يتم التحميل...

تحصينُ الأسرارِ

عنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «الظَّفَرُ بِالْحَزْمِ، وَالْحَزْمُ بِإِجَالَةِ الرَّأْيِ، وَالرَّأْيُ بِتَحْصِينِ الْأَسْرَارِ»

عدد الزوار: 12

عنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «الظَّفَرُ بِالْحَزْمِ، وَالْحَزْمُ بِإِجَالَةِ الرَّأْيِ، وَالرَّأْيُ بِتَحْصِينِ الْأَسْرَارِ»[1].

إذا أرادَ الإنسانُ أنْ ينالَ مُرادَهُ ويحصلَ على الفوزِ في الحربِ أوْ غيرِها، فإنَّ قِوامَ ذلكَ الحَزمُ؛ بمعنى أنْ يكونَ مُتيقِّناً ممَّا يريدُ الوصولَ إليهِ، لا أنْ يعيشَ حالةَ التردُّدِ. والوصولُ إلى هذهِ الدرجةِ منَ اليقينِ إنَّما يكونُ بالتفكُّرِ والتدبُّرِ، لا بالتهوُّرِ والاستعجالِ في ما يُقدِمُ عليهِ، ومعرفةُ وجوهِ الأمرِ، وهوَ المرادُ منْ «إجالةِ الرأيِ»؛ أيْ أنْ يبحثَ في كُلِّ الاحتمالاتِ وينظرَ فيها للوصولِ إلى أفضَلِها. والرأيُ الذي لا بُدَّ منَ اختيارِهِ هوَ ذلكَ الموقفُ العمليُّ الذي يتَّخذُهُ الإنسانُ، ولهُ حيثيّاتُهُ وشروطُهُ، فينبغي أنْ يكونَ نافعاً مُفيداً، ولا يكونُ كذلكَ ما لمْ يكنْ محفوظاً مُصاناً لا يتسرَّبُ إلى الآخرينَ؛ لأنَّ تسرُّبَهُ أوْ تسرُّبَ حيثيّاتِهِ يكونُ سبباً في فشلِ الوصولِ إلى الغايةِ والفوزِ.

ونُلاحِظُ في هذهِ الحِكمةِ أنَّ الإمامَ (عليه السلام) يُبيِّنُ سلسلةً مترابِطةً للوصولِ إلى الظَّفَرِ؛ تبدأُ منْ تحصينِ الأسرارِ، فتُنتِجُ الرأيَ، والرأيُ يُفرِزُ الحَزمَ، والحَزمُ يُوصِلُ إلى الظَّفَرِ. وأيُّ خَلَلٍ في هذهِ السلسلةِ سيمنَعُ الوصولَ إلى الفوزِ.

ومسألةُ حفظِ الأسرارِ وكتمانِها منَ التعاليمِ التربويَّةِ الواردةِ عنْ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) في أحاديثَ كثيرةٍ، ففي الحديثِ عنِ الإمامِ الرضا (عليه السلام): «لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: سُنَّةٌ مِنْ رَبِّهِ، وَسُنَّةٌ مِنْ نَبِيِّهِ، وَسُنَّةٌ مِنْ وَلِيِّهِ؛ فَأَمَّا السُّنَّةُ مِنْ رَبِّهِ فَكِتْمَانُ سِرِّهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ﴾[2]»[3].

ولكتمانِ السرِّ ثمرةٌ مُهمَّةٌ هيَ أنْ تبقى الخياراتُ مُتاحةً للإنسانِ باختيارِ القرارِ المناسبِ في الوقتِ المناسبِ، فعنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ، كَانَتِ الْخِيَرَةُ فِي يَدِهِ»[4].

وثمرتُهُ المُهمَّةُ الأُخرى هيَ النجاحُ في العملِ والوصولُ إلى الغاياتِ المطلوبةِ؛ فعنِ الإمامِ الجوادِ (عليه السلام): «إِظْهَارُ الشَّيْ‏ءِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْكَمَ، مَفْسَدَةٌ لَهُ»[5]؛ لأنَّ الإنسانَ إذا كشفَ خُطَطَهُ قبلَ الوصولِ إلى هدفِهِ، فعرفَها غُرماؤُهُ وأعداؤُهُ، سبقوهُ وسدُّوا الطريقَ عليهِ، وبالتالي لا يَحصُدُ سوى الفشلِ.

ولأنَّ الصداقةَ هيَ التي تفتحُ البابَ عادةً لكشفِ الأسرارِ، وردَ التحذيرُ منَ الخطأِ في ذلكَ؛ فالصداقةُ تقتضي التعاملَ بمحبَّةٍ، ولكنَّها لا تقتضي كشفَ الأسرارِ، ففي حديثِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام): «ابْذُلْ لِصَدِيقِكَ كُلَّ الْمَوَدَّةِ، وَلَا تَبْذُلْ لَهُ كُلَّ الطَّمَأْنِينَةِ»[6].

ولكشفِ السرِّ مخاطرُ ترتبطُ بحفظِ حياةِ الإنسانِ أحياناً؛ ولذلكَ لا بُدَّ منْ أنْ يتدبَّرَ الإنسانُ في عواقبِ كُلِّ كلمةٍ يقولُها، ولا سيَّما إذا كانَتْ ترتبطُ بأمرِ الناسِ لا بأمرِ نفسِهِ؛ فعنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «الْمَرْءُ يَعْثُرُ بِرِجْلِهِ فَيُبْرَى، وَيَعْثُرُ بِلِسَانِهِ فَيُقْطَعُ رَأْسُهُ، احْفَظْ لِسَانَكَ فَإِنَّ الْكَلِمَةَ أَسِيرَةٌ فِي وَثَاقِ الرَّجُلِ، فَإِنْ أَطْلَقَهَا صَارَ أَسِيراً فِي وَثَاقِهَا»[7].

وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص477، الحكمة 48.
[2] سورة الجنّ، الآيتان 26 - 27.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص241.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص500، الحكمة 162.
[5] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، ص457.
[6] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص80.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج68، ص293.