يتم التحميل...

العباس عليه السلام _ خصائصه وميزاته

ولادة قمر بني هاشم (ع)

كان سيّدنا العباس عليه السلام دنيا من الفضائل والمآثر، فما من صفة كريمة أو نزعة رفيعة إلاّ وهي من عناصره وذاتياته، وحسبه فخراً أنّه نجل الإمام أمير المؤمنين الذي حوى جميع فضائل الدنيا، وقد ورث أبو الفضل فضائل أبيه وخصائصه، حتى صار عند المسلمين رمزاً لكل فضيلة، وعنواناً لجميع القيم الرفيعة، ونلمّح بإيجاز لبعض صفاته.

عدد الزوار: 3790

كان سيّدنا العباس عليه السلام دنيا من الفضائل والمآثر، فما من صفة كريمة أو نزعة رفيعة إلاّ وهي من عناصره وذاتياته، وحسبه فخراً أنّه نجل الإمام أمير المؤمنين الذي حوى جميع فضائل الدنيا، وقد ورث أبو الفضل فضائل أبيه وخصائصه، حتى صار عند المسلمين رمزاً لكل فضيلة، وعنواناً لجميع القيم الرفيعة، ونلمّح- بإيجاز- لبعض صفاته.

1- الشجاعة:

أمّا الشجاعة فهي من أسمى صفات الرجولة لأنها تنمّ عن قوة الشخصية وصلابتها، وتماسكها أمام الأحداث، وقد ورث أبو الفضل هذه الصفة الكريمة من أبيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو أشجع إنسان في دنيا الوجود، كما ورث هذه الصفة من أخواله الذين تميّزوا بهذه الظاهرة، وعرفوا بها من بين سائر الأحياء العربية.

لقد كان أبو الفضل دنيا في البطولات، فلم يخالج قلبه خوف ولا رعب في الحروب التي خاضها مع أبيه كما يقول بعض المؤرخين، وقد أبدى من الشجاعة يوم الطف ما صار مضرب المثل على امتداد التأريخ، فقد كان ذلك اليوم من أعظم الملاحم التي جرت في الإسلام، وقد برز فيه أبو الفضل أمام تلك القوى التي ملأت البيداء فجبَّنَ الشجعان وأرعب قلوب عامة الجيش، فزلزلت الأرض تحت أقدامهم وخيّم عليهم الموت، وراحوا يمنّونه بإعطاء القيادة العامة إن تخلّى عن مساندة أخيه، فهزأ منهم العبّاس، وزاده ذلك تصلّباً في الدفاع عن عقيدته ومبادئه.

إنَّ شجاعة أبي الفضل عليه السلام، وما أبداه من البسالة يوم الطفّ لم تكن من أجل مغنم مادي من هذه الحياة، وإنما كانت دفاعاً عن أقدس المبادئ الماثلة في نهضة أخيه سيّد الشهداء المدافع الأوّل عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

مع الشعراء:
وبهر شعراء الإسلام بشجاعة أبي الفضل، وقوّة بأسه وما ألحقه بالجيش الأموي من الهزيمة الساحقة، وفيما يلي بعض الشعراء الذين هاموا بشخصيته.

السيّد جعفر الحلّي:
 ووصف الشاعر العلوي السيّد جعفر الحلّي في رائعته ما مُني به الجيش الأموي من الرعب والفزع من أبي الفضل عليه السلام يقول:
وقــع العــذاب على جيوش أميّة          من باسـل هو في الوقائع معلم
ما راعهــم إلاّ تقحـم ضيغــم             غيران يعجـم لفظـه ويـدمدم
عبسـت وجوه القوم خـوف الموت      والعبّـاس فيهـم ضاحك يتبسّم
قلب اليمين على الشمال وغاص        في الأوساط يحصد للرؤوس ويحطم
ما كرّ ذو بــأس لـه متقـدمـاً              إلاّ وفــرّ ورأسـه المتقــدّم
صبغ الخـيول برمحـه حتى غــدا        سيـان أشـقر لونهـا والأدهـم
ما شـدّ غضـباناً على ملـمومه           إلاّ وحـلّ بهـا البـلاء المبـرم
وله إلى الإقـدام نزعـة هـارب           فكأنّـما هـو بالتقـدم يسلـم
بـطل تورَّث من أبيـه شـجاعة           فيها أنـوف بـني الضلالة ترغم


2- الإيمان بالله:

