وهي قوله تعالى: ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهير﴾[1].
1- لقد ورد في سبب نزول هذه الآية الشريفة أنها نزلت بحق علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) في كثير من الروايات من طرق الفريقين، أنهاها العلامة الطباطبائي (قدس سره) إلى ما يزيد عن سبعين رواية عن مختلف الصحابة ومنهم عائشة، رغم ما كانت الأخيرة تكنه من بغض وكراهية لعلي وآله، أعلنت عنها بنفسها، وذكر أنها وردت بما يقرب من أربعين طريقا من طرق أهل السنة، وبضعا وثلاثين طريقا من طرق الشيعة[2].
وقد أوردوا من طريق أم سلمة (رض) أن الآية نزلت في بيتها، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) أدخل فاطمة وزوجها وابنيها (عليهم السلام) تحت كساء، وقال اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. فأدخلت أم سلمة رأسها تحت الكساء، وقالت: أنا معكم يا رسول الله، فأخرجها وقال لها إنك إلى خير إنك إلى خير[3].
والمستفاد من مجموع هذه الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد حصر أهل البيت بهؤلاء الخمسة، وأن أزواجه غير داخلات في هذا العنوان، وإن أطلق عليهن أنهن من أهل البيت عرفا، خصوصا بملاحظة ما ورد عن أم سلمة وعائشة، وعلى هذا يكون العنوان بمثابة اصطلاح خاص في أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، سواء أطلق على الزوجات في العرف واللغة أم لم يطلق، فلا يقاس غيرهم بهم من هذه الجهة.
وخالف في هذه الدلالة كل من عكرمة مولى ابن عباس، وعروة ابن الزبير، في ما نسب إليهما، حيث ذهبا إلى أن الآية خاصة بنساء النبي، حتى قال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي (صلى الله عليه وآله)[4].
إلا أن معرفة حال عكرمة ومدى عدائه لعلي (عليه السلام) وأهل بيته تكشف أن قوله هذا ناشئ من حقده عليه، وبغضه له، فقد كان يرى رأي الخوارج، واتهمه بالكذب معظم علماء الجرح والتعديل من أهل السنة، حتى وصل بهم الحال إلى أن اتهموه بتزوير الأقوال عن عبد الله بن عباس.
وهذا أحد المآخذ الكبرى التي تؤخذ على البخاري وكتابه، حيث روى عنه في صحيحه واحتج به، ولم يخرج له مسلم أي حديث.
وأما حال عروة فمعروف أيضا، فقد كان لا يطيق ذكرا لعلي (عليه السلام)، بل كان إذا ذكر اسمه يسبه ويضرب إحدى يديه على الأخرى، بل لقد روى أن النبي قال في علي والعباس إنهما يموتان على غير ملته (صلى الله عليه وآله)[5]، فمن الطبيعي والحال هذا، أن لا يحتمل اختصاص الآية بأصحاب الكساء (عليهم السلام).
يضاف إلى ذلك أن قولهما هذا مخالف لنص الآية المباركة، إذ لو كان المراد خصوص نساء النبي (صلى الله عليه وآله)، لوجب استخدام ضمير النسوة، كما هو الحال في الآيات السابقة واللاحقة لها، والتي تتحدث عنهن، فعدوله إلى جمع المذكر يدل على عدم اختصاصهن بالعنوان جزما. بل إن تغيير الضمير في خصوص هذا المورد في الآيات، لا يخلو من دلالة على خروجهن من العنوان أصلا، وهو ما تؤكده الأحاديث الشريفة المشار إليها.
2- رغم ما تقدم، فإن بعض علماء العامة كالفخر الرازي[6]، والبيضاوي، ذهبوا إلى أن الآية شاملة لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله)، وتمسكا بسياق الآيات السابقة واللاحقة لها، قال البيضاوي: (وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما(عليهم السلام) لما روي...، والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف، لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت لا أنه ليس غيرهم)[7].
إلا أن من المعلوم أن سبب النزول من أهم قرائن التفسير وبيان المراد، خصوصا مع الأخذ بعين الاعتبار ما ذكرته أم سلمة (رض)، والتي نزلت الآية الشريفة في بيتها، ومنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها من الدخول تحت الكساء، حسب رواية الطبراني، قالت أم سلمة: (فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي وقال إنك على خير)[8].
ويدل على ذلك ما أورده العامة، بطرق مختلفة، عن عدد من الصحابة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان كلما خرج إلى الصلاة مر بباب فاطمة (عليه السلام) ويقول: الصلاة يا أهل البيت الصلاة، ويتلو آية التطهير. وقد أحصى ذلك بعض الصحابة بأربعين يوما، وبعض آخر بستة أشهر، وبعضهم تسعة أشهر، وبحسب رواية أبي سعيد الخدري، كان يتبع ذلك بقوله (صلى الله عليه وآله): (أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم)[9].
وهذا يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يريد التأكيد على اختصاص أهل البيت بالخمسة دون سواهم.
وأما دلالة السياق فلا قيمة لها، بعد ورود الروايات المتكثرة في حصر العنوان بالخمسة، خصوصا بعد اتفاق الجميع، حتى القائلين باختصاص الآية بنساء النبي، على أن الآية لم تنزل ضمن الآيات السابقة واللاحقة لها، بل لو فرض إخراجها من سياق هذه الآيات لم يؤثر ذلك في معناها بشيء[10].
فما ذكره البيضاوي والرازي لا يخرج عن كونه اجتهادا في مقابل النص، فليلاحظ.
