الموت نافذة إلى حياة جديدة
الموت والبرزخ
الموت آخر مرحلة من مراحل الحياة الدنيوية، وأوّل مرحلة من الحياة الأُخروية. ولأجل التعرف على ماورد حوله من الآيات، نبحث عن الأُمور التالية:الموت في اللغة والقرآن. هل الموت أمرٌ عدمي أو وجودي؟الموت سنّة من سنن الله العامة...
عدد الزوار: 119
الموت آخر مرحلة من مراحل الحياة الدنيوية، وأوّل مرحلة من الحياة الأُخروية. ولأجل التعرف على ماورد حوله من الآيات، نبحث عن الأُمور التالية
1- الموت في اللغة والقرآن.
2- هل الموت أمرٌ عدمي أو وجودي؟
3- الموت سنّة من سنن الله العامة.
4- لماذا يستوحش الإنسان من الموت؟
5- الموت وأقسامه في القرآن.
6- الموت والأجل المسمّى.
7- الإنابة حال الموت.
8- الوصية عند الموت.
9- جهل الناس بأوان موتهم.
10- الموت والملائكة الموكّلون بقبض الأرواح.
وفيما يلي نبحث عن كل واحد منها.
الأمر الأوّل: "الموت" في اللغة والقرآن
قال في المقاييس: "الموت، أصل صحيح يدل على ذهاب القوة من الشيء، منه: الموت خلاف الحياة"1. وهذا هو الأصل في استعماله، فلو أطلق لفظ الموت على إطفاء النار، وخروج الأرض من قابلية الزرع والاستصلاح، أو على النوم، فالكل يرجع إلى ذلك الأصل.
قال في اللسان: "الموت يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة، فمنها ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات، كقوله تعالى: ﴿يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾(الروم:50).
ومنها زوال القوة الحسّية، كقوله تعالى حاكياً قول مريم عليها السلام: ﴿يَا لَيْتَني مِتُّ قَبْلَ هَذَا﴾(مريم:23).
ومنها زوال القوة العاقلة، وهي الجهالة، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾(الأنعام:122)، و﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾(النمل:80).
ومنها الحزن والخوف المكدر للحياة، كقوله تعالى: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَان وَمَا هُوَبِمَيِّت﴾(إبراهيم:17).
وقد يستعارالموت للأحوال الشّاقة، كالفقر والذّلّ، والسؤال والهرم، والمعصية"2. فالاستعمال في الجميع بأصل واحد.
وقد استعمل القرآن لفظ الموت "كما عرفت" في موارد، بهذا الملاك، مثلاً يقول: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾(يس:33). ويقول في الأصنام﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء﴾(النحل:21) ويطلقه على المراحل المتقدمة من خلق الإنسان، فيقول: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾(البقرة:28). فترى في الجميع نوع ذهاب وزوال، إمّا للطاقة كما في الأرض، أو للقدرة على الحركة والتكلم، كما في الأصنام، وغيرذلك.
الأمر الثانى: هل الموت أمر عدمي؟
إن ملاحظة المعنى اللغوي، والاستعمال القرآني للفظ الموت، يفيد أنّ الموت أمرٌ عدمى، ولكنه من زاوية أُخرى، ليس أمراً عدمياً في موت الإنسان، وذلك لو فسّر الموت بقبض الملائكة الطاقات الحسية الموجودة في الإنسان، فإنّه أمرٌ وجوديٌ، وإن كانت النتيجة أمراً عدمياً.
ويمكن جعله أيضاً من الأمور الوجودية في الإنسان، بمعنىً آخر، وهو أنّ الموت نافذة على الحياة الجديدة، وانتقال من منزل إلى منزل، وإلى ذلك لمحات في كلام الأئمة الأطهار من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله.
يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "أيّها الناس، إنّا خلقنا وإيّاكم للبقاء، لا للفناء لكنكم من دار إلى دار تنقلون"3.
