ولاية العهد
شهادة الإمام الرضا(ع)
من عجائب التاريخ أن يكون مثل هذا المأمون حاضراً لأن يأتي بالإمام الرضا عليه السلام من المدينة، وعندما يحضر الإمام يعرض عليه قَبول الخلافة منه, ثمّ يرضى أخيراً بأن يلزم الإمام الرضا عليه السلام بولاية العهد، حتّى أنّه يوصل الأمر إلى حدّ التهديد
عدد الزوار: 100البيعة |
▪ |
الإمام عليه السلام مع المأمون |
▪ |
صلاة العيد |
▪ |
موقف الإمام عليه السلام من ولاية العهد |
▪ |
الإقامة الجبريّة |
▪ |
الاستسقاء |
▪ |
عزم المأمون على قتل الإمام عليه السلام |
▪ |
"من عجائب التاريخ أن يكون مثل هذا المأمون حاضراً لأن يأتي بالإمام الرضا عليه السلام من المدينة، وعندما يحضر الإمام يعرض عليه قَبول الخلافة منه, ثمّ يرضى أخيراً بأن يلزم الإمام الرضا عليه السلام بولاية العهد، حتّى أنّه يوصل الأمر إلى حدّ التهديد, التهديد الصعب, فما هو الباعث له على هذا العمل؟ وماذا كان يخطط؟"1 .
في سنة 198 هجريّة بعد قتل محمّد الأمين, وانتقال السلطة إلى أخيه عبد الله المأمون, أحسّ المأمون أنّ الأخطار تهدّد دولته من جميع الجهات.
ففي الكوفة: خرج أبو السرايا يدعو لمحمّد بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن بن الحسن بن عليّ عليه السلام وبايعه الناس.
وفي المدينة: خرج محمّد بن سليمان بن داود بن الحسن, والحسن بن الحسين بن عليّ بن الحسين المعروف بالأفطس, ودعا إلى ابن طباطبا، فلمّا مات ابن طباطبا2 ، دعا إلى نفسه.
واشتعلت الثورات في أنحاء دولة المأمون, ومع كلّ ثائرٍ عشرات الألوف يناصرونه على أولئك الجبابرة، الذين أقاموا عروشهم على جماجم الأبرياء والصلحاء، وقتل الأئمّة المعصومين: محمّد بن عليّ الباقر، وجعفر بن محمّد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم3 عليه السلام .
وكان المأمون يدرك : أنّ إنقاذ الموقف يتوقّف على:
1- إخماد ثورات العلويّين، الذين كانوا يتمتّعون بالاحترام والتقدير، ولهم نفوذ واسع في جميع الفئات والطبقات..
2- أن يحصل من العلويّين على اعتراف بشرعيّة خلافة العبّاسيّين, وليكون بذلك قد أفقدهم سلاحاً قويّاً، لن يقرّ له قرار، إلّا إذا أفقدهم إيّاه..
3- استئصال هذا العطف، وذلك التقدير والاحترام- الذي كانوا يتمتّعون به، وكان يزداد يوماً عن يوم- استئصاله من نفوس الناس نهائيّاً، والعمل على تشويههم أمام الرأي العامّ، بالطرق، والأساليب التي لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات، حتّى لا يقدروا بعد ذلك على أيّ تحرّك، ولا يجدوا المؤيّدين لأيّة دعوة لهم، وليكون القضاء عليهم بعد ذلك نهائيّاً سهلاً وميسوراً..
4- اكتساب ثقة العرب ومحبّتهم..
5- استمرار تأييد الخراسانيّين، وعامّة الإيرانيّين له.
6- إرضاء العبّاسيّين، والمتشيّعين لهم، من أعداء العلويّين.
7- تعزيز ثقة الناس بشخص المأمون، الذي كان لقتله أخاه أثر سيّءعلى سمعته، وثقة الناس به.
8- وأخيراً.. أن يأمن الخطر الذي كان يتهدّده من تلك الشخصيّة الفذّة، التي كانت تملأ جوانبه فَرقاً، ورعباً.. وأن يتحاشى الصدام المسلّح معها, ألا وهي شخصيّة الإمام الرضا عليه السلام، وأن يمهّد الطريق للتخلّص منها، والقضاء عليها، قضاء مبرماً، ونهائيّاً4.
