المنهج العقلي في إثبات قضية الإمام المهدي
الإمام المهدي (عج)
لم ينطلق الشهيد الصدر في بحثه (قضية المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف) من بديهيات ومقدمات مسلّم بها عند الأطراف، ولم يعتمد تتبع القضية في كتب التفسير والرواية، أو مناقشة ما ورد بشأنها من أسانيد، وإنما سلك مسلك آخر، فبدأ بطرح الإثارات حول القضية وعرض التساؤلات والإشكالات المنتزعة مما قيل ويقال حول القضية، ثم بدأ بالمناقشة العميقة والدقيقة معتمداً الدليل العقلي...
عدد الزوار: 105
منهج الشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليه
لم ينطلق الشهيد الصدر في بحثه (قضية المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف) من بديهيات ومقدمات مسلّم بها عند الأطراف، ولم يعتمد تتبع القضية في كتب التفسير والرواية، أو مناقشة ما ورد بشأنها من أسانيد، وإنما سلك مسلك آخر، فبدأ بطرح الإثارات حول القضية وعرض التساؤلات والإشكالات المنتزعة مما قيل ويقال حول القضية، ثم بدأ بالمناقشة العميقة والدقيقة معتمداً الدليل العقلي، ومستنداً إلى معطيات العلم والحضارة المعاصرة، ونعرض معالم هذا المنهج كما يأتي:
أ- لقد مهد السيد الشهيد لبحثه بإعطاء تصور واضح لفكرة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف1 في جذورها الممتدة إلى التراث الديني والإنساني، ثم انتقل إلى تأصيلها في الفكر الإسلامي، ثم عرضها في التصور الإسلامي على أنها ليست مجرد فكرة وأمل يداعب الشعور، ويجد عنده الإنسان المسلم استراحة تخلصه من حالة التوتر النفسي عندما تشتد وتتعاظم المحنة – كما هو زعم بعض الباحثين – وإنما (المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف) يتجسد في إنسان معين2 حي يعيش مع الناس ويشاركهم همومهم وآلامهم، ويترقب مثلهم اليوم الموعود.
ب- إن هناك صعوبة في استيعاب هذا التصور الأصيل،فقد أثار إشكالات وتساؤلات هي في عقول الناس، وفي حواراتهم المعلنة أو الحبيسة، ومن هنا بدأ الشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليه يطرح هذه التساؤلات والإثارات بكل صراحة ووضوح، ثم يشرع في معالجتها بأسلوبه الخاص، وذلك ليضع القضية في محلها الطبيعي ضمن إطار العقيدة الإسلامية التي تقوم أساساً على العقلانية والواقعية والبرهان.
أ- والتساؤل الأول الذي يطرحه السيد الشهيد هو
"إذا كان المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف يعبر عن إنسان حي عاصر كل تلك الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون، وسيظل يعاصر امتداداتها، فكيف تأتى له هذا العمر الطويل؟! وكيف نجا من القوانين الطبيعية التي تحتم مروره بمرحلة الشيخوخة والهرم؟!" ثم ينتقل من سؤال إلى سؤال، ومن إثارة إلى إثارة بترتيب منطقي يمهد الجواب السابق للاحق، وتترابط المضامين والمباحث ترابطاً منهجياً محكماً.
وبالنسبة إلى السؤال الأول أعاد طرحه كالآتي: هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً متطاولة كما هو المفترض في المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي طوى من العمر أكثر من ألف ومئة وأربعين سنة3؟ وهذه الصياغة للسؤال لا تختلف بشيء عن السابق، وتمهيداً للجواب أعطى إيضاحاً لأنواع الإمكان المتصورة أو المعروفة وهي الإمكان العملي، والإمكان المنطقي أو الفلسفي، وبعد أن بين المقصود بها خلص إلى القول: "إن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقياً، لأن ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية"، وأن الإمكان العملي بالنسبة إلى نوع الإنسان ليس متاحاً الآن، والتجربة المعاصرة لا تساعد عليه.
أما الإمكان العلمي فلا يُوجد ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية، لأن التجارب آخذة بالازدياد لتحويل الإمكان العلمي إلى إمكان عملي، وهي سائرة بهذا الاتجاه من زاوية محاولاتها لتعطيل قانون الشيخوخة. وفي ضوء هذا لا يبقى مبرر منطقي للاستغراب والإنكار اللهم إلا من جهة أن يسبق (المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف) العلم نفسه فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية. وهذا أيضاً لا يوجد مبرر عقلائي لاستبعاده وإنكاره، إذ هو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء السرطان أو غيره مثلاً.
