عوامل الانحسار في تأثير التعاليم الدينية
مواعظ حسنة
إن معرفة مثل هذه الأمور في غاية الضرورة، فلا يمكن اكتشاف الدواء دون معرفة الداء، وما لم نعرف الأسباب التي تؤدي إلى تراجع تأثير الدين في النفوس لا يمكننا الاستفادة من بركة الإسلام والتزود من نبعه الصافي.
عدد الزوار: 93
قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُون﴾. الأنبياء: 34.
حديثنا حول انحسار تأثير التعاليم الدينية في النفوس والعوامل التي تقف وراء ذلك.
إن معرفة مثل هذه الأمور في غاية الضرورة، فلا يمكن اكتشاف الدواء دون معرفة الداء، وما لم نعرف الأسباب التي تؤدي إلى تراجع تأثير الدين في النفوس لا يمكننا الاستفادة من بركة الإسلام والتزود من نبعه الصافي.
كلنا يعرف أن من أهم الظواهر التي لفتت أنظار الباحثين والمؤرخين وأثارت إعجابهم هو انتشار الإسلام بتلك السرعة المذهلة في العصر الأول من ظهوره.
فلقد أحدث الدين الجديد ثورة في النفوس وغطى مساحة واسعة من الأرض في مدة زمنية وجيزة، وبلغ من عمق تأثيره حداً جعله ثابتاً رغم كل الحوادث والتقلبات التي أعقبت رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه واله ولقد سجل القرآن الكريم هذه الظاهرة في سورة النصر:﴿ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾.
ولكن شيئاً فشيئاً تراجع تأثير الدين في النفوس وبدأ يتقهقر يوماً بعد آخر، ولو قارنا ذلك مع الوضع في الوقت الحاضر لكان الفرق ما بين الثرى والثريا، وهذه الظاهرة تثير التساؤل:
ترى ما هو السبب في ذلك؟
قد يظن البعض متوهماً بأن عصر الدين قد ولى وأن روح ذلك العصر كانت توجب على الناس الانقياد والانصياع لتعليمات الدين، أما العصر الحاضر فله روحه التي توجب التحرر من الدين والإيمان بشيء آخر.
إن هذا الكلام يقنع أولئك الذين ينظرون إلى الدين كوسيلة حياتية يمكن استبدالها بوسيلة أخرى أكثر تطوراً؛ غير أن الدين هو جوهر الحياة نفسها لا وسيلة من وسائلها يمكن استبدالها بأخرى.
لقد أثبت كبار العلماء الذين تعمقوا في دراسة الطبيعة البشرية والروح الاجتماعية بأن الدين جزءً لا يتجزأ من طبيعة الإنسان.
هناك بعض (المتدينين) يعتقدون بأن السبب في انحسار التأثير الديني يعود إلى أن الدين يقف حائلاً دون استمتاع الناس بالملذات، وفي هذا العصر المليء بالشهوات، من الطبيعي أن يعرض الناس عن الدين، أما في عهد الرسول حيث الشهوات والملذات معدومة أو غير متوفرة فمن البديهي أن يندفع الناس نحو الدين ويدخلون في دين الله أفواجاً، أما في الوقت الحاضر فالعكس هو الحاصل حيث نرى الناس يخرجون من دين الله أفواجاً!
إن مثل هذا التفكير لا يحتاج إلى إثبات مجانبته للصواب، ونحن لا ننكر دور الشهوة في استغفال الإنسان عن الله وبث روح اللامبالاة في نفسه تجاه الواجب الذي عينه الله سبحانه. ولكن الاعتقاد بأن الدين يقف في مواجهة الشهوات والملذات أمر غير صحيح.
إن الدين يعارض بعض الميول والرغبات وينسجم مع بعض الميول الأخرى، فهو يقيد هنا ويسمح هناك.
ولكن الدين ليس ملجأ المحرومين الذين رفضتهم الحياة، فلجأوا إلى الدين كمسكن لآلامهم، و السبب يعود إلى عوامل أخرى؛ وقبل الخوض في هذا البحث أود أن أمهد له بمقدمة، وهي أن القرآن كثيراً ما يردد مسألة الحجب التي تغلف القلوب والأرواح، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا). الإسراء/ 45.
﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾. الإسراء/46.
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا﴾. الكهف/ 57.
إن القلب، وبسبب بعض الجرائم التي يرتكبها المرء، يفقد رقته وخشوعه تجاه الحق، وعندها لا تنفع معه المواعظ والنصائح، فإذا استمر الإنسان في ارتكاب الآثام والذنوب والمعاصي فإن حالة القسوة تسود القلب، وقد يحول التعصب دون قبول الإنسان الحقيقة والتسليم لها، وبذا يحول حجاب العصبية دون نفوذ الحقيقة إلى داخل القلب.
وهكذا تتراكم مثل هذه الحالات على القلب فتزداد الحجب ويعيش الإنسان في ظلمة حالكة محروماً من نور الحقيقة.
لقد أثارت قريش بعض الإشكالات في وجه النبي إحداها: كيف يكون نبياً وهو يأكل الطعام كسائر الناس؟ أو يمشي في الأسواق؟ بل كيف يكون نبياً وهو بشر مثلنا. لقد كانوا يثيرون هذه المسائل وهم يعتبرون أنفسهم أبناء إبراهيم وأتباع إبراهيم.. إبراهيم النبي الذي بشر بالحقيقة، لقد تحول إبراهيم في أوهامهم إلى مخلوق أسمى من البشر يعيش في عالم السماء وخلف الغيوم. وكانوا يتوقعون أن يكون محمد يشبه إبراهيم في أوهامهم، غافلين عن حقيقة إبراهيم الذي هو أسمى بكثير مما نسجته خيالاتهم.
لقد كانت تصوراتهم الباطلة حجباً منعتهم من رؤية الحقيقة. ان الإنسان الجاهل محروم من إدراك الحقيقة، حيث يبقى بعيداً عنها يعيش في عالم من الوهم والخيال.
بعبارة أخرى إن بعض الناس يحب الرؤية ومشاهدة الأمور عن قرب، والبعض الآخر على العكس يحب أن يرى من بعيد، فالفريق الأول يتفحص في عمله ويبحث عن القرائن والأدلة، فيما ينسج الفريق الآخر أوهامه وخيالاته ويمنحها جزافاً لكي تبدو الصورة في أذهانهم عظيمة مبهمة تستعصي على الإدراك.
فقد نجد أن البعض من الناس يحبون القرآن ولكنهم لا يودون التأمل في معجزاته والتدبر في آياته. يعتبرون عظمته في بقائه خلف الغيوم قائلين: إن القرآن غير قابل للفهم وإنه لا يحق لأحد التأمل في القرآن ما عدا الأئمة الأطهار عليهم السلام ، إن مثل هذه الأفكار هي في الواقع (حركة في عمق الظلام) أو طبيعة (خفاشية) إذا صح التعبير.
قال تعالى: ﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾. الأنعام/ 122.
إن نور العلم والبصيرة والعقل سراج يضيء الطريق أمام السائرين في دروب الحقيقة، في حين أن الجهل ليس إلا ظلمة حالكة تمنع الإنسان من رؤية الحقيقة، فتبدو الأشباح في نظره هي الحقائق.
إن الأئمة الأطهار عليهم السلام هم أنفسهم يدعون إلى التأمل والتدبر في آيات القرآن قائلين: اعرضوا أحاديثنا على القرآن فما وافق القرآن فخذوه وما تعارض مع القرآن فارفضوه. القرآن هو المقياس وهو أساس المقارنة في صحة وبطلان الأشياء، وهو المنظار الذي نفهم من خلاله الحقيقة. ولقد كان القرآن وما يزال جنة تحمي المتدبر فيه من الانحراف. قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ﴾ /الإسراء: 45.