أمّا قوّة الإيمان بالله، وصلابته، فإنها من أبرز العناصر في شخصية أبي الفضل عليه السلام، ومن أوليات صفاته، فقد تربّى في حجور الإيمان ومراكز التقوى، ومعاهد الطاعة والعبادة لله تعالى، فقد غذّاه أبوه زعيم الموحّدين، وسيّد المتّقين بجوهر الإيمان، وواقع التوحيد، لقد غذّاه بالإيمان الناشىء عن الوعي، والتدبّر في حقائق الكون، وأسرار الطبيعة، ذلك الإيمان الذي أعلنه الإمام عليه السلام بقوله: " لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً "، وقد تفاعل هذا الإيمان العميق في أعماق قلب أبي الفضل وفي دخائل ذاته حتى صار من عمالقة المتقين والموحّدين، وكان من عظيم إيمانه الذي لا يحد أنّه قدم نفسه وإخوته وبعض أبنائه قرابين خالصة لوجه الله تعالى.

لقد جاهد العبّاس ببسالة دفاعاً عن دين الله، وحماية لمبادئ الإسلام التي تعرّضت للخطر الماحق أيّام الحكم الأموي، ولم يبغ بذلك إلاّ وجه الله والدار الآخرة.

3- الإباء:

وصفة أخرى من أسمى صفات أبي الفضل عليه السلام، وهي الإباء وعزّة النفس فقد أبي أن يعيش ذليلاً في ظلّ الحكم الأموي الذي اتخذ مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، فاندفع إلى ساحات الجهاد كما اندفع أخوه أبو الأحرار الذي رفع شعار العزّة والكرامة، وأعلن أن الموت تحت ظلال الأسنّة سعادة، والحياة مع الظالمين برماً.

لقد مثّل أبو الفضل عليه السلام يوم الطفّ الإباء بجميع رحابه ومفاهيمه فقد منّاه الأمويون بإمارة الجيش، وإسناد القيادة العامة له أن تخلّى عن أخيه سيّد شباب أهل الجنّة، فهزأ منهم وجعل إمارة جيشهم تحت حذائه، واندفع بشوق وإخلاص إلى ميادين الحرب يجندل الأبطال ويحصد الرؤوس دفاعاً عن حرّيته ودينه وكرامته.

4- الصبر:

ومن خصائص أبي الفضل عليه السلام ومميّزاته، الصبر على محن الزمان، ونوائب الدهر، فقد ألمّت به يوم الطف من المصائب والمحن التي تذوب من هولها الجبال، فلم يجزع، ولم يفه بأيّ كلمة تدلّ على سخطه، وعدم رضاه بما جرى عليه وعلى أهل بيته، وإنما سلّم أمره إلى الخالق العظيم، مقتدياً بأخيه سيّد الشهداء عليه السلام الذي لو وزن صبره بالجبال الرواسي لرجح عليها.

لقد رأى أبو الفضل الكواكب المشرقة، والممجدين الأوفياء من أصحابه وهم مجزّرون كالأضاحي في رمضاء كربلاء تصهرهم الشمس، وسمع عويل الأطفال، وهم ينادون العطش العطش، وسمع صراخ عقائل الوحي، وهنّ يندبن قتلاهنّ، ورأى وحدة أخيه سيّد الشهداء، وقد أحاط به أنذال أهل الكوفة يبغون قتله تقرّباً لسيّدهم ابن مرجانة، رأى أبو الفضل كل هذه الشدائد الجسام فلم يجزع وسلّم أمره إلى الله تعالى، مبتغياً الأجر من عنده.

5- الوفاء:

ومن خصائص أبي الفضلة عليه السلام الوفاء الذي هو من أنبل الصفات وأميزها، فقد ضرب الرقم القياسي في هذه الصفة الكريمة وبلغ أسمى حدّ لها، وكان من سمات وفائه ما يلي:

أ- الوفاء لدينه:
وكان أبو الفضل العباس عليه السلام من أوفى الناس لدينه، ومن أشدّهم دفاعاً عنه، فحينما تعرّض الإسلام للخطر الماحق من قبل الطغمة الأموية الذين تنكّروا كأشدّ ما يكون التنكّر للإسلام، وحاربوه في غلس الليل وفي وضح النهار، فانطلق أبو الفضل إلى ساحات الوغى فجاهد في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين لترتفع كلمة الله عالية في الأرض، وقد قطعت يداه، وهوى إلى الأرض صريعاً في سبيل مبادئه الدينية.

