يتم التحميل...

الإشكالات المثارة حول الشفاعة

بحوث ومعتقدات

هناك إشكالات مثارة حول الشفاعة ناشئة من قياس الشفاعة الواردة في الشريعة الاسلامية بالشفاعة الرائجة بين الناس و لو عرف المستشكلون الاختلاف الماهوي بين الشفاعتين، لما اجترأوا على إلقاء هذه الشبهات.

عدد الزوار: 88

هناك إشكالات مثارة حول الشفاعة ناشئة من قياس الشفاعة الواردة في الشريعة الاسلامية بالشفاعة الرائجة بين الناس ولو عرف المستشكلون الاختلاف الماهوي بين الشفاعتين، لما اجترأوا على إلقاء هذه الشبهات.

الاشكال الأوّل
إنّ جميع المعاصي تشترك في هدم الحدود والجرأة على المولى فأي معنى لشمول الشفاعة لبعض ألوان الجرائم والمعاصي دون البعض الآخر؟

والجواب
إنّ للجرم مراتب، كما ان المجرمين على درجات من النفسانيات والروحيات فلا يستوي من أحرق منديل أحد عدواناً بمن أحرق مصنعاً كبيراً له، وفرق بين شاب ينظر الى المرأة الأجنبية نظراً ممزوجاً بالسوء، وآخر يعتدي عليها بالعنف، فإذا اختلف الجرمان اختلف المجرمان من حيث النفسانيات والروحيات، وهناك مجرم قد حافظ على روابطه الايمانية مع الله وعلى علاقاته الروحية مع الشفيع بحيث لا يعد المجرم غريباً عن كلا المقامين، ومجرم قد قطع كلتا العلاقتين وصار أجنبياً عنهما فتشريع الشفاعة في حق الأوّل دون الثاني لا يعد تفريقاً في القانون.

والّذي يوضح ذلك ان الله سبحانه فرق بين الذنوب، فقال بان الشرك لا يغفر الا مع التوبة واما غيره فيغفر وان لم تقع التوبة.

قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً(النساء:48).

وأنت إذا أحطت بما ورد حول الذنوب من العقوبات المختلفة وتقسيمها الى كبائر وصغائر تقف على ان قبول الشفاعة في حق بعض دون بعض، ليس ترجيحاً بلا مرجح.

الاشكال الثاني
ان تشريع الشفاعة يجر إلى التمادي في العصيان، واستمرار المجرم في عدوانه رجاء غفران ذنوبه بالشفاعة 1.

والجواب, اما نقضاً
فبالوعد مع التوبة بل حتى مع عدمها، قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَفلو كانت الشفاعة موجبة للتمادي، فليكن الوعد بالمغفرة مع التوبة بل مع عدمها في غير الشرك موجبة للتمادي أيضاً فالجواب هنا هو الجواب هناك.

واما حلاً
فالاشكال ينبع من تصور خاطئ وهو اعتقاد كون الشفاعة مطلقة غير مشروطة بشيء فيكون للانسان عند ذاك ان يفعل ما يريد تعويلاً عليها، ولكنك عرفت ان الشفاعة محدودة، وتشمل بعض العباد وهم الذين لم تنقطع علاقتهم بالله سبحانه وبأوليائه، ومثل هذه الشفاعة لا تبعث على الجرأة بل تبعث أملاً في نفس العاصي وتدفعه الى الاحتفاظ بعلاقته ولا ينسفها من رأس.

ان الشفاعة التّي نطق بها القرآن ليست أمراً مطلقاً من كل قيد وشرط، فان الشفاعة مقيدة بإذنه سبحانه أوّلاً وكون المشفوع له مرضياً عند الله ثانياً، وليس من الممكن ان يذعن المجرم بانه ممن يشمله اذنه سبحانه ورضاه.

قال سبحانه: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ(البقرة:255).

وقال سبحانه: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى(الأنبياء:28).

فليس في وسع أحد أن يدّعي انه من العباد المرضيين، ثم يعتمد على ادعائه ويتمادى في العصيان.

وهناك وجه آخر لكون الشفاعة محدودة، وهو ابهامها من حيث الجرم، فلا يعلم أي جرم تشمله الشفاعة وأيّه لا تشمله. كما أنها مبهمة من حيث وقت القيامة فللعصاة والطغاة مواقف مختلفة وهي مواقف رهيبة ومخيفة تهز القلوب ولم يعين وقت الشفاعة.

