يتم التحميل...

صفات الله الثبوتية الفعلية (التكلم)

صفات وأسماء الخالق

قد عرفت عند تقسيم صفاته سبحانه أنّها على نوعين: صفات الذات، وصفات الفعل، وقلنا بأن الفرق بين النوعين هو أنَّ الصفات التي يكفي في توصيفه سبحانه بها فرض ذاته فهي صفات الذات، كالقدرة والحياة والعِلْم. وأما الصفات التي يتوقف توصيفه سبحانه بها على صدور فعل منه...

عدد الزوار: 118

قد عرفت عند تقسيم صفاته سبحانه أنّها على نوعين: صفات الذات، وصفات الفعل، وقلنا بأن الفرق بين النوعين هو أنَّ الصفات التي يكفي في توصيفه سبحانه بها فرض ذاته فهي صفات الذات، كالقدرة والحياة والعِلْم.

وأما الصفات التي يتوقف توصيفه سبحانه بها على صدور فعل منه وفرض شيء غير الذات فهي صفات الفعل المنتزعة من فعله سبحانه. وإلى هذا الفرق يرجع ما اشتهر في الكتب الكلامية من أنَّ كل وصف لا يقبل النفي والإِثبات ويكون أحاديّ التعلّق فهو صفة الذات، وما لا يكون كذلك ويقع في إطار النفي تارة والإِثبات أخرى فهو صفة الفعل. فلا يقال إنه سبحانه يعلم ولا يعلم، ولكن يقال إنه سبحانه يغفر ولا يغفر. والهدف في هذا المقام هو البحث عن بعض صفات فعله سبحانه كالتكلّم والصّدق، فهو سبحانه متكلم وصادق. فإنَّ له سبحانه حسب أسمائه وصفاته مجالي في عالم الإِيجاد، ومظاهر في عالم الخَلْق، فهو مُحيي ومُميت، ورازق ومُنعم، ورحيم وغفور إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته .

الصفات الفعلية التَّكلُّم
أجمع المسلمون تبعاً للكتاب والسنَّة على كونه سبحانه متكلماً ويبدو أنَّ البحث في هذا الوصف هو أوّل مسألة طرحت على بساط المناقشات في تاريخ علم الكلام وإن لم يكن أمراً قطعياً. وقد شغلت مسألة الكلام الإِلهي، وأنه ما هو، وهل هو حادث أو قديم، بال العلماء والمفكّرين الإِسلاميين في عصر الخلفاء، وحدثت بسببه مشاجرات بل صدامات دامية ذكرها التاريخ وسجل تفاصيلها وعرفت بـ "محنة خلق القرآن" ويمكننا أن نلاحظ لذلك عاملين رئيسيين:

الأول: الفتوحات الإِسلامية التي أوجبت اختلاط المسلمين بغيرهم وصارت مبدأً لاحتكاك الثقافتين الإِسلامية والأجنبية. وفي ذلك الخضمّ المشحون بتضارب الأفكار طرحت مسألة تكلمه سبحانه في الأوساط الإِسلامية.

الثاني: ترويج الخلفاءالبحث عن هذه المسألة ونظائرها حتى ينصرف المفكرون عن نقد أفعالهم وانحرافاتهم.

ولا بدّ من التنبيه على مصدر بث هذه الفكرة بالخصوص فنقول: إِنَّ البحث في حقيقة كلامه سبحانه أولا، وكونه مخلوقاً أو غير مخلوق، حادثاً أو قديماً ثانياً، مما أثاره النصارى الذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي الذي كان يشكّك المسلمين في دينهم. فبما أن القرآن نصّ على أنَّ عيسى بن مريم كلمة الله ألقاها إلى مريم، صار ذلك وسيلة لأن يبث هذا الرجل بين المسلمين قِدَم كلمة الله عن طريق خاص، وهو أنه كان يسألهم: أكلمة الله قديمة أو لا؟.

فإنْ قالوا: قديمة.
قال: ثبت دعوى النصارى بأنَّ عيسى قديم.
وإن قالوا: لا.
قال: زعمتم أنَّ كلامه مخلوق.

فلأجل ذلك قامت المعتزلة لحسم مادة النزاع، فقالوا:إِنَّ القرآن حادث لا قديم، مخلوق لله سبحانه.

ولمَّا لم تكن هذه المسألة مطروحة في العصور السابقة بين المسلمين تشعبت فيها الآراء وتضاربت الأقوال، حتى لقد صدرت بعض النظريات الموهونة جداً كما سيأتي. لكن نظرية المعتزلة لاقت القبول في عصر الخليفة المأمون إلى عصر المتوكل، إلاّ أنَّ الأمر انقلب من عصر المتوكل إلى زمن انقضاء المعتزلة لصالح أهل الحديث والحنابلة.

