مسؤوليّة المنظومة التربوية تجاه المتعلمين
إضاءات إسلامية
مسؤوليّة المنظومة التربوية تجاه المتعلمين
عدد الزوار: 152
يؤمن الإمام الخامنئي (دام حفظه) أنّ تميّز الإسلام بالنظر إلى العلم والتمسّك الواقعيّ بأخلاقيّات العلم يستلزم شروطًا للحفاظ عليها ولتطويرها، ومسؤوليّات تطويرها تنطلق أوّلًا من الميدان التربويّ، من الصفوف الأساسيّة الأولى وصولًا إلى مرحلة التخرّج من الجامعة، فمن التربية يتمّ بثّ القيم في قلوب الأطفال ويجري تطويرها وتعميق الالتزام بها كلّما ارتقى الطالب في دراسته، ويولي الإمام عناية خاصّة للمسألة التربويّة التي توصل طلّابًا وباحثين يحملون مسبقًا أفكارًا نورانيّة عن العلم وأهداف العلم نحو إنسانيّة الإنسان أوّلًا وآخرًا، فنراه يحمّل الأساتذة مسؤوليّة زرع الثقة والأمل بالخصال الوطنيّة والكنوز الثقافيّة وهو ما استمرّ يطلق عليه عنوان الثقة الوطنيّة بالذات. كما يحثّ الإمام على زرع الطهارة وصفاء النفس كعاملين مؤثّرين للجميع: فإذا كان الأستاذ حائزًا على شروط الروح النقيّة والطاهرة فسينير أجواء قاعة المحاضرات، ويربط الإمام بين نورانيّة القاعة وقلوب المتعلّمين وبين توجيه الإمام في الاتّجاه السليم، بمعنى إذا كان النور المعنويّ موجودًا في مكان التدريس فسيؤثّر حتمًا في قيادة العلم ضمن الضوابط والأخلاقيّات اللازمة التي تحرسه في الاتّجاه الصحيح، ويعبّر الإمام عن ذلك بالقول:
الطهارة وصفاء النفس حالة مهمّة للجميع، وضروريّة للجميع، ومؤثرة في حياة الجميع، لكنّني أعتقد أنّها أهمّ وأنفع وأكثر فائدة وربحًا للأساتذة والعلماء. أوّلًا لأنّكم الأساتذة حيث تؤثّر طباعكم وسلوككم في تكوين شخصيّة الشباب والطلبة أكثر ممّا يؤثّر كلامكم. هكذا هو الأمر غالبًا بحيث لو دفع كلامكم الشابّ باتّجاه معيّن، وسلوككم لم يكن بنفس ذلك الاتّجاه، فإنّ سلوككم وتصرّفاتكم هذه ستؤثّر في مخاطبيكم وطلّابكم ومتعلّميكم والشباب الذين يدرسون عندكم. هذا جانب من جوانب أهميّة نقاء النفس. إذا كان أستاذنا يتحلّى بالمعنويّات والروح النقيّة الطاهرة فسوف ينوّر أجواء الصفّ والدرس وفضاء قلوب المتعلّمين. هذا ما نحتاج إليه. إضافة إلى هذا أنتم علماء، وإذا رافق النور المعنويّ العلم فسوف يوضع العلم في الاتّجاه الصحيح.
هذه الآراء التي طرحتموها أيّها الأعزاء، والعقبات والمشكلات والمؤاخذات التي تلاحظ في الميادين المختلفة، وقد نبّهتم إلى بعضها، الكثير منها بسبب أنّ العلم لم يتحرّك في اتّجاهه الصحيح أي باتّجاه السنن الإلهيّة. نقاء النفس ونورها يساعد العالم على توجيه العلم في الاتّجاه الصحيح([1]).