هذا مضافاً إلى إظهار الإمام بصورة الراغب للخلافة والطالب لها, كما سيأتي قول الإمام عليه السلام للمأمون: "تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى لم يزهد في الدنيا, بل زهدت الدنيا فيه, ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة..؟! ".
الإمام عليه السلام مع المأمون
وفي مرو عرض عليه المأمون أن يتقلّد الإمرة والخلافة، فأبى الرضا عليه السلام ذلك، وجرت في هذا مخاطبات كثيرة، وبقوا في ذلك نحواً من شهرين، كلّ ذلك يأبى أبو الحسن الرضا عليه السلام أن يقبل ما يعرض عليه5. .إلى أن قبل بولاية العهد6 تحت وطأة التهديد والوعيد..
عن أبي الصلت الهرويّ قال: إنّ المأمون قال للرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله، قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحقّ بالخلافة منّي، فقال الرضا عليه السلام: "بالعبوديّة لله عزّ وجلّ أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عزّ وجلّ". فقال له المأمون: فإنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك وأبايعك، فقال له الرضا عليه السلام: "إن كانت هذه الخلافة لك، وجعلها الله لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك", فقال له المأمون: يا ابن رسول الله، لا بدّ لك من قبول هذا الأمر، فقال: " لست أفعل ذلك طائعاً أبداً" ، فما زال يجهد به أيّاماً حتّى يئس من قبوله، فقال له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي.
فقال الرضا عليه السلام: "والله لقد حدّثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّي أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسمّ مظلوماً, تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد", فبكى المأمون ثمّ قال له: يا ابن رسول الله، ومن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حيّ؟ فقال الرضا عليه السلام: " أما إنّي لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت", فقال المأمون: يا ابن رسول الله، إنّما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس: إنّك زاهد في الدنيا, فقال الرضا عليه السلام: " والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّ وجلّ, وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإنّي لأعلم ما تريد" ، فقال المأمون: وما أريد؟ قال: " لي الأمان على الصدق؟" قال: لك الأمان، قال: " تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى لم يزهد في الدنيا, بل زهدت الدنيا فيه, ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟" فغضب المأمون، ثمّ قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه, وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم، لئن قبلت ولاية العهد وإلّا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك.
فقال الرضا عليه السلام: " قد نهاني الله عزّ وجلّ أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أنّي لا أُوَلِّي أحداً, ولا أعزل أحداً, ولا أنقض رسماً ولا سنّة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً "، فرضي منه بذلك، وجعله وليّ عهده، كراهة منه عليه السلام لذلك7 .
وعن موسى بن سلمة قال: كنت بخراسان مع محمّد بن جعفر، فسمعت أن ذا الرئاستين (الفضل بن سهل)8 خرج ذات يوم وهو يقول: وا عجباه وقد رأيت عجباً، سلوني ما رأيت؟ فقالوا: وما رأيت أصلحك الله؟ قال: رأيت المأمون أمير المؤمنين يقول لعليّ بن موسى الرضا: قد رأيت أن أقلّدك أمور المسلمين، وأفسخ ما في رقبتي وأجعله في رقبتك، ورأيت عليّ بن موسى يقول: " يا أمير المؤمنين لا طاقة لي بذلك ولا قوّة "، فما رأيت خلافة قطّ كانت أضيع منها، إن أمير المؤمنين يتفصّى منها ويعرضها على عليّ بن موسى، وعليّ بن موسى يرفضها ويأبى9 .
البيعة
وخرج الفضل بن سهل فأعلم الناس برأي المأمون في عليّ بن موسى، وأنّه قد ولّاه عهده وسمّاه الرضا10، وأمرهم بلبس الخضرة (وهو شعار بني هاشم، ونزع السواد الذي كان شعاراً لبني العبّاس), والعود لبيعته في الخميس الآخر، على أن يأخذوا رزق سنة.
