المراقبة والمحاسبة
تهذيب النفس
بعد أن تعرفنا على أمراض القلوب، وعرفنا بعض العقبات الكؤود التي تحول دون تهذيب النفس؛ كحب الدنيا والعصبية، وعرفنا أهمية التقوى ومدى حث الإسلام عليها وربط الأحكام بها، لا بد لنا بعد ذلك من أن نقدم مرحلة عملية مهمة في بناء النفس، وهي المراقبة والمحاسبة...
عدد الزوار: 100
تمهيد
بعد أن تعرفنا على أمراض القلوب، وعرفنا بعض العقبات الكؤود التي تحول دون تهذيب النفس؛ كحب الدنيا والعصبية، وعرفنا أهمية التقوى ومدى حث الإسلام عليها وربط الأحكام بها، لا بد لنا بعد ذلك من أن نقدم مرحلة عملية مهمة في بناء النفس، وهي المراقبة والمحاسبة. وتبرز أهميتها بأنها العامل الأساس للوصول إلى التقوى وتهذيب النفس.
1- تعريف المراقبة والمحاسبة
المراقبة هي أن يراقب الإنسان نفسه عند الخوض في الأعمال في كل حركة وسكون. لذلك تكون المراقبة عامل وقاية من الذنوب والأمراض . والمحاسبة هي أن يعين الإنسان وقتاً في كل يوم يحاسب نفسه بموازنة طاعاته ومعاصيه العملية منها والنفسية، لذلك تكون المحاسبة عامل علاج من الذنوب والأمراض بعد الأعمال.
2- أهمية المراقبة والمحاسبة
لكي ندرك أهمية المراقبة والمحاسبة علينا أن نلاحظ الأمور التالية:
أ - تسجيل الأعمال: حيث يستفاد من القرآن الكريم أن كل أعمالنا، حتى الأنفاس والأفكار والنوايا محفوظة في صحيفة أعمالنا، وتبقى ليوم القيامة لتكون ماثلة أمامنا. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكننا الغفلة عن عواقب هذه الأعمال، وعدم المبادرة إلى مراقبة أنفسنا والانتباه إلى أقوالنا وأعمالنا ونوايانا؟!يقول تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرةٍ شَرًّا يَرَه﴾1وفي آية أخرى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَن بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾2.وفي آية ثالثة﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾3.
ب - الحساب على الأعمال يوم القيامة: إن الحساب يوم القيامة حساب دقيق، حيث لا تترك صغيرة أو كبيرة إلا ويحاسب عليها المرء يوم القيامة، يقول تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين﴾4.
وفي آية أخرى: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ﴾5.ويقول تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِما فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾6.
إن جميع أعمال الإنسان وأقواله وأفكاره وعقائده تأتي معه يوم القيامة، ليحدد مصيره يوم القيامة على ضوء هذا الحساب، الذي تختلف مدته وشدته بين شخص وآخر، حيث إن البعض يكون حسابه شديداً وطويلاً، والبعض الآخر يكون حسابه سهلاً يسيراً. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا"7.ولذلك كلِّه فإن على الإنسان أن يكثر من مراقبة نفسه، لتبقى تحت سيطرته.
3- ثمرة المحاسبة
إن لمحاسبة النفس ومراقبتها نتائج وثمار متعددة نشير إلى بعض منها:
أ- الشعور بالندم والبدء بالإستغفار، مع ملاحظة شروط الاستغفار.
ب - التعويض: وذلك من خلال تدارك ما فاته بأمور خيرة كثيرة ليمحو ما مضى من ذنوبه قال تعالى:﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾.
ج-التزود: وهو الدخول في كثير من المستحبات والأعمال الفاضلة لتثقيل الميزان يوم القيامة.ففي وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يا أبا ذر! حاسب نفسك قبل أن تُحاسب، فإنه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهز للعرض الأكبر يوم لا تخفى على الله خافية" 8.
كيف نحاسب أنفسنا؟
إن محاسبة النفس ليست بالأمر السهل، ولا بد أن تتم هذه العملية في ثلاث مراحل حتى يعتاد الإنسان عليها:
1 - المشارطة والعهد: فيخلو الإنسان إلى نفسه، فيعظها ويطلب منها أن تغتنم عمرها، وبالتالي يأخذ منها العهد بألا ترتكب المعصية ولا تترك الطاعة، وكذلك يستطيع أن يتوجه إلى لسانه ويحذره الغيبة، والكذب، وبقية المعاصي التي تؤدي إلى إفساد حياته في الآخرة، ويأخذ منه العهد على ألا يقع في هذه المحرمات، والشيء نفسه يمكن أن يفعله مع بقية الجوارح.
2 - المراقبة: بعد الانتهاء من المعاهدة، تبدأ مرحلة مراقبة النفس، من أجل أن نردعها عن محاولة التخلي عن الالتزام بالعهد، وإن من كان دائماً في حال ذكر الله تعالى، ويرى أنه في محضره عز وجل، فإنه سيلتفت دائماً إلى نفسه وإلى عهده، ويداوم على مجاهدتها ولا يغفل عنها، يقول الإمام علي عليه السلام: "إن الحازم من شغل نفسه فأصلحها وحبسها عن أهوائها ولذاتها فملكها، وإن للعاقل بنفسه عن الدنيا وما فيها وأهلها شغلاً" 9.
3 - حث النفس وعتابها: بعد انتهاء المراقبة، يجب أن يحدد الإنسان ساعة كل يوم من أجل أن يحاسب نفسه، ولعل الوقت الأفضل هو وقت المساء، فيجلس ليرى ما فعله في نهاره ساعةً بساعة، فإن فعل خيراً حمد الله تعالى على توفيقه لفعل الطاعة، وإن فعل المعصية وبخ نفسه وانتهرها، وأعلن توبته لله تعالى وخاطبها: أيتُها النفس المحرومة، لقد أعطاك الله، ما أعطاك حتى تصبحي من المقربين، فماذا تفعلين؟ لقد كفرتِ بنعمة الله، وتجعلين نفسك وقوداً لسجيل؛ فلا يزال يشدد عليها حتى تنزجر، يقول الإمام علي عليه السلام:"من وبخ نفسه على العيوب ارتدعت عن كثرة الذنوب"10.
إن حساب النفس من الأهمية بمكان، فإن الإمام الكاظم عليه السلام جعله مقياساً لمن ينتمي إلى أهل البيت عليهم السلام، يقول عليه السلام: "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله وتاب إليه"11.وبالتالي إن من يدرك شدة الحساب يوم القيامة، فلا بد أن يسعى لتخفيف حسابه وجعله يسيراً، وهو ما يتطلب أن يحاسب نفسه في الدنيا، مستفيداً من المشارطة والمراقبة، وهو ما يعني تزكية نفسه وتهذيبها لتبتعد عن المعصية وتقترب من الطاعة وتقدم على فعل الخيرات.
*تزكية النفس,سلسلة المعارف الاسلامية,نشر جمعية المعارف,ط 2009م,ص:93-97
1- الزلزلة: 6-8
2- آل عمران: 30
3- ق: 18
4- الأنبياء: 47
5- البقرة: 284
6- الكهف: 49
7- مجمع الزوائد ج1 ص337
8- الحر العاملي - محمد بن الحسن - وسائل الشيعة - مؤسسة أهل البيت - الطبعة الثانية 1414 ه.ق.- ج11 ص 379
9- غرر الحكم ص 126 حكمة 100
10- م. ن. ص 368 ح 1556