ويدعو الإمام إلى تكريم المعلّم ورفع منزلته، نظرًا لدوره المفصليّ في صناعة الإنسان وهو المادّة الخامّ التي بيد المعلّم والتي يقلّبها ويصنعها كيف يشاء فيصفه الإمام بأنّه ليس جمادًا بل هو ذو قدرات هائلة خيّرة وشريرة في آنٍ، وذو مواهب تنير درب الإنسانيّة وتظلمها، فتكريم المعلّم يضفي الأهميّة على العلم الذي سوف ينتج وبالتأكيد أجيالًا صالحة تغيّر العالم نحو الأفضل كما أنّ اعتبار الإنسان وروحه مادّة لكسب العلم يعني أنّ العلم بدوره مادّة الروح والحياة للإنسان، وسينعكس الأمر على المزيد من تعزيز مكانة العلم واحترام ضوابطه وأخلاقيّاته، فيقول:
هناك عدّة أمور تضفي القيمة على المعلّم. ومن هذه الأمور أنّ المادّة التي في يد المعلّم ويريد بعمله ومساعيه أن يصنع منها نتيجة نهائيّة، هذه المادّة ليست مادّة لا روح لها، بل هي الإنسان. وهذا الأمر على جانب كبير من الأهميّة. تارة يأخذ الإنسان مادّة جامدة ويحوّلها بمساعيه وإبداعه وعرق جبينه وإنفاق ساعات طويلة من وقته إلى حصيلة ونتيجة مطلوبة، وهذا شيء قيم ومهمّ في محلّه، وتارة تكون هذه المادّة التي في أيدينا كائنًا إنسانيًّا بكلّ مواهبه وعواطفه ومشاعره وإمكانيّاته وقدراته الكثيرة المتوفّرة في الإنسان. هذا الحدث قد يكون غدًا شخصًا كالإمام الخميني الجليل، وقد يكون مصلحًا اجتماعيًّا، وقد يكون عالمًا بارزًا، وقد يكون إنسانًا صالحًا ساميًا. كلّ هذه المواهب موجودة في الأحداث والأطفال الذين يوضعون تحت تصرّف المعلّم. ونريد أن ننقل هذه المواهب الكامنة إلى الفعل. لاحظوا كم هذا العمل مهمّ. ومعظم خطابي هو لعامّة جماهيرنا ولشتّى شرائح المجتمع.. أعرفوا قدر المعلّم ومنزلته. وعلى المعلّم العزيز نفسه أن يشخّص بدقّة أهميّة مكانته ومسؤوليّته ومأموريّته، وأن يعرف قدر نفسه، وأن يعلم أنّ هذا العمل إذا تمّ بهمّة صحيحة وبنيّة سليمة وبقصد إلهيّ، وبسعي مناسب، فكم سيوفّر للمجتمع من قيمة فائضة. وهذه القيمة الفائضة ليست شيئًا عاديًّا دارجًا، بل هي شيء استثنائيّ. تربية إنسان سامٍ عالم قدير صالح.. لاحظوا كم هذه القضيّة مهمّة وكبيرة. من بين كلّ هؤلاء البشر الذين يوضعون تحت تصرّف المعلّمين، قد يكون هناك إنسان يغيّر العالم. وهذا الطفل إذا لم تجرِ تربيته بصورة صحيحة فقد يصبح هتلر أو جنكيز خان: هذه هي القضيّة هكذا تتبيّن أهميّة المعلّم، والقيمة السامية لحركته ومساعيه وإخلاصه وتفكيره الصحيح وعمله الصائب.
والخطاب موجّه أيضًا لمنظومة التربية والتعليم ومؤسّساتها. فالمعلّمون يعملون حسب نظام هذه المؤسّسة، وحسب مقرّراتها وضوابطها، ويدرسون حسب برامجها. وبالتالي، فعلى عموم الناس وعلى المعلّمين أنفسهم وعلى مؤسّساتهم أن لا ينسوا مكانة المعلّم. المعلّم هو ذلك المنتج أو العامل أو اليد الماهرة التي تبدّل أسمى ثمرات الخلقة وأرقى المواد الخامّ إلى أسمى النتائج النهائيّة التي يمكن الاستفادة منها.
حسن، من حقّنا أن نقول إنّ تجمّعنا هنا مرّة واحدة في السنة هو من أجل إبداء حبّنا وشكرنا للمعلّمين. نريد أن نقول إنّنا نعرّف لكم أيّها المعلّمون هذه المرتبة السامية والمنزلة السامقة. إذا عمل المعلّم بصورة جيّدة وصحيحة وبتدبير وبإخلاص فنعتقد أنّ كلّ مشكلات المجتمع سوف تعالَج. ولا نريد أن نقول إنّه لا توجد خارج بيئة المدرسة عوامل تؤثّر في تربية أحداثنا، بلى، العوامل مؤثرّة، ووسائل الإعلام مؤثّرة، والمناخ الاجتماعيّ مؤثّر- هذه أمور لا شكّ فيها- ولكنّ الصانع الأصليّ واليد الماهرة الأصليّة التي تستطيع تشييد بناء متين بحيث لا تستطيع هذه العوامل المختلفة ترك تأثيرات جذريّة على هذه النتيجة والمحصّلة، هي يد المعلّم. هذه هي قيمة المعلّم.
أقولها لكم.. إنّ هذه القيمة تورث عند الله تعالى حسنات جمّة أي إنّكم حينما تجلسون في غرفة الدرس وفي مناخ التعليم وتواجهون هذا الحدث أو الطفل، فاعلموا أنّ كتَاب الأعمال والكرام الكاتبين الإلهيّين يسجّلون عملكم حسنات لحظة بلحظة. كم هو نافع أن يكون عمل الإنسان وحياته وشغله عبادة في كلّ لحظاته([2]).