فكيف يحق لمن عاش في صدر الإسلام حق التدبر ولا يحق لنا إلا التلاوة؟
وإذا كانت نظرتنا إلى الرسول كنظرة أهل الجاهلية إلى إبراهيم عليه السلام الذي جعلته الأوهام يعيش في عالم من الخيال فإننا سنحرم من الاقتداء برسول الله صلى الله عليه واله في حين يطلب منا القرآن الاقتداء به والسير على خطاه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾. الأحزاب/ 21.
فإذا وضعنا بيننا وبين نبينا جداراً كجدار الصين فإننا سوف نعجز عن تمثل سيرته وأن نكون من أتباعه والسائرين في دربه.
لقد كانت بشرية الرسول هي التي وهبته مقام النبوة وهي التي جعلته يسمو على الملائكة.
يتساءل القرآن: إذا كان من المفروض أن نرسل الملائكة أنبياء فإن الضرورة تقتضي إرسالهم على هيئة بشر لكي يكونوا مقياساً للناس ونموذجاً لهم.
أما أن يجعل المرء نفسه مقياساً للآخرين فهذا هو الخطأ، فهناك من بين البشر أناس قطعوا شوطاً بعيداً في عالم الفكر والسمو الروحي، وعلى المرء ألا يكون كتلك الببغاء التي وردت قصتها في حكايات مولوي الشعرية: شاعر إيراني
حكوا أن عطاراً كان لديه ببغاء يستأنس بصوتها وحديثها، وكانت الببغاء تنوب عن العطار في عمله إذا غاب. وذات يوم، وبعد أن ذهب العطار، ظهر جرذ في الدكان؛ وفي الحال قفزت القطة للإمساك به فذعرت الببغاء وراحت تقفز هنا وهناك فأسقطت جرار الزيت؛ فلما جاء العطار وشاهد ما حل بالزيت ضرب رأس الببغاء ونتف ريشها فاستاءت الببغاء وأعرضت عن الحديث والكلام غماً وحزناً، ولم تنفع أساليب العطار على حمل الببغاء على الكلام، فندم على فعله وراح يمعن الفكر في طريقة تجعل الببغاء تعود إلى سابق عهدها من الحديث. وذات يوم مر أحد الدراويش فلما وقعت عين الببغاء عليه، وشاهدت رأسه الخالي من الشعر انطلقت تقول: ماذا حل بك أيها الدرويش لعلك أوقعت جرار الزيت مثلي.
لقد ظنت الببغاء أن الدرويش لابد وأن أراق الزيت، فكان جزاؤه ذلك. وعندما سمع العطار ذلك ضحك من قياسها ونظرها إلى الأمور.
فرق كبير بين أن نقيس الأمور بهذا المقياس الأحمق، وبين أن نتخذ من الأنبياء قدوة ونجعلهم أسوة. قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه... ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد".
إذن فإن انحسار التأثير الديني في النفوس هو أن الناس يجعلون بينهم وبين القرآن والرسول حجباً وجدراناً من الجهل والوهم تمنع من نفوذ الحقيقة إلى أرواحهم.
ومن أعراض هذه الحالة هو ابتعاد الناس عن تأمل الحقائق عن كثب، ورغبتهم في رؤية الأشياء من بعد حيث ينسج خيالهم صورة مغايرة عن الحقيقة ويعود السبب في ذلك إلى نفوذ الهوى وتمكنه من النفوس ورغبة الإنسان في رؤية الأشياء وفق ما تشتهيه النفس ولذا فإنه يجد الحقيقة مرة إذا تعارضت مع أهوائه.
قال الشاعر:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقال آخر:
أماني أن تحصل تكن غاية المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
قد تكون الحقيقة مرة ولكن الخيال حلو دائماً. إن الإنسان الذي ينقاد إلى هواء لابد وأن ينفر من الحقيقة ويعتبر منظرها كريهاً. غير أن العقل لا يمكنه السير وفق ما يراه الهوى فله منطقه الخاص به تماماً مثل المسألة الرياضية، إذ لا يمكن حلها وفق أهوائنا، فالمعادلة الرياضية تحل وفق منطق دقيق في الحساب 1.
1-الحكم والمواعظ / الشهيد مطهري ص180_184.
2011-12-05