فلمّا كان ذلك اليوم (في شهر رمضان سنة 201 للهجرة)11, ركب الناس على طبقاتهم من القوّاد والحجّاب والقضاة وغيرهم في الخضرة، وجلس المأمون، ووضع للرضا وسادتين عظيمتين، حتّى لحق بمجلسه وفرشه، وأجلس الرضا عليه السلام عليهما في الخضرة، وعليه عمامة وسيف، ثمّ أمر ابنه العبّاس بن المأمون يبايع له أوّل الناس، فرفع الرضا عليه السلام يده، فتلقّى بها وجه نفسه، وببطنها وجوههم، فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة، فقال الرضا عليه السلام: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هكذا كان يبايع". فبايعه الناس ويده فوق أيديهم، ووضعت البدر12 ، وقام الخطباء والشعراء فجعلوا يذكرون فضل الرضا عليه السلام، وما كان من المأمون في أمره...
ثمّ قال المأمون للرضا عليه السلام: اخطب الناس وتكلّم فيهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "إنّ لنا عليكم حقّاً برسول الله، ولكم علينا حقّاً به، فإذا أدّيتم إلينا ذلك وجب علينا الحقّ لكم", ولم يذكر عنه غير هذا في ذلك المجلس13 ودعا المأمون الولاة والقضاة والقوّاد والشاكريّة14وولد العبّاس إلى ذلك، فاضطربوا عليه، فأخرج أموالاً كثيرة، وأعطى القوّاد وأرضاهم إلّا ثلاثة نفر من قوّاده أبوا ذلك، وهم: عيسى الجلوديّ، وعليّ بن أبي عمران، وأبو يونس، فإنّهم أَبَوْا أن يدخلوا في بيعة الرضا عليه السلام، فحبسهم، وبويع الرضا عليه السلام، وكتب ذلك إلى البلدان، وضربت الدنانير والدراهم باسمه.
وزوّجه المأمون ابنته أمّ حبيب15, وخطب له على المنابر، وأنفق المأمون في ذلك أموالاً كثيرة16.
وسُمِع عبد الجبار بن سعيد17 يخطب في تلك السنة على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالمدينة، فقال في الدعاء له: وليّ عهد المسلمين عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
سِتَّةُ آباءٍ هـُـمُ ما هـُـمُ أَفْضَلُ مَنْ يَشْرَبُ صَوْبَ الغَمامْ18
وروي: أنّ المأمون لمّا جعل عليّ بن موسى الرضا عليه السلام وليّ عهده، وأنّ الشعراء قصدوا المأمون، ووصلهم بأموال جمّة حين مدحوا الرضا عليه السلام وصوّبوا رأي المأمون في الأشعار، دون أبي نواس، فإنّه لم يقصده ولم يمدحه، ودخل إلى المأمون فقال له: يا أبا نواس، قد علمت مكان عليّ بن موسى الرضا منّي، وما أكرمته به، فلماذا أخّرت مدحه وأنت شاعر زمانك وقريع19 دهرك؟ فأنشأ يقول:
قِيلَ لِي أَنْتَ أَوْحَدَ النَّاس طُرّاً في فُنُونٍ مِنَ الكَلامِ النبيّهِ
لَكَ مِنْ جَوْهَرِ الكَلامِ بَدِيعٌ ُثْمِرُ الدُّرُّ في يَدَيْ مُجْتَنِيهِ
َفعَلامَ تَرَكْتَ مَدْحَ ابْنِ مُوسَى والخِصالِ الَّتي تَجمَّعْنَ فيهِ؟
قُلْتُ: لا أَهْتَدِي لمدْحِ إِمامٍ كان جِبْريلُ خادِماً لأَبِيهِ
فقال له المأمون: أحسنت، ووصله من المال بمثل الذي وصل به كافّة الشعراء، وفضّله عليهم20 .
موقف الإمام عليه السلام من ولاية العهد
وذكر عن بعض من حضر، ممّن كان يختصّ بالرضا عليه السلام، أنّه قال: كنت بين يديه في ذلك اليوم، فنظر إليّ وأنا مستبشر بما جرى، فأومأ إليّ أن ادن منّي فدنوت منه، فقال لي من حيث لا يسمعه غيري: "لا تشغل قلبك بهذا الأمر ولا تستبشر به، فإنّه شيء لا يتمّ"21.