وفي الفترتين وقعت حوادث مؤسفة وأريقت دماء بريئة، شغلت بال المسلمين عن التفكر فيما يهمهم من أمر الدّين والدّنيا، وكم لهذه المسألة من نظير في تاريخ المسلمين!!.

وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً:

الأول
: إِنَّ وصف الكلام عند الأشاعرة والكلابيّة "الذين أثبتوا لله كلاماً قديماً" من صفات الذات، بخلاف المعتزلة والإِمامية فهو عندهم من صفات فعله وسيوافيك الحق في ذلك. وقد حدث ذلك الاختلاف من ملاحظة قياسين متعارضين، فالأشاعرة تبعوا القياس التالي:كلامه تعالى وصف له، وكل ما هو وصف له فهو قديم، فكلامه تعالى قديم. وأما غيرهم فقد تبعوا قياساً غيره، وهو: كلامه تعالى مؤلف من أجزاء مترتبة متفاوتة متعاقبة في الوجود، وكل ما هو كذلك فهو حادث، فكلامه تعالى حادث.

والأشاعرة: "لأجل تصحيح كونه قديماً" فسَّروه بأنَّه معنى قائم بذاته يسمى الكلام النفسي. والمعتزلة والإِمامية أخذوا بالقياس الثاني وقالوا إِنَّ معنى كلامه أنَّه موجد للحروف وأصوات في الخارج، فهو حادث. ولبعض الحنابلة هنا قول آخذ بكلا القياسين المتناقضين حيث قالوا إنَّ كلامه حروف والأصوات قائمة بذاته وفي الوقت نفسه هي قديمة، وهذا من غرائب الأقوال والأفكار.

الثاني: إِنَّ تفسير كونه سبحانه متكلماً لا ينحصر في الآراء الثلاثة المنقولة عن الأشاعرة والعدلية (المعتزلة والإِمامية) والحنابلة، بل هناك رأي رابع أيدّته البراهين الفلسفية وأوضحته النصوص القرآنية وورد في أحاديث أئمة أهل البيت، وحاصله: إِنَّ العالم بجواهره وأعراضه، فعلُه وفي الوقت نفسه كلامُه، وسوف يوافيك توضيح هذه النظرية.

الثالث: إِنَّ الطريق إلى ثبوت هذه الصفة عند الأشاعرة هو العقل وعند العدلية هو السمع، وسوف يوافيك دليل الأشاعرة عند البحث عن نظريتهم. وأمَّا النقل فقد تضافرت الآيات على توصيفه به، قال تعالى: ﴿مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ(البقرة:253). وقال تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً(النساء:164). وقال سبحانه: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ(الاعراف:143). وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَر أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ(الشورى:51). وقد بَيَّن تعالى أن تكليمه الإنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية:

1ـ "إلاّ وحياً".
2ـ "أو من وراء حجاب".
3ـ "أو يرسل رسولا".

فقد أشار بقوله: (إلاَّ وحياً) إلى الكلام المُلقى في روْع الإنبياء بسرعة وخفاء.

كما أشار بقوله: (أو من وراء حجاب) إلى الكلام المسموع لموسى عليه السَّلام في البقعة المباركة. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَتَـاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىَ الْوَادِ الاَْيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَـارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ(القصص:30). وأشار بقوله: (أو يرسل رسولا) إلى الإِلقاء الذي يتوسط فيه ملك الوحي، قال سبحانه: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَْمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ(الشعراء:193-194) ففي الحقيقة الموحي في الأقسام الثلاثة هو الله سبحانه تارة بلا واسطَة بالإِلقاء في الرَّوْع، أو بالتكلم من وراء حجاب بحيث يُسمع الصوت ولا يُرى المتكلم، وأُخرى بواسطة الرسول. فهذه الأقسام الثلاثة هي الواردة في الآية المباركة.

الرابع: في حقيقة كلامه سبحانه.

قد عرفت أنه لا خلاف بين المسلمين في توصيفه سبحانه بالتكلم وإنما الخلاف في حقيقته أولا، ويتفرع عليه حدوثه وقدمه ثانياً، فيجب البحث في مقامين.