إن هذا السبق – كما يقول السيد الشهيد – في الأطروحة الإسلامية عموماً – التي صممت قضية المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف – قد وقع وحصل في أكثر من مفردة وعنوان، وقد سجل القرآن الكريم نظائر ذلك حين أورد وأشار إلى حقائق علمية تتعلق بالكون والطبيعة وجاء العلم فأزاح الستار عنها أخيراً، والأكثر صراحةً أن القرآن قد دون أمثال ذلك كما في مسألة عمر النبي نوح عليه السلام، قال تعالى (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً)4، ثم ينتقل السيد الشهيد إلى افتراض آخر ينشأ عن السابق وهو:
ماذا لو افترضنا أن قانون الشيخوخة قانون صارم، وأن إطالة العمر أكثر من الحد الطبيعي والمعتاد خلاف القوانين الطبيعية التي دلنا عليه الاستقراء؟!.
وجوابه: أنه حينئذ يكون من قبيل المعجزة، وهي ليست حالة فريدة في تاريخ الأنبياء والمرسلين، والأمر بالنسبة للمسلم الذي يستمد عقيدته من القرآن والسنة المشرفة ليس أمراً منكراً، إذ هو يجد أن القانون الذي هو أكثر صرامة قد عطل، كما حدث بالنسبة إلى النبي إبراهيم الخليل عليه السلام في نجاته من النار العظيمة بعد أن ألقي فيها، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ5﴾.
ثم يبين السيد الشهيد بعد ذلك أن مسألة المعجزة بمفهومها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومةً بدرجةٍ أكبر مما كانت عليه. وشرع في تقديم المعالجة الفلسفية المتينة مستنداً إلى النظريات الفلسفية الحديثة.
ب- وينتقل السيد الشهيد إلى سؤال آخر وهو
لماذا كل هذا الحرص على إطالة عمر المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى هذا الحد، فتعطل القوانين لأجله؟ ولماذا لا نقبل الافتراض الآخر الذي يقول: إن قيادة البشرية في اليوم الموعود يمكن أن تترك لشخص آخر يتمخض عنه المستقبل وتنضجه إرهاصات ذلك اليوم؟ ويعيد صياغة السؤال كالآتي:
ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة؟ وما هو المبرر لها؟ ويعقب هنا قائلاً: إن الناس لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً أي أنهم يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها.
وللإجابة عن هذا السؤال، يتقدم السيد الشهيد وهو متسلح بالمعرفة بقوانين الاجتماع، وبمتطلبات التغيير الاجتماعي وقوانينه، فيبدأ بطرح سؤال يمهد به للإجابة، وهو:
هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل للقائد المدخر عاملاً من عوامل نجاحه في عملية التغيير المرتقب؟ ثم يجيب بالإيجاب، ويقدم أدلةً تستند إلى فهم عميق لحركة التاريخ، ومستلزمات التغيير الحضاري الشامل، وأثر الحضارات التي ينشأ الإنسان في ظلها على مستوى تفكيره ورؤاه ودوره الحضاري، ثم يكيف المسألة في ضوء رسالة الإسلام والنقلة الحضارية التي يريدها.
وهكذا يحول السيد الشهيد البحث إلى دراسة اجتماعية تعتمد المقولات والمفاهيم الاجتماعية، فضلاً عن تأصيل مفاهيم ونظرات اجتماعية مهمة.
ج- ينتقل الشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليه بعد ذلك إلى معالجة قضية أكبر ترتبط بقضية المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وهي
(الإمامة المبكرة) أو (كيفية إعداد القائد الرسالي) في نظرية الإمامة عند الشيعة الاثني عشرية، فيذكر أن هذه الظاهرة (الإمامة المبكرة) عاشتها الأمة فعلاً6، وقد بلغت ذروتها في الإمام المهدي والإمام الجواد عليهما السلام من قَبلِه.
وهذه الظاهرة – كما يقول رضوان الله تعالى عليه – "تشكل مدلولاً حسياً عملياً عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر، ولا يمكن أن نطالب بالإثبات لظاهرةٍ من الظواهر هي أوضح وأقوى من تجربة أمة"7.
ويورد السيد الشهيد كثيراً من الحقائق التاريخية التي تؤكد هذه الظاهرة، ثم يخلص إلى القول: بأنها أي الإمامة المبكرة في ضوء ذلك كانت ظاهرةً واقعية وليست وهماً أو مجرد افتراض، وأن لها أمثلةً في القرآن الكريم، كما هو الأمر بالنسبة إلى النبي يحي عليه السلام، في قوله تعالى ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾8. وهذا ما لا يسع المسلم إنكاره.
