يتم التحميل...

الله عادلٌ لا يجور

صفات وأسماء الخالق

إِنَّ مقتضى التَّحسين والتّقبيح العقليين على ما عرفت في بحوث سابقة هو أَنَّ العقل بما هو هو يدرك أَنَّ هذا الشيء بما هو هو حسن أو قبيح، وأَن أحد هذين الوصفين ثابت للشيء بما هو هو" من دون دخالة ظرف من الظروف أَو قيد من القيود، ومن دون دخالة دَرْكِ مدرك خاص...

عدد الزوار: 106

من ثمرات التَّحسين والتقبيح العقليَّيْن
الله عادلٌ لا يجور

إِنَّ مقتضى التَّحسين والتّقبيح العقليين "على ما عرفت في بحوث سابقة" هو أَنَّ العقل "بما هو هو" يدرك أَنَّ هذا الشيء "بما هو هو" حسن أو قبيح، وأَن أحد هذين الوصفين ثابت للشيء "بما هو هو" من دون دخالة ظرف من الظروف أَو قيد من القيود، ومن دون دخالة دَرْكِ مدرك خاص.

وعلى ذلك فالعقل في تحسينه وتقبيحه يدرك واقعية عامة، متساوية بالنسبة إلى جميع المدركين والفاعلين، من غير فرق بين الممكن والواجب. فالعدل حَسَن ويُمْدَح فاعله عند الجميع، والظلم قبيح يُذَمّ فاعلهُ عند الجميع. وعلى هذا الأساس فالله سبحانه، المدرك للفعل ووصفه "أعني استحقاق الفاعل للمدح أو الذم" من غير خصوصية للفاعل، كيف يقوم بفعل ما يحكم بأَنَّ فاعله مستحق للذم، أَو يقوم بفعل ما يحكم بأَنّه يجب التنزه عنه؟

وعلى ذلك فالله سبحانه عادل، لأَن الظلم قبيح ومما يجب التنزّه عنه، ولا يصدر القبيح من الحكيم، والعدل حسن ومما ينبغي الإِتصاف به، فيكون الإِتصاف بالعدل من شؤون كونه حكيماً منزهاً عما لا ينبغي.

وإنْ شئت قلت: إِنَّ الإِنسان يدرك أنَّ القيام بالعدل كمال لكل احد. وارتكاب الظلم نقص لكل أحد. وهو كذلك "حسب إِدراك العقل" عنده سبحانه. ومعه كيف يجوّز أَنْ يرتكب الواجب خلاف الكمال، ويقوم بما يجرّ النقص إليه1.

دفع إِشكال
ربما يقال إنّ كون الشيء حسناً أو قبيحاً عند الإِنسان، لا يدل على كونه كذلك عند الله سبحانه، فكيف يمكن استكشاف أنه لا يترك الواجب ولا يرتكب القبيح؟.

والإِجابة عنه واضحة، وذلك أنَّ مَغْزى القاعدة السالفة هو أنَّ الإِنسان يدرك حسن العدل وقبح الظلم لكلّ مُدْرِك شاعر، ولكلّ عاقل حكيم، من غير فرق بين الظروف والفواعل. وهذا نظير درك الزوجية للأربعة، فالعقل يدرك كونها زوجاً عند الجميع، لا عند خصوص الممكن، فليس المقام من باب إسراء حكم الإِنسان الممكن إلى الواجب تعالى، بل المقام من قبيل استكشاف قاعدة عامة ضرورية بديهية عند جميع المدركين من غير فرق بين خالقهم ومخلوقهم. ولا يختص هذا الأمر بهذه القاعدة، بل جميع القواعد العامة في الحكمة النظرية كذلك.

وعلى هذا يثبت تنزهه سبحانه عن كل قبيح، واتصافه بكل كمال في مقام الفعل، فيثبت كونه تعالى حكيماً لا يرتكب اللغو وما يجب التنزه عنه، وبالتالي فهو عادل لا يجور ولا يظلم ولا يعتدي.

العدل في الذّكر الحكيم
تضافرت الآيات الكريمة مركزة على قيامه سبحانه بالقسط، نورد فيما يلي بعضاً منها:

قال سبحانه: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَا بِالْقِسْطِ(آل عمران:18).

وكما شهد على ذاته بالقيام بالقسط، عرّف الغاية من بعثة الأنبياء بإِقامة القسط بين الناس.

قال سبحانه ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَ أَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَ الْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ(الحديد:25).

كما صرّح بأن القسط هو الركن الأساس في محاسبة العباد يوم القيامة، إذ يقول سبحانه: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْـلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً(الأنبياء:47).

وما في هذه الآيات وغيرها إرشادات إلى ما يدركه العقل من صميم ذاته، بأنَّ العدل كمالٌ لكل موجود حيّ مدرك مختار، وأَنَّه يجب أَنْ يتصف اللهُ تعالى به في أفعاله في الدنيا والآخرة، ويجب أنْ يقوم سفراؤه به.

العدل في التشريع الإِسلامي
وهذه المكانة التي يحتلها العدل "التي عرفت أنه لولاه لارتفع الوثوق بوعده ووعيده وانخرم الكثير من العقائد الإِسلامية" هي التي جعلته سبحانه يعرّف أحكامَه ويصف تشريعاتِهِ بالعدل، وأنه لا يشرّع إلاّ ما كان مطابقاً له.

يقول سبحانه: ﴿وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَ لَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْـلَمُونَ(المؤمنون:62).