المقام الأول: حقيقة كلامه تعالى
إليك فيما يلي الآراء المطروحة في حقيقة كلامه تعالى:

أ - نظرية المعتزلة: قالت المعتزلة، كلامه تعالى أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرائيل أو النبي. وقد صرح بذلك القاضي عبدالجبار فقال: "حقيقة الكلام، الحروف المنظومة، والأصوات المقطّعة، وهذا كما يكون مُنْعِماً بِنعْمَة توجَد في غيره، ورازقاً بِرزْق يُوجد في غيره، فهكذا يكون متكلماً بإِيجاد الكلام في غيره وليس من شرط الفاعل أن يَحِلّ عليه الفعل"1.

والظاهر أنَّ كونه سبحانه متكلماً بهذا المعنى لا خلاف فيه، إِنَّما الكلام في حصر التكلم بهذا المعنى. قال في شرح المواقف: "هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره بل نحن نقوله ونسميه كلاماً لفظياً ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ولكن نثبت أمراً وراء ذلك"2.

يلاحظ على هذه النظرية أنَّ ما ذكره من تفسير كلامه سبحانه بإِيجاد الحروف والأصوات في الأَشياء، إنَّما يصح في الكلام الذي يخاطب به سبحانه شخصاً أو أمة. فطريقه هو ما ذكره المعتزلة، وإليه ينظر ما ذكرنا من الآيات حول تكليمه سبحانه موسى أو غيره قال سبحانه: ﴿وَكَلّم الله مُوسَى تَكْلِيمَاً(النساء:164). وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلّمَهُ الله إِلاّ وَحْياً..(الشورى:51). وامَّا إذا لم يكن هناك مخاطب خاص لجهة الخطاب فلا بدّ أن يكون كلامه سبحانه على وجه الإِطلاق هو فعله المُنْبِئ عن جماله، المظهر لكماله. فاكتفاء المعتزلة بما ذكَروا من التفسير إنَّما يناسب القسم الأول، وأمَّا القسم الثاني فلا ينطبق عليه. إذ فعله على وجه الإِطلاق ليس من قبيل الأصوات والألفاظ، بل عبارة عن الأعيان الخارجية والجواهر والأعراض. وقد سَمَّى سبحانه فعلَه كلاماً في غير واحد من الآيات وهذه هي النظرية التي نذكرها فيما يلي:

ب - نظرية الحكماء: لا شك أنَّ الكلام في أنظار عامة الناس هو الحروف والأصوات الصادرة من المتكلم، القائمة به. وهو يحصل من تَمَوُّج الهواء واهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج زال الكلام معه. ولكن الإِنسان الاجتماعي يتوسَّع في إطلاقه فيطلق الكلام على الخطبة المنقولة أو الشعر المروي عن شخص، ويقول هذا كلام النبي أو إلقاء امرئ القيس، مع أنَّ كلامهما قد زال بزوال الموجات والاهتزازات. وما هذا إلاّ من باب التوسُّع في الإِطلاق ومشاهدة ترتّب الأثر على المروي والمنقول.

وعلى هذا فكل فعل من المتكلم أفاد نفس الأثر الذي يفيده كلامه من إبراز ما يكتنفه الفاعل في سريرته من المعاني والحقائق، يصح تسميته كلاماً من باب التوسّع والتَّطوير. وقد عرفت أنَّ المصباح وضع حينما وضع على مصداق بسيط لا يعدو الغصن المشتعل. ولكن لما كان أثره "وهو الإِنارة" موجوداً في الجهاز الزيتي والغازي والكهربائي أطلق على الجميع، ومثل ذلك الحياة على النحو الذي أوضحناه. فإذا صحت تلك التسمية وجاز ذلك التوسع في ذينك اللفظين، يجوز في لفظ "الكلام" فهو وإنْ وُضع يوم وضع للأصوات والحروف المتتابعة الكاشفة عما يقوم في ضمير المتكلم من المعاني، إلاّ أنَّه لو وجد هناك شيء يفيد ما تفيده الأصوات والحروف المتتابعة بنحو أعلى وأتم لصحت تسميته كلاماً أو كلمة. وهذا الشيء الذي يمكن أن يقوم مقام الكلام اللفظي هو فعل الفاعل الذي يليق أن يسمى بالكلام الفعلي، ففعل كل فاعل يكشف عن مدى ما يكتنفه الفاعل من العلم والقدرة والعظمة والكمال. غير أنَّ دلالة الألفاظ على السرائر والضمائر اعتبارية ودلالة الأفعال والآثار على ما عليه الفاعل والمؤثر من العظمة تكوينية.

ولأجل ذلك نرى أنَّه سبحانه يصف عيسى بن مريم بأنَّه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم العذراء ويقول: ﴿يَـا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَـاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ(النساء:171).