ب- الوفاء لأمّته:
رأى سيّدنا العبّاس عليه السلام الأمّة الإسلامية ترزح تحت كابوس مظلم من الذلّ والعبودية قد تحكّمت في مصيرها عصابة مجرمة من الأمويين فنهبت ثرواتها، وتلاعبت في مقدراتها، وكان أحد أعمدتهم السياسية يعلن بلا حياء ولا خجل قائلاً:" إنما السواد بستان قريش فأي استهانة بالأمة مثل هذه الاستهانة، ورأى أبو الفضل عليه السلام أنّ من الوفاء لأمّته أن يهبّ لتحريرها وإنقاذها من واقعها المرير، فانبرى مع أخيه أبي الأحرار والكوكبة المشرقة من فتيان أهل البيت عليهم السلام، ومعهم الأحرار الممجدون من أصحابهم، فرفعوا شعار التحرير، وأعلنوا الجهاد المقدّس من أجل إنقاذ المسلمين من الذلّ والعبودية، وإعادة الحياة الحرّة الكريمة لهم، حتى استشهدوا من أجل هذا الهدف السامي النبيل، فأي وفاء للأمة يضارع مثل هذا الوفاء؟

ج- الوفاء لوطنه:
وغمرت الوطن الإسلامي محن شاقّة وعسيرة أيام الحكم الأموي، فقد استقلاله وكرامته، وصار بستاناً للأمويين وسائر القوى الرأسمالية من القرشيين وغيرهم من العملاء، وقد شاع البؤس والحرمان، وذلّ فيه المصلحون والأحرار، ولم يكن فيه أي ظلّ لحرية الفكر والرأي، فهبّ العباس تحت قيادة أخيه سيّد الشهداء عليه السلام إلى مقاومة ذلك الحكم الأسود وتحطيم أروقته وعروشه، وقد تمّ ذلك بعد حين بفضل تضحياتهم، فكان حقاً هذا هو الوفاء للوطن الإسلامي.

د- الوفاء لأخيه:
ووفى أبو الفضل ما عاهد الله عليه من البيعة لأخيه ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله، والمنافح الأول عن حقوق المظلومين والمضطهدين.
ولم يرَ الناس على امتداد التاريخ وفاءً مثل وفاء أبي الفضل لأخيه الإمام الحسين عليه السلام، ومن المقطوع به أنه ليس في سجلّ الوفاء الإنساني أجمل ولا أنظر من ذلك الوفاء الذي أصبح قطباً جاذباً لكل إنسان حرّ شريف.

6- قوّة الإرادة:

أمّا قوّة الإرادة فإنها من أميز صفات العظماء الخالدين الذين كُتب لهم النجاح في أعمالهم إذ يستحيل أن يحقق من كان خائر الإرادة، وضعيف الهمّة أي هدف اجتماعي، أو يقوم بأي عمل سياسي.

لقد كان أبو الفضل عليه السلام من الطراز الأول في قوة بأسه، وصلابة إرادته، فانظمّ إلى معسكر الحق، ولم يهن، ولم ينكل، وبرز على مسرح التأريخ كأعظم قائد فذّ، ولو لم يتّصف بهذه الظاهرة لما كتب له الفخر والخلود على امتداد الأيّام.

7- الرأفة والرحمة:

وأترعت نفس أبي الفضل بالرأفة والرحمة على المحرومين، والمضطهدين وقد تجلّت هذه الظاهرة بأروع صورها في كربلاء حينما احتلّت جيوش الأمويين حوض الفرات لحرمان أهل البيت من الماء حتى يموتوا أو يستسلموا لهم، ولما رأى العباس عليه السلام أطفال أخيه، وسائر الصبية من أبناء إخوته، وقد ذبلت شفاهم، وتغيّرت ألوانهم من شدّة الظمأ ذاب قلبه حناناً وعطفاً عليهم، فاقتحم الفرات، وحمل الماء إليهم، وسقاهم، وفي اليوم العاشر من المحرّم، سمع الأطفال ينادون العطش العطش، فتفتت كبده رحمة ورأفة عليهم، فأخذ القربة، والتحم مع أعداء الله حتى كشفهم عن نهر الفرات، فغرف منه غرفة ليروي ظمأه فأبت رحمته أن يشرب قبل أخيه وأطفاله، فرمى الماء من يده.

فتّشوا في تاريخ الأمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الرأفة والرحمة، التي تحلَّى بها قمر بني هاشم وفخر عدنان. هذه بعض عناصر أبي الفضل وصفاته، وقد ارتقى بها إلى قمّة المجد التي ارتقى إليها أبوه1.