ولمّا ولي الرضا عليه السلام العهد.. رفع يديه إلى السماء وقال: " أللَّهم إنّك تعلم أنّي مكره مضطرّ، فلا تؤاخذني، كما لم تؤاخذ عبدك ونبيّك يوسف، حين دفع إلى ولاية مصر"22
وعن الريّان بن الصلت، قال: دخلت على عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، فقلت له: يا ابن رسول الله، إنّ الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا! فقال عليه السلام: "قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أنّ يوسف عليه السلام كان نبيّاً رسولاً، فلمّا دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز، قال له: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ . ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أنّي ما دخلت في هذاالأمر إلا دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى، وهو المستعان"23 .
وعن محمّد بن عرفة، قال: قلت للرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟ فقال: " ما حمل جدّي أمير المؤمنين عليه السلام على الدخول في الشورى"24 .
صلاة العيد
ولمّا حضر العيد- وكان قد عُقد للرضاعليه السلامالأمر بولاية العهد- بعث إليه المأمون في الركوب إلى العيد، والصلاة بالناس، والخُطبة بهم، فبعث إليه الرضا عليه السلام: "قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الأمر، فاعفني من الصلاة بالناس". فقال له المأمون: إنّما أريد بذلك أن تطمئنّ قلوب الناس، ويعرفوا فضلك. ولم تزل الرسل تَرَدّد بينهما في ذلك، فلمّا ألحَّ عليه المأمون أرسل إليه: "إن أعفيتني فهو أحبّ إليّ، وإن لم تُعفني خرجت كما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام", فقال له المأمون: أخرج كيف شئت. وأمر القوّاد والناس أن يبكّروا إلى باب الرضا عليه السلام.
قال: فقعد الناس لأبي الحسنعليه السلامفي الطرقات والسطوح، واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه، وصار جميع القوّاد والجند إلى بابه، فوقفوا على دوابهم حتّى طلعت الشمس.
فاغتسل أبو الحسن عليه السلام، ولبس ثيابه، وتعمَّم بعمامة بيضاء من قُطن، ألقى طَرَفاً منها على صدره وطَرَفا بين كتفيه، ومسَّ شيئاً من الطيب، وأخذ بيده عُكّازة، وقال لمواليه: "افعلوا مثل ما فعلت". فخرجوا بين يديه وهو حافٍ قد شمَّر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمّرة، فمشى قليلاً ورفع رأسه إلى السماء، وكبّر وكبَّر مواليه معه، ثمّ مشى حتّى وقف على الباب، فلمّا رآه القوّاد والجُند على تلك الحال، سقطوا كُلُّهم عن الدوابّ إلى الأرض وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكّين قطع بها شرابة جاجيلته25 ، ونزعها وتحفّى.
وكبّر الرضاعليه السلامعلى الباب وكبَّر الناس معه، فخُيِّل إلينا أنّ السماء والحيطان تجاوبه، وتزعزعت مَرْوُ بالبكاء والضجيج، لمّا رأوا أبا الحسن عليه السلاموسمعوا تكبيره.
وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين، إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلُّنا على دمائنا، فأنفذ إليه أن يرجع؛ فبعث إليه المأمون: قد كلَّفناك شططاً وأتعبناك، ولسنا نحبّ أن تلحقك مشقَّةٌ فارجع وليصلّ بالناس من كان يصلّي بهم على رسمه. فدعا أبو الحسنعليه السلامبخُفِّه، فلبسه وركب ورجع، واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم26.
