المفردة الأخرى الواردة في القرآن الكريم وهي ما تقضّ مضجعي أحيانًا: "الزيغ"، فقد ورد في سورة آل عمران ﴿ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب﴾ (آل عمران/8)، أي لا تترك قلوبنا تزيغ وتنحرف عن صراط الحق إلى الباطل. والقرآن هنا ينقل دعاء عباد الله. يقول تعالى في سورة الصف بخصوص بني إسرائيل: ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم لِمَ تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم﴾(الصف/5)، وكأن في هذه القضية فعلًا وانفعالًا وإقدامًا مزدوجًا، أحد طرفيه بيد الإنسان نفسه، أما نتائجه وعواقبه فهي بيد الله سبحانه، ﴿فلما زاغو﴾، أي إنهم خطوا خطوة منحرفة أوقعتهم في منحدر الزيغ، حينها ﴿أزاغ الله قلوبهم﴾ أي أضلّهم الله وأزاحهم عن جادة الصواب، وما أدراك ما تعنيه هذه الإزاحة الإلهية! إنها تعني سلب التوفيق الإلهي. هذا ما ورد بحق بني إسرائيل وهو لا يختص بهم فقط، فبنو إسرائيل بالرغم من أنهم عاصروا فرعون وشهدوا حقانية موسى ورأوا بأم أعينهم كيف أن الله سبحانه أجرى هذه الحركة العملاقة على يدي عبده موسى بن عمران عليه السلام، وبنو إسرائيل الذين شاهدوا بأعينهم البحر وعساكر فرعون وتلك الأحداث المذهلة المدهشة، فإنهم وقعوا أسرى الأهواء النفسية والغفلة -وهو النسيان نفسه الذي تقدّم الحديث عنه - فانزلقوا "زاغوا" في هذا المنحدر، ففي هذه الآية يخاطبهم موسى ﴿لِمَ تؤذونني﴾؟! وفي سورة الأحزاب يقول تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرّأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهً﴾(الأحزاب/29) لا تكونوا كبني إسرائيل الذين آذوا موسى، وهذا الخطاب موجه لي ولكم أيضًا. فالزيغ الذي وقعوا به عبارة عن الاستسلام للأهواء والشهوات والنزوع نحو المادية وجمع الثروة والنزوات الجنسية وسائر الأمور التي هي مصدر بلائنا، ويقابله من الله تعالى سلب رحمته وتوفيقه التي كان يغدق بها علينا.
إن أي تحرك خاطئ يصدر منّا وأية خطوة بعيدة عن الصواب والعدالة نقدم عليها وأي فعل نمارسه ناجمًا عن النوازع والأهواء النفسية، إنما يسير بنا خطوة نحو لجّة الفساد والابتعاد عن الله سبحانه ﴿أزاغ الله قلوبهم﴾، وهذا الانزلاق والزيغ إنما يأتي تترا وعلى دفعات، وهنا تكمن خطورته.
عاقبة الزيغ، النفاق
فعاقبة الانزلاق تضاؤل عمل الإنسان بادئ الأمر ثم تأخذ أخلاقه وسجاياه بالاهتزاز والتزلزل والتغيّر، ويتحول من كان صادقًا وفيًا وذا شعور بالمسؤولية، تدريجيًا، إلى إنسان متذبذب عديم الوفاء وغير مسؤول، ويطال التبدّل أخلاقه أيضًا. وفي المرحلة اللاحقة يبدأ التبدّل في عقائد الإنسان. ثم إن هذا الفساد الذي كنا ننظر إليه يومًا بعين الاحتقار يأخذ بتغيير هويتنا وتدمير أخلاقنا شيئًا فشيئًا. يقول تعالى في إحدى آيات القرآن الكريم: ﴿فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه﴾(التوبة/77) أي أن الله تعالى قد ابتلى جماعة بالنفاق بسبب الوعود الذي اخلفوها. وهذه هي المعادلة التي يعتمدها الباري تعالى في تعامله مع الإنسان، أي أنها - في واقع الأمر - منوطة بأعمالنا وترجع إليها، فنحن خلال أعمالنا نحول دون أن تشملنا الرحمة الإلهية، ولئن حُرِمنا الرحمة الإلهية فإننا ندنو أكثر فأكثر نحو الفساد والضلال. إننا نقرأ في الدعاء "اللهم إني أسألك موجبات رحمتك"، فالإنسان يسأل الله موجبات رحمته، ومن الطبيعي أن لا تنزل علينا الرحمة الإلهية إن فُقِدت هذه الموجبات من أعمالنا، وهذا هو الزيغ.
الاستقامة والبصيرة، مقتطف من كلمات سماحة الإمام القائد السيد علي الخامنئي (دام ظله) حول البصيرة والاستقامة
2021-03-24