وهذه الابهامات الثلاثة تصد المجرم عن الاعتماد على الشفاعة ليتمادى في المعصية وغاية ما يمكن ان يقال في الشفاعة أنها بصيص من الرجاء ونافذة من الامل فتحها القرآن في وجه العصاة حتى لا ييأسوا من روح الله.

الاشكال الثالث
ان الشفاعة لا تتحقق الا بترك الارادة وفسخها لطلب الشفيع رفع العقاب عن المشفوع له من غير فرق بين الحاكم العادل والحاكم الظالم غاية الأمر ان الحاكم العادل لا يقبل الشفاعة الا اذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به كأن أخطأ ثم عرف الصواب ورأى العدل في خلاف ما أراده او حكم به وأما الحاكم الظالم، فهو يقبل الشهادة لكن مع العلم بصواب الحكم الأوّل وكونه عدلاً لكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة وكلا النوعين محال على الله لأنّ إرداته تعالى على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير.2

والجواب
ان المستشكل لو أمعن في حقيقة الشفاعة التّي نطق بها القرآن والأحاديث لما جعل الشفاعة من هذ الباب. بل هي من واد آخر ومن باب تغيير الحكم لأجل تغيّر الموضوع فالخمر ما دام خمراً حرام، فاذا تبدل الى الخل يكون حلالاً ولا يعد الحكم الثاني ناقضاً للحكم الأوّل.

ونظير ذلك العاصي والتائب فان العصيان حالة نفسانية في الانسان فله حكمه الخاص كما ان التوبة حاكية عن حالة نفسانية مغايرة للحالة الأُولى فلها حكمها الخاص والاختلاف في الحكمين لاجل الاختلاف في الموضوعين ولا يعد ذلك تبدلاً في العلم بل تبدلاً في المعلوم.

وعلى هذا الاساس فالعاصي مجرداً عن انضمام الشفاعة اليه محكوم بالعقاب ولكنه - منضمة اليه الشفاعة - محكوم بحكم آخر من أوّل الأمر، واختلاف الحكمين لأجل اختلاف الموضوعين في الاطلاق والتقييد.

وان شئت قلت: ان العاصي مجرداً عما يمر عليه في البرزخ من العذاب، وما يستتبع ذلك العذاب من الصفاء في روحه ومجرداً عن دعاء الشفيع في حقه، محكوم بالعقاب ولكنه - منضماً الى الضمائم الثلاث - محكوم بالمغفرة.

وعلى ضوء هذا يتبين أنّ الشفاعة لا توجب اختلافاً في علمه وتغييراً في ارادته كما لا توجب ان يكون احد الحكمين مطابقاً للعدل والآخر مطابقاً للجور بل الحكمان صدرا من الأزل على موضوعين مختلفين من مصدر العدل تبارك وتعالى.

الاشكال الرابع
ليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة وانما ورد الحديث بإثباتها3.

ولعل نظر المستشكل الى ان الشفاعة مقيدة بإذنه سبحانه وارتضائه ولا دليل على انه يأذن ويرتضي فهو ممكن لا دليل على وقوعه.

والجواب
ان البحث عن الامكان والامتناع يناسب المسائل الفلسفية والكلامية البحتة واما المسائل التربوية كالشفاعة فالوعد بها مقيداً بالاذن، والارتضاء لا يهدف الا الى وقوعها في ذلك الاطار لا امكانها فيه، وذلك مثل قوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْس أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ(يونس:100)، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ(آل عمران:145).

على ان هناك قرائن تدل على وقوع الاستثناء وتحققه، منها:

1- انه سبحانه عبّر عن رضاه بالجملة الماضية وقال: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى(الانبياء:28), وهو يدل على تحقق الرضا منه سبحانه في حق المشفوع له، ورضاه له لا ينفك عن تحقق اذنه للشفعاء.

2- وانه سبحانه أخبر بخبر قطعي عن شهادة من شهد بالحق، قال: ﴿وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(الزخرف:86).

وهذا يكشف عن تحقق المراتب المتقدمة عليه، من اذنه سبحانه له وارتضائه لمن يستحقها.

وغير ذلك من القرائن التّي يستكشف منها كون الشفاعة وعداً مقطوعاً وقوعه.