الاستسقاء
ومن الحوادث الهامّة التي جرت خلال تلك المدّة والتي لها دلالاتها الكبيرة, ما يروى أنّه: احتبس المطر، فجعل بعض حاشية المأمون والمتعصبّين على الرض عليه السلام يقولون: انظروا لمّا جاءنا عليّ بن موسى، وصار وليّ عهدنا، فحبس الله تعالى عنّا المطر؛ واتصل ذلك بالمأمون فاشتدّ عليه، فقال للرضا عليه السلام: قد احتبس المطر، فلو دعوت الله عزّ وجلّ أن يمطر الناس, قال الرضا عليه السلام: "نعم"، قال: فمتى تفعل ذلك؟ وكان ذلك يوم الجمعة، قال:"يوم الاثنين، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاني البارحة في منامي، ومعه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وقال: يا بنيّ انتظر يوم الاثنين، فابرز إلى الصحراء واستسق, فإنّ الله عزّ وجلّ سيسقيهم، وأخبرهم بما يريك الله ممّا لا يعلمون حالهم، ليزداد علمهم بفضلك ومكانك من ربّك عزّ وجلّ".
فلمّا كان يوم الاثنين غدا إلى الصحراء، وخرج الخلائق ينظرون, فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:" اللَّهم يا ربّ، أنت عظّمت حقّنا أهل البيت، فتوسّلوا بنا كما أمرت، وأمّلوا فضلك ورحمتك، وتوقّعوا إحسانك ونعمتك، فاسقهم سقياً نافعاً عامّاً غير رايث27 ولا ضائر، وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارِّهم".
قال الراوي: فوالله الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، لقد نسجت الرياح في الهواء الغيوم، وأرعدت وأبرقت، وتحرّك الناس كأنّهم يرون التنحّي عن المطر, فقال الرضا عليه السلام: "على رِسْلِكم أيّها الناس، فليس هذا الغيم لكم، إنّما هو لأهل بلد كذا"، فمضت السحابة وعبرت، ثمّ جاءت سحابة أخرى تشتمل على رعد وبرق فتحرّكوا، فقال: "على رِسْلِكم، فما هذه لكم إنّما هي لأهل بلد كذا"، فما زال حتّى جاءت عشر سحابات وعبرت، ويقول عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في كلّ واحدة: "على رِسْلِكم، ليست هذه لكم إنّما هي لأهل بلد كذا".
ثمّ أقبلت سحابة حادية عشر، فقال: "أيّها الناس هذه بعثها الله عزّ وجلّ لكم، فاشكروا الله تعالى على تفضّله عليكم، وقوموا إلى مقارِّكم، ومنازلكم فإنّها مسامتة28 لكم ولرؤوسكم، ممسكة عنكم إلى أن تدخلوا مقارِّكم ثمّ يأتيكم من الخير ما يليق بكرم الله تعالى وجلاله"، ونزل من المنبر وانصرف الناس، فما زالت السحابة ممسكة إلى أن قربوا من منازلهم، ثمّ جاءت بوابل المطر، فملأت الأودية والحياض والغدران والفلوات، فجعل الناس يقولون: هنيئاً لولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كرامات الله عزّ وجلّ.
ثمّ برز إليهم الرضا عليه السلام، وحضرت الجماعة الكثيرة منهم، فقال: يا أيّها الناس اتقوا الله في نعم الله عليكم، فلا تنفروها عنكم بمعاصيه، بل استديموها بطاعته وشكره على نعمه وأياديه، واعلموا أنّكم لا تشكرون الله تعالى بشيء بعد الإيمان بالله، وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أحبّ إليه من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين على دنياهم، التي هي معبر لهم إلى جنان ربّهم، فإنّ من فعل ذلك كان من خاصّة الله تبارك وتعالى...
قال الإمام محمّد بن عليّ بن موسى عليه السلام: "وأعظم الله تبارك وتعالى البركة في البلاد بدعاء الرضا عليه السلام"، وقد كان للمأمون من يريد أن يكون هو وليّ عهده من دون الرضا عليه السلام، وحسّاد كانوا بحضرة المأمون للرضا عليه السلام، فقال للمأمون بعض أولئك: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن تكون تاريخ الخلفاء في إخراجك هذا الشرف العميم، والفخر العظيم، من بيت ولد العبّاس إلى بيت ولد عليّ، ولقد أعنت على نفسك وأهلك، جئت بهذا الساحر ولد السحرة، وقد كان خاملاً فأظهرته، ومتّضعاً فرفعته، ومنسيّاً فذكّرت به، ومستخفّاً فنوّهت به، قد ملأ الدنيا مخرقة29 ، وتشوّقاً بهذا المطر الوارد عند دعائه، ما أخوفني أن يخرج هذا الرجل هذا الأمر عن ولد العبّاس إلى ولد عليّ، بل ما أخوفني أن يتوصّل بسحره إلى إزالة نعمتك، والتوثّب على مملكتك، هل جنى أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك؟!