وكيف لا يكون سيدنا المسيح كلمة الله مع أنه يكشف عن قدرةِ الله سبحانه على خلق الإِنسان في الرحم من دون لقاء بين أُنثى وذكر، ولأجل ذلك عدّ وجوده آية ومعجزة.

وفي ضوء هذا الأصل يَعُدّ سبحانه كل ما في الكون من كلماته ويقول: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا(الكهف:109).

ويقول سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الاَْرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّهِ(لقمان:27).

يقول علي عليه السَّلام: "يَقُول لِما أَرادَ كَوْنَهُ: كُنْ، فَيَكُونْ. لا بِصَوْت يَقْرَع، ولا بِنداء يُسْمع، وإِنَّما كلامُه سبحانَهُ فِعْلٌ منه، أَنشأه ومثّلهُ، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إِلهاً ثانياً"3.

وقد نقل عنه عليه السَّلام أنَّه قال مبيّناً عظمة خلقة الإِنسان:

أتزعم أنّكَ جــرمٌ صغيــرٌ     وفيكَ انطوى العالُمُ الأكبرُ
وأنتَ الكتابُ المبينُ الذي     بأحرُفِــهِ يَظْهَرُ المُضْمَـــرُ


فكل ما في صحيفة الكون من الموجودات الإِمكانية كلماته، وتخبر عمّا في المبدأ من كمال وجمال وعلم وقدرة.

وهناك كلام للعلامة الطباطبائي قدس سره نأتي بخلاصته:

ما يُسمى عند الناس قولا وكلاماً عبارةٌ عن إبراز الإنسان المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى، فإذا قرع سمعُ المخاطب أو السامع انتقل المعنى الموجود في ذهن المتكلم إلى ذهنهما فحصل بذلك الغرض من الكلام وهو التفهيم والتَفَهّم. وهناك نكتة نبه عليها الحكماء فقالوا: حقيقة الكلام متقوّمة بما يدل على معنى خفي مُضمر، وأما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الإِنسان، ومروره من طريق الحنجرة واعتماده على مقاطع الفم وكونه بحيث يقبل أنْ يقع مسموعاً، فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق وليست دخيلة في حقيقة المعنى الذي يَتَقَوّم به الكلام.

فالكلام اللفظي الموضوع، الدال على ما في الضمير، كلام. وكذا الإِشارة الوافية لإِراءة المعنى، كلام، كما أنَّ إشاراتك بيدك إلى القعود والقيام، أمر وقول. وكذا الوجودات الخارجية فإنها لمَّا كانت حاكية بوجودها عن وجود علّتها، وبخصوصياتها عن الخصوصيات الكامنة فيها، صارت الوجودات الخارجية "بما أنَّ وجودها مثال لكمال علّتها" كلاماً. وعليه فمجموع العالم الإِمكاني كلام الله سبحانه، يتكلم به بإِيجاده وإنشائه، فيظهر المكنون من كمال أسمائه وصفاته. وكما أنَّه تعالى خالق العالَم والعالَم مخلوقه، كذلك هو تعالى متكلم بالعالم، مظهر به خبايا الأسماء والصفات، والعالم كلامه4.

قال أمير المؤمنين وسيد الموحدين عليه السَّلام في نهج البلاغة: "يُخْبِر لا بلسان ولَهَوات، ويَسْمَعُ لا بخرُوق وادوات، يقول ولا يَلفِظُ، ويَحْفَظُ ولا يَتَحَفَّظُ، ويُريد ولا يُضْمِر، يُحِبّ ويرضى من غير رِقَّة، ويُبْغِضُ ويغضب من غير مشقّة، يقول لمن أراد كونه: كن. فيكون، لا بصوت يَقْرَع، ولا بِنداء يُسْمَع، وإنما كلامه سبحانه فِعْلٌ منه أنشأه وَمَثَّلَهُ، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً"5.

وإلى ذلك يشير المحقق السبزواري في منظومته بقوله:

لســـالك نــهج البلاغــة انتَهَج         كلامه سبحانه الفعل خَرَج
إِنْ تَدْرِ هذا، حمدَ الأشيا تعرِف        إِنْ كلماتُـه إِليـــها تُضـــف
6

إلى هنا وقفت على نظرية الحكماء في كلامه سبحانه وقد حان وقت البحث عن نظرية الأشاعرة في هذا المقام.