الاشكال الخامس
الّذي ورد في اثبات الشفاعة، من الآيات المتشابهات، وفيه يقضى بمذهب السلف، بالتفويض والتسليم، ولا نحيط بحقيقتها، مع تنزيه اللّه تعالى جل جلاله عن المعنى المعروف للشفاعة في لسان التخاطب العرفي4 .

والجواب
قد تعرفت على أصناف الآيات الواردة في الشفاعة، وليس فيها آية مبهمة مستعصية على الفهم. وعلى فرض وجودها، يرفع أبهامها بآية أختها، أو بالأحاديث الواردة حولها.

على أنّ ما ذكره المستشكل من أنّ مذهب السلف في المتشابهات هو التفويض والتسليم، مردود من رأس فانّ القرآن كتاب الهداية والتربية، نزل للفهم والعبرة، فلا معنى لقراءة الآيات وتفويض مفاهيمها التصديقيّة إلى اللّه، بل يجب رفع إبهام المتشابهات عن طريق المحكمات.

نعم، هناك مفاهيم تصورية مبهمة، كحقيقة ذاته تعالى، وصفاته، وحقيقة الميزان والحساب والجنة والنار، ولكنها مفاهيم تصورية خارجة عن موضوع البحث.

هذه جملة من الإشكالات، وبالاحاطة بها وبأجوبتها، تقدر على دفع ما لم نورده مما ذكروه5.

وفي الختام، نشير الى أن مسألة الشفاعة مسألة اجماعية، اتفق عليها الفريقان، فلا تجد في كتاب كلامي الاّ التصديق بها.

قال القاضى عيّاض: "مذهب أهل السنة هو جواز الشفاعة عقلاً، ووجوبها سمعاً بصريح الآيات، وبخبر الصادق، وقد جاءت الآثار التّي بلغت بمجموعها التواتر، بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمين، واجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة، عليها6".

وقال الامام أبوحفص النسفي: والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر، بالمستفيض من الأخبار" 7.

هل يجوز طلب الشفاعة؟
قد تعرفت على أنّ أصل الشفاعة أمر مفروغ منه، وأنّ المخلصين من عباده يشفعون يوم القيامة بعد اذنه وارتضائه، لكن يقع الكلام في جواز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة.

فذهب ابن تيمية وتبعه محمد بن عبدالوهاب - مخالفين الأمة الاسلامية جمعاء - الى انّه لا يجوز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة ولا يجوز للمؤمن إلاّ أن يقول: اللّهم شفّع نبيّنا محمداً فينا يوم القيامة، ولا يجوز ان يقول: يا رسول اللّه، اشفع لي يوم القيامة.

واستدلا على ذلك بوجوه لابأس بذكرها والاجابة عنها على وجه الاجمال.

الوجه الأوّل: انّه من أقسام الشرك، أي الشرك بالعبادة، والقائل بهذا الكلام، يعبد الولي8.

والجواب، إما نقضاً:
فبأنّه لو كان طلب الشفاعة في هذه النشأة من الأنبياء والأولياء شركاً، لوجب أن لا يكون هناك فرق بين حياتهم ومماتهم، مع أنّ القرآن يدعو المؤمنين إلى أن يلجأوا الى حضرة الرسول في حال حياته ويطلبوا منه أن يستغفر لهم، يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً(النساء:64). وليس طلب الاستغفار من النبي إلاّ طلباً للشفاعة، إذ ليس معنى قولنا: يا رسول اللّه إشفع لنا عند اللّه، إلاّ أدع لنا عند ربك بالخير والمغفرة.

وإمّا حلاًّ
فقد عرفت أنّ طلب شيء من أي شخص كان، إنما يعد عبادة، إذا اعتقد أنّه إله أو ربّ، إو أنّه مَفوّض إليه فعل الخالق وتدبيره وشؤونه وأما الطلب من الشخص بما أنّه عبد صالح محبوب عند اللّه، فلا يعدّ عبادة للمدعوسواء أكان نافعاً أولا.

الوجه الثاني
إنّ طلب الشفاعة من النبي يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة، وقد حكى القرآن ذاك العمل منهم، وقال:

﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ(يونس:18).

وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه، عبادة لهذا الغير9.