ويقول سيد الشهداء الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام مخاطباً أنصاره يوم عاشوراء: "صبراً بني الكرام، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء الى الجنان الواسعة، والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟"4.
ويمكن جعله أمراً وجودياً أيضاً، ببيان ثالث، وهو أنّ الموت حّد الحياة الدنيوية، وجدارها الذي إليه تنتهي.
أضف إلى ذلك أنّ الموت ربما يوصف بكونه أمراً عدمياً اذا نسب إلى الجسم، وأمّا إذا نسب إلى الروح فلا يمكن تفسيره إلاّ بأمر وجودي، وهو انتقالها من مرحلة إلى مرحلة.
ولعلّه لأحد هذه الوجوه تعلق به الخلق في قوله سبحانه: ﴿الذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾(الملك :2).
والتقدير في قوله سبحانه "في تقدير حياة الإنسان": ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾(الواقعة :60).
الأمر الثالث: الموت سنة عامة في الخلق
إن قوانين الديناميكا الحرارية تدلّ على أنّ مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجياً، وأنّها سائرة حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة البالغة الانخفاض (وهي الصفر المطلق) فيومئذ تنعدم وتستحيل الحياة، وهذا ماكشف عنه العلم الحديث.
والقرآن يصف الموت سنة إلهية عامة، فيقول في الإنسان: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَة﴾(النساء:78).
ويقول: ﴿كُلُّ نَفْس ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾(آل عمران:185) ويقول: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَر مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَئِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)(الأنبياء:34)5.
ويقول الإمام علي عليه السلام: "ولو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سلّماً، أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام، الذي سخّر له ملك الجنّ والإنس"6.
وهناك آيات تدلّ على أنّ انهدام النظام أمر حتمي يوم القيامة وهو موته.
الأمر الرابع: لماذا يستوحش الإنسان من الموت؟
إنّ للإنسان علاقة شديدة بالبقاء، وهي ميل طبيعي يحسّه بفطرته. وبما أنّ الموت يضادّ تلك النغمة الفطرية، فيجزع الإنسان العادي غير العارف بحقيقة الموت.
وعلى كل تقدير، فالناس في الحياة الدنيا على قسمين: قسم يستوحش من الموت، ويتصوره شبحاً مخيفاً، يريد أن يقطع أنياط قلبه ويفترس حياته، وهؤلاء بين من يرى الموت آخر الحياة ونفادها، ويتخيّلون أنّ الموت إبطال لذواتهم وشخصياتهم، ومن يعتقد أنّ الموت نافذة للحياة الأُخرى، من دون أن يستعدوا لتلك المرحلة بصالح الأعمال، بل أثقلوا كواهلهم بالمعاصي والذنوب، فالموت عندهم سمّ يتجرعونه.
يقول سبحانه تنديداً باليهود: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾(البقرة:94ـ95)7.
وقسم آخر، يشتاقون إلى الموت ويتلقونه بصدور رحبة، ووجوه مشرقة، لأنّهم يرونه انتقالاً من حياة مرّة إلى حياة حلوة، وهؤلاء هم الأنبياء والأولياء.
يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "ولولا الأجل الّذي كتب عليهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم".
الأمر الخامس: الموت وأقسامه
ينقسم الموت إلى أقسام نأتي بها فيما يلي
أـ الموت السهل والموت العسير
لا شكّ أنّ الإنتقال من مرحلة إلى مرحلة أُخرى، لا يخلو من مشقة، حتى أنّ الطفل عندما ينتقل من عالم الأجنّة إلى عالم الشهود، يتحمل جهداً ومشقة بالغين. وللإ نسان في إطار حياته في النشأتين مراحل حسّاسة تعدّ كلٌّ منها منعطفاً في مسيرته الوجودية، وهي: مرحلة التّولّد، ومرحلة الموت، ومرحلة البعث، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾(مريم:15)8.