فالجزء الأول من الآية ناظر إلى عدله سبحانه بين العباد في تشريع الأحكام، كما أنَّ الجزء الثاني ناظرٌ إلى عدله يوم الجزاء في مكافاته، هذا.

وإن شعار الذكر الحكيم هو: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْـلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْـلِمُونَ(الروم:9). وهو يكشف عن عدالته سبحانه في التشريع والجزاء.

العدل في روايات أئمة أَهل البيت
إشتهر عليٌّ عليه السَّلام وأولادُه بالعدل، وعنه أخذت المعتزلة، حتى قيل: "التوحيد والعدل علويان والتشبيه والجبر أمويان". وإليك بعض ما أثِرَ عنهم عليهم السَّلام.

1- سئل عليّ عليه السَّلام عن التوحيد والعدل، فقال:"التَوْحِيدُ أنْ لا تَتَوَهَّمَهُ والعَدْلُ أنْ لا تَتَّهِمَهُ"2. وقد فُرض كونه سبحانه عادلا فطلب معناه.

قال ابن أبي الحديد: "هذان الركنان هما ركنا علم الكلام وهما شعار أصحابنا المعتزلة لنفيهم المعاني القديمة التي يثبتها الأشعري وأصحابه، ولتنزيههم الباري سبحانه عن فعل القبيح، ومعنى قوله: "أنْ لا تتوهمه": أنْ لا تتوهمه جسماً أو صورة أو في جهة مخصوصة أو مالئاً لكل الجهات، كما ذهب إليه قوم، أو نوراً من الأنوار، أو قوة سارِيّة في جميع العالم كما قاله قوم، أو من جنس الأَعراض التي تحل الحالّ أو تحل المَحَل وليس بعَرض، كما قاله النصارى، أو تحله المعاني والأعراض فمتى تُوُهّم على شيء من هذا فقد خولف التوحيد.

وأما الركن الثاني فهو "أنْ لا تتهمه": أي أَنْ لا تتهمه في أنَّه أَجبرك على القبيح ويعاقبك عليه، حاشاه من ذلك ولا تتهمه في أنَّه مكّن الكذّابين من المعجزات فأضل بهم الناس، ولا تتهمه في أَنَّه كلّفك ما لا تطيقه وغير ذلك من مسائل العدل التي يذكرها أَصحابنا مفصلة في كتبهم، كالعوض عن الأَلم فإِنه لا بدّ منه، والثواب على فعل الواجب فإِنه لا بد منه، وصدق وعده ووعيده فإِنه لا بد منه.

وجملة الأمر أَنَّ مذهب أَصحابنا في العدل والتوحيد مأخوذ عن أمير المؤمنين عليه السَّلام . وهذا الموضع من المواضع التي قد صرّح فيها بمذهب أصحابنا بعينه وفي فرض كلامه من هذا النمط ما لا يحصى"3.

2- روى (الصدوق)عن الصادق عليه السَّلام أَنَّ رجلا قال له: إِنَّ أساس الدين التوحيد والعدل، وعِلْمُهُ كثيرٌ، ولا بُدّ لعاقل منه، فاذكر ما يَسْهُلُ الوقوفُ عليه ويتهيّأ حفظُه. فقال عليه السَّلام : "أَمّا التّوحيدُ فَأَنْ لا تُجَوِّزَ عَلى رَبِّك ما جازَ عليكَ، وأمّا العَدْل فَأَنْ لا تَنْسبَ إلى خَالِقِكَ ما لاَمَكَ عَلَيْهِ"4.

3- وقال علي عليه السَّلام :"وَأشْهَدُ أنَّه عَدْلٌ عَدَل، وحَكَمٌ فَصَل"5.

4- وقال عليه السَّلام :"الذي صَدَقَ في ميعادِهِ، وارتَفَعَ عن ظُلْمِ عبادِهِ، وقَامَ بالقِسْطِ في خَلْقِهِ، وعَدَلَ عليهم في حُكْمِهِ"6.

5- وقال صلوات الله عليه:"الذي أعْطى حِلْمُهُ فَعَفَا، وعَدَلَ في كل ما قَضَى"7.

6- وقال عليه السَّلام :"اللّهُمَّ احمِلني على عَفْوِكَ، ولا تَحْمِلني على عَدْلِكَ"8.

* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج 1 . ص287-292.


1- وربما يقرر وجه عدم صدور عدم القبيح عنه تعالى بأنَّ الدَّاعي إلى صدوره إما داعي الحاجة، أو داعي الحكمة، أو داعي الجهل. والكل منتف في حقه سبحانه. أمَّا الأَول فلغناه المطلق، وأَمَّا الثَّاني فلكون الحكمة في خلافه، وأَما الثالث فلكونه عالماً على الإِطلاق. وبما أنَّ هذا الدليل مبنى على كون فاعلية الواجب بالداعى الزائد على ذاته، وهو خلاف التحقيق، لكونه تاماً في الفاعلية فلا يحتاج فيها إلى شيء وراء الذات، أَتينا به في الهامش. وقد اعتمد عليه العلاَّمة في شرح التجريد ص 187 - 188. والفاضل المقداد في شرح نهج المسترشدين ص 260 وغير ذلك من الكتب الكلامية.
2- نهج البلاغة - قسم الحكم - رقم 470.
3- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج 20، ص 227.
4- التوحيد، باب معنى التوحيد والعدل، الحديث الأول، ص 96.
5- نهج البلاغة، الخطبة 214.
6- نهج البلاغة، الخطبة 185.
7- نهج البلاغة، الخطبة 191.
8- نهج البلاغة، الخطبة 227.

2009-07-21