ثمّ يتحدّث الإمام وبمنتهى الوضوح عن مهنة التعليم وترقّيها عن غيرها من سائر المهن وسموّها مهما تطوّرت ونمت باعتبارها أمانة إلهيّة وكلامًا يصنع القلوب كأوعية للإيمان والمعارف والسلوكيّات، فيقول: "إنّ الكثير من المشاغل والمهن في البلاد لها بهارجها وبريقها ومظاهرها المتنوّعة ومنزلتها جميعًا أدنى بكثير من منزلة التعليم ومهنة التعليم"([3])، ثمّ يكمل وفي نفس الخطاب:
إنّ للمعلّم مسؤوليّة تتجاوز تعليم العلم وإنّما صناعة الوعاء أو الفؤاد الذي سينتقل إليه العلم، ونعني به تعليم الأخلاق والسلوك، والمعلّم نموذج لطلّابه ودائرة تأثيره عليهم كبيرة جدًّا فهو قدوة في كلامه ومواقفه وأفكاره وعواطفه وانتمائه[4]،
ويحكي الإمام قصصًا ومواقف لم ينساها الطلبة ألا وهي مواقف المعلّمين الشهداء الذين استشهدوا في جبهات الحقّ ضدّ الباطل، ومن ذلك يؤكّد الإمام مرّة جديدة أنّ أخلاق وسلوك المعلّم والطالب هي جزء أساسيّ لا ينفصل من أخلاقيّات العلم، وهو بذلك يريد أن يقول لنا: "إنّ فاقد الشيء لا يعطيه".
من هنا نفهم إصرار الإمام على إنجاح النموذج السلوكيّ للمعلّم، وذلك عندما يقول:
المعلّم يعلّم العلم، ويعلم التفكير، ويعلّم الأخلاق والسلوك. وتعليم الأخلاق والسلوك ليس من قبيل تعليم العلم بحيث يقرأ المرء الأفكار عن الكتب فقط. درس الأخلاق ممّا لا يمكن نقله عن طريق الكتب، فالسلوك مؤثّر أكثر من الكتب ومن اللسان. أي إنّكم في غرفة الصفّ وحين تكونون بين تلاميذ تدرسونهم بسلوككم. طبعًا يجب القول باللسان أيضًا، ويجب إسداء النصيحة، لكنّ السلوك له تأثير أعمق وأشمل. سلوك الإنسان يكشف عن صدق أقواله، هذا هو ما نقوله للمعلّمين. هؤلاء الأطفال أمانة في أيدي المعلّمين وينبغي التفطّن لهذا المعنى. إذا كان معلّمونا إن شاء الله في صدد أن يرفعوا الأطفال والأحداث بهذا الأسلوب- أي بالنظر لهذه العناصر الثلاثة- ويتقدّموا بهم إلى الأمام، فأتصوّر في ذلك سيكون له تأثيرات كبيرة في مستقبل المجتمع. طبعًا أنجزت بعد الثورة أعمال ومهام جيّدة على هذا الصعيد أي إنّ المعلّمين بالتزامهم وبتواجدهم في الأجواء الثوريّة- سواء في سنوات الدفاع المقدّس أو بعد- تركوا الكثير من التأثيرات. حينما أقرأ بعض الكتب حول المعلّمين أجد أن تأثير المعلّم الذي شارك في جبهات الدفاع المقدّس واستشهد على أفكار التلاميذ تأثير عميق([5]).
ويكفي المعلّمين فخرًا أن يتناول الإمام دورهم من زاوية أنّه رسول الإنسانيّة ومعلّم بني البشر رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد وصف مهمّته بمهمّة المعلم، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) هو معلّم ويترتّب منّا على ذلك كلّ التقدير والامتنان لدور المعلّم وخصوصًا المعلّم الرساليّ صاحب مشروع الربط بين العلم والأخلاق، وصاحب مشروع تكريس الأخلاق في عمل المعلّم، لتترسّخ أخلاقيّات العلم ولكي يعمل المعلّمون بهديها ليكون العلم آلة استثمار للإنسانيّة، أي ليكون العلم جزءًا من السرّ المستودع في الكون: رقيّ عند الإنسان ليحسن القيام بالدور المناط به: خليفة الله على الأرض، وبهذا المعنى يعبّر الإمام:
حينما يروى عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قوله: إنّما بعثت معلّمًا، فهذا أرقى فخر أن يعتبر الرسول نفسه معلّمًا. مستويات التعليم ومضامينه تختلف طبعًا، بيد أنّ حقيقة التعليم واحدة، وهي مبعث فخر. هذا هو ما نعتقد به. نروم من خلاله هذا اللقاء أن نعرب عن احترامنا وتكريمنا للمعلّم. إنّنا مثقلون بأعباء منن المعلّم، سواءً بالنسبة لنا أو بالنسبة لأبنائنا وأعزّائنا والذين يهمّنا مستقبلهم. كلّ الناس يشتركون في هذه القضيّة وجميعنا تحت منن المعلّم([6]).
أخلاقيّات العلم عند الإمام الخامنئي (دام حفظه)
[1] كلمة الإمام في أساتذة الجامعات 5/9/2010.
[2] كلمة الإمام أمام حشد من المعلّمين في أنحاء البلاد 2/5/2012.
[3] كلمة الإمام في يوم المعلم 7/5/2014.
[4] المصدر نفسه.
[5] المصدر نفسه.
[6] كلمة الإمام مع آلاف المعلّمين بيوم المعلّم، 7/5/2014.