فالموت أحد هذه الحلقات الرئيسية في وجود الإنسان، فهو لا يخلو بطبعه من مشقة وعسر، ولكن لو غضّ البصر عنه، فالموت حسب القرآن ينقسم إلى موت سهل وموت عسير:
الأوّل لصلحاء المؤمنين، والثاني للعصاة والكافرين.
يقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(النحل:32).
ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾(الفجر:27-28).
ويقول سبحانه في العصاة والظالمين: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾(ق :19).
ويقول سبحانه: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾(محمد:27).
وفي الروايات الإسلامية أخبار كثيرة فيما قدمنا9.
ب ـ موت البدن وموت القلب
وهناك تقسيم آخر للموت حسب متعلقه، وهو أنّه تارة ينسب إلى الجسم والبدن، وأُخرى إلى القلب ومراكز الإدراك، والأول هو الموت الطبيعي، والثاني من شؤون بعض الأحياء، إذا حلّ الكفر محلّ الإيمان، والجهل مكان العلم في قلوبهم، فهؤلاء أموات بهذا النظر، وإن كانوا أحياء ماديين يأكلون ويشربون ويتحركون، يقول سبحانه: ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾(النمل:80) ويقول: ﴿وَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا﴾(الأنعام:122)10.
ولا يختص الموت بهذه الطغمة الظالمة، بل يعمّ المتخاذلين المستبطئين في الدفاع عن عزّهم وكيانهم، ليعيشوا أياماً أو أعواماً صاغرين، فهؤلاء أموات في منطق الإمام علي عليه السلام، كما أنّ المتفانين في حفظ عزّتهم وكرامتهم أحياء، وإن تضرّجوا بدمائهم في سوح الجهاد، يقول عليه السلام: "فالموت، في حياتكم مقهورين والحياة، في موتكم قاهرين "11.
كما أنّ من لا يحسّ بالمسؤولية أمام المجتمع، ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعامة مراتبهما، ميّت الأحياء، يقول علي عليه السلام: "ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه، وقلبه ويده، فذلك ميّت الأحياء"12.
ج ـ موت الفرد والمجتمع
إنّ للفرد شؤوناً من أوج وحضيض، ورقي وهبوط، وموت وحياة، كما أنّ للمجتمع نفس تلك الشؤون، حرفاً بحرف.
مثلا: إنّ الثورة نواة تنبت وتشتد وتستوي وتأخذ لنفسها حالة الهجوم والاندفاع، ولا تبرح على تلك السّمة حتى تنتقل إلى حالة أُخرى، تأخذ لنفسها حالة الدفاع، وردّ السّهام الموجهة إليها. ولن تبرح على تلك الحالة حتى ينجرّ أمرها إلى الانكسار والإنقراض.
نظير ذلك جميع الحضارات البشرية، والمناهج الاقتصادية والسياسية والإنسانية، فلكلٍّ منها حالات ثلاث: هجوم، دفاع، خمود.
فكما أنّ لكل فرد حياةً وموتاً وأجلاً حسب القرآن، كذلك إنّ للمجتمع حياةً وموتاً وأجلاً.
يقول سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّة أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون﴾(الأعراف:34)13.
ويعود القرآن ليبين، عامل تدمير الحضارات والمجتمعات والأنظمة البشرية، ويركز على الظلم بالأخص، وعلى الإتراف ثانياً، فالظلم خروج عن الحدّ الوسط، والإتراف هو الانهماك في المعاصي، وكلاهما يعجل في هلاك المجتمع واندثاره.
يقول سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْم وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾(هود:117). ويقول أيضاً: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا (بالطاعة) فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾(الإسراء:16).
ويقول سبحانه: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوح وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾(الإسراء:17). والإمعان في هذه الآيات يفيد أنّ الظلم والفسق والذنوب، مدمرات للمجتمع14.
