إنّ الثقافة والبيئة الغربيّة هي بيئة شديدة التعصّب على الرغم من سعيها لأن تُعرَف بالتحرّر، لعلّها تكون كذلك في المقولات الأخرى، ولكنّها في مقولة الثقافة متعصّبة وصارمة بشدّة، أي إنّ كلّ ثقافة غير الثقافة الأوروبيّة تقع في معرض التحقير والإهانة والضغط.
إنّ الأوروبيّ الذي يدّعي التسامح، والتساهل، والتحرّر، وبُعد النظر، والابتعاد عن التحجّر والجمود، هو متعصّب وصارم جدًّا في مقولة الثقافة. فكلّ ثقافة غير أوروبيّة تحظى بأسماء مختلفة، بدءًا من الوحشيّة والبربريّة، مرورًا بالرجعيّة والتخلّف، إلى ما لا يستحقّ ذكره؛ وهذا يعني أنّ نفس ذلك الشعور القديم الذي كان يعتبر كلّ ما وراء اليونان بربريًّا ما زال حيًّا في نفوس الأوروبيّين الذين يعيشون في ظلّ الثقافة الأوروبيّة والغربيّة.
وهذا التعصّب الموجود في كوكب أوروبا موجود أيضًا في أقمارها الثقافيّة، أي أمريكا وأستراليا، فهناك لا تزال إلى اليوم روحيّة اليونانيّين وذهنيّة تحقير البرابرة مسيطرةً. لذلك تشاهدون أنّهم يحاربون الحجاب بشدّة، ليس لأنّ الحجاب مفروض على المرأة، فهم يفرضون عليها أمورًا كثيرةً أخرى ولا يظهر انزعاجهم من ذلك، ومن جملة ذلك فرضهم عليها العمل الصعب، والإهانة وإراقة ماء الوجه، والقضاء على حيثيّتها الأنثويّة باعتبارها عنصرًا وواحدًا من جنسَي الخلقة الأساسيَّين؛ كلّ ذلك يمكن تحمّله أمّا الحجاب فلا، لماذا؟ لأنّه يخالف الثقافة الأوروبيّة.
شاهدتم في السنوات الأخيرة الحرب التي يخوضونها في أوروبا – في فرنسا وألمانيا وأماكن أخرى – ضدّ الحجاب. هناك مجموعة أرادت الذهاب إلى المدرسة مرتديةً الحجاب، فقالوا لهنّ أنّ الحجاب ممنوع! وبدأوا بمحاربتهنّ. من جهة أخرى، نراهم يتحدّثون كثيرًا عن معايير دوليّة، وحينما يقولون، فرضًا، إنّ على الجمهوريّة الإسلاميّة القيام بهذه التكاليف، فإنّ أكثر ما يعتمدون عليه في دعواهم هو القول بأنّ على إيران أن تطابق نفسها مع المعايير العالميّة. والمعايير عبارة عن هذه الأشياء التي تنطبق مع أنموذج الثقافة الغربيّة. فهذا الضغط والقساوة إذًا موجودان دائمًا من جهة الغربيّين. وأينما ظهرت ثقافة غير غربيّة، وبالأخصّ إذا كانت ثقافةً إسلاميّةً تمتاز بكونها ثقافةً هجوميّةً ذات مكانة خاصّة ونمط هجوميّ لا تقبل الضعف والهزيمة والانكسار، فإنّها تتعرّض لكلّ أشكال الهجوم والتحقير.
وبالالتفات إلى هذه المسائل، وما جرى علينا طيلة هذه العقود الأخيرة – بالأخصّ في المئة وخمسين أو المئتي سنة الأخيرة، حيث فُتح الباب أمام الثقافة الغربيّة للدخول إلى بلدنا – نجد أنّه كان ينبغي بذل جهود كبيرة والعمل الدؤوب في هذا المجال، كان حريًّا بنا أن نبيّن هذه الحقائق الثقافيّة الموجودة في الإسلام، وهذه الأمور لم تحصل وللأسف. وكلّما حاول البعض هنا وهناك الإتيان بعملٍ ما في هذا الخصوص، نرى أنّ أنواع الضغوطات تنهال عليهم لتشكّل مانعًا أمام القيام بهذه الأعمال.