فقال المأمون: قد كان هذا الرجل مستتراً عنّا يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا, وليعتقد فيه المفتونون به، أنّه ليس ممّا ادعى في قليل
ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لنا من دونه, وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتي علينا منه ما لا نطيقه, والآن فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا وأشرفنا من الهلاك بالتنويه به على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً، حتّى نصوّره عند الرعيّة بصورة من لا يستحقّ لهذا الأمر، ثمّ ندبّر فيه بما يحسم عنّا مواد بلائه30...
الإقامة الجبريّة
كان هشام بن إبراهيم الراشديّ الهمدانيّ من أخصّ الناس عند الرضا عليه السلام من قبل أن يحمل, وكان عالما أديباً لبيباً، وكانت أمور الرضا عليه السلام تجري من عنده وعلى يده, ويصير الأموال من النواحي كلّها إليه قبل حمل أبي الحسن عليه السلام, فلمّا حمل أبو الحسن اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، فقرّبه ذو الرئاستين وأدناه، فكان ينقل أخبار الرضا عليه السلام إلى ذي الرئاستين والمأمون، فحظي بذلك عندهما, وكان لا يُخفي عليهما من أخباره شيئاً.
فولّاه المأمون حجابة الرضا عليه السلام. وكان لا يصل إلى الرضا عليه السلام إلّا من أحبّ, وضيّق على الرضا عليه السلام ؛ فكان من يقصده من مواليه لا يصل إليه, وكان لا يتكلّم الرضا عليه السلام في داره بشيء إلّا أورده هشام على المأمون وذي الرئاستين31..
وعاش الإمام بعد ذلك أيّاماً صعبة, يقول ياسر الخادم: كان الرضا عليه السلام إذا رجع يوم الجمعة من الجامع، وقد أصابه العرق والغبار، رفع يديه، وقال: "أللَّهم إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت، فعجِّل لي الساعة, ولم يزل مغموماً مكروباً إلى أن قبض صلوات الله عليه"32.
عزم المأمون على قتل الإمام عليه السلام
ولم يحصل المأمون على ما أراد من توليته للعهد, وحدثت له فتنة جديدة وهي تمرّد العبّاسيّين عليه, ومحاولتهم القضاء عليه33. .
وكان الرضا عليّ بن موسى عليه السلام يكثر وعظ المأمون إذا خلا به، ويخوِّفه بالله، ويقبّح له ما يرتكبه من خلافه، فكان المأمون يظهر قبول ذلك منه، ويتبطّن كراهته واستثقاله.
ومن ذلك أنّه دخل عليه السلام يوماً عليه فرآه يتوضّأ للصلاة، والغلام يصبّ على يده الماء، فقال: "لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربّك أحداً" فصرف المأمون الغلام وتولّى تمام وضوئه بنفسه، وزاد ذلك في غيظه ووجده.
ويروى أنّه كان عليه السلام يزري34 على الحسن والفضل- ابني سهل- عند المأمون إذا ذكرهما ويصف له مساوئهما، وينهاه عن الإصغاء إلى قولهما، وعرفا ذلك منه، فجعلا يحطبان35 عليه عند المأمون، ويذكران له عنه ما يبعّده منه، ويخوفانه من حمل الناس عليه، فلم يزالا كذلك حتّى قلبا رأيه، وعمل على قتله عليه السلام36 ..
.