د ـ موت العزّ وموت الهوان
ينقسم الموت إلى موت عزٍّ وموت هوان، فالفادون أنفسهم في طريق نشر القسط والعدل والعلم وسائر المبادئ الإلهية يموتون موت عزّ وشرف، والذين يقاتلون في سبيل الطاغوت ونشر الشّر والجهل والفساد، لغاية نيل أجور ضئيلة ومناصب مؤقتة، يموتون موت الهوان والذلّ والعار.
يقول سبحانه: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾(البقرة:154)15.
ويقول سبحانه فيمن خرج طالباً للعلم والإيمان: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾(النساء:100)16.
الأمر السادس: الموتُ والأجل المُسَمّى
يقسم القرآن الأجل، واجل مسمى، وبيانه
إنّ لكل نوع من أنواع الموجودات الحيّة، بل مطلق الموجودات، قابلية خاصة لإدامة الحياة والوجود. ومن هذا، مايقال إنّ العمر الطبيعي للإنسان هو مائة وعشرون سنة، فالإنسان "بما هو إنسان" قابل لأن يعيش هذا المقدار من الزّمن. وفي ضوء ذلك، لكلّ إنسان "أجل"، بهذا المعنى، ولكنه ليس أجلاً حتمياً وقطعياً، بل قد ينقص عنه أويزيد عليه لعوامل خاصة في حياته، فربّ إنسان يموت في العقد الخامس أو السادس من عمره، وهو أجل حتمي ومسمّى له، مع أنّ الأجل المطلق كان أزيد منه. وربّ إنسان يعيش أزيد من هذا الحدّ الطبيعي، ويموت في العقد الخامس عشر من عمره، وهو أجل حتميٌّ ومسمّى له، وإن كان الأجل المطلق أنقص منه .
والأجل المطلق يعرفه غيره سبحانه، ولكنّ الأجل الحتمي عنده، فهو الّذي يعرف الحدّ الّذي تقف فيه حياة كل أنسان، ولا تتجاوزه قطعاً، يقول سبحانه: ﴿هُوَالَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِين ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾(الأنعام:2).
الأمر السابع: الإنابة عند الموت
أنّ قسماً من النّاس يخافون من الموت لما علموا من أنّ كواهلهم مثقلة بعظائم الذنوب، أو لاعتقادهم بأنّه خاتمة المطاف في الحياة البشرية. والصنف الأوّل، إذا فوجئوا بالموت، يلجأون إلى التوبة والإنابة، ويندمون، ولكن لات حين مندم، فإنّهم قد ضيّعوا الفرص، والتوبة إنّما تقبل إذا كان الإنسان ذا مقدرة على الفعل والترك والطاعة والعصيان، فيرجّح باختياره الانقياد، على المخالفة، وهذا من تقبل توبته، لأنّ الإنابة في هذا المقام، تكشف عن تحول روحي، وثورة نفسانية على المعصية والتمرد والتجرّي، وأمّا إذا وصل الأنسان في مدارج حياته إلى نقطة ليس أمامه إلاّ طريق واحد، وهو ترك التمرّد، لفقدان القوة والطاقة، فلا تقبل التوبة عند ذاك، لأنّها لا تكشف عن انقلاب روحي نحو الكمال، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن﴾(النساء:18).
وقد ندم طاغية مصر، فرعون، عندما وافاه الغرق، وأحس بالعجز عن استمراره بالعصيان فأسلم، وقال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾(يونس:90ـ91).
وقد كان الطغاة من الأُمم السالفة على هذا النمط، فلا يلجأون إلى الإنابة إلاّ بعدما يروا بأس الله تعالى، يقول سبحانه:
﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾(غافر:84-85).
يقول الإمام علي عليه السلام: "فهو يعضّ يده ندامةً على ما أصحرله عند الموت من أمره"17.
الأمر الثامن: الوصية عند الموت
لا ينبغي لا مرئ مسلم أنّ يبيت ليلةً إلاّ ووصيته تحت رأسه 18.
ومع ذلك ربما يترك الإنسان هذه الفريضة، فله الإيصاء حال الموت.