د- وينتقل السيد الشهيد إلى البحث الروائي وإلى ما ردده وأثاره المشككون والخصوم قديماً وحديثاً بقوله
"كيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟ وهل تكفي بضع روايات تُنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم للإقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر عليهم السلام على الرغم مما في هذا الافتراض من غرابة وخروج عن المألوف؟ بل كيف يمكن أن نثبت أن للمهدي وجوداً تأريخياً حقاً، وليس مجرد افتراض توفرت ظروف نفسية لتثبيته؟"
هكذا يطرح السيد الشهيد هذا السؤال بكل تفرعاته الممكنة والمنتزع بعضها مما أثاره أو يثيره بعض المتأثرين بمناهج الغرب في دراسة تاريخنا الإسلامي وقضيانا الإسلامية مثل أحمد أمين في دراسته (المهدي والمهدوية) ومن سلك هذا المسلك من الخصوم9.
ويتصدى السيد الشهيد للإجابة عن هذا السؤال متسلحاً ومتوسلاً بمنطق العقل والدليل العقلي وعندما يعرض الدليل الروائي أيضاً في المقام نجده يعرضه مدعوماً بالوثائق والواقع والتجربة التاريخية، ولنسمعه يقول: "إن فكرة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عموماً، وفي روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام خصوصاً، وأكدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك، وقد أحصي أربعمائة حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق إخواننا أهل السنة، كما أحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف من طرق الشيعة والسنة فكانت أكثر من (ستة آلاف رواية)، وهذا – كما يقول السيد الشهيد – رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشك فيها مسلم عادة"10.
ج- يتخذ السيد الشهيد رضوان الله تعالى عليه هنا مسلكاً جديداً في الاستدلال على (الخصوصية المذهبية) أي مسألة تجسيد الفكرة (فكرة المهدي) في إنسان معين هو الإمام الثاني عشر عليهم السلام، مستفيداً من الروايات والبحث الروائي، وموظفاً ذلك بصورة مبدعة في إثبات (المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فيطرح أولاً المبرارات التي يراها كافية للإقتناع ويلخصها في دليلين أحدهما أطلق عليه (الدليل الإسلامي) والآخر (العلمي) فيقول: "فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر، وبالدليل العلمي نبرهن على أن المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس مجرد أسطورة وافتراض، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية".
ويشرع بتقديم الدليل الإسلامي فيراه متمثلاً بمئات الروايات الواردة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمة من أهل البيت عليهم السلام والتي تدل على تعين المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وكونه من أهل البيت عليهم السلام، ومن ولد فاطمة عليها السلام، ومن ذرية الحسين عليه السلام وليس من ذرية الحسن، وأنه التاسع من ولد الحسين عليه السلام، وأن الخلفاء اثنا عشر. فإن هذه الروايات تحدد تلك الفكرة العامة وتشخصها في الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام.
ثم يقول رضوان الله تعالى عليه بشأن تلك الروايات: "وهي روايات بلغت درجةً كبيرة من الكثرة والإنتشار – كما ورد عن طرقنا – على الرغم من تحفظ الأئمة وإحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام وقاية للخلف الصالح من الإغتيال... ".
إن الروايات الكثيرة جداً التي تشكل رقماً إحصائياً كبيراً – أي بلوغها حدّ التواتر كما حكى غير واحدٍ من العلماء – يرى السيد الشهيد أن الأساس في قبولها ليس مجرد الكثرة العددية على الرغم من أنه قد استقر في الأوساط العلمية الروائية إعتبار مثل هذه الكثرة، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن على صحتها.
فالحديث الشريف عن الأئمة أو الخلفاء أو الأمراء بعده صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم اثنا عشر إماماً أو خليفةً أو أميراً على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة، قد أحصى بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكثر من مئتين وسبعين رواية مأخذوة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنة بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم، وقد لاحظ الشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليه هنا أن البخاري (المولود 194، والمتوفى 256 هـ) الذي نقل الحديث كان معاصراً للإمام الجواد عليه السلام والإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام وفي ذلك مغزى كبير، لأنه يبرهن على أن الحديث قد سجل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتحقق مضمونه، وهذا يعني أن نقل الحديث لم يكن متأثرأً بالواقع الإمامي الإثني عشري أو يكون انعكاس له، لأن الروايات المزيفة التي تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخراً زمنياً لا تسبق في ظروفها وتسجيلها كتب الحديث، ولقد جاء الواقع الإمامي الإثنا عشري ابتداءاً بالإمام علي عليه السلام وانتهاء بالمهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف.