3- تتضمن الآية الشريفة مجموعة من المفردات تدل بحسب معانيها اللغوية، وتركيبها، وصياغتها، على عصمة أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك:
لا إشكال في أنها ناظرة إلى اختصاص أهل البيت ببعض الخصائص، التي لا يشاركهم فيها غيرهم، حيث أن الكلام مسوق لبيان إرادة الله تعالى، ومعنى ذلك أن المقصود هي الإرادة التكوينية، لا التشريعية، إذ التشريعية المتعلقة بأفعال العباد وتكاليفهم عامة لجميع الناس، ولا معنى لاختصاص أهل البيت بها.
ومما يدل على ذلك تصدير الجملة بـ"إنما"، الدالة على الحصر والتخصيص، فهي حاصرة لإرادته تعالى في إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم، وحاصرة لهذه الإرادة في أهل البيت دون سواهم، وما دام أهل البيت مخصوصين بهذه الإرادة، فلا يناسب ذلك الإرادة التشريعية، المتعلقة بتكاليف العباد.
وبملاحظة أن معنى الرجس هو مطلق الذنوب والمعاصي، بل عن الأزهري في تهذيب اللغة أنه اسم لكل ما استقذر من عمل، سواء دخل في عنوان المعصية أم لا، بالإضافة إلى القذارة المعنوية، كما يدل قوله تعالى: ﴿وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون﴾[11]، وقوله تعالى: ﴿ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون﴾[12].
والتطهير عبارة عن التنقية والتنظيف من كل الأدران والأوساخ، بما فيها المادية والمعنوية، فيكون معنى الآية الشريفة أن إرادة الله تعالى التكوينية قد تعلقت بتنقيتكم أهل البيت من الذنوب والمعاصي، ومن القذارات المادية والمعنوية، دون سواكم، وهو معنى العصمة.
وأما عن سبب وضعها في سياق الآيات الواردة في حق نساء النبي[13] (صلى الله عليه وآله)، فهو بمثابة الجملة الاعتراضية في الكلام، غايته التأكيد على مضمونها، وهو كثير في اللغة العربية، وورد مثلها في القرآن الكريم أيضا، من قبيل قوله تعالى: ﴿إن كيدكن عظيم، يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك﴾، وقوله تعالى: ﴿فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، إنه لقرآن كريم﴾[14].
وآية التطهير من هذا الباب، فإن الاستطراد وذكر أهل البيت (عليهم السلام) في سياق الآيات المذكورة، يكشف عن اختصاصهم بالعصمة والطهارة دون سواهم، وأنهم لا يضرهم أي لوم، ولا يصيبهم أي أذى في أنفسهم، وإن صدر مثل ذلك من نساء النبي نفسه.
فوجود الآية الشريفة في هذا السياق بالخصوص ضروري للدلالة على هذه الخصوصية، واستفادة هذا المعنى، بحيث لو أخرجت من هذا السياق ووضعت في أي مكان آخر لفقدت هذا المعنى والدلالة.
وبضميمة الآية الشريفة إلى حكم العقل الدال على قبح تقدم المفضول على الفاضل وإمامته له، بل إن الأفضل هو الأحق، وما تقدم من عهد الله تعالى لإبراهيم (عليه السلام) من أنه ﴿لا ينال عهدي الظالمين﴾، فإن الوقوع في المعصية، مهما كانت، من مصاديق الظلم، الذي يجعل المرء قاصرا عن أن يناله عهد الله، تكون الآية الشريفة دالة على الإمامة.
بقيت نقطة في المقام، وهي أن الإرادة لو كانت تكوينية لزم أن تكون العصمة قهرية، وهو معنى الجبر الذي أنكره علماء الامامية بشدة.
وأجاب علماؤنا رضوان الله عليهم، بأنه لا منافاة بين الإرادة التكوينية، وبين اختيارهم وقدرتهم على المعصية، فقد يبقى في علمه تعالى أنهم لا يقعون في معصية، ولا يبتلون في خلق سيء، أو نحو ذلك مما يعتبر منقصة في الشخص، فوفقهم لذلك وتحققت إرادته تعالى به، فإرادته تعالى لا تسلبهم الاختيار، والقدرة على المعصية.
وهذا الجواب وإن كان صحيحا في الجملة، ولكنه في صورته الحالية لا يحل الإشكال، ولا يرفع موضوع الجبر.
فالأولى في الجواب أن يقال: إن ظاهر الآية المباركة – والله تعالى اعلم- أنهم قد أبعدوا أنفسهم عن الرجس بكل أشكاله، بإرادتهم واختيارهم، فكأن نفوسهم الشريفة قد تسامت، وابتعدت عن الرجس، فوقعت إرادته تعالى على اكمال هذه الكرامة لهم، بإبعاد الرجس عنهم، ولذلك كان التعبير ﴿يذهب عنكم الرجس﴾، ولم يقل يبعدكم عن الرجس، ونحو ذلك، فلا علاقة للآية بالجبر أصلا.
العقيدة في القرآن، سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
[1] سورة الأحزاب، آية: 33
[2] الميزان في تفسير القرآن، ج16، ص311
[3] أسباب النزول، الواحدي، ص252، الدر المنثور في التفسير المأثور، السيوطي، ج5، ص376
[4] نفس المصدر السابق
[5] قاموس الرجال، ج7، ص193
[6] التفسير الكبير، ، ج25، ص209
[7] تفسير البيضاوي، ج3، ص382
[8] الدر المنثور، ج5، ص376
[9] نفس المصدر السابق
[10] راجع الميزان، ج16، ص311-312
[11] سورة التوبة، آية:125
[12] سورة الأنعام، آية: 125
[13] سورة يوسف، آية: 28-29
[14] سورة الواقعة، آية: 75-77