أود أن أشير هنا إلى نقطة أعتبر توضيحها على درجة كبيرة من الأهمية، وهي أن بعض الباحثين يحاول التمييز بين نحوين من التشيع، أحدهما (التشيع الروحي)، والآخر (التشيع السياسي) ويعتقد أن التشيع الروحي أقدم عهدا من التشيع السياسي([1])، وأن أئمة الشيعة الإمامية - من أبناء الحسين (عليه السلام) قد اعتزلوا بعد مذبحة كربلاء السياسة، وانصرفوا إلى الارشاد والعبادة، والانقطاع عن الدنيا. والحقيقة أن (التشيع) لم يكن في يوم من الأيام منذ ولادته مجرد اتجاه روحي بحت، وإنما ولد التشيع في أحضان الاسلام بوصفه إطروحة مواصلة الإمام علي (عليه السلام) للقيادة بعد النبي فكريا واجتماعيا وسياسيا على السواء كما أوضحنا سابقا عند استعراض الظروف التي أدت إلى ولادة التشيع ولم يكن بالامكان بحكم هذه الظروف التي استعرضناها - أن يفصل الجانب الروحي عن الجانب السياسي في أطروحة التشيع تبعا لعدم انفصال أحدهما عن الاخر في الاسلام نفسه. فالتشيع إذن لا يمكن أن يتجزأ إلا إذا فقد معناه كأطروحة لحماية مستقبل الدعوة بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو مستقبل بحاجة إلى المرجعية الفكرية والزعامة السياسية للتجربة الاسلامية معا. وقد كان هناك ولاء واسع النطاق للإمام على (عليه السلام) في صفوف المسلمين باعتباره الشخص الجدير بمواصلة دور الخلفاء الثلاثة في الحكم وهذا الولاء هو الذي جاء به إلى السلطة عقيب مقتل الخليفة عثمان([2]) ولكن هذا الولاء ليس تشيعا روحيا ولا سياسيا، لان التشيع يؤمن بعلي كبديل عن الخلفاء الثلاثة وخليفة مباشر للرسول (صلى الله عليه وآله) فالولاء الواسع للامام في صفوف المسلمين أوسع نطاقا من التشيع الحقيقي الكامل، وإن نما التشيع الروحي والسياسي داخل إطار هذا الولاء فلا يمكن أن نعتبره مثالا على التشيع المجزأ. كما أن الإمام علي (عليه السلام) يتمتع بولاء روحي وفكري من عدد من كبار الصحابة في عهد أبي بكر وعمر من قبيل سلمان وأبي ذر وعمار وغيرهم، ولكن هذا لا يعني أيضا تشيعا روحيا منفصلا عن الجانب السياسي بل إنه تعبير عن إيمان أولئك الصحابة بقيادة الإمام علي للدعوة بعد وفاة النبي فكريا وسياسيا وقد انعكس إيمانهم بالجانب الفكري من هذه القيادة بالولاء الروحي المتقدم وانعكس إيمانهم بالجانب السياسي منها بمعارضتهم لخلافة أبي بكر([3]) وللاتجاه الذي أدى إلى صرف السلطة عن الامام إلى غيره. ولم تنشأ في الواقع النظرة التجزيئية إلى التشيع الروحي بصورة منفصلة عن التشيع السياسي ولم تولد في ذهن الانسان الشيعي، إلا بعد أن استسلم إلى الواقع، وانطفأت جذوة التشيع في نفسه كصيغة محددة لمواصلة القيادة الاسلامية في بناء الأمة، وإنجاز عملية التغيير الكبيرة التي بدأها الرسول الكبير، وتحولت إلى مجرد عقيدة يطوي الانسان عليها قلبه، ويستمد منها سلوته وأمله. وهنا نصل إلى ما يقال من أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من أبناء الحسين (عليه السلام) اعتزلوا السياسية وانقطعوا عن الدنيا، فتلاحظ أن التشيع بعد أن فهمناه كصيغة لمواصلة القيادة الاسلامية، والقيادة الاسلامية لا تعني إلا ممارسة عملية التغيير التي بدأها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بناء الأمة على أساس الاسلام، فليس من الممكن أن نتصور تنازل الأئمة عن الجانب السياسي إلا إذا تنازلوا عن التشيع. غير أن الذي ساعد على تصور اعتزال الأئمة وتخليهم من الجانب السياسي من قيادتهم، ما بدا من عدم إقدامهم على عمل مسلح ضد الوضع الحاكم مع إعطاء الجانب السياسي من القيادة معن ضيقا لا ينطبق إلا على عمل مسلح من هذا القبيل. ولدينا نصوص عديدة عن الأئمة (عليهم السلام) توضح أن إمام الوقت دائما كان مستعدا لخوض عمل مسلح إذا وجدت لديه القناعة بوجود الأنصار والقدرة على تحقيق الأهداف الاسلامية من وراء ذلك العلم المسلح([4]). ونحن إذا تتبعنا سير الحركة الشيعية، نلاحظ أن القيادة الشيعية المتمثلة في أئمة أهل البيت، كانت تؤمن بأن تسلم السلطة وحده لا يكفي، ولا يمكن من تحقيق عملية التغيير إسلاميا، ما لم تكن هذه السلطة مدعمة بقواعد شعبية واعية تعي أهداف تلك السلطة وتؤمن بنظريتها في الحكم، وتعمل في سبيل حمايتها، وتفسير مواقفها للجماهير، وتصمد في وجه الأعاصير: وفي نصف القرن الأولى بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) كانت القيادة الشيعية بعد إقصائها عن الحكم، تحاول باستمرار استعادة الحكم بالطرق التي تؤمن بها، لأنها كانت تؤمن بوجود قواعد شعبية واعية، أو في طريق التوعية من المهاجرين والأنصار والتابعين باحسان ولكن بعد نصف قرن وبعد أن لم يبق من هذه القواعد الشعبية شئ مذكور ونشأت أجبال مائعة([5]) في ظل الانحراف، لم يعد تسلم الحركة الشيعية للسلطة محققا للهدف الكبير لعدم وجود القواعد الشعبية المساندة بوعي وتضحية، وأمام هذا الواقع كان لابد من عملين:
أحدهما: العمل من أجل بناء هذه القواعد الشعبية الواعية التي تهئ أرضية صالحة لتسلم السلطة.