ج - نظرية الأشاعرة: جعلت الأشاعرة التكلم من الصفات الذاتيّة، ووصفوا كلامه سبحانه بالكلام النفسي، وقالوا: إنَّ الكلام النفسي غير العلم وغير الإِرادة والكراهة. وقد تفننوا في تقريب ما ادّعوه بفنون مختلفة، وقبل أن نقوم بنقل نصوصهم نرسم مقدمة مفيدة في المقام فنقول: لا شك أَنَّ المتكلم عندما يخبر عن شيء ففيه عدة تصورات وتصديق، كلها من مقولة العلم، أما التصور فهو عبارة عن إحضار الموضوع والمحمول والنسبة بينهما في الذهن. وأما التصديق فهو الإِذعان بنفس النسبة على المشهور. ولا شك أنَّ التصور والتصديق شعبتا العلم. والعلم ينقسم إليهما. وقد قالوا: العلم إن كان إذعاناً بالنسبة فتصديق وإلاَّ فتصور. هذا في الإِخبار عن الشيء.

وأما الإِنشاء، ففي مورد الأمر، إرادة في الذهن، وفي مورد النهي، كراهة فيه. وفي الاستفهام والتمني والترجيّ ما يناسبها.

فالأشاعرة قائلون بأنَّ في الجمل الإِخبارية "وراء العلم" وفي الإِنشائية، كالأمر والنهي مثلا، وراء الإِرادة والكراهة، شيء في ذهن المتكلم يسمى بالكلام النفسي وهو الكلام حقيقة، وأما الكلام اللفظي فهو تعبير عنه، وهذا الكلام (النفسي) في الإِنسان حادث يتبع حدوث ذاته، وفيه سبحانه قديم لقدم ذاته، ولأجل إيضاح الحال نأتي بنصوص أقطاب الأشاعرة في المقام.

1- قال الفاضل القوشجي في شرح التجريد: "إنَّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو إستخبار أو غير ذلك يجد في نفسه معاني يعبّر عنها، نسمّيها بالكلام الحسيّ. والمعنى الذي يجده في نفسه ويدور في خِلْده، لا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات، ويقصد المتكلم حصوله في نفس السامع على موجبه، هو الذي نسمّيه الكلام"7.


ولا يخفى أن ما ذكره مجمل لا يعرب عن شيء واضح، ولكن الفضل بن روزبهان ذكر كلاماً أوضح من كلامه.

2- قال الفضل في نهج الحق: "إِنَّ الكلام عندهم لفظ مشترك يطلقونه على المؤلف من الحروف المسموعة، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ ويقولون هو الكلام حقيقة، وهو قديم قائم بذاته. ولا بد من إِثبات هذا الكلام، فإنَّ العرف لا يفهمون من الكلام إلاّ المؤلف من الحروف والأصوات فنقول:ليرجع الشخص إلى نفسه أنَّه إذا أراد التكلّم بالكلام فهل يفهم من ذاته أنَّه يزوّر ويرتب معاني فيعزِم على التكلّم بها، كما أنَّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم فإنه يرتب في نفسه معاني وأشياء ويقول في نفسه سأتكلم بهذا. فالمنصف يجد من نفسه هذا البتَّة. فها هو الكلام النفسي8.

ثم نقول على طريقة الدليل إِنَّ الألفاظ التي نتكلم بها لها مدلولات قائمة بالنفس فنقول هذه المدلولات هي الكلام النفسي.

يلاحظ عليه: إِنَّ ما ذكره صحيح ولكن المهم إِثبات أنَّ هذه المعاني في الإِخبار غير العلم، وهو غير ثابت بل الثابت خلافه، وأنَّ المعاني التي تدور في خِلْد المتكلم ليست إلاّ تصور المعاني المفردة، أو المركبة، أو الإِذعان بالنسبة، فيرجع الكلام النفسي إلى التصورات والتصديقات، فأي شيء هنا وراء العلم حتى نسمّيه بالكلام النفسي. كما أنَّه عندما يرتب المتكلم المعاني الإِنشائية، فلا يرتب إلا إرادته وكراهته أو ما يكون مقدمة لهما، كتصور الشيء والتصديق بالفائدة. فيرجع الكلام النفسي في الإِنشاء إلى الإِرادة والكراهة، فأي شيء هنا غيرهما وغير التصوّر حتى نسميه بالكلام النفسي. وعند ذلك لا يكون التكلم وصفاً وراء العلم في الإِخبار ووراءه مع الإِرادة في الإِنشاء. مع أنَّ الأشاعرة يصرّون على إثبات وصف للمتكلم وراء العلم والإِرادة، ولأجل ذلك يقولون: كونه متكلماً بالذات، غير كونه عالماً ومريداً بالذات. والأوْلى أن نستعرض ما استدلوا به على أنَّ الكلام النفسي شيء وراء العلم. وهذا بيانه:

الأول: إنَّ الكلام النفسي غير العلم لأن الرجل قد يخبر عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه، فالإِخبار عن الشيء غير العلم به. قال السيد الشريف في شرح المواقف: "والكلام النفسي في الإِخبار معنى قائم بالنفس لا يتغير بتغير العبارات وهو غير العلم إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه، بل يعلم خلافه، أو يشكّ فيه"9.