والجواب
إنّ المعيار في القضاء ليس هو التشابه الصوري، بل المعيار هو البواطن والعزائم ولو صحّ ما ذكره لوجب أنْ يكون السعي بين الصفا والمروة، والطواف حول البيت، شركاً، لقيام المشركين به في الجاهلية، وقد عرفت أنّهم كانوا يطلبون الشفاعة من الأوثان باعتقاد أنّها آلهة أو أشياء فوّض إليها أفعال اللّه سبحانه من المغفرة والشفاعة.

وأين هذا من طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء بما أنّهم عباد اللّه الصالحون. فعَطْفُ هذا على ذلك، جَوْر في القضاء، وعناد في الاستدلال.

وأما الاستدلال بالآية الثانية، فهو ضعيف من وجهين
الأوّل: إنّ الآية على خلاف ما يدّعيه أدلّ، لأنّ عطف ﴿وَيَقولونَ، على قوله: ﴿وَيَعبدون، دليل على أنّ العمل الثاني ليس عبادة، أخذاً بحكم العطف الدال على المغايرة. وبعبارة أخرى: إنّ المشركين كانوا يقومون بعملين، العبادة أوّلا، وقولهم هم شفعاؤنا، وطلب الشفاعة منهم ثانياً، وعلة اتّصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني.

الثاني: لو فرضنا أنّ الجملة الثانية، جملة تفسيرية للأُولى، فنقول: إنّ توصيف طلب الشفاعة من الأوثان بالعبادة لا يستلزم توصيف طلب الشفاعة من الأولياء بها أيضاً، لما عرفت من الاختلاف في العقيدة، وأنّ الشافعين كانوا عند عَبَدَةِ الأصنام آلهة، وعند المؤمنين عباداً صالحين، وأين هذا من ذلك؟!

الوجه الثالث
إن طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام، فإن ذلك دعاء لغير اللّه، وهو حرام.

قال سبحانه: ﴿فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا(الجن:18).

ويدل على أنّ الدعاء في الآية عبادة، قوله سبحانه: ﴿ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ(غافر:60). فقد عبّر عن العبادة في الآية بلفظ"الدعوة" في صدرها، وبلفظ العبادة في ذيلها، وهذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى. وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم : "الدعاء مخ العبادة".

والجواب
إنّ القول بأنّ دعاء الغير في جميع الظروف مساوق للعبادة، شيء لا أساس له، وإلا يلزم أنْ لا يُسَجّل اسم أحد في سجل الموحدين، فإنّ الناس لا ينفكّون عن التعاون، واستعانة بعضهم ببعض، ودعوة الواحد منهم الآخر. وعلى ذلك فيجب أن يقال إنّ قسماً- فحسب - من الدعاء مساوق للعبادة، وهو دعاء الشخص بما أنّه إله، وبما أنّه رب، أو بما أنّه مفوّض إليه أفعاله سبحانه. فدعاؤه بهذه الخصوصيات، مساوق لعبادته.

والآية ناظرة إلى هذ القسم من الدعاء بقرينة قوله ﴿مَعَ اللهِ، معرباً عن أنّ الداعي يرى المدعو مشاركاً للّه سبحانه في مقام أو مقامات، ومن المعلوم أنّ الدعاء بهذه الخصوصية شرك بلا إشكال، والمشركون في الجاهلية، كانوا يسوون بين الأوثان ورب العالمين، ويدل عليه قوله سبحانه حاكياً قولهم يوم القيامة:﴿تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَل مُبِين * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(الشعراء:97- 98).

فأي كلمة أظهر من التعبير عن عقيدة المشركين في حق الأوثان بأنها كانت عندهم ورب العالمين، سواسية .

فقياس دعوة الصالحين من الأنبياء والأولياء، بدعوة الأصنام والأوثان، قياس مع الفارق البالغ، لا يعتمد عليه إلا من سبق له الرأي في هذا المجال، ويريد التمسك بالطحلب والحشيش .

الوجه الرابع
إنّ الشفاعة حق مختص باللّه لا يملكه غيره، وعلى ذلك فطلبها من غير مالكها أمر غير صحيح، قال سبحانه: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ * قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا...(الزمر:43 - 44).

والجواب: إنّ المراد من قوله سبحانه: ﴿قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا، ليس أنّه هو الشفيع دون غيره، إذ من الواضح أنّه سبحانه لا يشفع لأحد عند الغير، بل المراد أنّه المالك لمقام الشفاعة دون غيره، فليس في الوجود من يملك المغفرة والشفاعة وغيرهما مما هو من شؤونه سبحانه، غيره.