هذا هو الدليل الإسلامي، كما اصطلح عليه السيد الشهيد، أي الدليل الروائي في إثبات المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
أما الدليل الآخر الذي اصطلح عليه بـ(العلمي) والذي يسوقه السيد الشهيد لإثبات الوجود التاريخي للمهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وانه إنسان بعينه ولد وعاش واتصل بقواعده الشعبية وبخاصته، فإن هذا الدليل يتكون كما يرى السيد الشهيد من التجربة التي عاشتها أمةً من الناس فترةً امتدت سبعين سنة تقريباً وهي فترة الغيبة الصغرى.
ويعطي السيد الشهيد هنا فكرة عن هذه الغيبة، ويفلسفها، مبيناً دور القائد المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ودور سفرائه الأربعة، وما صدر عنه من (توقيعات) أي رسائل وإجابات كلها جرت على أسلوب واحد، وبخطٍ واحد وسليقة واحدة طيلة نيابة النواب الأربعة المختلفين أسلوباً وسليقة وذوقاً وخطاً وبياناً، ومثل هذا كاشف بالضرورة عن وجود (الرجل)، لأنه ثبت واستقر في الأوساط الأدبية وبما لا يقبل الشك أن الأسلوب هو الرجل، وكل الدارسين والمتذوقين للأدب يدركون هذه الحقيقة بوضوح.
وبعد هذه القرينة والشواهد القوية على وجود الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف كما يؤكدها السيد الشهيد يتجه إلى منطق الإستقراء ونظرية الإحتمال لتعزيز ذلك فيقول: "وقد قيل قديماً: إن حبل الكذب قصير، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أن من المستحيل عملياً بحساب الإحتمالات أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل، وكل هذه المدة، وضمن تلك العلاقات والأخذ والعطاء ثم تكسب ثقة جميع من حولها".
وهكذا يخلص السيد الشهيد إلى القول أخيراً: "أن ظاهرة الغيبة الصغيرة يمكن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضوعي، والتسليم بالإمام القائد عجل الله تعالى فرجه الشريف، بولادته وحياته وغيبته وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ولم يكشف نفسه لأحد"11 أي حتى يأذن الله تعالى له بالظهور لتأدية دوره ووظيفته التغييرية الكبرى "فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً"، كما بشر بذلك خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا هو ما عليه اعتقاد الإمامية، ومقتضى توقيع الإمام الثاني عشر عليهم السلام، بإعلانه الغيبة الكبرى.
وأخيراً واستكمالاً للبحث، ربما يثير بعضهم سؤالاً حول المنهج الذي اتبعه الإمام الشهيد – كما حددناه، وكما هو في واقعه – والسؤال هو:
لماذا لم يسلك السيد الشهيد منهج المتقدمين في البحث الروائي، ويفضي عليه من إبداعاته والتفاتاته ما يزيل الشكوك والتقولات التي تثار حول أسانيد الروايات، وتضعيف بعضهم لها؟
وفي الجواب عن ذلك نسجل الملاحظات الآتية:
أولاً: لقد ذكر السيد الشهيد أن هناك عدداً هائلاً من الروايات بلغت رقماً إحصائياً لم يتوفر لأي قضية مشابهة من قضايا الإسلام، بل إن بعضهم حكى التواتر فيها، وعليه فليس بوسع مسلم إنكار ذلك أو عدم الإعتقاد بموجبه اللهم إلا لجهة أخرى، وليس هي إلا جهة تعقل المسألة، وقد حظيت بإهتمامه وبالتركيز عليها.
ثانياً: إن أكثر المنكرين المعاصرين إنما أنكروها من زاوية عدم تعقل الفكرة أو تشخيصها وتجسيدها في إنسان وُلد قبل قرون، وما يزال ذا وجودٍ حي حقيقي، ومن هنا اتجه السيد الشهيد – بلحاظ أن القضية في حقيقتها إسلامية وليست مذهبية فحسب – إلى (عقلنتها) من جميع جهاتها أو ما يلابسها، تصوراً وقبولاً وواقعاً.
ثالثاً: إن شأن الإيمان بالمهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف شأن الإيمان بمطلق ما ورد من المغيبات مما ثبت عن طريق الرواية كسؤال منكر ونكير في القبر ونحو ذلك مما لم يرد في البخاري ومسلم 12، ومع ذلك فإن أحداً من أبناء الإسلام لا يسعه إنكاره.