يلاحظ عليه: إنَّ المراد من رجوع كل ما في الذهن في ظرف الإِخبار إلى العلم، هو الرجوع إلى العلم الجامع بين التصور والتصديق. فالمخبر الشاك أو العالم بالخلاف يتصور الموضوع والمحمول والنسبة الحُكميّة ثم يخبر. فما في ذهنه من هذه التصورات الثلاثة لا يخرج عن إطار العلم، وهو التصور. نعم ليس في ذهنه الشق الآخر من العلم وهو التصديق. ومنشأ الإِشتباه تفسير العلم بالتصديق فزعموا أنَّه غيرموجود عند الإِخبار في ذهن المُخبر الشاك أو العالِم بالخلاف، والغفلةُ عن أنَّ عدم وجود العلم بمعنى التصديق لا يدُلّ على عدم وجود القسم الآخر من العلم وهو التصوّر.

الثاني: ما استدلوا به في مجال الإِنشاء قائلين بأنه يوجد في ظرف الإِنشاء شيء غير الإِرادة والكراهة، وهو الكلام النفسي، لأنه قد يأمر الرجُل بما لا يريده، كالمُخْتَبِر لعبده هل يطيعُه أولا، فالمقصود هو الإِختبار دون الإِتيان10.

يلاحظ عليه: أولا: إِنَّ الأَوامر الإِختبارية على قسمين:

قسم تتعلق الإِرادة فيه بنفس المقدِّمة ولا تتعلق بنفس الفعل، كما في أمره سبحانه "الخليل" عليه السَّلام بذبح اسماعيل. ولأجل ذلك لما أتى "الخليل" بالمقدمات نودي ﴿أنْ يا إِبراهيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُؤْيَا...(الصافات:104-105).

وقسم تتعلق الإِرادة فيه بالمقدمة وذيها غاية الأمر أنَّ الداعي إلى الأمر مصلحة مترتبة على نفس القيام بالفعل، لا على ذات الفعل، كما إذا أمر الأميرُ أحدَ وزرائه في الملأ العام بإحضار الماء لتفهيم الحاضرين بأنَّه مطيع غير متمرّد. وفي هذه الحالة "كالحالة السابقة" لا يخلو المقام من إرادة، غاية الأمر أنَّ القسم الأول تتعلق الإِرادة فيه بالمقدمة فقط، وهنا بالمقدمة مع ذيها. فما صحّ قولُهم إنَّه لا توجد الإِرادةُ في الأوامر الإِختبارية.

وثانياً:إِنَّ الظاهر من المستدل هو تصور أنَّ إرادة الآمر تتعلق بفعل الغير، أي المأمور، فلأجل ذلك يحكم بأنَّه لا إرادة متعلّقة بفعل الغير في الأوامر الإِمتحانية، ويستنتج أنَّ فيها شيئاً غير الإِرادة ربما يسمى بالطلب عندهم أو بالكلام النفسي. ولكن الحق غير ذلك فإنَّ إرادة الآمر لا تتعلق بفعل الغير لأنَّ فعله خارج عن إطار اختيار الآمر، وما هو كذلك لا يقع متعلقاً للإِرادة. فلأجل ذلك، إِنَّ ما اشتهر من القاعدة من تعلّق إرادة الآمر والناهي بفعل المأمور به، كلامُ صوري، إذْ هي لا تتعلق إلاّ بالفعل الإِختياري وليس فعل الغير من أفعال الآمر الإِختيارية، فلا محيص من القول بأن إرادة الآمر متعلقة بفعل نفسه وهو الأمر والنهي، وإن شئت قلت إنشاء البعث إلى الفعل أو الزجر عنه، وكلاهما واقع في إطار اختيار الآمر ويعدان من أفعاله الإِختيارية.

نعم، الغاية من البعث والزجر هو انبعاث المأمور إلى ما بُعث إليه، أو انتهاؤه عمّا زُجر عنه لعلم المكلِّف بأنَّ في التخلف مضاعفات دنيوية أو أُخروية.