ولكن هذا لا ينافي أنْ يملكها الغير بتمليك منه سبحانه، وفي طول ملكه، كما هو صريح قوله سبحانه: ﴿وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (الزخرف:86)، فإن الاستثناء في قوله ﴿إلاّيرجع إلى قوله: ﴿لا يَمْلكُ. فتكون النتيجة أنّه يملك من شهد بالحق، الشفاعة، لكن بتمليك منه سبحانه: فهو المالك بالأصالة، وغيره مالك بالتمليك والعَرَض.

وليس هذا مختصاً بالشفاعة المصطلحة بل الشفاعة التكوينية أيضاً كذلك، لأن الأثر الطبيعي لجميع الأسباب التكوينية، يرجع إليها لكن بتسبيب منه سبحانه، فلولا أنّه جعل النار حارة، والشمس مضيئة، والقمر نوراً، لا تجد فيها تلك الآثار.

الوجه الخامس
أنّ طلب الشفاعة من الميت أمر باطلٌ .

والجواب: أنّ هذا آخر سهم في كنانة القائلين بحرمة طلب الشفاعة من أولياء اللّه الصالحين، والإشكال ناجم من عدم التعرف على مقام الأولياء في كتاب اللّه الحكيم. وقد عرفت أنّ القرآن يصرّح بحياة جموع كثيرة من الشهداء وغيرهم، كما عرفت أنّه يصرح بكون النبي شهيداً على الأمة في قوله سبحانه: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيداً(النساء:41). فهل تعقل الشهادة بدون الحياة، والاطّلاع على ما يجري بينهم من الأُمور، من كفر وإيمان وطاعة وعصيان؟. فلو كان النبي ميّتاً كسائر الأموات، فما معنى التسليم عليه في كل صباح ومساء، وفي تشهد كل صلاة: "السلام عليكَ أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته"؟ وما معنى خطابه بـ"عليك"؟. وحمل ذلك على الشعار الخالي والتحية الجوفاء، تأويل بلا دليل.

وأما قوله سبحانه في حقّ الموتى ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ(النمل:80) فهو لا يدلّ إلا على أنّ الأموات المدفونين في القبور، لا يسمعوه ولا يفهموه، وأنّهم كالجماد، ولذلك شبّه المشركين بهم في عدم التعقل، وهو أمر غير منازع فيه، فأنّ الأبدان بعد الموت، جمادات محضة، من غير فرق بين جسد النبي وغيره.

غير أنّ المؤمنين لا يطلبون الشفاعة من أجساد الصالحين وأبدانهم، بل يطلبونها من أرواحهم المقدسة الحية عند اللّه سبحانه، بأبدان برزخية.

فالزائر القائل: "يا محمّد إشفع لي عند اللّه"، لا يشير إلى جسده، بل إلى روحه الزكية، غير أنّ الوقوف عند قبره الشريف يدفع له استعداداً لأن يتصل بروحه ويخاطبها.

إلى هناتم عرض الإشكالات الضئيلة التي استدل بها على تحريم طلب الشفاعة من الأولياء، والإجابة عليها بما لا يدع مجالاً بعدها للشك في الجواز.


*الإلهيات، آية الله جعفر السبحاني، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4، ص350-362
1- دائرة المعارف لفريد وجدي ج 5، ص 402.
2- المنار ج 1 ص 307 وقد تبنى مؤلفه هذا الاشكال وما يليه !!.
3- المنار ج 7 ص 370.
4- المنار، ج 1، ص 307 ـ 308.
5- راجع في الوقوف على سائر الاشكالات وأجوبتها، مفاهيم القرآن، ج 4، ص 246 ـ 256.
6- بحار الانوار، ج 8، ص 62.
7- شرح العقائد النسفية، ص 148 ولاحظ أنوار التنزيل للبيضاوي، ج 1 ص 152. ومفاتيح الغيب، للرازي، ج 3 ص 56 ومجموعة الرسائل الكبرى، لابن تيمية، ج 1، ص 403. وتفسير ابن كثير، ج 1 ص 309. وغير ذلك من المصادر.
8- الهدية السنية، ص 42.
9- كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب، ص 6.
2009-07-24