرف أنّ ثمن رفضه لها لن يكون غير نفسه التي بين جنبيه هذا عدا عمّا سوف يتبع ذلك من تعرّض العلويين وكل من تشيّع لهم إلى أخطار هم في غنى عنها، ولو فرض أنّه كان له عليه السلام الحقّ في مثل هذه الظروف في أن يعرّض غيره من شيعته ومحبّيه والعلويين أجمع إلى الهلاك أيضاً.

هذا، عدا عن أنّه عليه السلام كان عليه أن يحتفظ بحياته وحياة شيعته ومحبّيه لأنّ الأمّة كانت بأمسّ الحاجة إلى وعيهم وإدراكهم ليكونوا لها قدوة ومناراً تهتدي وتقتدي به في حالكات المشاكل وظلم الشبهات.

نعم لقد كانت الأمّة بأمسّ الحاجة إلى الإمام عليه السلام وإلى من ربّاهم الإمام حيث كان قد غزاها في ذلك الوقت تيار فكري وثقافي غريب من الزندقة والإلحاد، وشاعت فيها الفلسفات والتشكيكات بالمبادئ الإلهية الحقّة، فكان على الإمام عليه السلام أن يقف ويقوم بواجبه وينقذ الأمّة، ولقد كان ذلك منه بالفعل، فلقد قام بواجبه وأدّى ما عليه على أكمل وجه رغم قصر المدّة التي عاشها بعد البيعة نسبياً ولهذا نقرأ في الزيارة الجوادية: (السلام على من كسرت له وسادة والده أمير المؤمنين حتى خصم أهل الكتاب وثبت قواعد الدين). والمراد بذلك الإمام الرضا عليه السلام.

ولو أنّه رفض ولاية العهد وعرض نفسه وشيعته ومحبّيه للهلاك فلسوف لا يكون لموته وموتهم أدني أثر في هذا السبيل بل كان الأثر عكسياً وخطيراً جداً. أضف إلى ذلك: أنّ قبول الإمام بولاية العهد معناه اعتراف من العباسيين عملاً مضافاً إلى القول بأنّ العلويين لهم حقّ في هذا الأمر بل إنّهم الأحقّ فيه وأن الناس قد ظلموهم حقّهم هذا وإن ظلم الناس لهم ليس معناه عدم ثبوت ذلك الحقّ لهم.

وقد رأينا ابن المعتز يهتم في الاستدلال على أن جعل المأمون الرضا وليّاً لعهده لا يعني أنّ الحقّ في الخلافة كان للرضا والعلويين دون المأمون والعباسيين، وأنّه إنّما أعطاهم عن طريق التقوى والورع وليثبت لهم أنّ الخلافة التي ثاروا من أجل الوصول إليها وقتلوا أنفسهم في سبيلها لا تساوي عنده جناح بعوضة فهو يقول:
وأعطاكـــم المــــــأمون حقّ خلافةٍ ** لنا حقــــــها لكــــــنه جــــاد بالدنيا
ليعلمكم أن الــــذي قــــد حـــرصتم ** كما ينبغي للصالــحين ذوي التقوى
فمات الرضا من بــــعد ما قد علمتم ** ولاذت بنا من بعــــده مــرة أخرى


وأيضاً حتى لا يتناساهم الناس ويقطعوا آمالهم بهم وحتى لا يصدق الناس ما يشاع عنهم من أنّهم مجرّد علماء فقهاء لا يهمهم العمل لما فيه خير الأمّة. ولا يفكّرون في الخروج إلى المجتمع بصفتهم روّاد صلاح وإصلاح ولعلّ إلى ذلك يشير الإمام (عليه السلام) في قوله لمحمد بن عرفة عندما سأله عن قبوله بولاية العهد، فقال له: يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟ فأجابه الإمام عليه السلام: (ما حمل جدّي على الدخول في الشورى)؟ هذا بالإضافة إلى أنّه يكون في فترة ولاية العهد قد أظهر المأمون على حقيقته أمام الملأ وعرّفهم بواقع وأهداف كل ما أقدم عليه وأزال كل شبهة وليس في ذلك كما قد حدث ذلك بالفعل.


* هذه الأهداف الثمانية أخذت من حياة الإمام الرضا لجعفر مرتضى.

2012-01-10