وعلى ذلك يكون تعلق إرادة الآمر في الأوامر الجدّية والإِختبارية على وزان وهو تعلق إرادته ببعث المأمور وزجره، لا فعل المأمور ولا انزجاره فإنه غاية للآمر لا مراد له. فالقائل خلط بين متعلَّق الإِرادة، وما هو غاية الأمر والنهي.

وربما يبدو في الذهن أن يُعترض على ما ذكرنا بأنَّ الآمر إذا كان إنساناً لا تتعلق إرادته بفعل الغير لخروجه عن اختياره وأما الواجب سبحانه فهو آمر قاهر، إرادته نافذة في كل شيء، ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَـنِ عَبْدًا(مريم:93).

ولكنَّ الإِجابة عن هذا الإِعتراض واضحة، فإنَّ المقصود من الإِرادة هنا هو الإِرادة التشريعية لا الإِرادة التكوينية القاهرة على العباد المُخرجة لهم عن وصف الإِختيار الجاعلة لهم كآلة بلا إرادة، فهي خارجة عن مورد البحث.

قال سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الاَْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً(يونس:99). فهذه الآية تعرب عن عدم تعلق مشيئته سبحانه بإيمان من في الأرض، ولكن من جانب آخر تعلقت مشيئته بإيمان كل مكلف واع. قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ(الاحزاب:4). فقوله: "الحقّ" عام، كما أنَّ هدايته السبيل عامة مثله لكل الناس.

وقال سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ(النساء:26)، إلى غير ذلك من الآيات الناصَّة على عموم هدايته التشريعية.

الثالث: إِنَّ العصاة والكفار مكلّفون بما كُلّف به أهل الطاعة والإيمان بنصّ القرآن الكريم، والتكليف عليهم لا يكون ناشئاً من إرادة الله سبحانه وإلاّ لزم تفكيك إرادته عن مراده، ولا بدّ أن يكون هناك منشأ آخر للتكليف وهو الذي نسميه بالكلام النفسي تارة، والطلب أُخرى، فيستنتج من ذلك أنَّه يوجد في الإِنشاء شيء غير الإِرادة.

وقد أجابت عنه المعتزلة بأن إرادته سبحانه لو تعلقت بفعل نفسه فلا تنفك عن المراد، وأمَّا إذا تعلَّقتْ بفعل الغير، فبما أنَّها تعلقت بالفعل الصادر من العبد عن حرية واختيار فلا محالة يكون الفعل مسبوقاً باختيار العبد، فإن أراد واختار العبد يتحقق الفعل، وإن لم يرد فلا يتحقق.

وبعبارة أخرى: لم تتعلق مشيئته سبحانه على صدوره الفعل من العبد على كل تقدير، أيْ سواء أراده أمْ لم يرده، وإنَّما تعلقت على صدور منه بشرط سبق الإِرادة، فإنْ سبقت يتحقق الفعل وإلاَّ فلا.

والأوْلى أنْ يقال: إِنَّ إرادته سبحانه لا تتخلف عن مراده مطلقاً من غير فرق بين الإِرادة التكوينية والإرادة التشريعيَّة. أمَّا الأُولى، فلأنَّه لو تعلقت إرادته التكوينية على إيجاد الشيء مباشرة أوْ عن طريق الأسباب فيتحقق لا محالة، قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْـئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(يس:82).

وأمَّا الثَانية، فلأن متعلّقها هو نفس الإنشاء والبعث، أو نفس الزجر والتنفير، وهو متحقق بلا شك في جميع أوامره ونواهيه، سواء امتثل العبد أمْ خالف.

وأمَّا فعل العبد وانتهاؤه فليسا متعلقين للإِرادة التشريعية في أوامره ونواهيه، فتخلُّفُهما لا يُعَدّ نقضاً للقاعدة، لأنَّ فعل الغير لا يكون متعلقاً لإِرادة أحد، لعدم كون فعل الغير في اختيار المريد؛ ولأجل ذلك قلنا في محله إِنَّ الإِرادة التشريعية إنما تتعلق بفعل النفس، أيْ إنشاء البعث والزجر، لا فعل الغير.

فخرجنا بهذه النتيجة وهي أنَّ الإِرادة التشريعيَّة موجودة في مورد العُصاة والكُفّار، والمتعلَّق متحقق، وإِنْ لم يمتثل العبد.

الرابع: ما ذكره الفَضْل بن رُوزبَهان من أنَّ كلّ عاقل يعلم أنَّ المتكلم من قامت به صفة التكلّم، ولو كان معنى كونه سبحانه متكلماً هو خَلْقُه الكلام، فلا يكون ذلك الوصف قائماً به، فلا يقال لخالق الكلام متكلم، كما لا يقال لخالق الذَوْق أنَّه ذائق11.