يقول سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾(البقرة:80) والمراد من الخير هوالمال.
ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْل مِنْكُمْ...﴾(المائدة:106).
الأمرالتاسع: جهل الناس بأوان موتهم
اقتضت الحكمة الإلهية جهل الناس بزمان ومكان موتهم، وذلك لوجهين
أـ لو علم الإنسان بزمن موته، فربما يفشل في العمل قبل أن يحلّ أجله، فأنّ العامل الباعث إلى العمل والنشاط في الحياة، هو الأمل، فالأمل رحمة، ولولاه لما أرضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرة19.
ب ـ إنّ لجهل الإنسان بأوان موته ومكانه، تأثيراً تربوياً، فإنّه لوعلم بأنّه سيموت بعد عام أو أشهر، فترك التمرّد والتجري، فلا يعد ذلك كمالاً روحياً وثورة للفضائل على الرذائل، وهذا بخلاف ما إذا سلك طريق الطاعة، وترك المعصية، وهو يرجو العيش أعواماً طويلة، فانّه يكشف عن كمال روحي، يدفعه نحو الفضائل، يقول سبحانه: ﴿وَمَا تَدْري نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ﴾(لقمان:34)20.
الأمرالعاشر: الملائكة الموكّلون بقبض الأرواح
قد عرفت أنّ الخلق والتدبير من شؤونه سبحانه، فهوالقائل عزّ وجلّ: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(الأعراف:54). غير أنّ كونه مدبّراً لا ينافي أن يكون هناك أسبابٌ غيبيّة أو طبيعية لقبض الأرواح فأنّه أيضاً من شؤون التدبير. فتوفي الأنفس وأخذها، فعلٌ لله سبحانه، وفي الوقت نفسه فعلٌ لملائكته، يقول سبحانه: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾(الزمر:42).
وفي الوقت نفسه ينسبه إلى الملائكة، ويقول: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ﴾(النحل28-32).
وفي موضع ثالث ينسبه إلى ملك الموت، ويقول ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾(السجدة:11).
والنّسب كلّها صحيحة.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص220-232.
1- مقاييس اللغة، ج5،ص 283 .
2- لسان العرب، ج2،ص 92. لاحظ بقية كلامه
3- الإرشاد، للشيخ المفيد،ص 127.
4- معاني الأخبار، للصدوق، ص 289.
5- ولاحظ الآيات التالية: آل عمران:15، الأحزاب:60، الزمر: 16، الواقعة:8، الجمعة:8.
6- نهج البلاغة، الخطبة 182.
7- لاحظ الجمعة:7-8.
8- ولاحظ مريم:33.
9- لاحظ بحارالأنوار،ج6 ص 122-154.
10- ولاحظ الروم:51-52.
11- نهج البلاغة الخطبة 51.
12- نهج البلاغة، قسم الحكم، الرقم:374.
13- ولاحظ يونس:49.
14- وأما ما هي الصلة بين هذه العوامل وتدمير المجتمع وانحلاله، فهو يحتاج إلى بيان خارج عن موضوع الكتاب، غير أنّا نقول إجمالاً: إنّ بين هذه العوامل وإهلاك المجتمع، رابطة مادية وطبيعية، وفي الوقت نفسه رابطة إلهية، الوقوف على العلل المادية لا يغني عن الإذعان بأنّ هناك رابطة غيبية بين هذه العلل ومعلولها.
15- ولاحظ آل عمران :169.
16- ولاحظ الحج:58.
17- نهج البلاغة، الخطبة 109.
18- وسائل الشيعة، ج13، كتاب الوصايا، الباب الأول، الحديث 7.
19- سفينة البحار، مادة: "أمل".
20- وها هنا وجه ثالث وهوأنّ علم الإنسان بزمن موته يشجّعه على الفجور والعصيان متكلاً على التوبة والإنابة قبل مدّة من حلول أجله. 2009-07-27