وعن أحمد بن عليّ الأنصاريّ قال: سألت أبا الصلت الهرويّ، فقلت له: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا عليه السلام مع إكرامه ومحبّته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إنّ المأمون إنّما كان يكرمه ويحبّه لمعرفته بفضله, وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنّه راغب في الدنيا، فيسقط محلّه من نفوسهم, فلمّا لم يظهر منه في ذلك للناس إلّا ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلّاً في نفوسهم, جلب عليه المتكلّمين من البلدان، طمعاً في أن يقطعه واحد منهم، فيسقط محلّه عند العلماء، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامّة. فكان لا يكلّمه خصمٌ من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهريّة, ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين إلا قطعه وألزمه الحجّة. وكان الناس يقولون: والله إنّه أولى بالخلافة من المأمون. وكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه فيغتاظ من ذلك، ويشتدّ حسده له. وكان الرضا عليه السلام لا يحابي المأمون من حقّ, وكان يجيبه بما يكره في أكثر أحواله, فيغيظه ذلك، ويحقده عليه، ولا يظهره له, فلمّا أعيته الحيلة في أمره، اغتاله فقتله بالسمّ37 .
*غريب حرسان,سلسلة مجالس العترة,نشر جمعية المعارف الاسلامية,ط:2001م-1431ه-ص:43-65
1- المطهريّ مرتضى: سيرة الأئمّة الأطهار, ص 159.
2- وهو محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم, قيل: إنّ الذي يعرف بطباطبا هو جدّه إسماعيل بن إبراهيم , وقيل: والده إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم، فلهذا يقال: لمحمّد ابن طباطبا, وقد ثار على طواغيت زمانه، وذلك في يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة 199 هـ.وكان يدعو إلى الرضا من آل محمّد والعمل بالكتاب والسنّة.
3- الميلانيّ: قادتنا كيف نعرفهم؟ ج4 ص 258.
4-مرتضى العامليّ جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 192
5-الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 160.
6-انظر حول ولاية العهد: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام للعلّامة المحقق السيّد جعفر مرتضى, وسيرة الأئمّة الاثني عشر للشهيد الشيخ مرتضى مطهري, والإمام الرضا عليه السلام تاريخ ودراسة للسيّد محمّد جواد فضل الله, وحياة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام للشيخ باقر شريف القرشيّ, وغيرها...
7- الصدوق: الأمالي ص 125, وعيون أخبار الرضة عليه السلام ج 2 ص 151
8- وكان يلقّب " ذا الرئاستين " لأنّه تقلّد الوزارة والحرب. أنظر: الذهبيّ, سير أعلام النبلاء ج 10 ص 100.
9- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 260.
10-تقدّم أنّ هذا الأمر قد أشاعه القوم، وقد أجاب عنه الإمام الجواد ، فلاحظ.
11- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 397.ا
12-البدر: جمع بدرة وهي عشرة آلاف درهم.
13- المفيد: الإرشاد ج2 ص 261, وانظر: الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبيّين ص 455.
14- الشاكريّة: جمع شاكرد, بالفارسيّة, الأجير والمستخدم, طائفة من الجنود.
15-الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 159.
16- المصدر السابق ص 162.
17-بن سليمان المساحقيّ, وليَ قضاء المدينة للمأمون.
18-المفيد: الإرشاد ج 261, وانظر: الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبيّين ص 456.
19- بمعنى السيّد.
20-الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 154.
21- المفيد: الإرشاد ج2 ص 263
22- الصدوق: الأمالي ص 757
23-الصدوق: الأماليّ ص 130, علل الشرائع ج 1 ص 279.
24-الصدوق: عيون أخبار الرض عليه السلام ج 2 ص 152.
25- نوع من الأحذية.
26- المفيد: الإرشاد ج2 ص264
27- أي غير بطيء.
28- أي محاذية.
29-المخرقة: مهبّ الريح.
30- الصدوق: عيون الأخبار الرضا عليه السلام ج2 ص179
31- المجلسي: بحار الأنوار ج49 ص 139.
32- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج2 ص18.
33-المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام, أعلام الهداية, الإمام عليّ بن موسى الرض عليه السلام ص 169.
34-الإزراء: التهاون بالشيء.
35-حطب فلان واحتطب: جذب عليه شرّاً.
36-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 269.
37- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج2 ص 265