كراماته:

من سنن اللّه الجارية في أوليائه إكرامهم بإظهار ما لهم من الكرامة عنده والزلفى منه. وأبو الفضل العباس هو من أجلّ أولياء الله سبحانه وأعظمهم، ولذلك تجد مشهده المقدّس في آناء الليل وأطراف النهار مزدلف أرباب الحوائج، من عاف يستمنحه برّه، إلى عليل يتطلّب عافيته، إلى مضطهد يتحرّى كشف ما به من غمّ، إلى خائف ينضوي إلى حمى أمنه، إلى أنواع من أهل المقاصد المتنوّعة، فينكفأ ثلج الفؤاد بنجح طلبته، قرير العين بكفاية أمره إلى متنجّز بإعطاء سؤله، كلّ هذا ليس على اللّه بعزيز ولا من المقرّبين من عباده ببعيد.

ولكثرة كراماته وآيات مرقده التي لا يأتي عليها الحصر، نذكر بعضاً منها تيمناً، وتعريفاً للقراء بما جاد به قطب السخاء على من لاذ به واستجار بتربته.

الأُولى:

ما يحدّث به الشيخ الجليل العلاّمة المتبحّر الشيخ عبد الرحيم التستري المتوفى سنة 1313 هـ، من تلامذة الشيخ الأنصاري أعلى اللّه مقامه، قال: زرت الإمام الشهيد أبا عبد اللّه الحسين، ثُمّ قصدت أبا الفضل العبّاس، وبينا أنا في الحرم الأقدس إذ رأيت زائراً من الأعراب ومعه غلام مشلول، فربطه بالشباك، وتوسّل به وتضرّع، وإذا الغلام قد نهض وليس به علّة، وهو يصيح: شافاني العبّاس، فاجتمع الناس عليه، وخرّقوا ثيابه للتبرّك بها.

فلمّا أبصرت هذا بعيني تقدّمت نحو الشباك وعاتبته عتاباً مقذعاً، وقلت: يغتنم المعيدي الجاهل منك المُنى وينكفأ مسروراً، وأنا مع ما أحمله من العلم والمعرفة فيك، والتأدّب في المثول أمامك، أرجع خائباً لا تقضي حاجتي؟! فلا أزورك بعد هذا أبداً، ثُمّ راجعتني نفسي، وتنبّهت لجافيّ عتبي، فاستغفرت ربي سبحانه ممّا أسأت مع عباس اليقين والهداية.

ولمّا عُدت إلى النجف الأشرف أتاني الشيخ المرتضى الأنصاري قدّس اللّه روحه الزاكية، وأخرج صرّتين وقال: هذا ما طلبته من أبي الفضل العبّاس، اشتري داراً، وحجّ البيت الحرام، ولأجلهما كان توسّلي بأبي الفضل 2.

الثانية:

ما في كتاب " إعلام الناس في فضائل العبّاس " تأليف الزاكي التقي السيّد سعيد بن الفاضل المهذّب الخطيب السيّد إبراهيم البهبهاني قال: تزوّجت في أوائل ذي القعدة سنة 1351 هـ، وبعد أن مضى أُسبوع من أيام الزواج أصابني زكام صاحبته حمّى، وباشرني أطباء النجف فلم أنتفع بذلك، والمرض يتزايد، ومن جملة الأطباء الطبيب المركزي محمّد زكي أباظة.

وفي أول جماد الأول من سنّة 1353 هـ خرجت إلى " الكوفة " وبقيت إلى رجب، فلم تنقطع الحمّى، وقد استولى الضعف على بدني حتّى لم أقدر على القيام، ثُمّ رجعت إلى النجف وبقيت إلى ذي القعدة من هذه السنّة بلا مراجعة طبيب، لعجزهم عن العلاج.

وفي ذي الحجّة من هذه السنّة اجتمع الطبيب المركزي المذكور مع الدكتور محمّد تقي جهان وطبيبين آخرين جاؤوا من بغداد وفحصوني، فاتفقوا على عدم نفع كُلّ دواء، وحكموا بالموت إلى شهر.

وفي محرّم من سنة 1354 هـ خرج والدي إلى قرية القاسم ابن الإمام الكاظم عليه السلام، للقراءة في المآتم التي تقام لسيّد الشهداء، وكانت والدتي تمرّضني، ودأبها البكاء ليلاً ونهاراً.
وفي الليلة السابعة من هذه السنة رأيت في النوم رجلاً مهيباً وسيماً جميلاً، أشبه الناس بالسيّد الطاهر الزكي السيّد مهدي الرشتي، فسألني عن والدي، فأخبرته بخروجه إلى القاسم، فقال: إذن مَن يقرأ في عادتنا يوم الخميس، وكانت الليلة ليلة خميس، ثُمّ قال: إذن أنت تقرأ.