رابعاً: إن الإختلاف بين المتعبدين بحجية الخبر الصحيح والإيمان بموجبه، وعدم جواز تكذيبه، إنما كان في مصداق القضية المتجسد في إنسان لا في أصل قضية المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهو مما احتاج إلى تقديم المبررات المنطقية والعلمية لقبوله.
خامساً: إن الذين أنكروا أو شككوا بالروايات الواردة في المهدي، وحاولوا تضعيفها ليسوا من أهل الفن والعلم بالرواية وبالأسانيد13، ولذلك فليس ما يدعو إلى إتعاب النفس معهم كثيراً، بل لا بد من الاتجاه إلى تثبيت العقيدة في نفوس المؤمنين وذلك (بعقلنتها) وتوظيفها لإصلاح شأنهم وشؤونهم. ولقد تعامل السيد الشهيد مع قضية المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف على أنها تجربة أمة، وقضية أمة، وكحقيقة ثابتة تاريخية تعيشها الأمة شعوراً وأملاً وترقباً وانتظاراً إيجابياً فاعلاً ومؤثراً في حياتها وجهادها المستمر بلا هوادة في مواجهة الظلم والظالمين والطغاة والجبارين، هذا فضلاً على أن العلماء المتقدمين والمتأخرين قد أشبعوا هذا الموضوع بحثاً وتحقيقاً وناقشوا مناقشات وافية شافية كل الطعون والأقوال والتضعيفات المزعومة، وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً.
سادساً: إن من التهافت، والخطل في الرأي بالنسبة إلى من يؤمن بموجب الخبر الصحيح، ويوجب تصديقه لمجرد وروده في البخاري حتى لو كان مصادماً لبعض الحقائق الطبيعية أو منافياً للعقل أو للذوق إذ يوجب تأويله حينئذٍ14، حيث وردت مجموعة من الأحاديث والروايات مما يتنافى مع العقل والذوق في صحيح البخاري. ثم عندما تصل النوبة إلى مسألة (المهدي المنظر عجل الله تعالى فرجه الشريف) على تعدد طرقها، وصحة أسانيدها في السنن والمسانيد، وعلى شرط البخاري ومسلم، نراه يتوقف أو يتحفظ أو يتردد، وليس لديه حجة إلا أن المسألة – حسب تصوره القاصر- من معتقدات الشيعة15، مع أنها كما ثبت عقيدة السلف والخلف من جمهور الأمة على امتداد القرون، كما نبه إلى ذلك الشيخ منصور علي ناصف في غاية المأمول على التاج الجامع للأصول في الجزء الخامس وفي الصحيفة ثلاثمئة واحدى وستين.
سابعاً: إن بحث السيد الشهيد رضوان الله تعالى عليه هو مقدمة لموسوعة ضخمة تتناول بالبحث الروائي مسألة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ألفها العلامة السيد محمد الصدر، والسيد الشهيد رضوان الله تعالى عليه عبّر عن أمله بالمؤلف وبأنه أوفى المسألة حقها ومن جميع جوانبها، ولذا فلا مبرر للبحث الروائي عنده.
*بحث حول المهدي، السيد محمد باقر الصدر، المقالة مقتطفة من مقدمة تحقيق الكتاب للدكتور عبد الجبار شرارة، الغدير لبنان بيروت، ص29ـ40.
1- راجع الصحيفة 55 وما بعدها من هذا الكتاب.
2- راجع الصحيفة 55 –56 من هذا الكتاب.
3- هذا التاريخ إشارة الفترة من ولادة الإمام المهدي عليه السلام إلى تاريخ كتابة البحث وإنجازه في سنة 1397 هـ.
4- العنكبوت:14.
5- الأنبياء:69.
6- راجع: الإرشاد / الشيخ المفيد: ص 319 وما بعدها، وأيضاً الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 223 و224.
7- راجع: الصواعق المحرقة كما سيذكر في محله من الكتاب المحقق ص 94.
8- مريم:12.
9- أشرنا إلى طائفة منهم في الصحيفة 16.
10- راجع الصحيفة 103_ 104 من هذا الكتاب.
11- راجع الصحائف 104- 111 من هذا الكتاب.
12- راجع بحث الشيخ عبد المحسن العباد المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية الصادرة بالمدينة المنورة / سنة 1969 م.
13- راجع البحث السابق للشيخ العباد، ودفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1: 205- 523.
14- راجع: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: ص 276، طبعه القاهرة 1326 هـ، أضواء على السنة المحمدية / الشيخ محمود أبو رية، دراسات في البخاري والكافي / هاشم معروف الحسني.
15- راجع ما نقله الشيخ عبد المحسن العباد في بحثه المذكور سابقاً.