يلاحظ عليه: إِنَّ قيام المبدأ بالفاعل ليس قسماً واحداً وهو القسم الحلولي، بل له أقسام، فإنَّ القيام منه ما هو صدوري، كالقتل والضرب في القاتل والضَّارب، ومنه حُلولي كالعلم والقدرة في العالِم والقادر. والتَّكَلُّم كالضرب ليس من المبادئ الحُلولية في الفاعل بل من المبادئ الصدوريّة، فلأجل أنَّه سبحانه موجِد الكلام يطلق عليه أنَّه متكلم وزان إطلاق القاتل عليه سبحانه. بل ربما يصح الإِطلاق وإنْ لم يكن المبدأ قائماً بالفاعل أبداً لا صدورياً ولا حُلوليّاً بل يكفي نوع ملابسة بالمبدأ، كالتَّمار واللبّان لبائع التمر واللبن. وأما عدم إطلاق الذائق على خالق الذوق فلأجل أنَّ صِدْق المشتقات بإحدى أنواع القيام ليست قياسية حتى يطلق عليه سبحانه الذائق والشامّ بسبب إيجاده الذوق والشم. وربما احترز الإِلهيون عن توصيفه بهما لأجل الإِبتعاد عمّا يوهم التجسيم ولوازمه.

الخامس: إِنَّ لفظ الكلام كما يطلق على الكلام اللفظي، يطلق على الموجود في النفس. قال سبحانه: ﴿وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(الملك:13).

يلاحظ عليه: إِنَّ إطلاق "القول" على الموجود في الضمير من باب العناية والمشاكلة. فإنَّ "القول" من التقوّل باللسان فلا يطلق على الموجود في الذهن الذي لا واقعية له إلاَّ الصورة العلميَّة إلاّ من باب العناية.

حصيلة البحث
إِنَّ الأشاعرة زعموا أنَّ في ذهن المتكلم في الجملة الخبرية والإِنشائية وراء التصورات والتصديقات في الأولى، ووراء الإِرادة في الثانية شيئاً يسمونه "الكلام النفسي"، وربما خصوا لفظ "الطلب" بالكلام النفسي في القسم الإِنشائي. وبذلك صححوا كونه سبحانه متكلماً، ككونه عالماً وقادراً وأنَّ الكُلّ من الصفات الذاتية.

ولكنَّ البحث والتحليل "كما مرّ عليك" أوقَفَنا على خلاف ما ذهبوا إليه، لِما عرفت من أنه ليس وراء العلم في الجُمَل الخبرية، ولا وراء الإِرادة والكراهة في الجمل الإِنشائية شيء نسميه كلاماً نفسيّاً، كما عرفت أنَّ الطلب أيضاً هو نفس الإِرادة. ولو أرادوا بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي تنطبق على لفظه، يرجع لبه إلى العلم ولا يزيد عليه، وإِنْ أرادوا به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إِذا راجعناه.

وأما التجاء الأشعري فيما ذهب إليه إلى انشاد قول الشاعر:

إنَّ الكلام لفي الفؤاد وإنما    جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فالأبحاث العقلية أرفع مكانة من أَنّْ يستدل عليها بأشعار الشعراء12.

وبذلك تقف على أنَّ ما يقوله المحقق الطوسي من أَنَّ "الكلام النفسي غيرُ معقول"، أمر متين لا غبار عليه.

إلى هنا تم بيان النظريات الثَّلاث: المعتزلة والحكماء والأشاعرة.


* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج 1 . ص187-205.


1- شرح الأصول الخمسة للقاضي عبدالجبار، المتوفي عام 415، ص 528.
2- شرح المواقف، ج 1، ص 77.
3- نهج البلاغة، الخطبة 179، ج 2، ص 122.
4- الميزان، ج 2، ص 325، ط بيروت، بتلخيص.
5- نهج البلاغة، الخطبة 179، ج 2، ص 122.
6- شرح منظومة السبزواري، لناظمها، ص 190.
7- شرح التجريد للقوشجي، ص 420.
8- نهج الحق المطبوع في ضمن دلائل الصدق، ج1، ص 146.
9- شرح المواقف، ج 2، ص 94.
10- نفس المصدر.
11- دلائل الصّدق، ج 1، ص 147، ط النَّجف الأشرف.
12- لاحظ الميزان، ج14، ص250.

2009-07-21