وثانيهما: تحريك ضمير الأمة الاسلامية وإرادتها والاحتفاظ للضمير الاسلامي والإرادة الاسلامية بدرجة من الحياة والصلابة تحصن الأمة ضد التنازل المطلق عن شخصيتها وكرامتها للحكام المنحرفين.
والعمل الأول هو الذي مارسه الأئمة (عليهم السلام) بأنفسهم، والعمل الثاني، هو الذي مارسه ثائرون علويون كانوا يحاولون بتضحياتهم الباسلة أن يحافظوا على الضمير الاسلامي والإرادة الاسلامية وكان الأئمة (عليهم السلام) يسندون المخلصين منهم. قال الإمام علي بن موسى الرضا للمأمون وهو يحدثه عن زيد ابن علي الشهيد: (أنه كان من علماء آل محمد، غضب لله تعالى فجاهد أعداءه، حتى قتل في سبيله، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنه سمع أباه جعفر بن محمد يقول: رحم الله عمي زيدا، إنه دعا إلى الرضا من آل محمد، ولو ظفر لو في بما دعا إليه... إن زيد بن علي لم يدع ما ليس له بحق، وإنه كان أتقى لله من ذلك، انه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)([6]). وفي رواية انه ذكر بين يدي الإمام الصادق من خرج من آل محمد، فقال: (لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد، ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعلي نفقة عياله)([7]). فترك الأئمة إذن العمل المسلح بصورة مباشرة ضد الحكام المنحرفين لم يكن يعني تخليهم عن الجانب السياسي من قيادتهم وانصرافهم إلى العبادة، وإنما يعبر عن اختلاف صيغة العمل الاجتماعي التي تحددها الظروف الموضوعية، وعن إدراك معمق لطبيعة العمل التغييري وأسلوب تحقيقه.
نشأة التشيع والشيعة، السيد محمد باقر الصدر
([1]) راجع: الصلة بين التصوف والتشيع / الدكتور الشيبي / ج 1 / ص 12. وراجع أيضا: مقدمة في تاريخ صدر الاسلام / الدكتور عبد العزيز الدوري / ص 72.
([2]) راجع: تاريخ الطبري / ج 2 / ص 696 وما بعدها وراجع أيضا وصف الحالة في خطبة الإمام علي من قوله: (فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلى ينثالون علي من كل جانب... مجتمعين حولي كربيضة الغنم نهج البلاغة / ضبط الدكتور صبحي الصالح / ص 48 - الشقشقية.
([3]) راجع ما نقله الطبرسي في الاحتجاج / ج 1 / ص 75.
([4]) راجع: أصول الكافي / ج 2 / ص 190 - باب في قلد عدد المؤمنين / الطبعة الاسلامية طهران / 1388 ه.
([5]) راجع ما أحدثته السياسة الأموية في أوساط الأمة من نشر اللهو وإشاعة المجون وشرب الخمر ثم استخدام سياسية البطش والقمح ضد كل المناوئين. راجع في هذه القضية مروج الذهب / المسعودي / ج 3 / ص 214 وما بعدها. وراجع: العقد الفريد / ابن عبد ربه / ج 5 / ص 200 - 202. وراجع: الأغاني / أبي الفرج الأصفهاني / ج 7 / ص 6 وما بعدها طبعة دار الفكر بيروت / ط 1 / 1407 ه وراجع: حول عبث الأمويين في الأموال: العدالة الاجتماعية في الاسلام / سيد قطب.
([6]) وسائل الشيعة / للحر العاملي / تحقيق عبد الكريم الشيرازي / ج 11 / ص 39 / ط 5 / المكتبة الاسلامية - طهران / 1401 ه (الشهيد). وراجع الطبعة المحققة / مؤسسة آل البيت / قم ج 15 / ص 54 كتاب الجهاد.
([7]) السرائر / لابن إدريس / ج 3 / ص 569 الرواية عن أبي عبد الله السياري عن رجل من الأصحاب / مؤسسة النشر الاسلامي / قم (الشهيد).