لا تحسبوا أحداث العالم بسيطة. فعلى سبيل المثال لا تزعموا أن الله كان يريد أن نكون أناسا صالحين وعليه ففرض لنا مجموعة من الأعمال الصالحة. بل الواقع هو أن نقول: «لقد فرض الله علينا هذه الأعمال الصالحة لكي نستعدّ عبر هذه الأعمال للقائه». وبالتأكيد إن الأعمال التي فرضها الله علينا في معسكر الدنيا لم تكن أعمالا قبيحة وسيئة قط. ولا شكّ في أن جميع الأعمال التي قد وصّانا الله بها هي أعمال صالحة وتنطوي على فوائد ومحاسن ذاتيّة، ولكن لابد أن نعرف أنه لم يخلقنا الله لتحصيل تلك المحاسن الذاتيّة المرتبة على الأعمال الصالحة. يعني لم يخلقنا الله لنكون أناساً صالحين وحسب ثم نموت، ليحشرنا في الآخرة في الجنان ويتحفنا بالثواب.
بعد هذه المقدّمة، نشير إلى أحد أهم برامج معسكر الحياة الدنيا لتربية الإنسان. من أهمّ البرامج التي تمهّد الإنسان للقاء الله والتي تعتبر أصعب مرحلة تعليميّة له هو التحلّي بالبصيرة السياسيّة. ففي هذه المرحلة ينبغي للإنسان أن يكون قد ابتعد كثيرا عن الجهل وحظي بمرتبة عالية من النور والمعنويّة لكي يعي هذا البرنامج وينجح فيه.
التحلّي بالوعي السياسي جزء من برنامج معكسر حياة الإنسان في هذه الدنيا. وإنه في ضمن العمليّة التربويّة المؤدّية إلى لقاء الله. كلّما جاهد النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا المجال، لم يبلغ هذا الوعي الديني العالي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) إلا أربعة. «قَالَ عَلِيٌّ ع إِنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ص غَیْرَ أَرْبَعَة»([1]).
ولا أقصد من الوعي الديني العالي، الوعي السياسي بل الوعي الديني نفسه، لأن سياستنا عين ديانتنا. إذن من لم يحظ بالوعي السياسي يفتقد الوعي الديني أيضا. إذ لا يعرف المطلوب منه بعد. فإن الله لا يريد منّا الصلاة والعبادة وحسب، وإلّا لكان قد رضي عن إبليس إذ كان يقوم بكل هذه الأعمال.
وأمّا أنّه ما العلاقة بين لقاء الله والوعي السياسي، فهذا ما يحتاج إلى بحث مفصّل ليس مجاله الآن، وبإمكانكم أن تفكّروا في هذه المسألة.
بدأ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في بداية تاريخ الإسلام بتربية الناس، ولعلّ من أسهل مراحل التربية هي تثقيفهم على القانون. طبعا لا يخفى على من درس التاريخ أن العرب يومئذ لم يكونوا بعيدين عن القانون والحضارة جدّا. فكان من أسهل أدوار النبي (صلى الله عليه وآله) هو دعوة الناس إلى بعض الأعمال الصالحة كالصلاة والصدق وغيرها.
ولكن لابدّ أن نعرف أن نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) بعظمته والذي كان الأنبياء جميعا مقدمة لظهوره، كان يريد أن يوصل الناس إلى أيّ قمّة؟ بإمكاننا أن نقول: إن هذه القمّة هي الوعي السياسي وإلّا فباقي القضايا أسهل منها. أفهل استطاع النبي (صلى الله عليه وآله) أن يأخذ بأيدي الناس إلى تلك القمّة؟ الجواب هو أنه قد بلغها أربعة فقط.
أيّ أقسام الإسلام قد تحقّق في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وأيّ الأقسام لم يتحقّق؟ يبدو أنه قد انحلّت بعض الأحكام مثل الصلاة والصوم والزكاة والجهاد والشهادة ولم يكن المجتمع يعاني من مشكلة يومئذ. إذن أيّ قسم بقي بلا عامل؟ أولم يكن هذا القسم يمثّل أعلى مراتب الدين؟ فلا يمكن أن نقول: لقد تحقّقت أعلى مراتب التديّن وإنما كانت قد بقيت مشكلة فرعية فقط! كيف يكون قد بلغوا القمّة في التديّن ولكنّهم لم يجتازوا سفح الجبل؟!
فما هي قمّة الدين التي لم تصل إليها الأمّة يومئذ؟ وما هي هذه القمّة التي إن لم يكن قد دعا إليها النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فكأنه لم يبلّغ رسالته ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَه﴾([2])؟ إنه الوعي السياسي الرفيع والعالي جدّا الذي لم تبلغه أمّة الإسلام يومئذ.
سماحة الشيخ علي رضا بناهيان
([1]) رجال الكشي/11 واختصاص المفید/6 وسلیم بن قیس/2/598
([2]) المائدة/67