ثُمّ خرج وعاد إلي وقال: إنّ ولدي السيّد سعيد مضى إلى كربلاء يعقد مجلساً لذكر مصيبة أبي الفضل العبّاس، وفاءً لنذر عليه، فأُمضي إلى كربلاء واقرأ مصيّبة العبّاس، وغاب عنّي.
فانتبهت من النوم ونظرت إلى والدتي عند رأسي تبكي، ثُمّ نمت ثانياً، فأتاني السيّد المذكور وهو يقول: ألم أقل لك: إنّ ولدي سعيد ذهب إلى كربلاء وأنت تقرأ في مأتم أبي الفضل، فأجبته إلى ذلك، فغاب عنّي، فانتبهت.

وفي المرّة الثالثة نمت فعاد إلّي السيّد المذكور وهو يقول بزجر وشدة: ألم أقل لك أن أمضي إلى كربلاء، فما هذا التأخير؟! فهبته في هذه المرّة وانتبهت مرعوباً.

وقصصت الرؤيا من أوّلها على والدتي، ففرحت وتفاءلت بأنّ هذا السيّد هو أبو الفضل، وعند الصباح عَزِمَت على الذهاب بي إلى حرم العبّاس، ولكن كُلّ من سمع بهذا لم يوافقها، لما يراه من الضعف البالغ حدّه، وعدم الاستطاعة على الجلوس حتّى في السيارة، وبقيت على هذا إلى اليوم الثاني عشر من المحرم، فأصرّت الوالدة على السفر إلى كربلاء بكُلّ صورة، فأشار بعض الأرحام على أن يضعوني في تابوت، ففعلوا ذلك، ووصلت ذلك اليوم إلى القبر المقدّس، ونمت عند الضريح الطاهر.

وبينا أنا في حالة الإغماء في الليلة الثالثة عشر من المحرّم، إذ جاء ذلك السيّد المذكور وقال لي: لماذا تأخرّت عن يوم السابع وقد بقي سعيد بانتظارك، وحيث لم تحضر يوم السابع فهذا يوم دفن العبّاس وهو يوم 13، فقم واقرأ، ثُمّ غاب عنِّي، وعاد إلّي ثانياً وأمرني بالقراءة وغاب عنِّي، وعاد في الثالثة ووضع يده على كتفي الأيسر، لأنّي كنت مضطجعاً على الأيمن، وهو يقول: إلى متى النوم؟ قم واذكر مصيبتي، فقمت وأنا مدهوش مذعور من هيبّته وأنواره، وسقطت لوجهي مغشياً عليَّ، وقد شاهد ذلك من كان حاضراً في الحرم الأطهر.

وانتبهت وأنا أتصبّب عرقاً، والصحة ظاهرة عليَّ، وكان ذلك في الساعة الخامسة من الليلة الثالثة عشر من المحرّم سنة 1354 هـ.

فاجتمع عليّ مَن في الحرم الشريف، وأقبل مَن في الصحن والسوق، وازدحم الناس في الحضرة المنوّرة، وكثر التكبير والتهليل، وخرق الناس ثيابي، وجاءت الشرطة فأخرجوني إلى البهو الذي هو أمام الحرم، فبقيت هناك إلى الصباح.

وعند الفجر تطّهرت للصلاة، وصلّيت في الحرم بتمام الصحة والعافية، ثُمّ قرأت مصيبة أبي الفضل عليه السلام، وابتدأت بقصيدة السيّد راضي بن السيّد صالح القزويني، وهي:
أَبا الفضلُ إلاّ أن تَكُونَ لَهُ أباً           أبَا الفَضلِ يَا مَنْ أسَّسَ الفَضلَ والإبا

والأمر الأعجب أنّي لمّا خرجت من الحرم قصدتُ داراً لبعض أرحامنا بكربلاء، وبعد أن قرأت مصيبة العبّاس خلوت بزوجتي، وببركات أبي الفضل حملت ولداً سمّيته " فاضل "، وهو حّي يرزق، كما رُزقت عبد اللّه وحسناً ومحمّداً وفاطمة كنيتها أُم البنين3.


1-العباس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام للشيخ باقر شريف القرشي، دار الأضواء، ط1، 1409هـ/ 1989م، ص94-57.
2- العباس للشيخ عبد الرزاق المقرّم، منشورات الشريف الرضي، ط1، ص 239.
3- المرجع نفسه، ص 248-252.

2010-07-15