بناءً على ما تقدّم، تحتلّ الثقافة أهمّيّةً كبيرةً في زماننا وفي المرحلة التي نعيشها، وينبغي الاهتمام الجادّ بالعمل الثقافيّ. طبعًا العمل الثقافيّ من جملة الأعمال المعقّدة حيث يجب على المتصدّين لقضاياه في البلد بذل الجهود للتقدّم في جانبَين: الأوّل هو نشر الثقافة كمّيًّا داخل نفوس الناس جمعًا وفرادى، مثال ذلك الترويج للمطالعة، نشر الكتب والمكتبات، زيادة عدد المدارس ومراكز البحث والتحقيق، نقل العلم والمعرفة من الأماكن المكتظة إلى أقصى نقاط البلد، إلى القرى والبيوتات النائيّة. هذا العمل كمّيّ وضروريّ جدًّا حيث ينبغي على وزارة التربية والتعليم، والتعليم العالي، ومؤسّسات الإعلام وبالأخصّ الإذاعة والتلفزيون، القيام به. هذا العمل ضروريّ جدًّا؛ وهو أن يستمتع جميع آحاد الناس بنسيم الثقافة، ويتمكّنوا من الاستفادة الثقافيّة.
هناك الكثير من الأشخاص الذين لا يعرفون أنّهم بحاجة إلى الكتاب والصحافة أو إلى سماع الشعر ومشاهدة أنواع الفنّ والآثار الفنّيّة؛ هم غير ملتفتين من الأساس، مثالهم كالشخص الذي لا يعرف أنّه بحاجة إلى الفيتامين وإلى البروتين أو إلى طعام خاصّ. فمن غير المتوقّع عندئذٍ أن يؤمَّن له28/6/75.
إنّ المجتمع؛ ثقافيّ بطبعه، غير ذلك بفعله؛ فلماذا نقول أنّه ثقافيّ بطبيعته؟ ذلك لأنّه مجتمع دينيّ، وطبيعة المجتمع الدينيّ أن يمتلك طموحات ثقافيّة، وهذا يختلف عن المجتمع الدنيويّ الذي لا يفكّر إلّا بقضايا العيش؛ فقد تحضر فيه الثقافة وقد لا توجد على الإطلاق. بالطبع يوجد في المجتمعات الصناعيّة والمادّيّة والدنيويّة السينما والموسيقى والفنّ، وكلّ ذلك موجود باعتباره حاجةً فرديّةً فقط. يشعر الفرد بالضيق فيقصد السينما أو يستمع إلى الموسيقى، وهذا لا يعبّر بالضرورة عن رغبة ثقافيّة قد تكون موجودة وقد لا تكون. أمّا المجتمع الدينيّ فلديه طموح ثقافيّ؛ لأنّ أهداف الدين هي أهداف ثقافيّة ومعنويّة تتعلّق بالروح والفكر والقلب. لذلك لا يمكن أن يكون الفرد المتديّن أو الجماعة المتديّنة خاليةً من الآمال والقيم والطموحات الثقافيّة. إذًا، المجتمع الدينيّ هو ثقافيّ بالطبع وبالقوة، ولكنّه بفعليّته ليس كذلك؛ يعني فيه نقص من ناحية الرؤى والبصائر والمعارف والإجراءات الثقافيّة. مثال ذلك أنّ شعبنا ليس شعب مطالعة، وعدم المطالعة هو نقص كبير جدًّا. هناك الكثير من أفراد شعبنا ليسوا من قرّاء الجرائد بالحدّ الأدنى، وإذا ما ألقوا نظرةً على الصحف اليوميّة فإنّهم يكتفون بقراءة العناوين الأساسيّة. يستمعون إلى الإذاعة للتسلية فقط، وليس لأجل ما يبثّ فيها من أخبار ومعلومات ومعارف حياتيّة ومسائل ثقافيّة. ونحن يجب علينا العمل لرفع هذا النقص.
وبناءً عليه، فإنّ الانتشار الكمّيّ للثقافة في البلد هو عمل أساسيّ يقع على عاتق جميع القطاعات الثقافيّة الموجودة فيه، وبالأخصّ يمكن لعلماء الدين أن يكونوا مؤثّرين جدًّا في هذا المجال. كذلك يمكن للعناصر الثقافيّة والفكريّة في كلّ مجتمع، وفي كلّ محافظة ومدينة، وفي كلّ جزء من البلد، أن تكون مؤثّرةً لتصبح كالمشاعل التي تضيء ما حولها.
الهواجس الثقافيّة، شرح مَزجيّ لإحدى الخطب المحوريّة التي تفضّل بها الإمام الخامنئي حفظه الله
2021-02-10