كلّ إنسان معرّض لأن يتلوّث بالصفات الرذيلة بحدود تعلّقه بالحياة الدنيا وغفلته عن الآخرة. وليس أمام سالك طريق الآخرة واللقاء من حلٍّ سوى إزالة هذا التلوّث، وتصفية باطنه من الصفات الناشئة عن حبّ الدنيا والتعلّق بها، حتى يتمكّن بقلب طاهر وصاف من تحلية نفسه بالصفات الحميدة وتهيئتها لإشعاع الأنوار الإلهية.
والمقصود من التخلية؛ تنزيه الباطن وتطهيره من الصفات الرذيلة، وكلّ ما لا يُلائم الحياة الأخرى. ومنشأ هذه الصفات عموماً كما ذكرنا هو حبّ الحياة الدنيا والتعلّق بها. فعندما يشغف الإنسان بالحياة الماديّة ويتعلّق قلبه بها، ويرى أنّ نعم الحياة ولذائذها وزخارفها محدودة، وفي المقابل طلّابها ومنافسوه كثر، فبطبيعة الحال سيميل إلى ردّ منافسيه ودفعهم، والسعي المتواصل لتحصيل أكبر قدر ممكن من المنافع الدنيويّة. من هنا تظهر الصفات الأخلاقية الرذيلة من البغض والحقد والعداء والغضب والحسد، وسوء الظنّ والحرص والطمع والتكبّر والمفاخرة والتعصّب، وقساوة القلب وحبّ الجاه وطول الأمل والغفلة وغيرها من الصفات الذميمة التي تتولّد من فرط التعلّق بالدنيا. لذا على الإنسان الباحث عن طريق الحقّ أن يلتفت إلى هذه الحقيقة، ويُدقّق كثيراً في حالاته وصفاته النفسانيّة، ويعمل على إخراج القبيح والسيّئ منها من نفسه:
أولاً: من خلال محاربة منشأ ظهور هذه الصفات وهو حبّ الدنيا، بواسطة التفكّر والدراسة الموضوعيّة لحقيقة الحياة الدنيا، ودورها، ومخاطر الرضا والاكتفاء بها، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾[1]، ﴿أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾[2].
ثانياً: من ناحية الهدف، فبما أنّ هدف الإنسان ومقصده المنشود هو الوصول إلى الله تعالى ولقائه: ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[3]، لذا ينبغي أن يكون هذا الهدف دائماً نصب عينيه، فلا يغفل ولا يحيد عنه قيد أنملة كي لا يسقط في متاهات الدنيا الفانية وملذّاتها الموهومة التي لا تزيده عن الحقّ تعالى إلا بعداً: ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾[4].
ثالثاً: إنّ برنامج محاربة الصفات الرذيلة والأخلاق الذميمة هو بالعمل بأضدادها. وتوضيحه أنّ لكلّ صفة من الصفات الذميمة صفة ضدّها لا يمكن أن تجتمع معها في مورد واحد. فإذا تحقّقت إحدى الصفات انتفى ما يُقابلها من ضدّ مباشرة. فمثلاً كفران النعمة ضدّه الشكر، والجزع ضدّه الصبر، والتكبّر ضدّه التواضع، والغضب ضدّه الحلم، والطمع ضدّه القنوع، والشهوة ضدّها التقوى، والرياء ضدّه الإخلاص، والبخل ضدّه العطاء، والحسد ضدّه الرضا، والغفلة ضدّها التوجّه والانتباه، والجهل ضدّه العلم، والظلم ضدّه العدل، والجبن ضدّه الشجاعة والخيانة ضدّها الأمانة... وأفضل علاج لدفع هذه المفاسد الأخلاقيّة، هو ما ذكره علماء الأخلاق، وهو أن يأخذ الإنسان كلّ واحدة من الصّفات القبيحة التي يراها في نفسه، وينهض بعزم وجدّ على مخالفة نفسه إلى أمد، ويعمل عكس ما ترجوه وتطلبه منك تلك الصفة الرذيلة، كما يقول إمامنا الخميني قدس سره: "الأسلوب الوحيد للتغلّب على النفس الأمّارة، وقهر الشيطان، ولاتّباع طريق النجاة، هو العمل بخلاف رغباتهما"[5]. ومع الوقت والمداومة على هذه المخالفة سيزول هذا الخلق السيّء من النفس، ويحلّ محلّه الخلق الحميد بإذن الله تعالى.
رابعاً: التقوى، وهي وقاية النفس من الأمور التي يمكن أن تضرّها وتُسبّب الأذى لها: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[6]. فالمتّقي هو الذي يكون في حالة إشغال دائمة للنفس بما يُرضي الله، من خلال الاتّباع الدائم لأوامره وأحكامه الشرعيّة، والابتعاد عن نواهيه. وبذلك يبدأ الإنسان شيئاً فشيئاً بالتخلّص من سلطة النفس الأمّارة بالسوء والأهواء التي لا همّ لها سوى ملذّات الدنيا وشهواتها. فإذا داوم الإنسان على الطاعات، وأداء الواجبات الشرعيّة، فسوف يخرج من سلطة النفس الأمّارة والأهواء، فتتعافى نفسه بالكامل من الصفات الذميمة والأخلاق القبيحة، وتُصبح طاهرة مطهّرة من كلّ رجز وسوء.
خامساً: التوسّل بالله بواسطة الأدعية والمناجات، وبأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، لرفع هذه الصفات الخبيثة عن قلب الإنسان: ﴿وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمً﴾[7].
فالخير كلّه بيده وهو على كلّ شيءٍ قدير: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[8].
هُدىً وبشرى، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة البقرة، الآية 86.
[2] سورة التوبة، الآية 38.
[3] سورة العنكبوت، الآية 5.
[4] سورة يونس، الآيتان 7 - 8.
[5] الإمام الخميني، الأربعون حديثاً: ص 130، الحديث الرابع، في بيان معالجة الكبر، تعريب محمد الغروي، دار التعارف - بيروت، ط6، 1998م.
[6] سورة البقرة، الآية 223.
[7] سورة النساء، الآية 32.
[8] سورة آل عمران، الآية 26.